الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق”: الفصل الأول: “… وإلا، فما جدوى السفر؟” (7)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق”: الفصل الأول: “… وإلا، فما جدوى السفر؟” (7)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 26-4-2023

السنة السادسة عشر 

العدد: 5716

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]

الفصل الأول

وإلا، فما جدوى السفر؟ (7)

…………….

…………….

(ما زلنا) الجمعة 24 أغسطس 1984:

وسط محاولاتى المستمرة للضبط، والتحكم، والإخفاء، أسمع بوقا غير مألوف فى عالم الناس المتحضرة، حيث تكفى إشارات الأنوار ليلا، فأتصوّر أن احتلالى لمنتصف الطريق قد ضاق به مَن خلفى، حتى واكب الإضاءة بالنفير لينبهنى. ولكن البوق جاء منغما نغمة ليست غريبة على أذنى، إنها النعمة المصرية التى لم يستطع عبد الناصر أن يصادرها، البوق يردد “يحيا النحاس باشا، هل معقول؟ أميل إلى أحد جانبى الطريق، فإذا بسيارة تمرق فى هدوء نسبى ، وترتفع من داخلها أيدٍ تلوّح لنا فى الهواء. تلوّح بالتحية  فعلا.  ألمح أرقاما عربية على اللوحة الخلفية للسيارة (سوريا:…..5 1 3 7..إلخ)، وأعرف أنهم أبناء العم، لمحوا أرقامنا العربية، ففرحوا بنا كما فرحنا بهم، فانطلقت أبواق التعارُف فتلويحات الترحيب، وأقول مرة أخرى معانِدا كل موقف سابق: “تحيا الوحدة العربية”!! وأنَحى كل “لكن” جانبا، فما كان أحوجنى فى هذا الوقت بالذات إلى هذا البوق وهذا التلويح، وأعود إلى زملاء الرحلة وقد غلبهم النوم فى ظل الطمأنينة  لتى لا مبرر لها(!!)، فأزداد مسئولية وعزما. لكن الظلام يشتد، وأستعين بمرشدتى الصغيرة لتنتقى لنا سيارة نقل، عجوز وقور، تسير بالقرب من سرعتنا (حول التسعين)، فنركّز أبعادنا على أنوارها الخلفية، ونحتفظ بالمسافة بيننا وبينها، وننسى أين نسير، وماذا حولنا، ومَـن خلفنا، وكل ما تفعله سيارة النقل نفعله حرفيا، ومن اقتدى بالخواجة فى بلاد الخواجات فلا خوف عليه، ولا هو يحزن. وتنجح الخطة، وتختفى الجبال والهوّات فى عباءة الظلام، ولا يبقى إلا مصباحان مضيئان. فجأة ـ دون أدنى مبرر أو سابق إنذار ـ يقرر سائق النقل أمامنا أن ينطلق؛ ربما لأنه يحفظ الطريق من قبل، وقد علم أن وعورته قد خفت، أو ستخف حالا، فتزداد المسافة بيننا ولا أساير انطلاقه، بل أنتظر فرجا جديدا (عربة نقل أخرى) تعيننى على ما أنا فيه. ووسط الظلام الحالك لا أدرى إن كنت أسير فى جبل أم فى سهل، ولا إن كان ما بجوارى هوة سحيقة أم حقل أذرة (كنا نسميه صغارا فى بلدتنا الجبل الأخضر حيث قيل لنا إنه قادر على احتواء، فحماية لصوص وقتلة الليل فى ثوان). وأغتاظ من النائمين فخورا فخرا سريا بثقتهم فى مهارتى المزعومة، ومتعجبا من ذلك أيضا، وأزداد بهذه الثقة مسئولية، وبالتالى أزداد قبضا على الداخل – وحين يزيد غيظى عن فرحى وعزمى أتوقف عند محطة بنزين، بمجرد أن شعرت أنى قد سرت لبضعة كيلومترات فى طريق مستقيم، حسبت أنه يعلن باستقامته نهاية المنطقة الجبلية، وكانت الساعة قد جاوزت الحادية عشرة، وتستيقظ القافلة، وأسأل الرجل قائلا: “كوبون؟ (أعنى هل تقبل كوبونات؟). فيقول لى برأسه وبكلمة لم أفهمها أن: لا، فحسبت من إجابته أن هذه الكوبونات التى دبّسَتْــَنا ابنتى فى شرائها على الحدود لها محطات بالذات (قطاع عام مثلا) هى التى تتعامل بها. أما بقية المحطات فتتعامل نقدا بالدينار (وما أحلى وقع اسم العملة اليوغسلافية الخوجاتى: دينار)، وأستخسر دفع دينارات صاحية فى البنزين، ويشير عامل البنزين مستعملا ذراعيه ووجهه وجسمه إلى محطة بنزين تالية، على بعد عشرين كيلومترا ـ كما فهمنا ـ مرددا:”كوبون” “كوبون”، ثم ينظر فى ساعته ويمط شفتيه، ولا نعرف لماذا هذه الحركة الأخيرة. وأفـهِّـُم نفسى أنه يعنى أن المحطة التى تتعامل بالكوبونات تقع على بعد هذه المسافة، ولكن لماذا النظر فى الساعة ومط الشفاه؟. وتحاول أن تفهمنى إحدى بناتى غير ذلك، فلا أسمع لها، وحين نصل إلى المحطة التالية أخرج الكوبونات مباشرة، دون سؤال، فيصرف لى البنزين مباشرة (قال يعنى: أريد أن أحرجه!!)، وأحسب أنى كنت على صواب فى ظنى الأول، إلا أننى أتبين بعد يوم وبعض يوم أنّ ما فهمَتْه ابنتى، وحاولتْ أن تفهِّمنى إياه دون طائل، هو الصحيح، وأن الرجل الأول كان يتصور أنى أسأله: “هل عندك كوبونات”؟. فيقول: “لا” ويشير علىّ بمحطة رئيسية تالية يمكن أن أشترى منها كوبونات، والكوبونات لا تباع للأجانب إلا بالعملة الصعبة، ولا تباع فى كل محطة، بل فى محطات رئيسة محددة. ويبدو أن المواطن اليوغسلافى (أيامها) تُصرف له كوبونات محددة كل مدّة (تموين شهرى مثلا)، بطريقة تساعد على الحد من الاستهلاك، أو تلزم بعدالة معينة، وأضحك من نفسى، ومن مقالب الحديث بالإشارة، وأعيد فهم مط شفتى عامل البنزين، وهو ينظر فى ساعته؛ حيث كان يرجّح ـ فى الأغلب ـ أن وقت صرف الكوبونات قد انتهى فى هذه الساعة، وأحمد الله هامسا: جاءت سليمة بفضل تصرّف ابنتى على الحدود، ذلك التصرف الذى اعترضتُ عليه دون مبرر، فلولا أن كان معنا هذه الكوبونات لما حصلنا على حاجتنا من البنزين. يبد أن زوجتى على حق، فقد كنت “أعترض والسلام”.

يزداد الليل ظلمة، وتقل عربات النقل القابلة للمتابعة، وأسأل الركب أثناء فترة الصحو الاضطرارى فى محطة البنزين: هل نستمر حتى بلجراد ونحن على سفر، منذ ست عشر ساعة متصلة تقريبا؟. فيقولون: “نعم” توكّل. يقولونها وهم يستعدّون للنوم من جديد، ويشتد غيظى، فأنا لم أتعب من القيادة، ولكنهم لا يعرفون ما بى، ولا يحسبون احتمال اانقضاضٍ من داخلى، منتهزا فرصة الظلام والوحدة. ونقف “فى أول استراحة جانبية”، ونفكر فى أن نُخرج بوتاجاز المخيم الصغير، لنعمل شايا ساخنا، وندرس الموقف، فما زال أمامنا إلى بلجراد ما يزيد عن ثلاثمائة كيلومتر. المسألة أن يوغسلافيا كانت فى اعتبار التخطيط للرحلة مجرد طريق، ورؤية استطلاعية عابرة، ولم نكن قد قررنا أن تكون محل إقامة أو تخييم لصعوبة اللغة، وقلّة المعلومات عنها. أقول لهم: ليكن، ولكننا سنصل بلجراد وجه الصباح، ثم إننى  سأقود فى اليوم التالى مباشرة نفس المدة تقريبا، “أكثر من عشر ساعات أخرى”، وربما المسافة ذاتها إلى تريستا (إيطاليا) ففينيسيا، فيقولون: هذا متروك لك، إذا تعبت.

أنا علاقتى بالتعب غريبة؛ إذْ لكى أتعب لابد أن أسمح لنفسى أولا أنه يحق لى أن أتعب. أما إذا كان هذا السماح غير مطروح، فأنا لا أعرف التعب، فأستمر، كيف؟ لست أدرى.  إلى متى؟ أستمر عادة مهما طال الزمن فى حدود دواعى الاستمرار، والعمل.

 وهكذا لم أتعب، أو لم أسمح لنفسى بالشعور بالتعب، لكن حسابات طاقتى البشرية التى لا أدرك أبعادها، تخيفنى.

ها هم رفاق الرحلة يصرون على أن يتركوا الأمر لى جملة وتفصيلا، وأكاد أرجح أنهم يفعلون ذلك استعجالا للعودة للنوم وليس نتيجة فرط الثقة فى رأيى وتقديرى، وكنا قد فشلنا فى إخراج البوتاجاز الصغير لعمل الشاى الذى كان يمكن أن يدفئ اليدين والصدر، وربما يحسّن التفكير أيضا، وما إن أنطلق مرة أخرى بالعربة لمدة نصف ساعة لا غير، حتى يفتح الله علينا بتجمّع متوسط لعدد من العربات أغلبها نقـل، وتستعيد عربتنا استقلالها مرة أخرى، فتقرر أن تنضم إلى زميلاتها مؤتنسة بالأضواء المنبعثة من مبنى قريب جميل، فأستجيب لها اتباعا لقاعدة سبق ذكرها، وهى أن الناس ـ والعربات ـ فى حضن الطبيعة لا يجتمعون إلا على خير وجمال ودفء. وأتوقف وأنا أهدهد العربة، وأمسح عجلة قيادتها فى رفق، كما كان يمسح الفارس على شعر رقبة الحصان، وهم يغيّرون الخيل ما بين خان وخان على الطريق، فى روايات الجيب القديمة، أو فى روايات ديستويفسكى. ومنذ بداية الرحلة، كانت هذه العربة قد بدأت تعلن شخصيتها المستقلة، وتتلقى عواطف من حولى، ثم عواطفى حين أنفرد بنا الطريق، ولم يعد يقظا إلا أنا وهى طوال الرحلة.

حضرت العربة بشخصيتها الإحيائية منذ ركبنا المركب، ونحن جلوس فى القاعة الكبيرة المكيفة الهواء، حين قالت لى زوجتى “إنى أحس بشفقة حانية على عربتنا”، وظننت أنها تشفق عليها من عددنا أو من الحمولة المنتظرة، فسألتها إيضاحا، فقالت: ها نحن نجلس وسط كل هؤلاء الناس فى النور والمؤانسة، وهى تحت وحيدة فى البرد والظلام. ونظرتُ فى وجهها (وجه زوجتى) لأضحك، إلا أننى وجدتها جادة أشد الجد، فحبست ضحكتى وصدّقتها، ونسيت هذا الحديث، لكننى عدت أذكره حين بدأتْ هذه الصداقة الخاصة تُعدينى، فراحت العربة تفرض شخصيتها علىّ، فتنمو صداقة جديدة  بينى وبينها، ربما من خلال يقظتنا معا، فهى الوحيدة التى تظل مستيقظة معى طول الوقت تحت كل الظروف فى كل الطرق. كان عندها ـ العربة ـ كل الحق فى وقفتها تلك . سرعان ما تبيّنا أن المكان هو “موتيل” ومقهى فى حضن الجبل، وأنه متوسط فى الطريق بين الحدود ومدينة “نيش” (أكبر بلدة تالية على الخط الرأسي)، وأنه ملتقى  قائدى الليل، وخاصة من سائقى عربات النقل، سواء كانوا قد مالوا، ثم يواصلون السير ليلا، أم أنهم سوف يستريحون هنا حتى الصباح،. قررت فجأة أن نمضى ليلتنا فى حضن هذا الجبل وسط هؤلاء الناس، ووافقونى دون نطق حرف واحد.

الحجرات  نظيفة بسيطة، بها الماء الساخن والبارد والحمام الكامل المستقل، وسعرها زهيد زهيد.

 كان هذا هو أول موتيل نبيت فيه، ولم أستطع أن أدرك حينذاك هل هو زهيد؛ لأنه فى بلد اشتراكى. أم أنه كذلك؛ لأن هذا هو نظام الموتيلات عندهم، أو لأن رواده هم من سائقى النقل المتسببين، وليسوا أصلا من السياح القادرين.

بعد أن استقرت الحال فى الحجرات واطمأننا إلى نومة مريحة، وحمام نظيف، وماء دافئ، وإفطار واعد، ذهب الأولاد إلى حجراتهم ليناموا أو يتسامروا. نزلتُ وزوجتى إلى الصالة الكبيرة، وأخذنا نتأمل قادة قوافل الليل وصخبهم وشربهم وضحكهم وانطلاقهم وبساطتهم وقوتهم. قالت زوجتى إن هذا الجو يذكرها بشئ ما فى فيلم زوربا اليونانى، ولم أسأل ماذا تقصد، ولكن وصلنى ما تعنيه. أحس أن هذا وجه آخر (غير العواصم والمدن) شديد الأهمية لما هو “أوروبا “. أسميه “أوربا الأصل”، يشمل ذلك أوربا الجبل، وأوروبا القهوة الّدوّار المرحبة على الطريق، السائقون على الفطرة، الضحكة المجلجلة دون غيبوبةِ السـُّكـْر، أو سجن المحافظة، العالم الصغير المتغيّر أبدا، وأحسست بصاحب الموتيل، وكأنه فرح بنا لأننا لسنا من زبائنه المعتادين. وعلى السلالم، قابلتُ بعض أطفال الأسرة السورية التى حيّتنا فى الطريق.

حين خرجت لأحضر بعض حاجاتى من العربة كان الرذاذ قد بدأ يتساقط.

بدأت أشم رائحة الجبل،.للجبل رائحة قوية حنون، فملأنى ما ملأنى.

قلت لزوجتى فى فرحة: “هذا هو… هذا هو.”.  ولم تسألنى ماهذا الذى “هو”  “هو”.

………….

…………..

ونواصل الأسبوع القادم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1] –  يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق” (الطبعة الأولى 2000)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *