الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول “الموت: ذلك الشعر الآخر” (10)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول “الموت: ذلك الشعر الآخر” (10)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 1-5-2024

السنة السابعة عشر 

العدد: 6087 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”

الفصل الأول

(الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة) (10)

الموت: ذلك  الشعر الآخر

يختل مجرى العمر والأمل،

(لماذا ياصديقى؟؟)

دائرةٌ ملتاثة:

(عَجـّـلتَ بالنهاية؟)

تقضمُ فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام الجائعة،

(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)

ثارت أجنة الخلايا تصطرع“.

تعملقتْ فطرتك الأبيةْ

لم ترعَ عهداً، لا، ولمّا تنتظر

لــمْ نـقوَ بعدُ ياصديقى

(فيم العجالة والسام؟)

تقفز خلف الحدِّ، بعد العدِّ، تقتحمْ

ترجع نحو عشها اليمامةْ.

الأربعاء: 29 يناير 1986

 الساعة الخامسة وعشر دقائق (صباحا)

…………..

…………….

ذهب صاحبنا وأحضر المبلغ ممسكا به فى يده يحاول أن يخفيه (قال يعنى) و قبل أن أناوله الورقة أم مائة دولار (لاحِظ درجة الحرص منى) ناوَلنى المبلغ وطلب منى بإلحاح أن أعده حتى أطمئن (منتهى الأمانة) فعددت واكتشفت (ويا للحذق!) أنه ناقص ثلاثين فرنكا، فتأسّف (جدا) وانطلق بخطى سريعة يُحضر بقية المبلغ ،وأنا مازلت ممسكا بالمائة دولار، ثم عاد وأخذ يتلفت حولنا منبـّها أن نحذر أن يرانا البوليس، (يا ولد!!) هل فعلنا كل ذلك من أجل ثلاثين فرنكا فرقاً؟ لكنها المغامرة والشطارة. أخذ منى الأوراق ذات الفئات الكبيرة ليعد الأوراق جميعها معا، وراح يعد: واحد اثنين ثلاثة…ثمانية، وقال: تمام؟ قلت: تمام، فركنها واتجه الى الفكة (وهى التى كانت ناقصة) وعدها فلم تعد ناقصة بعد أن أحضر الثلاثين فرنكا (يا سلام على الدقة!!) وهنا اطمأن قلبى أننا أخيرا نجحنا ألا ينصب علينا أحد (اللهم إلا اذا كانت الأوراق مزورة) ـ فناولتُـه المائة دولار، فانصرف بخطى سريعة وأنا ممسك بالأوراق الصغيرة (العشرات) الأخيرة فرحا بدقتى وحرصى، ألم أكتشف نقص الثلاثين فرنكا وأُصر على إعادة العد؟ وكانت “منى يحيى” تراقب الجارى زيادة فى الحيطة والحذر، وإذا بها فى نفس ثانية انصرافه تسألنى بغته: أين الأوراق ذات الفئة الكبيرة (فئة المائة فرنك)؟ فدهشت للسؤال.. فهى معى بداهة، وجعلت أبحث فى جيوبى فلم أجد شيئا، وهنا ـ فقط ـ فقست اللعبة الذكية، فتلفتنا جميعا وكان صاحبنا ـ الخواجة الإنجليزى إبن الخوجاية ـ فص ملح وذاب، ونتبين أنه بعد أن عد الأوراق الكبيرة احتفظ بها فى يده، وأنا أظن أنها معى ثم أخفاها بمهارة خاصة موهِما إياى أنها معى جاذبا انتباهى أولا: إلى التأكد من إكمال الأوراق الصغيرة التى كانت ناقصة، وثانيا: ألهانى بالتركيز على تجنب احتمال مداهمة البوليس.

 ألا يستأهل هذا المحتال الرائع الإعجاب بالذمة؟،

لكن ابنتى لم تكن قد نسيت ضياع الألف دولار ” فى “نيس”، ولم أكن بدورى قد نسيت نصب  الإيطالى الطيب بائع السترات الثلاث منذ ساعة.و ها هو النصاب الانجليزى الحاذق يكملها، أهى عصبة أمم للنصب والاحتيال يا بلاد الحضارة السعيدة؟ وهكذا استبدلنا بمائة دولار مائة فرنك كاملى العدد (يا حلاوة!!)، ماذا جرى لأهل الحضارة يا خلق هوه؟ أهذا هو الانجليزى الذى كنا نضرب به المثل “معاملة انجليزى”،.. “مواعيد إنجليزى”.. فإذا به “نصب إنجليزى”.. “خطف إنجليزى”.

 وتكررت حكاية رفض ابنتى منى يحيى أخذ العَوَض (المائة دولار كانت من رصيدها هى) مع أنى المسئول، فتوصلنا الى حل وسط، ورجعنا مكسورى الخاطر من آثار تلاحق المقالب، نضحك مرة، ونخجل مرة، على أرضية من الغيظ فى كل حال.

بدا لنا أننا نستحق تعويضا ما، وقد كان، وعزمتهم على وجبة متواضعة فى المطعم الصينى الرخيص أسفل الفندق، نفترق بعدها لنلتقى فى المساء الى السينما.

مازلنا الخميس 6 سبتمبر 1984

للذهاب إلى السينما فى بلاد بره طعم خاص بالنسبة لمواطن عادى مثلى ليس سينمائّى الطبع، ولا هو مثقف التكوين. لم أنجح أبدا أن أكون مثقفا عاما، أو مثقفاً سينمائيا، حتى بعد أن استدرجنى بعض طلبتى وأصدقائى الأصغر إلى الاشتراك فى “نادى السينما” فى مصر فى منتصف السبعينات، فتمتعت مثلهم ببعض الأفلام الحرة، لكنى وجدت نفسى أتفرج على مجتمع “نادى السينما” أكثر من فرجتى على السينما، ورويدا رويدا أحسست أنى فى غير مكانى، ذلك أنى شعرت أن هذا المجتمع المثقف جدا، اليسارى كلاما، المتيقن استقرارا، الساخر دائما، هو مجتمع بديل بشكل أو بأخر، بديل عن حزب سياسى، أو بديل عن إنتاج مغامر، أو بديل عن خبرة مبدعة، وشعرت أن فيلما واحدا تبلغنى رسالته مثل “إبنة ريان” أو الفيلم الايرانى “الغريب والضباب” (وقد كتبت عنهما نقدافى السبعبنات نشرا فى الأهرام و”نشرة نادى السينما” على التوالى) هو ما أحتاجه بدلا من ملاحقة وعيى هكذا بما يحب مجتمع نادى السنما أن يتباهى بتكرار الحديث فيه أسبوعا بعد أسبوع ليثبت أنه يفهم أكثر من الناس الأى كلام.

أحيانا بعد فيلم جيّد، أعنى مخترِق، أو بعد آية من القرآن الكريم مشرقة، أحتاج أن أقفل مسام وعيى حتى أعيش هذا أو ذاك بحق كلٍّ، وأتعجّب لمن يفتح المصحف المرتل طول الليل والنهار مع أن كل آية هى قول ثقيل .

يا عبء من تُحمّله أمانتها، ويا خيبة من يحرم نفسه منها بتهميشها بغيرها.

فى السفر الوضع يختلف، وفى باريس أعتبِر أن السينما تكمل تعريتى.

ما زال فيلمَىْ “آخر تانجو فى باريس”، “وكل هذه الموسيقى الجاز” اللذان شاهدتهما منذ بضعة سنوات فى باريس يدوران معى.

 أذكر أن آخر تانجو فى باريس أزعجنى تماما، لا أعرف لماذا، أظن أن صيحة البطلة (لا أعرف اسمها) فى مارلون براندو بعد كل ما حدث، صيحتها فى آخر لقطة فى الفيلم وهى تقول له “ما اسمك (كان الفيلم مدبلجا بالفرنسية) هى التى ظلت تتردد أصداؤها حولى، لم يكن فيلما جنسيا بالمعنى الفج لكنه كان مزعجا، وأحسب أن هذا يعنى أنه جيّد، فى هذا الفيلم يظهر الجنس كجزء لا يتجزأ من واقع يصعب التربيط بين أجزائه إذا ما انفصمتَ عن مجراه العام،  ولو لحظة انتباه إلى تفصيلة واحدة، وصلتنى الرسالة كما لو كان الفيلم يريد أن يعـرّى مثل هذه العلاقة بشكل أو بآخر فى هذا النظام الغربى المغترب، وتصورت أنه يستحيل أن تتعرى مثل هذه العلاقة بهذه المباشرة بغير هذا الفن “هكذا: وإن كنت لم أستطع أن أخفى على نفسى امتعاضى حتى الغثيان أحياناً، لكنّه فن حقيقى. أثّر الفيلم فىّ ، حرّك عندى إشكالة الذاتوية ، وأوهام الحرية بشكل صارخ، حتى صحت :

بعتم للأطفال العزَّل وهم الحرية

وهمو سمكٌ قد ترك الماء بحسن النية

وتقلب فوق الرمل الساخن.

فاحت رائحة شواء

عبثت إصبع زانٍ فى أوتار العانة

وانغمس السيف الخشبى، داخل كهف الكلمة

فانطلقت حشرجة الأغنية الثكلى

“ليس بجوف الناس عصارةْ ،

أغلقت الخمارة.. “

لست أرى إلى أى المستويات أنا  – شخصيا – إلى أقرب، هجوم شعرى وقسوته (رغم تواضع قيمته)، أم  إلى ادعائى السماح والتعلم من الاختلاف ؟  ماذا أفعل؟

 الإبداع يقول، ويثير ويراجع، وكلما كان أكثر صراحةً وإزعاجا، كان أكثر اختراقا.

أتذكر فزِعا تلك البدعة الخطيرة الذى دخلت حياتنا الثقافية تحت عنوان “تجنب ما يخدش الحياء” لدرجة سمحنا معها بقص كل لفظ صريح أو موقف محدد فيه جنس إنسانى دال، تحت عنوان “ما يخدش الحياء”، وقد تجسد هذا التشويه مؤخرا فى قضية ألف ليلة التى انتهت والحمد لله لصالح الثقافة والحقيقة والفن والتراث، لكن القص والجبن ما زالا عاريان يلطخان وجه دواوين شعرية أصيلة مثل ديوان أبى نواس أو بشار بن برد أو عبد الحميد الديب، فاذا أضفنا إلى ذلك ألعاب الرقابة الأحدث، عرفنا أين نحن، وان كنا قد لا نعرف ـ بهذه الصورة ـ “إلى أين”، فالأرجح أننا نسير بظهورنا.

إن هذا النوع من: الأخلاق بالإغماض، والأخلاق بالحذف، والأخلاق بالادعاء، والأخلاق التى تستعمل من الظاهر، كلها تدل على ضعف المواجهة، وعتمة الوعى، والجبن أمام الحقيقة. أنا لست من أنصار الحرية المطلقة، كما أنى لست من مشجعى الإثارة العنيفة للتجارة بالغرائز، وإذا كنت قد أفهم ـ بصعوبة وفى حدود ـ دور الرقابة على الأفلام والتليفزيون مثلا، لأنها مادة مفروضة لجمهور مستسلم، فإنى لا أفهم معنى التدخل فى التراث الأصيل المنشور فى كتب بالحذف الجبان، فهل نحن أكثر أدبا وتدينا وحياء من المسلمين فى القرن الثالث الهجرى مثلا؟

 لابد أن أعترف أنه اذا كانت مواكبة ومشاهدة الجنس عند سائر مخلوقات الله قد سمحت لنموى الجنسى أن يتحرك فى رحاب الطبيعة، فإن قراءة التراث الجنسى كان يغذى خيالى بما ينبغى.

مازلت أذكر كيف حصلت على نسخة من كتاب “رجوع الشيخ إلى صباه” وأنا فى مرحلة الثقافة العامة (الرابعة الثانوى/ 15سنة) فرحت أنقله نسْخا باليد، وأفرض شروطى حتى على إخوتى الأكبر مقابل أن يستعيروه منى، ثم اختفى الكتاب المنسوخ بفعل فاعل،، لعله أبى، (دون أن يذكر حرفا لى، أو لإخوتى، إن كان هو) ورغم أنه كتاب موضوع أصلا للإثارة الجنسية، الا أن طريقة كتابته وصور المبالغة فيه أدت وظيفتها فى استكمال ما لم تتحه لى الطبيعة الحيوانية.

 رحنا نبحث عن فيلم مناسب، واكتشفت أن الأفلام التى هى ممنوعة لديهم، انما تمنع لمن هو أقل من 31 سنة، وتصورت أنهم قد يسمحون عندنا بالأفلام الصريحة والشجاعة بعد بلوغنا المائة، لضمان اننا حينذاك سنكتفى بالفرجة مثل أم جرير أو أم الفرزدق. كان ولداهما يتهاجيان بوصف أمٍّ كل منهما كيف حالها حين أصبحت عجوزا.

ما يزعجنى فى موقفنا هذا أكثر فأكثر، أن القهر والحجر والمنع يأتى من الأصغر، فى حين أن السماح يصدر ممن هو أكبر، وكان المتصور أن يكون الجارى هو العكس، وهذا لا يعنى كما يدعى البعض أن الأصغر منا قد أصبح أكثر تدينا والتزاما، وانما قد يعنى أن الأصغر صار أكثر خوفا وعماء، وأن الأكبر مازال أكثر مرونه وموضوعية، وهذه ظاهرة منذرة، لأنها تشير الى أن الشباب قد أصبح شيوخا، فاضطر الشيوخ أن يحافظوا على شباب الأمة بمزيد من المرونة والحركة والسماح فى مواجهة هؤلاء الخائفين المتجمدين وراء كذبهم على أنفسهم.

………………………..

………………………..

ونواصل الأسبوع القادم  استكمال الفصل الأول من الترحال الثانى: “الموت: ذلك  الشعر الآخر”

 

تعليق واحد

  1. يآه إيه .مفيش حاجة سهلة ابدا عنده..وانا صغير شوية كنت اقراها واستمتع بالحكي فقط….المرة دي الموضوع تقيل ويذكرك بتيار الوعي..كم القضايا المثارة اثناء الحكي تحتاج كتاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *