نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 12-8-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3998
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
(من الإبداع الخاص: “ملحمة الرحيل والعوْد”)
قبل المقدمة: (من بريد الجمعة 27-7-2018)
أكرر أنه يبدو أن نشر هذه الرواية مسلسلة هكذا، خاصة هذا الجزء الثالث “ملحمة الرحيل والعوْد” فى هذه النشرات اليومية هو ضد التلقى الأشمل، وربما كانت هذه الورطة هى السبب فى تراجع التعقيبات فى بريد الجمعة.
وددت لو توقفت، لكن ما باليد حيلة بقى هذا الأسبوع والأسبوع التالى، فلتتقبلوا عذرى مجددا
وعموما فالرواية بأكملها متاحة إلكترونيا وورقيا لمن شاء (1)
وهذا هو الفصل الحادى عشر
شارع جامعة الدول العربية
-1-
ـ أين أنت يا جلال بك؟
قالتها وردة، مرحبة وهى تقدم له الشاى فى الخمسينة.
ـ أبدا.
ـ وحشتنا يا سعادة البك، عذرك معك، الدنيا مشاغل، كان الله فى العون.
ـ وأنتم أيضا، كيف الحال، وكيف ابنتك؟
ـ تقبل يديك، أصبحت عروسة.
ـ عروسة ماذا يا شيخة؟ لم العجلة؟ لم تطل غيبتى إلى هذه الدرجة.
ـ بشروا يا سعادة البيه، من يدرى. أمها تزوجت وهى مازالت تمص إصبعها.
ـ تذكرين كيف غضبت منى حين سألتك عن سنك يا وردة، وكيف فرحت حين ناديتك “وردة” بدون “حاجة”.
ـ أنت فاكر؟
ـ أقول لك يا حاجة أم يا وردة؟
ـ كله حلو من فمك، تذكرنى بعبد المعطى، الله يرحمه.
كاد يقفز من مقعده.
ـ الله!! ماذا؟ عبد المعطى؟ ماذا تقولين يا وردة؟ !!
ـ ألم تعلم؟ عبد المعطى تعيش انت.
ـ يا خبر!! ماذا تقولين؟
صمتت وردة قليلا، بلعت ريقها وأشاحت بوجهها، ثم قالت وكأنها تخاطب نفسها:
ـ هو حر، استرد وديعته.
- حر؟؟ حر؟ تقولين، حر؟ حر ماذا يا وردة؟
- الأعمار بيد الله.
- يعنى.
- يعنى ماذا يا سعادة البيه ؟ ماذا جرى لسعادتك
ـ… يعنى البقية فى حياتك.
- حياتك الباقية يا سعادة البك، خلِـىِ بينا.
أمْهـَلـَتـْهُ. حتى تأتى حالا.
لم يقل لها كيف أنه لم يفهم طول عمره ما الذى يتبقى من الراحل حتى تكون البقية فى حياة أهله ومعارفه.
دخلت إلى عشتها، وغابت أكثر مما توقع، يبدو أنها كانت تمسح دموعا غالبتها، أو تتجاوز نشيجا محتملا، أو ما لا يعرف، وحين عادت حكت له كيف تزايدت نوبات فزع عبدالمعطى وجريه للتأكد من إغلاق المزلقان دون مبرر، كما حكت له عن كثرة مخالفاته حين كان يغلق المزلقان دون قدوم أى قطار، ثم كثرت إجازاته المرضية، وأنه ذات صباح وجدوا المزلقان مغلقا، والعربات تكدست خلفه وهو لا يفتح، ولا يظهر، ثم وجدوه “ياحبة عينى” مهروسا تحت القطار.
ـ قضاء وقدر طبعا؟
ـ طبعا، ماذا سيكون؟ على أية حال، الله أعلم، وربنا غفور رحيم، يعنى يا سعادة البك بعد كل هذا الشقاء، يموت عبد المعطى وربنا غضبان عليه؟ لا يمكن، يبقى قدر طبعا.
صمت جلال طويلا وهو يكاد يرفض، إن كان يستطيع أن يرفض.
كان الموت بالنسبة له من دواعى تمسكه بموقفه الدينى أو اللادينى، كان يرفضه، وفى ذات الوقت هو يعرف أنه أصدق ما فى الحياة. كان يردد ـ عادة بينه وبين نفسه ـ أنه ليس معنى أننا نموت، وأننا نرفض أن نموت، وأننا نخاف أن نموت، وأننا نحـزن حين يخطف منا الموت عزيزا، ليس معنى كل ذلك أن نخترع ما يبرره.
موت عبد المعطى هكذا، سواء كان صدفة أو يأسا، أو قرارا، جعله حزينا، حزنه هذا ثقيل مثل بحر من الرصاص البارد الثقيل السائل المجهول الشائك.
”لا” قالها وهو ينظر إلى السماء فى غضب
ـ … عبد المعطى مات يا وردة. مات عبد المعطى. أليس كذلك.
لم ترد وردة، دخلت بسرعة إلى العشة مرة ثانية، ولم تغب مثل المرة الأولى، وعادت متثاقلة وقد أحضرت قهوة لم يطلبها جلال، قالت وكأنها تكلم نفسها.
ـ عاش شقيا، ومات شقيا.
ـ كنت تحبينه يا وردة.
ـ طبعا، سعادتك تعرف كل شئ، شفت هذا من ساعتها.
ـ حصل.
ـ لكنك لا تعرف ما الذى حدث بعد ذلك؟
ـ الذى حدث أنه مات.
ـ صحيح، ولكن بعد ماذا؟
ـ بعد ماذا؟
ـ بعدما فاتحنى هو بأنه يريدنى زوجته على سنة الله ورسوله، بعد أن تعلقت به ابنتى أكثر مما تعلقت بأبيها، بعد ما فرحنى يا سعادة البيه.
لم تهرب هذه المرة، وسمحت للدموع أن تنزل أمام جلال، فكاد يقوم ويضع يده على كتفها، أو يملس على شعرها يهدئها، لكنه فضل أن يتراجع، ليس خجلا أو حرجا، ولكن لأنه شعر أن من حقها أن تعبر عن هذه اللحظة أكثر، لكنها لم تفعل.
أحس باقتراب شديد منها، أحس بصدقها وعمق حزنها، كما سبق أن أحس بطزاجتها ونقاء حسها، وتساءل ـ على الرغم من أن السؤال بدا غير مناسب ـ تساءل: تــرى هل كانت ستحزن عليه كل هذا الحزن لو أنهما تزوجا؟
كان قد وصل الى اقتناع يقول إن القاعدة أن “القرب يـبعد”، وأن “البعد يسمح للخيال أن يقرب”، أو هو يسمح للواحد أن يأمل فى القرب، هكذا تقول تجربته، بل تجربة كل من يعرف، كاد يسألها عن تلك المعادلة، ولكنه تراجع مرة أخرى، يمكن أن تكون الألفة عند هؤلاء الناس حاجة ثانية.
كيف استدرجه تفكيره هكذا بعيدا عن الموت؟ هل فى ذلك تخفيف لحزنه؟ فهاجمه الحزن منقضا؟
قرر فى ذات اللحظة أن يتركها فى الحال. يريد أن يخلو إلى نفسه.
قرر – أيضا- أن يستعد للموت.
كيف؟.
لا يعرف، ولكنه يعرف أن عليه أن يستعد للموت.
= “تستعد للموت؟ أم لما بعد الموت”؟.
= ”قلت للموت، ألا تفهم”؟.
= ”كيف”؟.
= ”بأن أعيش يا بارد”.
= ”خيبتك بليغة”.
كاد يخرج لسانه وهو يقول.
”الحياة هى الحل”.
التفت بسرعة إلى وردة وتأكد أنها لم تسمع شيئا، فاستأذن، وعزاها مرة أخرى، وسلم عليها، وطبطب على كتفها، وطلب منها أن تشد حيلها، وكاد أن يطلب يدها،
= “ماذا؟ !!”.
= ”ماذا فى عينك”، انت مالك انت؟”.
= ”قلت لك خيبتك بليغة”.
= ”البركة فيك”.
ارتبك فى مشيته حتى ترنح، فعاد وجلس، لاحظت وردة ما اعتراه فى لهفة، جرت نحوه تطمئن، وتكاد تهم بأن تعدل له جلسته.
ـ خير يا سعادة البك؟ يا سعادة البك!.
طمأنها، واعتدل، وقال لها إن الحذاء ضيق، وإنه تعثر لا أكثر ولا أقل.
ضحكت وردة لأول مرة بعد سيرة الموت وهى تصدق أنه تعثر، ثم ضحكت ضحكة ثانية قبل أن تنتهى الأولى، لكن الثانية كانت أعلى. نظر إليها متعجبا حتى ضحك هو الآخر دون سبب، لعلها عدوى، امتلأ وجهها بفرح مضئ قبل أن تطلق سراح الضحكة الثالثة، فبدت مثل طفلة وجدت حافظتها التى فقدتها، واكتشفت أن ما بها من نقود كانت أكثر مما ظنت.
لم يفرح جلال فرحة ساذجة سلسة هكذا منذ مدة طويلة، فاحترم مرغما الفكرة المستحيلة التى كاد يترنح من مفاجأتها حتى قرر أن يتمادى فيها ووردة تروح وتغدو أمامه، نظر فى ساعته، وأخبرها أنه تأخرعن الميعاد، وأنه لن يلحقه مهما فعل، سألته إن كانت تعمل له كوب شاى آخر، فأجاب على الفور أنه موافق على شرط أن يكون : “بحليب”.
ـ لماذا بحليب هذه المرة ؟
ـ لا أعرف، ولكنى أريد الآن أن أشرب شايا بحليب. عندك مانع؟ بل أريد أن أعزمك يا وردة على كوب معى.
ضحكت من جديد. هل تـُنـْسِى نفسها بذلك سيرة الموت؟
سأل نفسه من جديد: ما هذا الضحك الذى بدأ يزيد حتى كاد يبوخ؟
ـ ما الذى يضحكك يا وردة هكذا؟
لم يقل لها “هل هذا وقته”؟
ـ أقول؟ أم تزعل؟
ـ تقولين، وحياة بنتك تقولين، ما اسمها؟
ـ توحيدة.
ـ ياه!! اسم طويل، أنت أمها، اسمك وردة، وهى الصغيرة تسمونها توحيدة.
ـ أبوها الله يسامحه، سماها على اسم أمه، وكان يرفض حتى أن أناديها توحا.
ـ كنت تحبين حماتك يا وردة؟
ـ طبعا يا سعادة البيه، أنا قلبى أبيض. انت عارف.
ـ ….، فماذا كان يضحكك الآن يا ام توحيدة؟
ـ لما حضرتك تعثرت، وقلت إن الحذاء ضيق، قلت: حلو خالص حضرتك اسم الله كبرت عليه.
قالت ذلك وضحكت ضحكة أخرى بحياء، كادت تضع رأسها فى صدرها الذى بدا ناهدا وكأن أحدا لم يمسسه من قبل ـ لا توحيدة ولا أبوها.
ـ كبرت على ماذا يا وردة؟
ـ على الحذاء، ماهو العيال لما يكبرون، الأحذية تضيق عليهم.
ضحك هو هذه المرة، ضحكة اتسعت حتى ملأت وجهه، ثم ملأت كيانه كله، واحتوتها أيضا.
ـ آه والله !! عندك حق.
أردفت:
ـ ثم لما طلبت شايا بحليب على غير عادتك، قلت: يبقى كـِمـْلـِتْ.
ـ يبدو أنها كملت فعلا يا وردة!.
حين أحضرت وردة صينية عليها كوبان من الشاى “أبو حليب” فوجئ، كان قد نسى أنه دعاها أن تشاركه، وضعت الصينية، وبغير تردد جذبت الكرسى وجلست قبالته، كانت حالة الطفولة الطازجة المرحة التى تتـفجر أمومة وأنوثة معا مازالت تملأ كيانها كله، فيحس أمامها بضعف الطمأنينة المدغدِغ.
ـ ما رأيك يا وردة نرشف الشاى واحدة واحدة، ونحن جالسان هكذا لا نتكلم؟
كتمت ضحكة جديدة، ربما بدأت تتبين أنها زودتها، وقالت باسمة:
ـ لماذا؟ كفى الله الشر.
ـ أنا عارف؟ هى جاءت فى مخى هكذا.
ـ مثلما يعملون فى السيما؟
ـ… حاجة مثل هذا.
ـ لكنهم حين يسكتون فى السيما يمسكون أيديهم فى أيدى بعض.
ـ أى والله، لم أكن آخذا بالى.
ـ والنبى انك رجل أمير وابن حلال يا سعادة البيه، ومتواضع، وتحب الناس.
كانت تتحدث وهى ترشف الشفطة تلو الأخرى وكأنها فى عجلة ما من أمرها.
ـ مستعجلة يا وردة؟
ـ …..، …. والنبى ربنا سيفتحها فى وجهك.
استأذنت دقيقة، ومضت، وخيل إليه أنها تمتمت، أو لعلها فعلا همست “الله يرحمك، يا عبد المعطى يا بن بهانة”، لابد أنها قالتها. هو لم يكن يتخيل، لأنه لا يعرف أن أم المرحوم عبد المعطى اسمها بهانة. ردد وراءها فى سره:
الله يرحمك يا عبد المعطى يا بن بهانة.
وجد أنه لم يشرب الشاى بالحليب، وأنه كاد يبرد، فقرر أن يسمح لخياله بالتمادى، وأن يشرب هذا الكوب نصف الساخن رشفة رشفة، ببطء أطول. راح يبنى بين كل رشفة ورشفة فقرة طويلة فى قصة قصيرة، مرقمة.
ـ 1 ـ
يتزوج وردة.
ـ 2 ـ
تفرح، وهو يفرح.
ـ3 ـ
ترضى بعدم الإنجاب، مكتفية بتوحيدة.
ـ 4 ـ
لا يتناقشان أبدا.
ـ 5 ـ
يفرحان جدا.
ـ 6 ـ
ويتشاجران أحيانا.
[انتهت القصة].
كان يحسب أنها قصة قصيرة، فوجدها ـ هكذاـ رواية كاملة.
تذكر أن ما يفسد العلاقة بين الناس هو المناقشات والكلام الكثير، يسمونه حوارا، اكتشف أن أغلب ما يسمى حوارا، هو دفع بالكلمات، كل كلمة تخرج من واحد، تدفع الآخر فى صدره بعيدا قليلا، ثم بعيدا قليلا، ثم بعيدا قليلا، حتى يصبح بعيدا كثيرا، ثم لا تبقى إلا الشفاه تتحرك دون صوت، ثم تسقط ستارة الرصاص المتجمد بين المتناقشين؛ لتحول دون القتل مع سبق الإصرار!. وحين يتبين المتحاورون العرب أن الأمر كذلك يصدرون بيانا بالإجماع، وحين يتبين المتحاورون الأحبة أن المسافة تتسع بالحوار يشاركون فى أمر يقع خارجهم ويسمون ذلك أسماء رشيقة، حديثة غالبا. مع وردة، الأمر يختلف.
= ”كيف”؟.
= ”قلت لك انت مالك؟ لا تنحشر فيما ليس لك فيه.”
= ”قل لى كيف؟ كيف يختلف الأمر مع وردة؟ “
= ”الله يخرب بيتك”.
= ” لا يمكن أن تستعبطها يعنى؟”.
= ” ليس لك دعوة”.
= ”لا..، لى ونصف”.
= ”توجد مائة طريقة للحوار غير المنظرة والكذب، أو الدفع فى الصدر وزعم المشاركة”.
= ”صعـِّبها، صعـِّبها، جاءتك نيلة”.
= ”جمعا”.
ـ خير يا سعادة البك شكلك سرحان، تكلم نفسك حليبك برد يا سعادة البك.
أفاقه تنبيهها فاعتذر وشرب نصف الكوب المتبقى فى جرعة واحدة، نظر فى ساعته وشكرها وأسرع الخطى فى اتجاه البلد، دون أن يحاول أن يركب إحدى سيارات البيجو أو الميكروباص الذاهبة إلى وسط أبى النمرس، ولاحظ أنه تعمد ألا يطالع وجه عامل المزلقان الجديد الذى حل محل المرحوم عبد المعطى.
ـ 2 ـ
ـ ……
– صباح النور يا أستاذ، لكننا بقينا العصر.
ـ آه صحيح، سعيدة.
ـ سعيدة مبارك.
ـ لماذا سعيدة بدلا من رد السلام، وعليكم السلام، أو حتى “على الأرض السلام”.
ـ صدقنى، لا أعرف لماذا؟
ـ الأغرب أننا أصبحنا نقلدكم. وأنا داخل عندك ذلك اليوم، قلت لـلرجل على الباب “صباح الخير”، فشخط فى، ورد أنه “وعليكم السلام ورحمة الله”. ما الحكاية؟ هل أصبحت “صباح الخير” حراما هى الأخرى عند المسلمين؟
دخل زبون، فاستأذنت الدكتورة مادلين، وراحت تلبى طلبه. لماذا لا تعيـن لها مساعدة، وتكتفى هى بتحصيل النقود، مالزوم البكالوريوس؟ دخل زبون آخر، فنظرت إلى جلال مستأذنة بعينيها هذه المرة، نظرت فى الوصفة التى قدمها هذا الزبون الجديد، هذه كل فائدة البكالوريوس، رجعت إلى جلال، وطلبت منه ألا يظل واقفا هكذا، وأن يجلس حتى تنتهى، فجلس راضيا وهو يتعجب أنها تعامله، ليس باعتباره غريبا هذه المرة.
كلما ذهب إلى المزلقان تذكر الصيدلية، فرصة أن يعرف منها أخبار الأستاذ، لم يعد يكتب فى الصحف، كان خيال الأستاذ يعاوده أكثر بعد خبرة صحراء وادى النطرون، عليه أن يخترع لها سببا آخر يفسر مجيئه. لم يعد ينفع الكلام عن نصيب محمود عبدالسلام فى الصيدلية، هى ليست لها دعوة بكل هذا، فرح لتوالى الزبائن واحدا واحدا، ولـلخمتها فى خدمتهم، حتى يعثر على سبب وجيه يبرر به قدومه، ابتسم وكأنه يقول نكتة لنفسه، كانت فعلا نكتة حين قال إنه سيورطها لتخطب له وردة، وقال لنفسه إن الدكتورة مادلين شخصيا غير متزوجة، وقال ـ أيضا ـ إنها لا تفكر فى الزواج. طيب، من أين له هذا؟ تخريف؟ لا طبعا، لأنه لا توجد امرأة فى الدنيا لا تفكر فى الزواج مهما قالت غير ذلك، حتى الراهبات، لكن؟ إيش عرفه؟ هو لا يدرى إن كانت هذه الدكتورة تفكر فى الزواج أم لا، لكن وردة جاهزة مائة فى المائة، لابد من سبب يفسر مجيئه، تذكر فجأة أن شم النسيم هو الاثنين التالى، وهو يحب هذا العيد المصرى حبا لا حدود له، ليس لأنه عيد الربيع، ولكن لأنه عيد الناس، كل الناس، هذا سبب وجيه ـ إذن ـ فهو قد جاء ليعيـّد عليها، لابد أنه جاء يعيـّد عليها، وأنه كان ناسيا. فرغت من آخر زبون وعادت باشة بحق،!!، إنها تستطيع أن تضحك، أى اكتشاف؟! صحيح أنها ضحكة قبطية مترددة طيبة، ولكن أين هذه من كركرة وردة؟ الحاجة وردة؟ لم يستطع أن يصنف ضحك وردة بطريقة تصنيفاته العابثة الجديدة، رحب بضحكة الدكتورة، ضحكة مهذبة مترددة فعلا وكأنها تستأذن أن تكملها قبل أن تتم، وحتى لو أذن لها، فهى لا تكملها، فعلا، ضحكة قبطية جميلة مجهضة.
ـ أهلا أستاذ جلال. أليس كذلك؟
فرح أنها تذكره بالاسم، لم يعد زبونا عابرا إذن.
ـ أهلا دكتورة، كل سنة وانت طيبة.
ـ وانت طيب.
ـ كنت مارا قلت أعيد عليك.
ـ فيك الخير، وجهك حلو علينا.
فرِحَ. يبدو أنها هى التى ستتحفه بسبب لمجيئه.
ـ الله يبشرك بالخير، بصراحة أنا فى أشد الحاجة إلى أخبار سارة؛ لأنى علمت منذ قليل أخبارا سوداء، عبد المعطى تعيشين أنت.
ـ من عبد المعطى؟
انتبه فجأة أنها لا تعرف عبد المعطى، وأنه لم يحدثها عنه أبدا. أراد أن يتراجع لكن الأوان كان قد فات.
ـ آسف، لم أحدثك عنه، عبد المعطى كان صديقا طيبا، مات دون أى داع.
بدت عليها مسحة من الدهشة، لكنها كتمتها بأدب قبطى متسامح، مازالت تلاحقه لغة التوصيف الدينى للمشاعر والملامح.
ـ دون داع؟ أى دون مرض، تقصد؟
ـ لا، اعذرينى، أقصد: دون داع فعلا.
ـ لا أفهم.
أفهمها كيف أنه كان صديقا جميلا، ورجلا شهما، أنقذ عددا كبيرا من الناس ذات يوم بشجاعة، وتلقائية، ثم ظلت تنتابه نوبات كأنه لم ينقذهم، بل كأنهم ماتوا وهو السبب، ثم مات شخصيا، أو هو قرر أن يموت، توقف عن حب نفسه فمات.
ـ تتكلم اليوم لغة غريبة يا أستاذ.
ـ آلا يوجد عندكم دواء يجعل الإنسان يحب نفسه.
ـ فكرتنى، هذا هو الخبر الذى كنت أود أن أخبرك به، خالى غالى…
قالت ذلك، ودخل زبون فاستأذنت من جديد.
حمدا لله أنها هى التى جاءت بسيرة خالها، كأنها التقطت من داخله السبب الحقيقى لمجيئه الذى لم يكن هو شخصيا قد تبينه بعد، ولكن ما علاقة الأستاذ غالى بالدواء الذى يجعل الإنسان يحب نفسه، فيمنع موت عبد المعطى؟ المهم أن ثم خبرا طيبا، وأن وجهه حلو عليها، أو عليهم لا يذكر، وكلام من هذا. انصرف الزبون بسرعة؛ فعادت مستبشرة لترد على لهفته، وهو يسألها “خالك، الأستاذ غالى، ماله.”
ـ استقر أخيرا وقرر أن يدخل فى مشروع عملاق.
ـ مشروع ماذا؟ وهل فى النقد الأدبى مشروع عملاق؟
ـ نقد أدبى ماذا؟ لقد توقف عن كل ذلك.
راحت تشرح له كيف تعرف خالها على وكيل شركة أدوية كندية عن طريق شقيقات زوجته هناك، وكيف كلفوا خالها أن يصبح وكيلهم فى مصر، ثم فى “الشرق الأوسط”، وكيف أن علاقة هذا الكندى بكل دول الشرق الأوسط هى على أعلى مستوى، وأن الشرق الأوسط هذا كله بركة، فهم جلال ولم يقاطعها، بل تصنع أنه لم يفهم. مع أنه رجح أنها تريد أن تــُفهمه أنها فخورة بخالها المرن هذا، وليس أى شئ آخر.
قالت له ـ أيضا ـ إن خالها قد التقى بممولين ومساعدين محليين تبين أن بعضهم “معرفة قديمة”، مساعدة لطبيب كان تتردد عليه، كان لها دور غامض ومهم فى حياته، هذا ما قاله لها خالها، كما عرّفته هذه الدكتورة بدورها على ابن أستاذها هذا الذى أصبح رجل أعمال يحاول أن يعدد أنواع نشاطه، وأنه ـ خالها ـ تأكد أن الدنيا صغيرة تماما، وأن الأحياء يلتقون دائما.
كانت الدكتورة مادلين تحكى منفعلة بالفرح؛ إذ يبدو أنه سيكون لها دور ما فى هذا المشروع، ربما ينقذها من وظيفة عاملة البقالة التى تمارسها ببكالوريوسها الذى مثل قلته، كانت وهى تحكى تذكر الأسماء تطوعا دون حاجة إلى ذلك، لعلها ذكرت اسم الدكتورة ولعه إصلاح، ربما من فرط فرحتها، أو لتؤكد له أن المسألة جد، وأن الشركاء والوسطاء بشر لهم أسماء واقعية، وبالتالى فالموضوع جد، والفرصة قائمة، فرصتها.
فوجئ جلال مفاجأة، ليست كبيرة ـ فقد كان يستمع إلى كل هذه التفاصيل دون أن يتعجب وكأنه كان يتوقعها لماذا؟ لا يعرف. فعلا دنيا صغيرة، وتزداد صغرا. هل لذلك علاقة بموت عبد المعطى؟.
غالى جوهر، أمين عبد الحكيم، الدكتورة إصلاح فاضل، أهكذا؟
سألها بسخف وهو يعرف أنه كذلك، سخف لم يتصور أنه يسمح له بعلو صوته.
ـ هل توجد علاقة، بين موت عبد المعطى، وبين هذا الذى تحكين لى عنه، وبين الحبوب التى تجعل الإنسان يعرف كيف يحب نفسه، فلا يموت ميتة عبد المعطى؟
ـ أنا لا أعرف عبد المعطى هذا. ألم تقل إنه كان يكره نفسه؟ ربما هذه الشركة التى أحدثك عنها تصنع مثل هذه الحبوب، ربما كانت سوف تنفعه لو عاش، كل شئ جائز.
كيف أخذت الدكتوره مادلين تخريفه جدا!! فسايرها!.
– هل كان يمكن أن يتعاطى عبد المعطى حبوبا تجعله يحب نفسه؟ يا سبحان الله، ربما نسمع قريبا عن شركة منافسة تنتج حبوبا تجعل الواحد يغيظ نفسه، وأخرى تجعله “يدلع” نفسه.
ـ دمك خفيف يا أستاذ، ولو أنى لا أفهم فكاهاتك بسرعة.
ضبط جلال نفسه أنه قال الجمل الأخيرة بصوت عال دون أن يلحظ، عادة فظيعه تعريه، دون إذن، حوّل الموضوع بسرعة.
ـ استقرالأستاذ غالى أخيرا.
ـ فرحت له، صدقنى، لقد قلت لك إنى أحبه جدا، لم أكن أفهم آراءه زمان، ولم أكن أستلطف زوجته، هو بمثابة والدى.
ـ الخال والد.
ـ صدقنى، فرحت لأنى رجحت أن إقامته سوف تطول، أو ربما تدوم.
ـ وابنه…؟ جوهر؟
كاد يقول لها “لقدالتقيته أخيرا فى صحراء وادى النطرون، لكنه لم يكن هو”، لم ينبس بذلك، فمضت تقول:
ـ يعنى. مازال خالى يأمل ألا يكمل جوهر مراسم الرهبنة حين يعلم أن الشركة مشى حالها، ألم أقل لك إن جوهرا تخرج فى كلية الصيدلة أيضا، وأن من أسباب قراره أن يسلك طريق الرهبنة أنه اعتقد فجأة أن أغلب الأدوية التى تؤهله شهادته للتعامل بها: هى إما سامة، وإما لا لزوم لها، وأنها جميعا تخرب بيوت المرضى المخروبة بالمرض أصلا، هذا كلام يخرب بيوتنا نحن. أليس كذلك؟.
ـ أنا أميل إلى رأيه، لكننى لم أفكر فى الرهبنة.
ـ ما أعلمه هو أنه ليس فى الإسلام رهبان.
ـ يعنى، لى قريب ذهب يترهبن فى جرزة، وهو يعمل عكس خالك تماما، خالك يحاول منع جوهر من الرهبنة، وصديقى هذا أخذ أولاده معه يرهبنهم، من البداية.
ـ تتكلم جدا، هل فى الإسلام رهبنة؟ هذه أول مرة أسمع ذلك.
ـ ليس تماما، كله هرب والسلام.
ـ الرهبنة هرب؟ ماذا تقول؟
ـ صديقى هذا يحرم التليفزيون على أولاده.
ـ وماذا فى هذا؟ عندنا بعض المذاهب الإنجيلية تحرم التليفزيون كذلك.
ـ هل أنت إنجيلية؟
ـ ما هذا؟ ماذا تقول؟ أنا أرثوذكسية، أمَّا وأبا، ما هذا الذى تقوله؟
لم يفهم سر غضبها هكذا، فقد كان يحسب أن المسألة اختلاف آراء فى التفاصيل لا أكثر، شعر كما لو أنه قد اتهمها بالهرطقة، وبدا أنه لا بد أن يعتذر.
ـ آسف، لم أكن أعرف أن المسألة… آسف.
ـ أنت تعرف خالى، وتعرف أنه أرثوذكسى.
ـ خالك؟ أستاذنا الجليل غالى جوهر، مدى علمى أنه ترك هذه الأمور جانبا، كان يعلمنا أشياء أكثر معاصرة، لكن الدنيا تغيرت، وأصبح على الأنبياء أن يحصلوا على البطاقة الأمريكية الخضراء أولا، وأن يوضعوا تحت الاختبار حتى يتأكدوا من إخلاصهم للرب فى البيت الأبيض، قبل أن يبلغوا نشر رسالة الأمركه البهية.
بدت الدهشة على الدكتورة مادلين، دهشة عدم الفهم لا المفاجأة، فلم تنبس.
دخل زبون جديد، لكن يبدو أنها كانت متلهفة على إكمال الحوار إذ عادت سريعا، تعلن أنها لا تفهم، وأن كلامه هذا يذكرها بكلام خالها زمان، وأنه ماله هكذا متحامل على أمريكا، وأنه توجد فكرة أن تنضم الشركة الكندية، التى أعطت خالها وكالتها، إلى شركة أمريكية، وأن أمريكا بهذا الشكل الكريم الجاهز تتدخل فى كل شئ لتحل كل مشاكل العالم، وتقلل الاختلاف، وهى توحّد الناس وراءها.
لم يجد عنده أية رغبة فى مناقشة حماستها هذه، ولا أن يبدى وجهة نظره، ولا أن ينقل لها وجهة نظر صديقه محمود عبد السلام وأسباب هجرته إلى جرزة، ولا وجهة نظر فاتيما ومعنى تفضيلها العيش فى مصر، بل إنه ضبط نفسه متلبسا فجأة بفكرة شاطحة تقترح أن ينضم تشومسكى لجارودى، ويعملان شركة عملاقة عابرة للديانات، مثل الشركات عابرة القارات التى يسمع عنها كل يوم. سألها فجأة:
ـ لماذا أسموك مادلين؟ آسف.. يمكن ألا تجيبينى، لكنك سمحت لى بكل هذا الوقت، وأخبرتنى بكل هذه الأخبار الخاصة. وهذا هو ما شجعنى.
ـ أبدا، ليس عندى مانع فى أن أقول لك، إن اسمى على اسم خالتى، لى خالة اسمها مادلين.
ـ آه، رأيت كيف؟ .. إذن.. ليس لاسمك أية علاقة بمادلين أولبرايت.
ـ من ؟ مادلين من؟.
ـ … أولبرايت؟ مادلين أولبرايت.
ـ …تقول من؟.
يا خبر أسود، هذه الدكتورة لا تعرف هذه الحيزبون مادلين أولبرايت! أحسن، فى سره وهو يتعجب من نفسه، ومع ذلك قال لنفسه مستظرفاً: “
هى ضرة الحاجة وردة”.
ـ من الحاجة وردة؟
يا للمصيبة، لم يكن الكلام فى سره. عاد يفكر بصوت مسموع.
أكمل وكأنهما يتحاوران، وهو يتعجب من صبر هذه الدكتورة عليه دون الإسراع باتهامه بالجنون قال:
ـ هى امرأة، كما ينبغى.
فوجئت الدكتورة بالإجابة، وبدا أنها ساعدت نفسها على تصنع عدم الفهم هذه المرة، كما خيل إليه أيضا، وفى الأغلب هو مخطئ فى هذا التخيل، أن عينيها اتجهتا إلى النظر فى اتجاه صدرها الضامر. سارع يلم الموقف بأى شكل، فأردف بسرعة حتى يزيل الحرج:
ـ هى زوجة المرحوم عبد المعطى الذى حدثتك عنه حالا، وقد حزنت على فقد زوجها عبد المعطى، كما تفعل الزوجات الأصيلات؛ لبست السواد، وحرمت على نفسها كل الملذات التى كان يحبها، إخلاص ما رأيت مثله.
بدا على الدكتورة أنها فرحت، ربما لإخلاص النساء دون الرجال. فأثنت على هذه الأرملة خصوصا، وعلى الأرامل المخلصات عموما، وذكرت أن من تحب زوجها هكذا، لا ينبغى أن تتزوج بعده أبدا، وكلاما من هذا سمح له أن يستأذن معتذرا مرة أخرى، وهو يدعو الله ألا ينسحب من لسانه ثانية، لكنه انسحب.
ـ وما ثمن هذه الحبوب التى تجعل الإنسان يحب نفسه؟
ذكرته الدكتورة أن الحبوب التى تعنيها غير موجودة بعد، وأنه توجد شركات أخرى تنتج حبوبا مماثلة، وأنها تنصحه أن يستشير طبيبا أولا.
عاود السؤال عن الثمن بالتقريب، فذكرت رقما بمئات الجنيهات للعلبة الواحدة
ـ لا، الواحد يكره نفسه أرخص.
وانصرف دون أن يسمع ضحكتها اللاذعة ذات الذيل القصير.
ـ3ـ
ـ وجهك أم القمر يا أبا الجـل!!.
ـ يعنى أنت التى تسألين؟
ليس أسهل من الحوار مع منال، لعله أسهل وأبسط وأصرح حتى من الحوار مع زوجته ثـريا. لماذا يصر أن ينعتها بزوجته، وهى لم تعد كذلك، كلمة طليقته أفضل، لكنها كلمة ثقيلة لا يحبها، هو لم يطلقها على الرغم مما أثبته المأذون، وعلى الرغم من ورقتها التى تسلمتها منه. هو “تركها”، تركا بعضهما البعض، هل توجد كلمة اسمها “تريكته”،هذه كلمة أصدق، وأخف، قال لنفسه: هى فعلا “تريكته”..، وابتسم. أضف.. أضف يا جلال يا بن غريب إلى الأبجدية الجديدة، ما دام أحدا لا يحاسبك. ياللاااه!.
ـ أين أنت ياجدع أنت؟ وما أخبارك؟
ـ مثلما أنا، أما أخبارك أنت يا منال، فهى عندى أولا بأول، صور فى الصحف، وأحاديث فى الإذاعة، وفى التليفزيون، تسير معك حلاوة.
ـ الشئ لزوم الشئ، وأنت سيد العارفين. لا أخفى عليك، فأخبارك عندى من أمين.
ـ يا خبر، تصورى كدت أنسى، لا تأتى سيرتك إلا مع زوجته، أما هو فلا يذكر شيئا عنك إلا نادرا، أو أبدا، ثم لعلها غلطتى، أنا لا أقابله، وهو دائما فى عجلة من أمره، دائما مشغول حتى وهو نائم يخيل إلى أنه مشغول.
- لعبت معه البلية مؤخرا، ودخل فى عدة مشاريع معا. كان يزمع المشاركة فى مصنع تجميع سيارات.
ـ آتصور ذلك، برغم اختلافه يبدو لى أن ليس له خيار، لقد فـَرَد، عرف طريق أراضى البحر الأحمر، ولعبة القروض، ومشاريع القرى السياحية، هذا غير مصنع السيارات، وأظن أنه دخل مؤخرا شريكا فى شركة أدوية.
ـ تتصورين!!؟ أنا عرفت شيئا عن بعض هذا الموضوع الأخير بالذات. هل تتصورين ممن عرفته؟ أمين عبد الحكيم لا يحدثنى عن أعماله، ولا زوجته إن كانت تعرف أصلا شيئا عن نشاطاته، هل تعرفين من أين عرفت أخبار شركة الأدوية هذه؟
ـ من أين؟
ـ من ابنة أخت أستاذنا القديم “غالى جوهر”.
ـ الأستاذ غالى؟ الأستاذ غالى جوهر؟ تتكلم جدا؟
ـ طبعا.
ـ وإيش لم الشامى على المغربى؟
حكى لها جلال الحكاية، الحكايات، مؤكدا بين الحين والحين أن الدنيا صغيرة، وانتهزها فرصة ليعابثها بعيدا عن أخبار رجال الأعمال، وعن التعجب الذى لم يعد له لزوم من تحول الأستاذ غالى جوهر إلى الرأسمالية “الشرق أوسطية”، ذكرها كيف كانوا يسمونه تروتسكى مصر، قال لها ضاحكا:
ـ المهم أنك يمكن أن تستفيدى من شركة أدوية أستاذنا هذه؛ لأنها مهتمة بمسألتك.
كادت تقذفه بالكوب الذى كانت تمسك به، وقد ظنت أنه سيلمح لصعوبتها التى تعتز بها لأسباب خاصة. بل لعلها ليست صعوبة أصلا وإنما قرارا.
قرأ أفكارها فتظاهر أنه لم يقرأها، لكن عَلَى مَنْ!
ـ لا.. لا.. ليس فى هذه الناحية ، لكن الشركة تنتج حبوبا تجعل الإنسان يحب نفسه، هى باهظة الثمن، لكن يمكن أن تقدمى اقتراحا للمنظمة؛ لجعل تناول تلك الحبوب ضمن حقوق الإنسان.
قررت أن تفوّتـّها.
ـ أنا لست فى حاجة إلى هذه الحبوب، كنت أحسبك أذكى من ذلك؟
ـ للغباء مزايا بلا حصر. أنا أعتقد فعلا أنك تحتاجين إلى أن تحبى نفسك.
ـ يا مغفل، وهل أنا أحب إلا نفسى؟ أنا أضن بها يا غبى على أى ثور منكم، ليس فينا من زعل، أنت الذى بدأت.
ـ إلى متى نخدع آنفسنا يا منال؟.
ـ نخدع ماذا؟ نخدع من؟.
ـ أنفسنا؟.
ـ فى ماذا؟.
ـ أنت تحبيننى.
ـ وهل فى ذلك شك يا حمار؟.
ـ والله عندك حق، أنا غبى، وهذه ميزتى الخفية.
ـ ليست خفية ولا حاجة، وأنت ألا تحبنى؟.
ـ … من غبائى، ولكن قولى لى كيف لا أغار عليك مثلما أغار على من هم أبعد عنى منك.
ـ إسأل نفسك، ثم تغار على ممن وأنت تعرف البئر وغطاءه، ثم لعل هذا هو النظام الحبِّى العالمى الجديد.
ـ عليك نور.
ضحكا، وشربا، وتصافيا. وتذاكرا، ولم يقترب أى منهما من الآخر.
قبل أن ينصرف جلال، التفت فجأة وهو يمسك بمقبض الباب. واستطاع أن يسألها بوقاحة ضاحكة معتمدا على تأثير الشراب:
ـ هل أنت متأكدة أن فاتيما تعرف علاقتك بزوجها؟
أجابت بلا تردد، ربما أيضا تحت تأثير الشراب:
ـ تعرف، وتوافق، و تحتفظ بحقها فى المعاملة بالمثل.
تراجع جلال عن الانصراف. ترى هل ذكرت لها فاتيما شيئا عن تلك الليلة؟
هو لم يستطع حتى الآن أن يفهم ما حصل فى تلك الليلة، هو متأكد أنه كان صدقا خالصا، لم يتكلما كثيرا، ولا قليلا، تلك السمفونية الجسدية الكونية ليس لها اسم، لم يستطع أن يسمى ما حدث بينهما بالأسماء المعروفة، لم تسعفه أبجديته الجديدة، لم يجد لفـظا مناسبا يصف به تلك الليلة، تلك العلاقة، تلك الساعات، تلك الـ… لا يعرف، الأغرب من ذلك أن أيا منهما لم يعد لذكرها أو إليها أبدا.
ما الحكاية بالضبط؟ ماذا تعرف منال من كل ذلك؟
ـ هل ذكرت فاتيما لك شيئا يا منال؟
ـ ماذا تقول؟ هل هذا سؤال؟ طبعا حين نلتقى نذكر لبعض كل شيء.
ـ كل شئ؟
ـ كل شئ.
ـ هل تريدين أن تقولى لى شيئا؟
ـ .. مالك اليوم يا جلال؟ .. شيئا مثل ماذا؟
ـ لا شئ.
إذن فاتيما لم تقل لمنال شيئا، ولا هو قال لأحد شيئا. يعنى ماذا؟
ـ غريبة فاتيما هذه يا منال، أليس كذلك؟
ـ ولا غريبة ولا حاجة، أنا أحبها أكثر من أمين، وهى تعلم ذلك، وأحبها لأنها أنثى جدا.
ـ ألا يكون هذا هو السبب فى مشكلتك؟
ـ عمى فى عينك يا وغد، سوف أطردك من فورى إذا لم تتلم.
ـ4ـ
كان المعرض قد انتقل إلى أسفل العمارة الجديدة فى شارع جامعة الدول العربية. العمارة أتمها أمين عبد الحكيم حديثا، وقد خصصها لشركاته المتعددة التى قفزت فجأة فى المدة الأخيرة دون تخطيط مسبق، وعلى الرغم من أن بداية دروس الأولاد قد تأجلت لتبدأ فى الإجازة، وأيضا حتى يتم التوفيق بين مواعيدها ومواعيد التزاماتهم الأخرى، فإن جلالا قرر أن يتحجج بأية حجة ليشاهد على الطبيعة بعض ما بلغه، أو ربما ليتأكد من بعض التفاصيل، ليس يدرى ما الدافع الحقيقى لكل ذلك.
لم يدعه السكرتير ينتظر طويلا برغم كثرة انشغاله، فيه الخير.
ـ مبروك، لا تؤاخذنى، لم أبارك من قبل، لم تكن ثمة فرصة.
ـ الله يبارك فيك، لكن الانشغالات كما ترى تضاعفت مائة مرة.
لم يتغير شئ فى منظر أمين عبد الحيكم، لم يزد وزنه، ولم يبرز كرشه، ولم يفقد ابتسامته، ولم يقل تحضره، مازال جلال يتصور أن الثراء فى مصر يتطلب كل هذه التغيرات، وأن الأثرياء لابد أن يكون منظرهم مثل المعلمين، مازال يذكر مقالا ليوسف إدريس ينبه فيه إلى أن أثرياء مصر لا يعملون شيئا بثرائهم إلا أن يزيدوا من تعاطى كميات الويسكى والكباب، هل هذا صحيح؟ ها هو أمين عبد الحكيم يتعملق ثراء، ولا يتغير رشاقة ودماثة وطيبة، كيف ذلك؟ لا يعرف.
ـ خيرا يا أستاذ جلال أنت تأمر، أى خدمة؟
مرة أخرى، مثل موقفه فى صيدلية المحبة، لابد أن يبحث بسرعة عن سبب مناسب لمجيئه، يستحيل أن يذكر السبب الحقيقى، وإن كان بوده أن يفعل.
ـ لا أبدا، جئت أبارك أولا، وأسأل عن الأولاد بالمرة؛ لأن الإجازة قربت، ويستحسن أن أعرف إن كان الاتفاق مازال قائما.
ـ آه. طبعا.. طبعا، قائم.. قائم.. ثم.. أظن…، أعرف أنك على اتصال بأمهم باستمرار.
ـ آه. فعلا. ليس باستمرار، ولكن الاتصال قائم. فقط أحببت أن أطمئن منك مباشرة، فأنت صاحب الرأى أولا وأخيرا.
قالها جلال وهو يكذب؛ إذ هو يعرف الرد مسبقا.
بصراحة ومباشرة، قال له أمين إنه يعرف حدوده، وإنه ليس صاحب الرأى فى شؤون الأولاد، وإنه لا ينشغل إلا بعمله، وإنه أصبح مديونا للبنوك بالشئ الفلانى، وإنه لا بد أن يسدد هذا الدين، وأن البركة فيهم.
ـ فى من؟
ـ فى أمهم، وفيك يا أخى، ألم نصبح أصدقاء؟
أصدقاء هكذا، خبط لصق، خير وبركة يا عم أمين.
أضاف أمين: إنه يعلم بأخباره وأخبار مشروعه من أم الأولاد، ومن منال أحيانا ، وأن فاتيما حكت له عن عشاء المطعم الصينى، وعن زيارة مزرعة الصديق الذى لا يذكر اسمه، وأنها عادت بعد زيارة جرزة ـ أليس هذا هو اسمهاـ ؟ وهى منبهرة جدا بصديقه هذا وبتجربته، وأنها ظلت تحكى عنه عدة أيام، ثم كيف أنها تذكره بين الحين والحين، بإعجاب آمل.
ـ تحكى عن من؟
ـ عن صديقك، هذا الذى يريد أن يغسل مخ أولاده من الأمْـَركـة، ليس كذلك تماما، ربما أسأت التعبير، لقد تصورت أنه لو انتشرت هذه الفكرة، فيمكن أن تكون بداية لعمل محطات غسيل مخ، مثل محطات غسيل السيارات. الله يرحم والدى، كان عليه أن يكتب “خيبته الذاتية” بالتفصيل؛ حتى لا يقع أمثال صديقك هذا فى مثل هذا الهبل.
لم يجد جلال فى نفسه رغبة فى أن يناقش اعتراضات أمين، ولا أن ينبهه إلى وجه الشبه بين زوجته، وصديقه محمود، بل بينهما وبين ما سمعه عن المرحوم والده الدكتور، ثم إنه كان حريصا أكثر ـ بعد ما سمع ـ أن يعرف المزيد عن رأى فاتيما نحو محمود، فأعاد السؤال عن ذلك بشكل ملتو.
أكمل أمين استجابة لما استدرجه إليه جلال:
ـ تقول فاتيما إن صاحبك هذا رائع، وإن كانت قد استعملت تعبيرا غريبا، أظن قالت: “مجنون رائع”، أو “رائع مجنون” شئ كهذا.
ـ فعلا!.
ـ فعلا ماذا؟ مجنون أم رائع؟
لم يكن أمين ينتظر ردا، والتقط جلال حركة الكرسى المتحرك إيذانا بالانصراف، فبادر بالاستئذان، واستغرب أن أمين عبد الحكيم ـ مع انشغاله ـ قام بنفسه يوصله إلى الباب.
يفاجئه هذا الرجل بكل هذه الرقة، من هو حتى يحتفى به هذا الذى على وشك أن يصبح مليارديرا، وهو فى نفس الوقت يزعم أنه صديقه دون مبرر؟ يريد أن يفهم، يوما سيفهم. انتبه إلى أمين وهو يضع يده على كتفه قرب الباب، ويقول:
ـ آه تذكرت.
وقبل أن يتكلم راح يضحك من جديد.
اضطر جلال أن يبتسم دون أن يفهم شيئا، وانتظر، وفعلا أكمل أمين:
ـ هل تذكر صاحبتنا الدكتورة التى أنقذتنى من أبى رحمة الله عليه؟
ـ … أذكر طبعا. حكاية لا تنسى.
ـ كنت تسأل إن كانت قد تزوجت أم لا؟
ـ ياه، مازلت تذكر أنت؟ كنت أمزح.
ـ تمزح، أو لا تمزح، قلت أخبرك بمجريات الأمور، إنها معنا فى الشركة الجديدة، ليست شريكة، لكنها معنا والسلام.
قال جلال مقاطعا، وإن كان ندم وحاول التراجع فجاء التراجع متأخرا، بعد أن قال:
ـ عرفت.
تعجب أمين.
ـ عرفت؟ من أين؟ هل تعرفها؟
شرح له جلال باختصار تلك الظروف المعقدة التى أحيت التاريخ القديم لمعرفته بالأستاذ غالى جوهر، الذى ظهر أنه خال الدكتورة مادلين، وكيف أنه زاره مؤخرا لأسباب أيديولوجية.
ـ لأسباب ماذا يا أستاذ جلال؟
استعبط جلال، فأكمل أمين عبد الحكيم وكأنهما ليسا واقفين قرب الباب، أكمل بإيجاز شديد، فأشار إلى ظروف إنشاء الشركة الجديدة، وتكلم عن حميمية العلاقة بين غالى جوهر والدكتورة إصلاح، وذكـر جلالا مرة ثانية بسؤاله عن زواج الدكتورة وهو يودعه على السلم بعد أول زيارة، وضحك ثانية وهو يقول لنفسه: “كل شئ جائز”!!.
لم يصدق جلال، ولم يكذب، فلا هو يعرف الدكتورة إصلاح هذه، ولا هو مهتم بها، ثم إن الأستاذ مسيحى، ومتزوج، وليس له إلا واحدة. ثم إن اسم إصلاح فاضل لا يدل على ديانتها. عاد جلال يشطح بلا روابط.
أوقف جلال نفسه فجأة بقوة غير ظاهره، وسلم، واعتذر، وانصرف مسرعا، وإن التفت وراءه عدة مرات وكأن أحدا يتبعه.
ـ5ـ
”طيب،… وبهية؟”.
”ما لها بهية؟”.
وجد نفسه وهو ينصرف يردد من جديد فى حزن عميق:
” الله يرحمك يا عبد المعطى يا ابن بهانة”.
* * *
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من ثلاثية “المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007، الطبعة الثانية 2017)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net .