نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 11-8-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3997
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
(من الإبداع الخاص: “ملحمة الرحيل والعوْد”)
قبل المقدمة: (من بريد الجمعة 27-7-2018)
أكرر أنه يبدو أن نشر هذه الرواية مسلسلة هكذا، خاصة هذا الجزء الثالث “ملحمة الرحيل والعوْد” فى هذه النشرات اليومية هو ضد التلقى الأشمل، وربما كانت هذه الورطة هى السبب فى تراجع التعقيبات فى بريد الجمعة.
وددت لو توقفت، لكن ما باليد حيلة بقى هذا الأسبوع والأسبوع التالى، فلتتقبلوا عذرى مجددا
وعموما فالرواية بأكملها متاحة إلكترونيا وورقيا لمن شاء
وهذا هو الفصل العاشر
جـِرْزة
-1-
ـ أريد أن أرى “فرَح” يا أبى.
– قالها وائل وهو متردد، فقد كان فى الواقع يريد أن يرى أمه، لا أخته “فرح”.
وائل فى الثانية عشرة، وفرح فى الرابعة، رحلت مع أمها بعد فشل محاولة الأم أن تحتمل الإقامة فى “هذه الخرابة”، هكذا كانت تسمى الأم المكان الذى يسميه الأب ”المزرعة”.
ـ حاضر يا حبيبى.
ـ متى يا أبى؟
ـ وقتما تريد.
ـ هل يمكن أن أذهب إليها؟
ـ طبعا.
كلام يشبه الجد، توقف وائل، سمع ذات الإجابات كل مرة ولم يحدث شئ، ولم ير ”فرح”، ولم يرَ أمه. ماذا يفعلون هنا؟ لم تركوا بيتهم فى مصر؟ لم كل هذا؟ ماهو الخطأ الذى ارتكبوه ليعاقبهم أبوه هكذا، هنا بالذات؟ هو يكره البعوض، ويكره أكثر ذلك الذباب المتوحش الذى لا يخاف الهشّ، هو يكره أباه، ليس تماما، لكنه يكرهه، هو لا يستطيع الاستغناء عنه؛ لأنه يحبه، هو يحب أمه، وهو لا يحب فرح بقدر ما يحب أمه، لكنه يقول إنه يريد أن يراها حجة ليرى أمه.
والده بطل كبير، يعمل بيديه مع الفلاحين، يعزق الأرض، يشارك فى كل الأعمال، يقرأ فى المساء كل الأخبار، هو يريد أن يتفرج على التليفزيون مثل زمان، والده يحكى له حكايات لطيفة و أخرى سخيفة، يسمع عن المسلسلات فى المدرسة، يريد أن يستذكر عند سيد ابن عم عبد المقصود معاون الزراعة لأن عندهم “تليفزيونا”، أو يذاكر عند فؤاد ابن عم عبد ربه السائق، عندهم – أيضا – تليفزيون، والده يعده أنه سيحضر لهم “تليفزيونا” عندما يصلـّحون البرامج، عندما تكون هناك برامج تستأهل، إن ما يشاهده عند سيد عبد المقصود، وفؤاد عبد ربه ليس مكسورا ولا مسدودا، مالذى يريد والده أن يصلحه؟ ماذا ينتظر أبوه حتى يفى بوعده، ويحضر لهم تليفزيونا يتحوّطونه مع أمهم؟ أين أمهم؟ ومع فرح ـأيضاـ مثل زمان.
ـ لقد أصلحوا البرامج يا أبى.
ـ من قال لك ذلك؟
ـ شاهدتـُها بنفسى.
ـ شاهدتَ ماذا؟
ـ البرامج….، ووجدتهم أصلحوها.
ـ فأنت تذهب عندهم لتشاهد البرامج، لا لتذاكروا معا.
ـ نذاكر ونشاهد.
ـ الله.. الله!! وكيف عرفتَ أنهم أصلحوا البرامج؟
ـ الألوان والأغانى والمسلسلات لا تتوقف، النور لا ينقطع، والصورة لا تهتز، لم تهتز مرة واحدة.
ـ ولكن ماذا يقولون فيها، فى التليفزيون؟
ـ يقولون فيها كل حاجة.
ـ طيب.. طيب، سوف نرى.
ولا يرى وائل شيئا بعد هذا الوعد، هذه الوعود…، ماذا جرى لوالده؟ لقد كان ضابطا كبيرا، وكان العساكر يخدمونه، كما كانوا يخدمونهم هو وإخوته ـ أيضا ـ طول الوقت، لماذا انتقلوا إلى هنا؟ لماذا يرضى فتحى أخوه بكل هذا؟ لماذا فتحى يبدو سعيدا مع أبيهم هذا، هكذا؟ إنه يساعده فى كل شئ. فتحى لا يسأل هكذا عن أمه ولا عن فرح ولا عن التليفزيون، هل لأنه كبير؟ فتحى فى سنة أولى ثانوى، هل يمكن حين أكون فى ثانوى، أن أفرح مثله وأصاحب أبى مثله؟
ـ لماذا عند كل الأولاد مدرسة واحدة، ونحن ثلاثة يا أبى؟
ـ ثلاثة؟ أين هم الثلاثة؟
ـ مدرسة البلد، والشيخ حسين، ثم عمى جلال، تقول حضرتك أنه سيدرس لنا أيضا.
ـ آه صحيح، لكن عمك جلال سوف يضيف دروس كمبيوتر وقرآن.
– ما هو الشيخ حسين يدرس لنا قرآن
– لكن عمك جلال سوف يدرس لكم قرآن آخر
– هل يوجد قرآن آخر يا أبى غير قرآن الشيخ حسين ؟
– لا أقصد، القرآن هو قرآن ربنا ، لا قرآن الشيخ حسين ولا قرآن عمك جلال
– إذن ماذا يا أبي؟
– هه..!! ؟ إنتظر، وسوف نرى.
ـ نرى ما ذا يا أبى، ثم حضرتك قلت لنا إنه سوف يعلمنا لغة جديدة
– أنا قلت ذلك؟
– نعم؟
– هو قال لى ذلك ، ولم أفهم، اللغات مهمة يا وائل، غدا ستكبر، وقد تسافر وتعرف قيمة اللغات.
ـ أسافر إلى أين؟ إلى مصر؟ إلى أمى؟ إلى أين يا أبى سوف أسافر؟
ـ تسافر إلى الخارج.
ـ وهل أمرّ على أمى أسلم عليها وأنا مسافر؟
ـ طبعا، طبعا.
ـ وهل سأنتظر حتى أتعلم اللغات وأكبر وأسافر، حتى أرى أمى؟
ـ أبدا، تراها وقتما تشاء.
ـ مثل كل مرة؟
ـ مثل كل مرة.
لم ينتبه محمود عبد السلام إلى سخرية وائل المقصودة أو بالصدفة، لم ينتبه أن “كل مرة” هذه لم تأت أبدا، هو لا يمنعهم من رؤية أمهم “كل مرة” يعدهم فيها بذلك، هو لم يطلــّـقها، هى التى تركتهم وأصرت على ذلك، لا هى ترسل أحدا للتفاهم، ولا هو قابـلٌ شروطها، لابد أن يراها الأولاد يوما، قريبا، هو نفسه يريد أن يرى ”فرح” على الأقل، يريد أن يقذف بها إلى أعلى مرة وثانية وهى تكركر، هو يريد أن يفعل ذلك، لكن هنا، وليس فى القاهرة، هو يريد أن يرى أمها كذلك، هو لا ينكر أنه يريد أن يراها وهو يرى فرح، بل حتى دون أن يرى فرح، لكن هى حرة، هى التى اختارت، وهو لن يتراجع.
ـ2ـ
ـ ألم تفكر فى الأمر يا محمود؟ الأمور لا تسير كما تتصور.
ـ من قال لك ذلك، لعله وائل.
ـ المسألة لا تحتاج أقوال أحد.
ـ لا يوجد هنا من لا يعترف بما أفعل، كلهم يحبوننى ويحبون الأولاد، كل شئ يسير على ما يرام. اسأل عم اسماعيل مثلا.
ـ حتى لو…، لكنك لا تعرف بقية الصورة.
ـ لقد ختم الأولاد مع الشيخ حسين جزء “قد سمع” لا تتصور كيف تحسَّنت لغتهم، وصح نطقهم، وهم يحبون الشيخ حسين أكثر من كل مدرِّسِى المدرسة.
ـ الشيخ حسين بالذات يستأهل الحب، يعزف لهم على السلامية كلما طلبوا منه ذلك، وهو يقرأ لهم القرآن مثل عمي سليمان الله يرحمه.
ـ عمك مـَنْ يا جلال؟
ـ عمى الذى ربانى، أبى الجميل، وهو الذى زرع فىّ ما تبقى لى، وهو ما لم أنجح فى التخلص منه، وهو ما أسعى للرجوع إليه.
ـ ماذا؟ يعنى ماذا؟
- يعنى هذا، ما تراه أمامك.
ـ هل أنت جاد ياجلال فى محاولة الرجوع إليه.
ـ لا طبعا، أنا فى ربكة بلا حدود.
ـ يا جلال أنا أحب الشيخ حسين وقرآنه، بل إنى أعيد التعرف على دينى من خلال مساعدته للأولاد، الشيخ حسين أيضا لا يفسر لهم آية واحدة من آيات القرآن، إذا سألوه عن معنى آية يقرأها لهم ثانية، وكثيرا، إنه يترك القرآن ينساب إلى خلاياهم.
ـ أوافقك ابتداء لكننى مرعوب من التسليم للمجهول الغامض.
ـ ربما. هل يمكن أن يكون الحال هكذا: “كلما ازداد الأمر غموضا ازداد وضوحا”.
ـ أرأيت؟
ـ رأيت ماذا؟
راح جلال يحكى له كيف أنه يـقرّ فعلا أنها تجربة حتى أنه تحدث عنها مع الكثيرين، ومنهم من أبدى إعجابه بالفكرة، بل طلب أن يحضر هنا بنفسه، مثل القصصية المعروفة بسمة قنديل التى لم يسمع عنها محمود ـ هكذا قال، هى تريد أن تتعرف على المكان والأولاد أكثر من رغبتها فى مناقشته أبيهم.
ـ تريد أن تكتب عنا قصة؟ عنى وعنهم ؟ أليس كذلك؟ وهل انت ترضى؟!
ـ لا تأخذ المسألة بحساسية هكذا.
- إذن ماذا تريد صديقتك هذه؟
- لا أعرف.
ذكر له جلال ـ أيضا ـ أن صديقة ألمانية الأصل متزوجة من مصرى، رجل أعمال، أبدتْ حماسا أضعاف ما أبدت القصصية بـَسْمَةْ، وأنها تريد -أيضا- أن تتعرف عليه هو، وليس على المكان والأولاد فحسب، بعكس بسمة، وأنها كانت أسهل اقتناعا وأشد حماسةا لأنها تعتبر هجرته هذه أشبه بانتقالها إلى مصر، وزواجها من مصرى، وكلام من هذا، المهم أنها تريد أن تزوره أيضا.
ـ الله!! الله يا جلال، أصبحنا مزارا!. سوف نـُدرج فى قائمة الآثار المصرية، لم يبق إلا أن نطبع تذاكر دخول، ونعمل سيادتك دليلا للسائحين، وبعد قليل تعمل لنا برنامج صوت وصوررة بلغاتك الحية، دعاية لمشروعك “زوروا هرم ميدوم، وتفرجوا على محمود عبد السلام وأولاده”، لماذا لا تتركوننى أقتحم الممكن بطريقتى؟
ـ ممكن ماذا، وزفت ماذا، تقتحم ماذا؟ بصراحة إن ما تفعله يا محمود، هو رِدّة وليس اقتحاما، أنت تمارس الوقوف على الأطلال، لا ترميم التراث، إفعل ما بدا لك، لكن الأولاد يا محمود، حرام عليك أن تسميه الممكن؛ لأنك تعلم أنه المستحيل.
ـ تسخر منى أنت أيضا، تنضم إليهم؟
ـ أنا لم أوافق من الأول، على الأقل من أجل الأولاد، كيف لا ترى التعاسة على وجه وائل؟
ـ وأنت، كيف لا ترى السعادة على وجه فتحى؟
ـ لست متأكدا هل هى سعادة أم بهر المراهقة؟
ـ أنا ـ أيضا ـ لست أدرى هل هى تعاسة تلك التى تظهر على وائل أم أنها حكمة المواجهة؟
ـ حكمة ماذا؟ فى هذه السن تفرض على أطفالك آراءك ومواقفك هكذا.. تفرح حين تـُصوِّر لنفسك أن حزن ابنك الذى مازال فى الابتدائى هو حكمة، وحكمة ماذا؟ حكمة المواجهة.. الله يخيبك، يا أخى، حرام عليك، والله حرام.
ـ حرام عليهم هم.
ـ على من؟ على الأطفال؟
ـ على كلينتون، ويلتسن، وجورباتشوف، وسورس، وباراك، وستالين، وصدام، وزكى بدر، وشيخ الأزهر، والرئيس، والشيخ بكر، وأبونا شنوده، ووزراء البحث العلمى و…. قال جلال مقاطعا، وكأنه يوقف بيده شريط تسجيل علــَّق:
ـ هل تــُواجه كل هؤلاء بهربك، وتعذيب الأولاد؟
ـ يا جلال، يا جلال، نحن فى البداية، كيف تحكم علىّ هكذا مبكرا؟
ـ الثمن باهظ، يدفعه الأبرياء أكثر، وأخفى.
ـ أنت مثلى تماما يا جلال، أنت قلت لى كلاما مشابها، وحين رأيتـَه فعلا ممكنا رعِبتَ وخبتَ، أنت أجبن، هذا كل ما فى الأمر.
ـ بصراحة: يجوز.
ـ3ـ
ابتسم اسماعيل أبو عطية وهو يدخل متسحبا يحمل صينية صدئة عليها أكواب صغيرة، ومحمود يجلس على كنبة عربى صلبة الحشية، ويستند إلى مسند صغير أكثر صلابة، كانت ابتسامته تحمل رسالة أخرى غير “مساء الخير”، وغير “حمد الله على السلامة”.
ـ لقد وافقت أمَّها يا سعادة البيه، نقول مبروك؟
ـ مبروك ماذا يا عم اسماعيل؟ أُمّ مَنْ تلك التى وافقتْ؟
ـ أم فكرية.
ـ فكرية من؟
ـ خدامتك، العروسة.
ـ العروسة؟ أية عروسة؟!!. عروسة من ؟ ثم إن فكرية، على ما أذكر صغيرة جدا، أليست هى التى جاءت بالغداء أول أمس؟
ـ هى بعينها، سعادتك ناقـِرها، أنا لاحظت.
ـ أعتقد أنها لم تبلغ سن الزواج.
ـ سن ماذا؟ نحن لايهمنا هذا الكلام، نسنـِّنْها يا سعادة البيه، إنها عـِزّ الطلب، اسألنى أنا.
ـ أسألك عن ماذا؟
ـ على خيرة الله.
ـ ولكن مـَنْ السعيد إن شاء الله؟
ـ ماذا جرى يا سعادة البيه، هل تمزح؟
ـ لا والله، أنا أسأل بجد: من سعيد الحظ؟ أنت حر إن كنت لا تريد أن تقول.
ـ ماذا جرى ياسعادة البيه، ولا مؤاخذة، ألم تقل لى إنك تريد أن تتزوج أربعة على سنة الله ورسوله، فكرية خدامتك، هى الثانية بالصلاة على النبى.
ـ يا خبر!! أتقصد؟ يعنى؟ لقد كنت… …
ـ كنت ماذا؟ ترجع فى كلامك؟
ـ كلام من يا رجل، إجلس اجلس، كنت أمزح.
راح محمود ـ بصبر مختلط بغيظ يخفى غثيانا غامضا ـ يصحح لإسماعيل “أبو عطية” ما وصله من سوء فهم، وأنه لا يفكر فى الزواج، وأنه ليس بينه وبين زوجته أم فتحى أى خلاف سوى مسألة الإقامة هنا، وكلام من هذا….، كان اسماعيل أبو عطية يسمع، ولا يفهم، ولكنه يهز رأسه باستمرار، وكأنه يوافق، وحين انتهى محمود من هذا الكلام الصعب، والذى لم ينتبه إليه تماما، قال إسماعيل أبو عطيه بكل استغراب غاضب:
ـ يعنى ماذا؟
ـ يعنى ماذا؟ بعد هذا كله يعنى ماذا؟ يعنى أنت فهمتنى خطأ يا عم اسماعيل.
ـ يعنى ماذا؟ أقول لهم ماذا؟
ـ تقول لمن؟ لا تقل شيئا، لأننى لم أقل شيئا، أنا لا أتزوج يا عم اسماعيل.
ـ يعنى نؤجلها؟
ـ تؤجل ماذا؟
ـ .. والمصحف الشريف ما هو طمع، أنا صعبان علىّ وحدتك، ثم سعادتك الذى قلت.
أحس محمود أنه لا مفر من المقاطعة، والهجوم، وحتى التهديد:
ـ إسمع لما أقول لك، إياك أن تأتى بهذه السيرة ثانية، لا مع قريب ولا مع غريب. فاهم؟
ـ آه ! يعنى….. لكن عيب، طيب حتى ورقة بيننا وبين بعضنا.
ـ الله!! الله!! ورقة ماذا يا رجل؟ هل جننت؟ بصراحة: لا تجعلنى أضطر لطردك، يبدو أنك معتوه لا تستأهل.
انتبه اسماعيل أبو عطيه، ربما فجأة، إلى احتمال قطع عيشه المنقطع من أصله، فسكت، وتبين أنه فاهم كل حاجة، هكذا مرة واحدة، فهم كل ما كان ليس فاهمه، جاءه كل الفهم دفقا حين تهددت لقمة عيشه بهذا الوضوح، أهل مصر هم أهل مصر، سواء كانوا أفنديات أم عسكر حتى لو أمسكوا الفأس وتصنعوا التواضع، هم أهل مصر، لا فائدة منهم، يستكبرون علينا مهما فعلنا، إخص…”
لم يقل حرفا من ذلك، لكنه قال:
ـ الشاى برد يا سعادة الباشا، أعمل لك غيره.
ـ لا سخـّنه فقط، أو اذهب به، لا أريد شايا ولا زفتا، لاترينى خلقتك الآن.
لم يكن محمود يتصور قبل أن يحضر هنا أنهم هكذا، كبارا وصغارا، أثرياء وفقراء، ليست المسألة قهرا ولا جهلا، يبدو أن ثمة معركة خفية تدور بينهم وبين عدو مجهول، بداخلهم أو بخارجهم، بل بداخلهم وخارجهم معا، اكتشف أنهم مضطرون إلى تخليق ذكاء خاص يساعدهم فى هذه المعركة المستمرة، لم يكن يعرف أن الذكاء يتشكل بالجغرافيا والتاريخ بهذه الصورة المميزة، إن ما كان يسمع عنه من لؤم الفلاحين كان يعتبره حكما فوقيا يصدره من لا يعرفهم، من يخاف منهم، من يتعالى عليهم، لكنه حين واجه هذا النوع من اللؤم برَّرَهُ فى البداية بأنه ربما يكون دفاعا مشروعا فى مواجهة القهر والسحق عبر التاريخ، وكذا فى مواجهة مؤامرات البهوات والأفندية حاليا، لكنه راح يتبين تدريجيا أن المسألة أكبر من كل ذلك، هو يفضل استعمال لفظ “لؤن الفلاحين” بالنون لا بالميم، لأنه يشعر أنه شئ يميز هذا النوع من المخلوقات، إنه سلاح خاص يحتوى قدرا متوازنا من الحرص على الحياة، والاعتزاز بالنفس ، ربما داخليا على الرغم من مظنة قبول الإهانة ظاهرا، هو مزيج من الرفض والتحدى والثقة بالقدرة على التلاعب، هو يقين بأن هذا النوع من الذكاء سيخرج صاحبه كسبانا من أى موقف، حتى لو خسر، مهما خسر.
محمود لم يكن يتصور أن نـَـفـَـسَهم طويل بهذا الشكل!!.
كل ذلك جعله يتراجع تدريجيا عن الأمل فى الائتناس الحقيقى بهم، يبيعونك فى ثانية دون نذالة حقيقية، حتى لو أسميتها أنت كذلك، هى قوانينهم الخاصة، ومع ذلك لم يـلُمْهم، لم يحتقرهم، لم يتعال عليهم، ومازال يذهب يلعب الدومينو على أريكة عم عبد الصمد البقال أمام دكانه، وهو يلعب الورق مع رمضان المزيـّن بعد العشاء، فى المقهى أو فى بيته، وهو يحب لعب الدومينو أكثر ؛ لأنها ثابتة لا تطير إذا ما قام الهواء، وهم يجلسون على المصطبة أمام الدوار، لم يعدم أثناء الخدمة أن يتعامل مع أشكال مختلفة من الفلاحين، مكان وطبيعة خدمته فى القاهرة جعلا مثل هذه المعاملات مقصورة على من تركوا بلدهم للعمل فى المعمار فى المدينة أو للخدمة الإجبارية، هؤلاء الذين يبدو أنهم حين تركوا قريتهم قاموا بتخزين هذا النوع من الذكاء هناك فى صناديق أمهاتهم ليتفرغوا للطاعة والخنوع؛ خوفا من أن يعوقهم اللؤم عن تمام الاستسلام لقوانين المدينة وأسيادها، هؤلاء النازحون إلى القاهرة نادرا ما يستحضرون هذا الذكاء من البلد إلا إذا فتح الله على واحد منهم، وأصبح مقاول أنفار يحتاج إلى هذه القدرات الخاصة ليوفق بها بين طمعه، وحذق صاحب المال، ونذالة هؤلاء الأنفار أولاد الكلب.
كان محمود يتصور ضمن مشروع هجرته أنه سيبدأ من البداية، وسط جو أقرب إلى الطبيعة، وفعلا رحـَّبت به الطبيعة القاحلة، والطبيعة البور، والطبيعة الواعدة (كما تصور)، لكنه لم يجد أى معالم تبشر بتحقيق أى شئ مع هؤلاء الذين كان يظن أنهم أقرب إلى الطبيعة البشرية، هؤلاء الفلاحين، ياه!
لا يمكن أن يكون هذا الذى جعلهم هكذا هو قهر قرن أو قرنين، إنه لم يتراكم هكذا إلا خلال الزمن كله.
ثم إن محمودا ليس متأكدا من أى من هذه الأحكام.
هو يقول لنفسه إنه حين فوجئ بعكس ما توقع، بعكس الصورة التى كانت تمثل له ما هو “فلاح مصرى”، راح يشوِّه كل شئ وكل واحد، وواحدة، حدث ذلك بعد أن تخطى مرحلة من يدعى الشفقة ويبالغ فى المصمصة، وكذا تخطى مرحلة المبالغة فى التفسير والتبرير، وسواء كان مصيبا أو مخطئا فقد أخذت وحدته تزداد بشكل لم يتصوره، الوحدة فى المدينة صريحة ومتحركة، أما الوحدة التى اكتشفها هنا فهى متسحـِّبة وثقيلة، راسخة، وشاملة، ومتزايدة.
ألا يمكن أن يكون كل هذا منه هو، لا أكثر ولا أقل، وأنه كان سيظل وحيدا سواء فى القاهرة أو فى حلايب، فى مرسى مطروح أو فى مرسى علم، فى البوسنة أو فى الشيشان؟
= “لا،،لا..البوسنة شئ آخر”.
= ”ولا شئ آخر ولا حاجة،
= “لا..، هى شئ آخر ونصف” ” ديـِّتها أن تنتظر بعد الحرب عدة أشهر، وسوف ترى، وهات يا أمريكان، وهات يابلاستك”.
= ليكن، إذن جرزا هى الشئ الآخر!! هو سيجعلها شيئا آخرا: لا تراجع،
عاد يوجه كلامه لجلال:
ـ لا سبيل إلا بإزالة التلوث الذى عملوه فينا صغارا وكبارا، عمالا وفلاحين، أفندية وضباطا، مصريين وبوسنيين وصربا.
ـ عملوا ماذا؟ هل هم الذين عملوه ونحن نتفرج يا محمود؟ أم أننا نستأهل ما يجرى لنا؟
ـ نستأهل ونأخذ بالحذاء أيضا، هم لم يعملوا ما عملوا إلا حين قبلنا أن نرعى فى داخلنا الطمع، والعمى، والنسيان، والخوف، والغباء.
= ما هذا كله؟
= ياخبرا أسود إذن كيف؟
= يبقى ماذا؟
ـ4ـ
دخل فتحى على والده وهو يرتـِّب ورق اللعب أمامه وكأنه “يفتح الكوتشينة”، كانت لأبيه تسليات خاصة مع الورق، لم يكن يتكلم فيها مع أحد، شىء أشبه بالألغاز أو التطيّر أو ما لا يدرى أحد ماذا، كان وجه فتحى متغيرا، وكان إذا وجد والده مشغولا فى هذه الأحاجى يتركه ويمضى أو يفاتحه من فوره فيما يريد، هذه المرة لم يفعل هذا ولا ذاك، ظل واقفا ليس بعيدا عن ناظرى والده، وليس فى مواجهته تماما، وقد حدث ما أراد حين التفت إليه والده بإعجاب، واحترام، وفرحة، ومودة كالعادة، كان محمود يأتنس بابنه فتحى هكذا طول الوقت دون أن يعلن ذلك لأحد، ولا لنفسه، كان يحبه، كان يستطيع أن يوصل إليه ما يريد دون أن يقوله، أو لعل فتحى كان يلتقطه وحده، كان محمود يطمئن كلما رأى فتحى مقبلا نشطا، هائصا، شاطرا، لا يكف عن الحركة والسؤال والمحاولة والخطأ والتصويب، كان يتصور أن كل هذا بفضل هذه النقلة العظيمة إلى هذه الأرض البكر، العودة إلى الأصل، لكن وجه فتحى هذا اليوم، هذه المرة، الآن، كان مختلفا، ترك محمود ما بيده والتفت إليه.
ـ هه؟ خيرا؟
تردد فتحى قليلا، وكاد يعدل عما جاء به،، لكنه يعرف والده، فلم يتمادَ فى الانتظار.
ـ ”مينا” يا والدى؟
ـ ماله يا ابنى؟
ـ مينا ابن عمى إسحق
ـ ماله يا فتحى؟
ـ مريض
تعجب محمود، ورجـّح أن الأمر ليس بهذه البساطة، سأل ابنه عن مرض مينا بعد مقدمة قصيرة عن أن كل الناس تمرض وتشفى، وأنه ـ فتحى ـ أصيب باللوز من ثلاثة أسابيع، وقام مثل الحصان، وأنه شخصيا، وهو والده، يعاوده المغص الكلوى بين الحين والحين، وتمرّ، ولم ينفع كل ذلك فى أن يغير تعبير وجه فتحى.
ـ لكن حرارة مينا لا تنزل منذ عشرة أيام، وقد غاب عن المدرسة أسبوعين، وأنا أذهب إليه بالدروس أولا بأول، لكنه أمس وأول أمس لم يعد يفهم ما أقول، ولم يرد علىّ كما اعتاد، وعمى إسحق يقول إنه سيذهب به إلى طبيب كبير فى مصر، وأنه قد يدخله المستشفى.
استمرّ محمود فى محاولة طمأنة فتحى أن كل هذا لا يعنى أن المسألة خطيرة، ولا أن المرض مستعص، وأن الطب تقدم جدا، ويستطيع القضاء على كل الأمراض، يعنى أغلب الأمراض إن شاء الله تعالى، لكن فتحى واصل، وكأنه لم يسمع شيئا:
ـ لكن مينا لم يعد يفهم، لم يعد يرد، يقولون فيروس فى المخ، لم أفهم شيئا.
ـ ولو!! الطب الآن لا يقف أمامه شيء.
قالها محمود وهو يبلع ريقه ويخفى جزعه.
ـ ربما يموت.
ـ الأعمار بيد الله يا بنى، لا أحد يموت من حـمَّى عابرة.
ـ لا، ليست المسألة فى هذا.
قالها فتحى وهو يحاول أن يخفى نشيجه المكتوم الذى كاد يقفز رغما عنه فى نبرات صوته.
ـ المسألة فى ماذا إذن يا فتحى؟ ماذا بك اليوم؟
سكت فتحى.
سكت محمود بعد ذلك طويلا، فهو يعرف فتحى، ويعرف أنه لا يستطيع أن يهوِّن عليه الأمر بتسطيح يمر، وأن ابنه هذا لا يدعه إلا وقد أحاط به من كل جانب، قطع فتحى الصمت.
ـ لم أكن أعرف أنى أحبه هكذا، وأحب عمى إسحق، وأحب خالتى حنونة، وهم يحبوننى أيضا، بل يحبوننى جدا، ويحبونك أنت أيضا يا أبى، ويدعون لك، ولأمى التى لم يروها.
قال محمود مراوِغا، وكأنه أطمأن إلى تغيير الموضوع:
ـ الحمد لله، أنت قلتـها بنفسك.
ابتسم فتحى، وكأنه الوالد وأبوه الابن، ولم يقل له: “قلت ماذا”؟ “قلتها” ماذا؟ ابتسم ثانية ومازال الألم يعتصره، ولم يحكِ له كيف أنه ومينا كانا قد قررا، بعد أن توثقت علاقتهما لدرجة خاصة جدا، أنه إما أن يـًسْلم مينا، وإما أن يتنصـَّر فتحى حتى لا يفترقا هناك، وأنهما حين حسباها خاف فتحى على حزن عم اسحق وخالته حنونه أكثر مما خاف مينا على حزن عمه محمود، وقررا أنهما إذا فعلاها سيفعلانها بينهما وبين ربهما، لكن مينا مرض قبل أن يتخذا قرارا نهائيا: هل يـُسلم مينا أم يتنصر فتحى؟ وكان الأقرب أن يسلم مينا مادام الأمر سيتم سرا؛ لأنه لن يحتاج إلى تعميد فى الكنيسة، ومن ثم العلانية التى يبدو أنه لابد منها فى حالة ما إذا تنصّر فتحى، لكن مينا مرِض، لماذا مرض قبل أن يستقرا على رأى؟، ثم إن هناك سببا آخر وهو أن القرآن أسهل، وكان هذا من بين ما أثاره فتحى مع عمه جلال ذات يوم حول ما سوف يدرسه لهم .
ـ لماذا يا عمى جلال لا يوجد قرآن للمسيحيين؟
ـ المسيحيون عندهم قرآنهم.
ـ ولكن الشيخ حسين وأنت تقولان إن القرآن حاجة ثانية.
ـ ربما لأن الإنجيل يكاد يكون مترجما من لغة قديمة، وربما بحكم العادة، وربما نحن مخطئان، أنا والشيخ حسين، إيش أدرانا نحن بقرآن الآخرين.
ـ ألا يمكن ترجمة قرآنهم إلى اللغة العربية ليصبح أسهل ونتعلمه ـ أيضا ـ معا؟
ـ ما هو باللغة العربية يا فتحى. ماذا جرى لك؟
ـ آه، صحيح!!.
لم يسأله فتحى إن كان يمكن توحيد الكتابين، أو أن يـُكتب الإنجيل الذى يقرأ فيه أحيانا مع مينا بلغة القرآن وأنغامه، لم يسأله لأنه كان يعرف أن عمه جلالا سوف يقول له كلاما صعبا مثلما اعتاد، قد يعود يحدثه عن أصول اللغة ووحدة الأشياء وتنظيم الدماغ، أو عن أمريكا بنت الكلب، وهو قد شبع من هذا الكلام، وهو ليس متأكدا إن كانت أمريكا هى السبب فى مرض مينا أم لا؟
ـ هل يمكن يا والدى أن تكون أمريكا هى السبب؟
ـ السبب فى ماذا؟
ـ فى مرض مينا؟
ـ كل شئ جائز، أمريكا أصل التلوث، والفيروسات الأحدث لم تنتشر هكذا، إلا بعد أن تغير المناخ، وهى التى غيرته، كل شئ جائز، هذا هو النظام العالمى الذى يقولون عنه.
ضحك فتحى فى سره؛ لأنه لم يكن جادا وهو يسأل، وكان يتعجب من مناقشات أبيه وعمه جلال حين يختلفان فى كل شئ ولا يتفقان إلا فى أن أمريكا هى السبب فى كل المصائب، وحين سأل والده هذا السؤال الغريب كان يتمنى أن يكتشف والده أنه يقول أى كلام من فرط انشغاله على مينا.
وعـَدَهُ أبوه أن يزور مينا هذه الليلة، وحين زاره استقبله عم إسحق أحسن استقبال، وقال له إنه أخذ إجازة خصيصا ليرعى مينا، ولم يكن محمود قد عرف تحديدا عمل عم إسحق إلا أنه كان يعرف أنه يعمل فى السكة الحديد، ولهذا يغيب أياما ويحضر أياما أقل، ثم عرف أنه سائق قطار، وأنه يحب عمله، ولو أنه مسئولية، ولا يدرى محمود كيف ربط بسرعة بين بعض تفاصيل حكاية عبد المعطى التى حكاها له جلال، وبين عمل عم اسحق، حتى تصوَّر أنه ربما كان سائق القطار الذى أفزع عبد المعطى وكان ما كان.
حين دخلت خالتى حنونة عليهما بالشاى، قال فى نفسه إنه مستعد أن يقسم بالله العلى العظيم لابنه فتحى أن الله يعرف ماذا يفعل أحسن منا جميعا، وأن على فتحى أن يطمئن على مينا مائة فى المائة.
ـ ادع له يا “أبو فتحى” من أجل خاطر ربنا، الولد سيضيع منا، قل لأم وائل تدعو له.
هذا ما قالته خالتى حنونة، وهى تودعه على الباب، قالت ذلك وهى متماسكة بالكاد، وكان إسحق قد أصر على أن يوصله إلى نهاية الشارع بعد رفض شديد من محمود أن يصحبه حتى المنزل، وحكى له عم إسحق فى الطريق، كيف أن فتحى هو مثل ابنه مينا، وهما أخوان على كل ملة ودين، وأنه مشغول على وائل الصغير، وأنه مستغرب من محمود، وأنه ـ برغم العشرة والفرحة بوجودهم هنا ـ يرى أن يأخذ محمود ولديه ويرجع لأمِّهما فى مصر مع أنه يحبهم حبا بالغا، ولعل هذا هو ما يجعله يتحمل فراقهم وهو مطمئن عليهم مع أمهم، سمع محمود كل ذلك فأطرق، ولم يُجب.
أحس محمود وهو فى حضن عم اسحق، وهو يودعه فى نهاية الشارع، بالدفء والأبوة جميعا، أحس أنه مطمئن إلى كل شئ مهما حدث.
ودعا محمود لمينا بالشفاء أثناء عودته، بيقين لا يهتز، أنه سيستجاب له، حتى كاد يقسم، ثم دعا له أكثر فى صلاة القيام فى جوف الليل، ولا أحد يراه إلا هو.
ـ5ـ
ـ وحتى لو كانت المشكلة فينا نحن، فهم الذين أوصلوها إلى هذه الدرجة.
قالت ذلك بسمة قنديل وهى فرحة بالزيارة التى رتبها جلال، كانت الفرصة مزدوجة لما رتب جلال أن تصحبهما فاتيما عبد الحكيم التى كانت بسمة تريد أن تتعرف عليها من كثرة ما حكى جلال عنها.
فرصة مزدوجة، مضروبة فى المكان والمفاجآت والناس والأولاد.
قال محمود لبسمة بعد أن احتد الحوار، قال وهو غير مقتنع بما يقول:
ـ همْ أم نحنُ؟ المسألة تحتاج إلى حسم ومواجهة، وقد فعلتها ومتحمل مسئوليتها، لم يعد عندى مشكلة، كانت….، وتمَّ حلها.
ـ تقصد: “تاهت ولقيناها” كما سمعتها هكذا فى إحدى المسلسلات.
ـ مسلسلات ماذا، أنا هنا فى المسرح الكبير، ليس عندى “تليفزيون” من أصله.
ـ ليس عندك ماذا؟
ـ تليفزيون.
ـ والأولاد؟
ـ ما لهم؟
ـ لاشئ.
تذكرت بسمة قنديل أنها ربما نسيت ما حكاه لها جلال عن محمود، ذلك أن ما يبلغها الآن قد أدهشها من جديد على الرغم من أن جلالا قد حكاه لها بالتفصيل تقريبا، وهى إنما جاءت تبحث عن تفاصيل التفاصيل، القصة القصيرة، بالذات علـَّمتـْها أن تقول ألف تفصيلة فى جملة واحدة.
ـ وهل العائد هنا مجزٍ يا كابتن محمود؟
هذا ما قالته فاتيما دون توقع.
ـ لم أعد “كابتنا” يا سيدتى.
تعجب جلال من فاتيما، فهو لم يتوقع سؤالها هذا، كان يتصور أنها سوف تهيم فى الطبيعة، وتسأل عن كم يبعد هرم ميدوم من هنا، ومن الذى بناه، وكلام من هذا، وأيضا تصور أنها سوف تداعب أطفال الفلاحين وتوزع عليهم الحلوى، والزمامير، مثلما تفعل السائحات من بنى جنسها، أو مثلما يفعل المرشحون لمجلس الشعب قبيل الانتخابات، وهو ما تفعله مثقفات حقوق الإنسان بطريقة أسطح وأتفه، كان يتصور وهى خوجاية بيضاء هكذا، ومحجبة، أنها سوف تثير الفلاحين ليتفرجوا على الحاجـة القادمة من بلاد بره، وخلاص، لكن أن تتكلم فى “العائد” هكذا مع الكابتن محمود، فهذا شغل زوجها ليست هى.
ليست “هى” التى ألقت هذا السؤال، ولا هى التى لقيها فى المنزل، ولا هى التى تناول معها العشاء فى المطعم الصينى، ولا هى التى جلس بجوارها فى العربة حتى كاد أن يذوب، يتلاشى، فيها، يملؤها بهما، دون إرادة، ولا هى التى “تفضلت” ليلتها حين قال لها “تفضلى”، هو لم يجرؤ بعد ذلك أن يدعوها، وهى لم تـشِـر إلى الموضوع ثانية أبدا، لكنها هى هى كل هؤلاء، تبدو له الآن وهى تحدث محمود عن “العائد” أقرب إلى.. إلى زوجها، ربما، بل هذا هو، حتى بدا له أن وجه زوجها يُطـِلّ من خلف حجابها، ربما ، أم ماذا؟
واصلت معتذرة فى تردد.
ـ آسفة يا محمود بيه.
ـ ولا “بيه” ولا حاجة، هذا تاريخ لا أعتز به.
ـ ماذا أقول لك إذن؟
ـ إذا تفضلتِ فأنا محمود.
ـ شكرا، تزيل الكلفة مبكرا؟
ـ أنا حضرت هنا إلى جرزة، لأتخلص من كل ذلك.
ـ وأظن أننى حضرت ـ أيضا ـ إلى هنا؛ لأتخلص من مثل ذلك.
ـ إلى جرزة؟.
ـ .. إلى مصر.
راح محمود يشرح لها ظروفه ردا على سؤالها، وكأنه يطمئنها على نفسه ومصيره، وذلك حيث أن له معاشا، وعائدا ثابتا من ميراث محدود، وأن هذه الأرض يمكن أن تعطيه ذهبا لو أنه أحبها وأحبته.
تغير وجهها فجأة:
ـ الأرض تحبك يا محمود، هل تعنى ذلك؟
ـ إذا أنا أحببتها بجد، فإنى واثق أنها سوف تحبنى، هى لا تملك غير ذلك، فقط تشترط الصدق.
أشرق وجهها كما رآه جلال أول مرة، بزغت الشمس المـُشربة بحمرة القمر من خلف السحابة الهشة الحنون، عادت فاتيما التى عرفها، التى مدت يدها إلى داخله وعــرتـه، التى أحاطته حتى احتواها، كيف يذهب الإنسان ويعود هكذا وهو واقف فى موقعه ، ما الذى يجرى لنا بهذه السرعة، وهذا الحسم؟
ـ ياه، أفقتنى، يا محمود، كنت أتكلم وكأنى أدرس مشروعا استثماريا مثل زوجى، تصور!!؟
تأكد جلال من حدْسه، وأن الوجه الذى أطل من وجهها حينذاك كان وجه أمين عبد الحكيم، وهو فى معرضه يعقد صفقة!!. إلى هذا الحد يمكن أن يلبس الإنسان آخرا وهو لا يدرى!!. إن فاتيما ما جاءت مصر ـ فى تقديره ـ إلا لتخفف من ثقل هذه الحسابات طول الوقت، كم؟ كم؟ كم؟ تصور جلال ذلك سواء نتيجة رغبته هو أو نتيجة ما وصله منها فيما سبق، هل يمكن أن يتسحب أمين تحت جلدها دون أن تدرى، وحين يختفى تتجلّى من جديد؟
واصل محمود شرحه أن هذا لا يعنى أنه بعيد عن الواقع، أو أنه لم يحسب العائد، ولكنه حسبها بطريقة أخرى، فهو يخوض تجربة متكاملة، ولا بد أن يتكلم عن عائد التجربة، لا عن عائد الأرض.
نظر محمود إلى جلال نظرة حاسمة حتى لا يقاطعه، وصلت الرسالة إلى جلال فزمَّ شفتيه بالموافقة، ومنع نفسه من التعليق، فاطمأن محمود إلى أنه لن يتدخل.
هذه هى فاتيما التى يعرفها جلال، التى يريدها، التى “هى”، أخذ الحديث يتطور بينها وبين محمود وهى تتجلى، نعم هذا هو اللفظ الذى يصفها الآن، حين تحضر بما هى، تتجلى: جنساً، ومعرفةً، ودفئاً وكشفاً معاً، كيف ذلك؟ هل يا ترى وصلت هذه الرسالة إلى محمود كما وصلته؟ صوتهما يخفت بالتدريج حتى لا يكاد يسمعهما، إنه يضحك، هو لم ير محمودا يضحك هكذا منذ مدة. ما الذى جعله يضحك مع فاتيما هكذا؟ ما الذى جعلهما يضحكان معا هكذا؟.
ـ6ـ
بناء على دعوة من محمود ـ يبدو هذا ـ همَّ الاثنان بالقيام متوجهين نحو الباب، فاتيما وهى تومئ برأسها، ومحمود بعينيه، لابد أن محمودا سوف يـُرِى فاتيما المزرعة، كانت بسمة قد استأذنت لتنفرد بنفسها لتبادل بعض الفلاحين الحديث، أو لتنصت إلى همس بعض الأشجار، وربما لتسمع دبيب بعض الحشرات فوق وتحت التراب، لعلها ـ دون أن تدرى ـ كانت تجمع مادة مجموعتها القصصية القادمة، لماذا لا توجد قصص قصيرة كافية وعميقة عن هذا الريف الغامض بكل أسراره الحقيقية الراسخة فيهم أرسخ من كل الأهرامات؟ هؤلاء الناس الفلاحون جدا لم يحضروا أبدا فى رواية أوحكاية تقول ما هم هكذا، هل استطاع الفلاحون أن يتخفوا حتى عن تناول إبداع أغلب الرواة على مختلف أنواعهم، يبدو أن هؤلاء الفلاحين يحتفظون بما هم حتى عن المبدعين، هل يشكون حتى فى حساسية القاص؛ خشية أن يكون بصّاصا لحساب فراعين الأهرامات لا لحسابهم؟ هل حالت تلك القشرة الدفاعية المضادة للتقصى أن يزور المبدعون صناديق قلوب هؤلاء الفلاحين المغلقة على تراكمات الزمن، يزورونها، ولو على سبيل أخذ عينة محدودة؟
قبل أن يغادر محمود الحجرة مع فاتيما، التفت فجأة إلى جلال، فتذكر، وخجل قليلا، وشكره فى سره، ولم يشعر بالذنب.
ـ تأتى معنا أم أنك مررت عليها من قبل مرارا؟
كذا يا محمود أيضا؟ أهكذا؟
ـ لا شكرا، كما قلت أنتَ، لقد مررتُ عليها من قبل، مرارا.
ما هذا؟ يكاد يتأبط ذراعها، مازالت الفرحة تغمر محمودا، ومازالت فاتيما تتجلى بعد تخلصها ـ ولو المؤقت ـ من أمين عبد الحكيم الذى أطل من تحت جلدها منذ قليل، كيف كشفت فاتيما أغطية محمود هكذا بهذه السرعة؟ ربنا يستر، كيف؟ يستر من؟ يستر ماذا؟ ما هذه النار كلها؟ ليس بينه وبينها مايـُلزم أيا منهما بأى شئ، ومع ذلك فالنار تزداد اشتعالا حتى تذكر منال – دون جرح – وهى تتفرج على أمين عبد الحكيم وهو منهمك فى جسدها لا يميز، ما الذى عماك هكذا يا أمين؟
-7-
انتبه جلال إلى أن رفـًّا موجودا بالحجرة الخالية من الأثاث ـ تقريبا ـ عليه بعض الكتب، كما أنه لا توجد فى المتناول صحف يتسلى فيها حتى يرجعا. متى يرجعان؟، هدأ جلال فجأة وكأنه نسى كل شئ، فكر أن يتجول هو ـ أيضا ـ وحيدا مثل بسمة قنديل، لكنه انتبه إلى أنه تجول عدة مرات فعلا ، وحيدا ومع محمود، وأنه حاور معظم الناس هنا أيضا، بل لعله حاور كثيرا من الأشياء كذلك، وأنه أشفق على محمود أكثر حين تيقن أن الفلاحين هنا يرونه كما يريدون لا أكثر ولا أقل، هم لا يرونه واحدا منهم طبعا، لم يصدق أى منهم سبب مجيئه، كما حاول أن يشرح نفسه ومشروعه، ولا حتى حين شاركهم آعمالهم كـتفا لكتف، تصور بعضهم ـ بل أغلبهم، وربما كلهم ـ أنه يتعامل مع إسرائيل بعلم الحكومة ليجربوا طريقة زراعة جديدة، ألم يكن ضابطا قديما؟ على من يا عم؟ كان محمود قد حاول أن يخفى عمله السابق حتى لا يخيفهم، أو يثير شكوكهم، حتى يكون أقرب. هو لم ينجح. قالوا: إنه مازال فى خدمة الحكومة، لكنه فقط “لابس ملكى” حتى لا يقال إن الحكومة تتعامل مع إسرائيل، ثم إنه حتى الآن قد ثبت أنه لا يفهم فى الزراعة، فلا بد أنه معتمد على التعليمات التى ستأتيه من إسرائيل عن طريق الحكومة فى السر.
أشفق جلال على محمود من كل هذا، وتساءل: هل يا ترى بلغته هذه الظنون؟ وكيف تعامل معها؟ كيف استمر هكذا وكل هذا يحيط به؟ لو أنه مكانه لاختنق.
لم يجد فى نفسه أية رغبة فى مغادرة الحجرة، فلا هو يريد أن يتجسس عليهما، (يتجسس؟ فوِّت هذه؟ ) ولا هو يريد أن يقطع تزود بسمة بما تريد لمجموعتها القصصية القادمة، فالتقط كتابين من على الرف، ثم ثالثا مختلفا (فى الظاهر) “أمريكا طليعة الانحطاط”، جارودى، “ماذا يريد العم سام”؟ تشومسكى؟ عادل المعلم؟ جلال لم يعرف أن محمودا، النقيب محمود عبد السلام المشد، يتعاطى القراءة من أصله، أخذ يتصفح الكتابين، محمود يخطط ـ أيضا ـ أثناء قراءته- هل تغير محمود هكذا أم أن جلالا لم يعرفه أبدا؟ راح جلال يقرأ ـ بالصدفة ـ بعض الأسطر التى وضع محمود تحتها خطا. (ص6)
”بل إن هنتينجتون يعطى ـ أيضا ـ كلا من المجموعتين صبغة دينية؛ إذ سيكون الصدام بين “يهودية مسيحية، وأخرى إسلامية كونفوشيوسية”.
وجد ـ أيضا ـ (ص 177) تعقيبا بالقلم الرصاص، وعلامة تعجب، ودائرة حول:
” التكنوقراطية هى تلك الطريقة للسير نيَاما….. إنها قائمة على الافتراض: أن كل ما هو جائز تقنــِّيا مرغوبٌ فيه وضرورى “.… “.. إن التكنوقراطية هى ديانة الوسائل”.
أرجعَ الكتابين على الرف، لكن لفت نظره كتاب أو كالكتاب موضوع بالعرض، مصوَّر فى الأغلب، هم أن يسحبه ثم تراجع. وهو يحاول أن يمسح كل ما كان يدور فى مخه.
ـ 8 ـ
عاد محمود وفاتيما وهما “فى حال”.
هذا رأى جلال، بحث عن النار فى قلبه فلم يجدها، لم يرفض ولم يوافق ولم يقبل، لملم كل شئ،….هو لم يحبها،… ولم ينسَهَا.
عادت بسمة وهى “نصف نصف”، هذا رأى جلال أيضا،
أما هو، خلــِّه هو فيما هو فيه مما لا يعلم، ولماذا يعلم؟ وكيف؟
سألها دون أن يلتفت إلى محمود:
ـ هه؟ مارأيك؟
هى التى التفتت إلى محمود.
ـ صديقك هذا رائع يا جلال.
ـ أسألك عن رأيك فى المزرعة.
ـ أين هى؟
ـ المزرعة؟
ـ لا توجد مزرعة إلا فى عقل صديقك الرائع هذا.
ـ رائع فى ماذا.
ـ مجنون رائع.
كتمَ غيظه قبل أن يظهر، حاول أن يبتعد عن الموضوع فالتفت إلى بسمة التى كانت ما زالت نصف نصف، حتى صمتها كان نصف نصف.
ـ هه يا بسمة هل وجدتِ ما كنت تبحثين عنه؟
ـ لم أكن أبحث عن شئ.
ـ مواضيع لقصصك.
ـ ماذا تقول يا جلال؟ البشر ليسوا مواضيع، البشر بشر، كل ما عليك إن أردت أن تعرفهم، أن تسمح لهم بأن يدخلوا إليك، أن يصبحوا بعضَك، أن يسبحُوا فيك، أن يكونوك، ما عليك إلا أن تفتح مسامـَّك، فيحتلون وعيك دون إذن ودون وصاية، دون أن تدرى فى الأغلب، ثم بعد ذلك أنت وشطارتك، أَمـَّا أن تذهب لتتفرج كأنك تجمع حجارة بالية من آثار مهجورة، فإنك لن تبنى بها إلا عشة منهارة تظل مهجورة مهما زيـَّنـْتـَها، بل إن هذا الافتعال يكاد يصل إلى أن يكون جريمة وامتهانا، لا كتابة ولا إبداعا.
لم يفهم كثيرا، وإن تمنى أن يكون مبدعا، ثم تراجع.
قرر أن يلتقط ألفاظها ليكمل الحوار، ثم عليها أن تتصرف هى بمعرفتها، قال دون أن ينتبه إلى أنه ربما يسخر.
ـ وهل دخلوا وعيك بالسلامة؟
ضبط نفسه وهو يخلط المزاح بالجد، وفوجئ أن بسمة قد أخذتها جدا.
ـ لا أعرف، أظن أن هؤلاء الفلاحين هم صناديق رائعة محكمة الإقفال، لم أستطع إلا أن أتحسس الأقفال فقط، أقفال وضعها طابور من الحكام، والكهنة، والقهر، والاستسلام، والإصرار، والتحايل، والصبر، والتحدى.
أوقع فى يده، يا ليته ما مزح، لكنه تمادى فى ادعاء الفهم.
ـ يا خبر!! كل هذا فى نصف ساعة؟ وتقولين إنك لم تتعرفى عليهم؟
ـ أنا أقول لك ما تحسستـُه من أقفال، أمَّا الصناديق وما تحوى فيبدو أن هذا بعيد المنال. فعلا بعيد المنال.
ـ هل سوف تؤجلين الكتابة عنهم حتى يفتحوا صناديقهم، وماذا لو لم يفعلوا؟
ـ أنا لا أكتب عن أحد.
ـ ماذا أقول، حيرتنى.
ـ أنا أكتب نفسى، أكتب الناس، اكتبنى ناسا، أنا لا أكتب عن الناس.
ـ والله ما أنا فاهم.
تدخلت فاتيما التى كانت تتابع حديثهما دون أن يلحظا.
ـ أنا سعيدة بالتعرف عليك يا أستاذة بسمة.
تعجب جلال من تدخلها، واحتمال أن تكون قد فهمت ما لم يفهمه هو، لم يعترض وعاد إلى بسمة:
ـ لكن كثيرين كتبوا عنهم، قصصا وروايات، وحاجات، فهل كانوا يتصورون ما بداخل الصناديق دون أن يقلبوا فيها؟
ـ تصوّر، لقد خطر لى ذلك وأنا أحدثهم، لا، ليسوا هم، لا أحد كتب عنهم، لا أحد كتبهم، لا “الأرض”، ولا “الوسية” ولا أحد ممن أعرف، ربما خيرى شلبى ربما عبد الحكيم قاسم، ولكن المسألة صعبة على أى واحد يكتب من الخارج، تصوروا أنه خطر ببالى خاطر بعد الإحساس بالعجز أمام صعوبتهم: أن أحدا لايمكن أن يكتبهم إلا هم، وبلغتهم التى لا نعرفها.
ـ هل لهم لغة خاصة غير العربية؟ اللغة الجرزاوية مثلا، أم أنك اكتشفت أن الهيروغليفية كامنة فى صناديق وعيهم البعيد عن التناول؟
ـ لست أدرى، ربما يبتدعون لغة خاصة جديدة، هم يحتاجون إلى شفرة تحميهم منا، لكنها للأسف ستزيدهم بعدا عنا، ربما، تذكرنى خيبتنا فى فكرتنا عن ناسنا هؤلاء بخيبة برامجنا عن الأطفال أو للأطفال التى تعرى جهلنا بكل ما هو طفل، بل بكل ما هو نحن.
كان محمود يتابع الحوار بشغف شديد، وبدا عليه ارتياح حقيقى، وكأن هذا الحوار قد حل له إشكالا طال معه دون حل، تذكر المراحل التى مر بها وهو يتعرف عليهم، على هؤلاء الفلاحين الذين كان يظن أنه أحدهم بشكل ما، كيف أنه تصور أنه سيقابل البساطة والبراءة والتلقائية والمعاناة والحاجات التى يمثلها الكلام المرصوص الذى قرأه فى الكتب والقصص التى تصفهم أو تتحدث باسمهم، يكتشف أنه لا أصله البعيد، ولا عمله السابق، ولا قراءاته أفادته فى التعرف عليهم.
قالت بسمة بعد أن حكى لها ملامح مما مر به من مراحل.
ـ سامحنى، لكن هل يمكن أن تحكى لى بعض التفاصيل؟ أنا أريد أن أطمئن أن هناك من يشاركنى خيبتى هذه.
نظرت فاتيما إلى محمود منجذبة!! إذ عاودتها حالة التجلى المشرق، ونظراتها مازالت تحيط بمحمود حتى تكاد تحتويه:
ـ يا ليت يا محمود يا ليت.
تذكر جلال فروضه حول فاتيما، وكيف أنها تحاول أن تتعرف على مصر أخرى بعد أن فوجئت بأن مصر التى أحبتها غير التى تخيلتها، وغير التى وجدتها فى زوجها وفى القاهرة، وربما فيه تلك الليلة، وقبلها وبعدها، هذا هو ما يفسر حركة قرون استشعارها التى أثارها هذا الحوار الذى تابعه هو بالكاد.
انطلق محمود وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة.
ـ كانت السلبيات هى أول ما صدمنى، كنت أتصور أننى أعرفهم، فوجئت: باللؤم، والمناورات والذكاء الخاص المدفون فى اللحم الباهت مثل دود الأرض فى جوف الطين، شككتُ فى نفسى وفى حكمى، ثم شككت فيهم وكدت أحزم أمتعتى، بما فى ذلك أولادى، (ياخبر!! يبدو أننى أعتبر أولادى من ضمن أمتعتى)، ما علينا، ثم رويدا أخذت أبحث عن ملامح تحت السطح، وصلتنى بعض الرسائل.
ـ مثل؟
ـ لا أعرف، لم أعرف، أو عرفت لكننى لا أستطيع أن أحدد.
ـ ماذا عرفت؟ ولو بالتقريب، ولو رائحة ملامح، أنت تكاد تصبح واحدا منهم.
ـ ياليت.
ـ يا ليت وأنت لم تصلك إلا السلبيات.
ـ يخيل إلىّ أننى لا يمكن أن أعرفهم إلا حين أصبح واحدا منهم بسلبياتهم وغيرها، فعلا، ولكن كيف؟ إنى احتاج قرونا لأكون منهم، وساعتها…
كان جلال يتابع الحوار ويكاد ينكر محمودا تماما، عاوده التساؤل: أهذا هو ضابط الشرطة شقيق ثريا زوجته، طليقته،……؟
هل تغير إلى هذه الدرجة أم أنه لم يعرفه أبدا؟
خطر على باله خاطر، ربما بدافع الغيرة والغيظ معا، وهو أن يفسد استرسال محمود وهما منجذبتان إليه هكذا، بأن يسأله سؤالا يفضح قسوته، بأن يتهمه بالتجريب فى أولاده وتهديد مستقبلهم وكلام من هذا، فيحوِّل الحديث، ويضطره للدفاع المتهالك، لكنه عاد فى آخر لحظة، وحوَّل الكلام كله دون استئذان إلى شأن آخر تماما، وهو يتصور أن هذا ـ أيضا ـ يحقق بعض غرضه مع قدر أقل من الإيذاء.
ـ اسمح لى يا محمود أن أعترف لك، لقد عبثت ببعض أشيائك وأنت غائب.
ـ ليست لى هنا أشياء تغرى بالعبث بها.
ـ كتبك.
ـ آه..
ـ خيل إلى أنى أتعرف عليك من بعض تخطيطك تحت بعض العبارات.
ـ إذن عرفت عنى ما لا أعرف عن نفسى؛ لأننى لا أعرف ماذا خططت، ونادرا ما أعود لكتاب قرأته.
ـ فأنت تعتقد أنها أمريكا.
ـ لست آخذا بالى؟ ما لها أمريكا؟
ـ تعتبرها سبب المصائب، هكذا بدا لى من تخطيطك.
ـ ليس تماما، إلا إن كنت تعنى أى أمريكا، إذا كان الأمر كذلك، فأمريكا هى السبب فعلا، أمريكا التى فى داخلنا يا عم جلال، أنا هارب من أمريكا القاهرة، لا أمريكا واشنطن، ولا أمريكا مونيكا، أنا هارب من أمريكا نفسى.
تدخلت فاتيما وكأنها تلتصق بمحمود، ما لها قريبة منه هكذا؟
ـ وأنا هاربة من أمريكا ألمانيا، ألمانيا الشرقية والغربية معا، لا فرق، كلهم أمريكا، كان جدار برلين وهما “خالصا”، كانوا وما زالوا هم هم على الجانبين، متى نزيل كل جدران “برلين” التى تضعها أى أمريكا فى أدمغتنا، فى داخل داخلنا، فى أعماق وجودنا.
قال جلال محتجا:
ـ أنتم بهذا الشكل تكادون تـُعفون أمريكا الدولة من المسئولية، أمريكا الواقع، أمريكا الغول الحقيقى المتوحش الذى يطاردنا فى كل موقع، تعفونها من مسئولية ما آلت إليه الحال.
ـ بالعكس.
قالها محمود محتجا، وأكمل:
ـ أمريكا الغول هذه هى فعلا التى أمـْرَكَتْنَا، أمرَكـَت العالم، لكنها لا تمتلك الوسائل التى تمنعنا من أن نحاربها داخل أنفسنا، إنها مسألة وجود مبدئى نحمى أنفسنا به من أن تنطلق علينا الطيارات بلا طيارين، وأن تحصدنا القذائف بلا جيوش، أمريكا لاتهزمنا إلا إذا أمْرَكَتْ داخلنا، و أمْرَكَتْ أحلامنا، و أمْرَكَتْ أولادنا، إن الأمركة تحيط بالداخل والخارج حتى كاد يصبح الجنون هو وسيلة الهرب الوحيدة المتبقية، نحن خضعنا لها حتى وصلنا إلى أنه لا بد أن نهرب من أنفسنا إذا أردنا الهرب منها.
استغرب جلال من جديد كلام محمود، هو فعلا لم يعرفه من قبل، أكمل محمود:
ـ وحين نهرب من أنفسنا، ماذا يتبقى لنا، أليس هذا هو الجنون بعينه؟ أليس الأولى أن نواجه أنفسنا قبل أن نجن؟
استطرد -أيضا- دون أن ينتظر جوابا:
- لقد نجحنا فى أن نؤجل إعلان جنوننا لما تعودنا الهرب الجماعى كل الوقت، بدأنا الهرب فى 56 ثم 67، ولولا الستر لأكملناها فى 73، نحن فى حالة هرب دائم، أصبح الهرب مكافئا للوجود،” أنا أهرب، إذن أنا موجود”.
ـ … إذا كنا نهرب منهم ومنا، أفليس مهما أن نسأل، نهرب إلى أين؟
كانت بسمة هى التى تسأل وهى منبهرة أيضا، ولكن انبهارها كان أقل من جلال؛ لأنها لم تكن قد رسمت لمحمود صورة أخرى تقيسه بها، رد محمود:
ـ …نهرب إلى أين؟ معك حق، بعد أن تساوت مخابئ الهروب عندى، انتبهت أن السؤال الأهم هو: نهرب إلى من؟ وليس مجرد نهرب إلى أين؟
ـ إلى من؟
ـ نعم إلى من؟
قالها محمود وكأنه يشير إلى موقع بذاته، وليس إلى المجهول، ولم يستطع جلال أن يحدد هل كان يشير إلى قلبه؟ أم إلى مجموعة المتحاورين؟ أم إلى كل المحيط من حولهم؟ أم إلى وجود حاضر بكل اليقين دون حاجة إلى ظهور ماثل؟ جلال لم يشكّ فى صدق تعبيره، ولا فى واقعية خبرته على الأقل فى هذه اللحظة، فمضى يستوضح:
ـ اسمع يا محمود، ثريا أخبرتنى عن خبرة مررتَ بها فى البوسنة، لم أستطع حتى أن أسميها صوفية، قالت لى ثريا، ربما مازحة، أنك وجدتـه هناك، ربما تعنى أنك تعرفت عليه من خلال خبرتك هناك، حلال عليك، فهلاّ قربتَ لنا المسألة بكلام نفهمه؟ كلام نعيشه، فعل نلمسه.
تدخلت فاتيما دون توقع:
ـ ما يقوله محمود هو فعل ملموس، ما نحن فيه هنا ووجوده مع أولاده هكذا، أليس كل ذلك فعلا ملموسا؟ إن السعى إليه لا يكون إلا “معا”.
قال جلال وهو يشك أن ما سمعه كان صحيحا، ربما هو تخيل أنها قالت ذلك، قال وكأنه يشير إلى شىء يجاهد فى إخفائه، حتى على نفسه، بأية صفة يغار؟ ومن الأولى أن يغار عليه: فاتيما أم منال؟ قال:
ـ وهل وجدتماه “معا” أثناء تجوالكما “معا” الآن؟ حلال عليكما.
نظر كل من محمود وفاتيما إلى بعضهما البعض نظرات رفضَ أن يفهمها جلال، ولم يحاول أن يفسرها، لكن النار اشتعلت فجأة كما كانت قد خمدت فجأة، قال محمود كأنه يمزح.
ـ مالك أنت؟
رد جلال بحدة، وكأنهما على وشك النزال:
ـ مالى أنا؟ ألستُ من عبيده يا كابتن؟
وضح من استعمال اللقب أن الغضب، وربما الحقد، قد خيم على الجو تماما.
تدخلت فاتيما محتجة:
ـ ماذا فعلت يا أستاذ جلال؟ لقد خرجتَ بنا عن الموضوع؟
”أستاذ”؟ هل تعلن عودة الكلفة احتجاجا؟ لمَ عادت “أستاذ” تسبق اسمه الآن؟ هل هى تدافع عنه؟ عن محمود؟ هل هى ترد على تلقيبه إياه بيا” كابتن”، فى حين تدفعه هو بعيدا عنهما، هكذا!!
ـ أى موضوع؟
ـ لست أدرى لكننى شعرت فى لهجتك أنك تتكلم على موجة أخرى.
تدخل محمود وحاول أن يكمل ما يبين به أننا لا نعرف الفلاح المصرى على حقيقته، وأن معرفته ليست فى المتناول كما نتصور، ثم وجه حديثه إلى فاتيما بأن عليها أن تعرف هؤلاء الناس، إن كانت تريد أن تتعرف على مصر حقا.
لا يعرف جلال لماذا، ولا كيف، قفزت إليه عبارة نطقها دون تردد، كطفل يريد نصيبه من الكعكة قبل أن تنتهى.
ـ ما أنا ـ أيضا ـ مصر.
انتبه بعد أن نطقها أنه كشف نفسه، حاول أن يستدرك بسرعة، وأن يشرح العبارة بأنه يعنى أن هؤلاء الناس، هؤلاء الفلاحين ليسوا الممثل الأوحد لمصر، وأن زوجها أمينا، وبسمة، ومنالا، و… محمودا، هم أيضا مصر، وكذلك هو، وقبل أن ينبرى لاستكمال مرافعة الدفاع عما لا يدرى، عَـدَل، وانتظر يختبر وقع عباراته، فلم يعقب أحد بما يفيد أنهم التقطوا المغزى الذى أرعبه احتمال الكشف عنه، قالت بسمة فجأة:
ـ لما عانيت هذه الصعوبة التى تتحدثون عنها، قلت أتعرف عليهم من خلال ما ليسوا هم، من خلال رفض كل صورهم التى خلقناها لهم والتى نعاملهم على أساسها، فكما كنا نتحدث عن الطبقة العاملة والبروليتاريا، وكلام من هذا، ثم اكتشفنا أننا لا نعرف شيئا عما نردده بيننا وبين بعضنا البعض بعيدا عنهم، أيضا نحن لا نعرف شيئا عن فلاحينا هؤلاء، فقلت أرفض كل صور تزييفهم ابتداء، ثم أرى ماذا بقى بعد التعرية.
بدا أن اللعبة أخذت تحلو، شدت انتباه الجميع برغم غموض ما يتحدثون عنه مما يسمونه المنهج، وقد طلب أكثر من واحد أن تبدأ بسمة بالمزيد من الإيضاح.
بدأت بسمة:
ـ هم ليسوا فلاح عبد الرحمن الشرقاوى، ولا فلاح محمد عبد الحليم عبد الله ولا فلاح محمد عبد الوهاب، قال محلاها عيشة الفلاح قال، ولا فلاح ثروت أباظة، يا خبر!!، وهم ليسوا فلاحى مسلسلات التليفزيون، وليسوا فلاحى مجلس الشعب، إن وجد فيه فلاحون أصلا.
تدخل محمود فجأة منبها:
ـ عندنا قائمة لن تنتهى، فهمت الآن. يكاد يكون هذا هو ما مررت بمثله تماما.
تدخل جلال وكأنه يريد أن يكشف أن محمودا ليس “هو” الذى..
ـ مررتَ بماذا؟ أن تعرف من “هـم” بنفى ما “ليسوا هم”، هل وصلك ذلك؟
سـُرَّ من نفسه حين أوجزها فعقـَّدها هكذا، وتمنى ألا يرد محمود فيبدو غير فاهم.
قال محمود:
ـ تريد أن تنقلب المسألة درسا فى الفلسفة؟
استسخف جلال نفسه، وتصور أن محمودا قبـِل التحدى، وقذف إليه الكرة أقوى؛ ليتهرب من الرد التفصيلى الذى يكشف قلة حيلته أمام إبداع بسمة أو اطـلاعه هو، إلا أنه فوجئ بمحمود يكمل:
ـ لقد كانت تجربة مزعجة مفيقة، فوجئتُ حقيقة بما هو عكس ما تصورت، دون أن أحدد هذا العكس، أنا أيضا اضطررت أن أردد عكس ما هم، ما كنت أتصور: اكتشفت أنهم ليسوا بناة الهرم، وليسوا هم من حفروا قناة السويس، وليسوا من أمروا بالانسحاب أمام الإسرائيليين، وليسوا وليسوا وليسوا، حتى خـَلـَت الصفحة كلها إلا من خيبتى البليغة.
ـ فتراجعتَ؟ أليس كذلك ؟ عليك أن تشك فى منهجك، هذه ألف باء المراجعة.
قالتها بسمة وكأنها فرحت بالهزيمة التى تطمئنها إلى مشروعية ما انتهت إليه.
ـ لا، لم أتراجع لكننى شككت فيمن كتبوا التاريخ كله.
ـ يا أخى عندك حق، إذا كنا عاجزين عن التعرف على الحاضر الماثل، فكيف ندعى معرفة التاريخ.
هز جلال رأسه ـ مضطرا ـ إلى أسفل علامة أنه موافق.
ثم هز رأسه بعدها مباشرة يمينا وشمالا علامة أنه ليس موافقا، ونظر فى ساعته.
ـ9ـ
شفى مينا إسحق، ففرح فتحى فرحا شديدا، وأخبر أباه أن خالته حنونة تقول إنه شفى بفضل دعائه ـ دعاء والد فتحى ـ ودعاء والدته، بل إنها تقول إن حب فتحى لمينا، وحب مينا لفتحى، هو ـ أيضا ـ كان سببا فى شفائه، هل هذا معقول؟ قال محمود إنه معقول ونصف، وقال عم اسحق ذات الكلام.
ثم إن فتحى اتفق مع مينا أنه ما دام الله قد استجاب لدعائهم هكذا، فلا داعى لأى شئ آخر.
ـ10ـ
ـ لماذا لا تأتى أمى مع عمى جلال مثلما أتى بالسيدتين؟
ـ تأتى يا وائل، تأتى، ستأتى، هل أنا مانعها؟ أنت كبير وتعرف أنها هى التى لم تحتمل.
ـ وهل حضرتك تشرط على من لا يحتمل أن.. ألا يأتى.
ـ هو حر.
ـ وهل أمى حرة؟
ـ أظن ذلك.
ـ وهل حضرتك حر؟
فوجئ جلال بالسؤال.
فوجئ وسكت.
ولكنه أصر على الإجابة حتى لا يبدو أمام ابنه كذا أو كذا، هو لا يريد أن يكذب، وهو لا بد أن يجيب بما يعتقد، هل هو حر فعلا؟ ماذا يقول؟
رفع رأسه؛ إذ يبدو أنه كان مطأطئها، فلم يجد وائلا أمامه، رجح أن صمته طال أكثر من اللازم دون أن يدرى.
فى الأغلب أن وائلا قد التقط حـرجه فانصرف تأدبا دون أن يلح على الإجابة.
يتسحب مشروع دمعة فى شكل غلالة تتراقص فى عينى محمود، لكن يواكب ذلك أن سهما من اللهب شديد الإيلام ينغرس فى قلبه.
تتراجع الدمعة احتراما وإباء وعنادا، ويزيد اللهب اشتعالا.
ـ11ـ
”- أنا فى عرضك يا سعادة الباشا” قالها اسماعيل أبو عطية وهو مندفع يلهث إلى داخل الحجرة، حتى انحنى على حذاء محمود الذى هب واقفا متراجعا. كان اسماعيل دون طاقية فبدت صلعته المتسخة مبرقشه ببقايا شعر متناثر مثل قلقاسة سقطت فى وحلة، ولم ينشف الطين من عليها بعد. لم ينجح محمود بتراجعه أن يفلت من أن يرتمى عم اسماعيل على فردة الحذاء الوحيدة التى كان محمود يلبسها دون أن يربطها بعد. لم يكن قد لبس الأخرى. شخط محمود، وصاح، وأَبَى، وانحنى يرفع عم اسماعيل وهو يمسكه من تحت إبطيه، ثم راح ينهره بلا فائدة. فجأة استرجع سلطانه البوليسى القديم، ورفسه بقوة أمنية جعلته ينتصب واقفا ويرتعد حتى يلتصق بالجدار المقابل وهو يرتعد.
سأله محمود:
ـ ماذا حدث يا عم اسماعيل؟
رد اسماعيل وهو مازال يلهث فلم تخرج الكلمات واضحة:
ـ أنا عارف إن سعادتك مازلت فى الحكومة، كلنا نعرف ذلك، الولد ضحكوا عليه، فى داهية، ربنا يعوض عليها، نحن ليست لنا دعوة، هو الذى أتى به لنفسه، أمه تولول وتدعى على الحكومة، من نارها يا باشا، قلب الأم يا سعادة الباشا، كفى هذا يا سعادة الباشا، ليس ذنبها، هذا ضنا يا باشا.
كان محمود يتابع كلمات عم “اسماعيل أبو عطية” وهو لا يفهم شيئا، لم يستطع أن يلتقط شيئا محددا يفسر به الجارى. هى ـ إذن ـ مسأله: تتعلق بإبراهيم ابن عم إسماعيل، الذى كان محمود يعتبر أن التحاقه بكلية الحقوق هو أكبر دليل على إصرار هؤلاء الذين يعيشون تحت خط الفقر على تعليم أولادهم، حتى اسماعيل أبو عطية الذى كاد يبيعه طفلته فكرية، استطاع أن يتحمل حتى يصل ابنه إلى الجامعة.
تقدم محمود إلى”إسماعيل أبو عطية” وقد ازاح قديم سطوته جانبا، لم يعد لها لزوم، وطلب منه أن يجلس، إلا أن عم إسماعيل لم يجلس، وإن كان قد هدأ قليلا، سأله محمود:
ـ ما له إبراهيم يا عم إسماعيل.
ـ إبراهيم تعيش انت يا سعادة الباشا.
ـ إبراهيم!!؟
ـ إبراهيم يا سعادة الباشا، ضحكوا عليه السنية يا سعادة الباشا، هو ليس له شأن بهم، يعوض الله يا سعادة الباشا، كفى هذا.
ـ ماذا تقول يا عم إسماعيل؟ لقد شاهدته أول أمس فى صلاة الجمعة، ماذا تقول؟ ماذا حدث؟ حادث؟
ـ حادث ماذا يا سعادة الباشا، الحكومة قشته مع الذين تقتشهم، سعادتك عارف ياما حذرته، ياما وعيته، هذا عمره يا سعادة الباشا، كفى هذا، كفى هذا، ورحمة والديك، ترحمنا الله يستر عرضك، نحن فى عرضك، نحن فى عرض الحكومة كلها، نحن أغلب من الغلب.
لم يكن هناك أى سبيل للاستفسار أكثر، لم تنفع محمود قرون استشعاره البوليسية القديمة حتى يتمادى فى التصور، لكن الأمور استبانت له بعد ذلك من أكثر من مصدر.
كان إسماعيل أبو عطية قد انصرف وهو ينشج دون أن يبكى، كان ينتفض حتى يكاد يسقط، خرج وهو يحك كتفه فى الحائط احتماء ورعبا، ووجهه لمحمود طول الوقت، وما أن انزلق من الباب نصف المفتوح حتى اختفى يجرى وهو يتلفت.
علم محمود أن إبراهيم ابن عم إسماعيل قد قتل برصاص الحكومة أثناء اقتحام بيت أحد زملائه؛ بحثا عن شخص بذاته لم يكن موجودا بينهم أصلا. لم يكن هناك حادث قريب يفسر هذا الاقتحام، لا سائح مات، ولا سائحة خطفت، ولا نصرانى ضربوه وهو عائد إلى بيته فى الظلام، ولا شئ بالمرة، هذا على حد علم محمود الذى لا يقرأ الصحف ـ قصدا ـ بانتظام. مات إبراهيم، قـتل، هو وزملاؤه، كل ما فعله أبوه أنه جاء يقبـل حذاء الحكومة التى قتلته، يستجير بها. من ماذا؟ يعتذر لها، عن ماذا؟ عن أن الأم الثكلى تكشف رأسها وتدعو على الحكومة من نارها، وقد يسمعها أحد.
كره محمود نفسه أكثر، وكره عمله السابق، وكره عم إسماعيل وابنته فكرية، حتى ابنه القتيل إبراهيم كرهه أيضا، بل كره ولديه فتحى ووائلا، و لم يستطع أن يكره فرحا، مع أنه كره وزارة الإسكان وأمريكا. لم يعرف لماذا وزارة الإسكان وليس وزارة الداخلية أو العدل أو إدارة المخابرات؟
اكتشف ـ بعد قليل ـ كم كان يحب المرحوم إبراهيم ، وهو لم يتبادل معه كلمة واحدة.
* * *
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من ثلاثية “المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007، الطبعة الثانية 2017)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net