- الإهداء والمقدمة
- الفصل الأول: سوق السلاح
- الفصل الثانى: عزبة البكباشى
- الفصل الثالث: ميدان التوفيقية
- الفصل الرابع: مصر الجديدة
- الفصل الخامس: أبو النمرس
- الفصل السادس: وادى النطرون
- الفصل السابع: شارع المبتديان
- الفصل الثامن: المريوطية
- الفصل التاسع: المعادى
- الفصل العاشر: جرزة
- الفصل الحادى عشر: شارع جامعة الدول العربية
- الفصل الثانى عشر: العصلة
- الفصل الثالث عشر: أرض الجولف
- الفصل الرابع عشر: العريش
- الفصل الخامس عشر: منيل الروضة
- الفصل السادس عشر: حارة السكر والليمون
- الفصل السابع عشر: أبو سمبل
ثلاثية المشى على الصراط
“الجزء الثالث”
ملحمة: الـرحيل والعـوْد
يحيى الرخاوى
2007
إهـــداء
إلى “أحفادى”، وأحفادى
يحيى الرخاوى
مقدمة:
هذه رواية مستقلة، برغم أن أكثر شخوصها هم بعض أفراد الجيل الثانى لروايتى “الواقعة”، و”مدرسة العراة”، من ثلاثية: “المشى على الصراط”.
على الرغم من ذلك فهى رواية مستقلة.
بدأت كتابتها استجابة لاقتراح مخرج صديق لتحويل ما وصله مِنْ فكرة عَرَضَت لى كنت قد كتبتها فى مقال بالأهرام، فاقترح أن أجعل منها تشكيلا روائيا ظنا منه أنها قد تصلح لتقديمها فى عمل سينمائى يقوم بإخراجه. فتدفقت المسودة حتى اكتملت خلال ما يقرب من سبعة أسابيع (من ظهر يوم 22 يوليو 1999 حتى الساعة 55، 12 يوم 14 سبتمبر 1999) بعنوان “ملحمة الرحيل والعود”، وكانت بنفس الحجم الحالى تقريبا.
تاريخ الأحداث – إن كان لها تاريخ- هو تاريخ هذه المسودة.
هذا تنويه لازم.
عادت المسودة إلى الكمون لأكثر من سبع سنوات نتيجة ارتباطها الخانق باقتراح الصديق المخرج.
ثم مرت الرواية بعد ذلك بمراحل كثيرة فى محاولة التخلص من الفكرة الوصية الأولى، فلما اكتملت كجزء ثالث من قضيتى الأزلية، “المشى على الصراط”، قيض لها أن تظهر هكذا، فى هذا الجزء الثالث: أكثر تماسكا مع الجزأين الأول والثانى، وأكثر استقلالا فى نفس الوقت.
أما أنها “كتاب” أو “رؤية” فى العلاقات البشرية، فهو تمسك بنفس الخطأ الذى جعلنى أعتبر الجزأين الأول والثانى “رواية علمية”، وربما شجعنى على التمسك بهذا الخطأ عنوان رواية ميلان كانديرا ”كتاب الضحك والنسيان”.
الفصل الأول
سوق السلاح
الأمور تسير كيفما اتفق، وهو مازال يصاعد ولا يتعجب كيف يرق السحاب حتى يكاد يذوب فيثبت أنه بخار هش غير مابدا له وهو بعد على الأرض، كان يخيــل إليه أنه جبل من الجليد الناصع، ومع ذلك لم يتعجب وهو يخترقه بهذه النعومة الهادئة.
كانت يمامة تقف على سور الحديقة المتهدم، وكان ذكرها يدور حول نفسه يستعرض.
رعدت السماء على غير توقع، اهتزت ورقة شجر تريد آن تسقط، ثم تراجعت. تصايح ديك بالأذان برغم أننا اقتربنا من الظهيرة.
تراءت له بقعة رطبة فوق التراب الناعم. لا بد أنها بفعل فاعل، لكن الحادث قيد ضد مجهول، ومع ذلك فإن الجميع داخلهم سرور هامس من حيث أن مثل هذا الحدث إنما هو دليل على أن الحياة مازالت أقوى، وأنها مستمرة، وأنها دائما تعاود البدء من جديد.
بويضات متناهية الصغر لا ترى بالعين المجردة توشك أن تفقس فى بقعة الأرض الرطبة ذات الرائحة المؤلفة من سوائل الجسد مجتمعة، دون استثناء العرق.
تشمم جلال الرائحة جيدا فتيقن أنه مازال يعيش. هذه السوائل هى عصير الحياة قبل أن تتشكل، لم يرفع جلال رأسه مثلما يفعل الحمار بعد أن يشم آثار حمار يسبقه.
همستْ نملة لزميلتها وهى تصعد على جدار أملس جدا: أسرعى قبل أن ينفد.
كأن جلال قد سمع ما قالته النملة، تأملهما، لم يغلبه حب الاستطلاع ليعرف ما الذى سوف ينفد.
لم يعد يفكر فى مثل هذه الأمور بهذه الطريقة، ولا بأى طريقة أخرى، لكنه متأكد أنه يفكر باستمرار فى هذه الأمور وغيرها ، ليس فكرا فكرا، لكنه فكر حتما، وإلا فماذا يكون؟.
هذه ليست البداية، فحياته كلها بدايات لحوح ….
-1-
أدار جلال المفتاح فى قفل الباب، فتح بلفة واحدة، تذكر أنه أغلقه بالمفتاح، لفتين، لم يكن يعرف متى يرجع، لم يكن قد قدر أن يرجع أصلا، لم يكن قرر أن يقرر شيئا. هذا النور الذى يأتى من تحت عقب الباب. لا يمكن أن يكون قد أضاء النور صباحا حين خرج. لا توجد آثار عنف، الباب متين قديم. هى ذات العمارة التى تربى فيها فى سوق السلاح. تزوج فى ذات الشقة بعد وفاة أمه. مازالت رائحتهم ووقع خطواتهم وهمس حضورهم تملأ أرجاء العمارة من بئر السلم حتى وراء التسريحة، ابتسم دون أن يطمئن. ثم ابتسم ثانية.
فكر أن يتراجع وينفذ فكرة السفر. الساعة تخطت منتصف الليل. رأسه ثقيل، كان قد عرج إلى ميدان التوفيقية منهكا من كثرة المشى طول النهار، كان مـلح الترمس زيادة، وكان هو جائعا ويريد أن ينام. مادام المفتاح قد دار فى قفل الباب فهى شقته. آثار ما تبقى تكفى أن تساعده على اقتحام الشقة ومخاوفه معا.
توكل، بطريقته الخاصة، دخل بسرعة وأغلق الباب خلفه لاصقا ظهره إليه فى وضع استعداد، هذا ما يذكره تحديدا منذ التدريبات على حرب العصابات أيام الحماسة والأمل. كاد يثنى ذراعه ويشير بسبابته. ابتسم تلقائيا وكأنه يؤدى مشهدا فى تمثيلية أطفال ليس لها مخرج. رائحة السجائر الطازجة تملأ أنفه، لم يعد يدخن لكنه يحب هذه النكهة.
”من بالداخل؟”. لم يقلها، هذا ضد أول دروس الاقتحام.
جاءه صوتها وكأنها لم تغادر البيت قط.
ـ جئت أخيرا يا جلال؟.. أين كنت.
طول النهار؟..
ـ من؟..
ـ أنا.
ـ عارف.
ـ شاطر.
ـ يا خبر! متى عدت؟.
أخبرته ـ بسرعة ـ وقد تبينت ما به، كيف أنهت عقدها وتركت كل شئ وعادت من يومين، وأنها تذكرت ـ ليس فجأة ـ أن اليوم هو عيد ميلاده، ولأنها تعرف أنه يحب أن يزعم أنه لا علاقة له بهذا اليوم، وأنه ليس مسؤولا عنه، فقد فضلت أن تحضر دون مكالمة، حتى لا تتردد، أويتسخف هو، تذكرت أن المفتاح مازال معها، فحضرت، “ما أبسط ما نعتقد أنه لا يمكن أن يكون كذلك.”
ـ هكذا؟.
ـ آين كنت طول النهار؟.
ـ لا. أبدا.
لم يقل لها كيف لف طول النهار، كيف أن المفروض أنه كان فى طريقه الآن إلى آسيا الصغرى، هو الاسم الحركى الذى يطلقه على جنوب سيناء، على “دهب” بالذات، بمجرد أن يعبر نفق الشهيد أحمد حمدى يحل به وعى أسيوى خاص. يجعله شخصا مهذبا يمكن أن ينحنى لمن يحييه وهو يضم يديه إلى بعضهما أمام صدره، لم يقل أيا من ذلك. فقط.. قال بحب لا يخفى.
ـ حمدا لله على السلامة.
ـ الله يسلمك.
ـ أوحشتنى.
ـ وأنت.
ثم ماذا؟. هو يحبها بصحيح، يحبها أكثر بعد أن افترقا، يود أن يريح رأسه على كتفها، يريد أن ينام على صدرها ويتنفس بهدوء، لا أكثر. لماذا حضرت وهو فى هذه الحال، يشعر بضعف طيب، يريد أن يبكى، يريد أن يعتذر لها عن أى شئ، وأى حدث، إلا عن الطلاق، فهو ما زال ـ طبعا ـ يصر عليه، هل قرأته حرفا حرفا؟. (كالعادة).
ـ ما عليك، الصباح رباح.
ـ صباح؟..
ـ سوف أبيت هنا.
ـ هه؟ أهلا وسهلا.
ـ مازلنا مطلقين.
ـ طبعا.
ـ وسوف نظل كذلك.
ـ أعرف، لا أنا ولا أنت نصلح للزواج.
ـ لا يصلح أحدنا للآخر على الأقل، لكن لعلى أصلح لشخص أعقل.
قالتها وهى تملس على شعره برفق دافئ، أغمض عينيه وكاد يغفو تحت جناحها، مع أنها كانت بعيدة.
ـ طبعا.
ـ كيف حالك يا جلال، تصور أنى مازلت أحبك.
ـ وبعد؟. ” وأنا أيضا،…..، هه..
قال ذلك دون أن يرفع رأسه، فأكملت:
ـ ألهذا تم الطلاق؟..
ـ لنظل نحب “بعض”، أليس هذا أفضل؟.
ـ أفضل من ماذا؟..
ـ إن الواقع دائما أفضل.
ـ دائما أفضل؟. دائما؟. ياسلام !!!. هل أنت متأكد؟! لــم لم تقل لى ذلك ونحن نوقع على أوراق الطلاق؟.
ـ ألم يكن هذا هو واقعنا؟..
ـ كنا متزوجين قبلها بدقيقة، وكان ذلك هو الواقع أيضا.
ـ لكن الطلاق تم، فأصبح هو الواقع.
ـ أهكذا يكون الاستقبال يا جلال؟..
لا توجد امرأة تود، أو توافق أن تكون مطلقة من رجل تحبه، لكنها أرادت أن يظل ما بينهما أغلى من أن يشوه بضربات الزواج العشوائية.
ـ لا أنوى غوايتك، كل ما فى الأمر أننى قررت أن أمارس فضيلة الجنون الاختيارى المؤقت، هذه بعض مناطقنا المشتركة.
ـ هذا بيتك طول العمر، المفتاح معك، وسيظل معك، أنا ضيفــك الليلة.
ـ سرقوا الصندوق يا جلال، لكن مفتاحه معى.
أحس أن رأسه تزداد ثقلا، ومع ذلك فكل من الإفاقة والرغبة فى النوم يقتربان معا. ما هذا؟. ما الذى جاء بها من جيزان؟.. كان يكلمها كل ليلة دون أن يعرف رقم هاتفها، لم يسألها أبدا عن رقم هاتفها هناك. قرر أنها تعيش فى بلد ليس بها هاتف، ومع ذلك ظل يكلمها يوميا، سمع أن جيزان هى جهنم اليمن التى اقتطعتها السعودية من باب عشم القوى فى الضعيف. ليس فى جهنم هاتف؟.. ذهبت ثريا إلى هناك هاربة، وعادت قبل أن يصدر قرار العفو. عادت قبل أن تختبر. عادت كأنها كانت هنا بالأمس.
ـ تصورى طول النهار وأنا أفكر فى السنين التى سرقوها منى.
ـ مــن؟..
ـ أنا “الذين “سرقـتنى.
ـ.. أنا الذين.. ! والله زمان. أكمل القصيدة يا رجل.
ـ أتكلم جد.
قال لها، أو لم يقل لها، لا يذكر، لابد أنه قال لها إنه بعد أن ثقلت رأسه نصف نصف، وجد أنه قريب منه، قاب قوسين أو أدنى، حلوة هذه، وأنه يمكن أن يراه إذا توقف عن التفكير، إن التفكير هو الذى يحول دونهما.
ـ عندى لك مفاجأة.
قالت ذلك وهى تزداد قربا بعد أن كفت عن لمس شعره.
ـ خير اللهم اجعله خيرا.
ـ لقد وجدتــه.
لماذا هكذا الآن؟ لماذا تزداد قربا هكذا؟ كيف عرفت؟ إذن هو قال لها، لا لم يقل لها. هى هى ثريا جدا، تقرؤه دون استئذان، تقرؤه حتى دون أن تفتح الصفحة الأولى. وبعد؟. وبعد يا ثريا؟..
ـ مبروك.
ـ مبروك ماذا يا جلال؟.
ـ مبروك ما وجدت.
- تسخر يا جلال !؟.
- آسف.
ـ وتتأسف أيضا؟. لماذا تبتعد هكذا؟..
- أنا فرحان أنك هنا.
- وأنا. على فكرة: محمود رجع من البوسنة، وهو يبلغك السلام.
ما علاقة هذا بذاك؟ لماذا ذهب أخوها محمود إلى هناك؟ وما علاقة جيزان بسوق السلاح بالبوسنة؟ يقولون أنه فى كل مكان فلماذا كل هذا التنقل؟.
أنا أستطيع أن أقول- أيضا – إننى وجدتـه اليوم عند مزلقان “أبو النمرس”، ثم قابلته فى قهوة عم صابر فى عزبة البكباشى، وكدت أكلمه عند عم إدريس فى بار التوفيقية، كيف عرفت يا ثريا…..؟.
ـ عرفت ماذا؟.
- أننى كنت هناك؟ وأنه كان هناك كذلك؟.
سكتت وكأنه لم يقل شيئا، كانت تريد أن تحتج على أمر غير ما قال، سكتت وهى تنظر إليه بحنان جديد، يبدو أنه كان واضحا حنانها، حتى أنه خاف، فنسى قرارها أنها سوف تمضى الـليلة عنده، فـقال بسخف لم يتبينه إلا متأخرا:
ـ أوصــلـك، لا بد أن أوصلك….، يبدو أننى لن…..
ـ تطردنى أم ماذا يا جلال؟. أنت فى حال. أنت لا تستطيع أن توصلنى إلى المطبخ، هيا اخلع ملابسك وتمدد وسأغطيك مثل زمان، ولا تحمل همى، سوف أدبر أمورى.
لا توجد إلا حجرة واحدة. ألقى بنفسه على الأريكة دون السرير وكأنه وقع من شاهق، لم يخلع ملابسه، استغرق فى النوم للتو، راحت تخلع له حذاءه برفق، وكذلك جوربه، تأففت قليلا من الرائحة، لم يمنعها ذلك من أن تملس على الشعر المتوسط الكثافة أسفل ساقه التى ظهرت من تحت الغطاء بعدما تقلب وهو يعدل نفسه. ودت لو تـقـبلها. لم تفعل، ذهبت ناحية جبينه ولثمته لثما خفيفا، لن يستيقظ حتى لو عضته، أحكمت الغطاء.
تحسست السرير تتأكد من موضعها، موضعهما القديم، لم تخلع ملابسها هى الأخرى. وضعت ركبتيها فى ذقنها. جذبت الملاءة وغطت رأسها.
-2-
كانت الشمس قد ملأت الحجرة، وبدا الوقت متأخرا، حاول أن يتذكر بعض معالم ليلة أمس، هلت عليه الأحداث متلاحقة، التفت إلى السرير فوجده مرتبا تماما إلا الغطاء الخفيف، كان الغطاء على الأريكة، استبعد أن يكون حلما.
تراجع الصداع بشكل متذبذب.
السرير مرتب بطريقتها. فرك عينيه مرة ثانية. فى المطبخ وجد اللبن مغليا والأطباق التى كانت فى الحوض انتقلت إلى الرشاقة، بعد غسلها، الحوض يلمع من النظافة. هى هى لم تتغير، هى لا تريد بذلك ـ ولا بغيره ـ أن ترجع، ولا هو…، ثريا رقيقة دائما، هى أرق من رقتها. خيل إليه أنه ذهب إلى الحمام فى جوف الليل، لعله تقيأ أو ربما….، وجد الحمام نظيفا تماما، حتى لو كان قد تقيأ فقد نظفت الحمام مثلما نظفت المطبخ قبل أن تنصرف. أخذ يسترجع حديثهما أمس، تذكر بصعوبة أنها حدثته عن أخيها محمود العائد من البوسنة، “على عزت بيجوفتش”، شئ ما يبدو قريبا يبتعد، أو بعيدا يقترب. كيف يبدأ؟. هى التى جاءت، بنفسها. هو مازال يحبها. أى حب هذا الذى يتأكد بالانفصال ويختل بالقرب؟. هل يقول لها عن مشروعه؟.. هل تساعده؟. هل تضحك منه؟.. إذا كان لأحد أن ينتبه إلى جنونه أو شطحه، ويقبله، فهو ثريا.
-3-
مدرسة البدرشين الإعدادية للبنات.
سخيف أن يذهب إليها هناك، هم يعرفون أنهما كانا متزوجين، وليس عيبا أن يذهب إليها فى المدرسة، هو لا يعرف عنوان بيتها الجديد، لم يسألها.
ما الذى حدث بالضبط؟.. لماذا جاءت؟.. ولماذا نامت عنده؟.. ولماذا ذهبت؟.. وماذا قالت؟.. الذى حصل. سوف يذهب ويعرض فكرته. ماذا تقول عنه؟. لقد عادت، باتت فى سريره، سريرهما، لم تطلب شيئا. هى لا تطلب شيئا، ولم تلوح. هى لا تلوح. هل يذهب إليها الآن ليطلب زبائن لعمله الجديد الذى لم يبدأ بعد؟.. طبعا لا. أى تلميذ هذا من البدرشين، يمكن أن يسمح والده أن يسلمه لمدرس هاو، قطاع خاص، يريد أن يعدل الكون عن طريق إحياء اللغة التى ينظم بها دماغ العيال ليفكروا بالأصول، مدرس ليست له علاقة بالامتحانات؟.. ولا بالغش، أى شطح خائب؟.. ومع ذلك سوف يذهب، وسوف يلقاها فى المدرسة، وسوف يعرض عليها فكرته. لن يعرضها بصفتها مدرسة لغة عربية، إن ما خطر بباله ليست له علاقة باللغة العربية، إنها شئ أشبه باللغة الأم قبل أن تتشكل فيما أضاعها..، سوف يعرض عليها الفكرة بصفتها ثريا، قارئة دماغه، ومالكة مفتاحه، إلا قليلا.
إنه حين قرر أن يضئ شمعة واحدة أمس بدلا من أن يطفئ 41، كان يعنى ما يفعل. شعر بقوة حقيقية تسمح له أن يفعل كل ما كان يتردد فى فعله، يذهب، ويعرض، ويـرفض، ويذهب ثانية، وهكذا. لن يهمد، ولن يرجع، ولن يكف لا عن السياسة، ولا عن الأمل، سوف يغيــر الكون من القاعدة هذه المرة، الشئ الذى يبدو بلا حل هو مسألة ثريا هذه. ليست ثريا نفسها ولكن” مسألة ثريا”. هو لا يعرف أبعاد المسألة بالتفصيل، لكنه متأكد أنها مسألة أبعد حلا عن أى تصور جاهز، إلا أن لها حلا حتما، لا يوجد “حل نهائى” قريب واسألوا ياسر عرفات، حال الدنيا بأسرها تجسـد فى المسألة الفلسطينية، كلنا هى، قال له: “طيب والشيشان”. رد عليه:” الله يخيبك. كله مثل كله”.
حين اقترب من الشارع الذى تقع فيه المدرسة، وهى ليست فى وسط البلدة على أية حال، بحث عن الجـمـل التى أعدها ليشرح بها فكرته لثريا قبل أن يطلب مساعدتها. يقفز إليه السؤال إياه بلا مناسبة وبدلا من أن يكرره كما اعتاد أجاب عليه مباشرة، “نعم موجود”، ثم أضاف “يعنى، يقينا فى الأغلب”. هذا صباح لن يمر: “يقينا فى الأغلب”؟.!!! من أين يأتى اليقين إذا كان فى الأغلب؟. ثم ما هذه الــ “يعنى”؟.
قال اسمه للبواب، وأنه جاء لمقابلة الأستاذة ثريا عبد السلام المشد، فبدا من ابتسامة البواب وترحيبه أنه يعرفه، ومع ذلك فضل جلال أن ينتظر على الأريكة بجوار الباب حتى يعطيها خبرا. سمع جرس الحصة فاستبشر، حتى لو كانت عندها حصة فقد انتهت. عاد البواب بسرعة وسمح له بالدخول إلى حجرة المدرسات، كانت بها مدرستان، واحدة تذكـر أنه رآها مرة من قبل، لعل اسمها خديجة مثلا، هى كذلك، هو الذى أسماها بمزاجه، بدينة قصيرة، تبدو أمـا منذ كانت فى السابعة، والأخرى سمراء فارعة محجبة، دمها خفيف (هو قرر ذلك)، انصرفتا فى سماح.
قرأ ما يدور بخلد خديجة. “الصلح خير”. ليكن. خيرا. اللهم اجعله خيرا. كل واحد يفكر بطيبته كما يشاء، ربنا طيب، يحب الطيبين. فكر فى نفسه: هل هو “طيب”؟.. يعنى ماذا؟.. يعنى مغلوب على أمره؟.. شعب مصر شعب طيب. ”جاتنا خيبة” !. أنا لست متأكدا من شئ. لم يبق إلاى وثريا.*
ـ خير يا جلال؟..
ـ خير إن شاء الله.
ـ أهلا بك.
ـ جئت أعتذر عما حدث بالأمس.
ـ وماذا حدث بالأمس؟.. يا شيخ !! كل سنة وأنت طيب.
ـ هل أنا طيب صحيح يا ثريا؟..
ـ طبعا، هل تشك فى ذلك؟..
ـ طبعا.
ـ معك حق، هل تريد أى شئ آخر؟..
ـ لا أبدا، أذكرينى بين الحين والحين.
ـ ما هذا؟. ماذا تقول؟.. أنت تعرف. كيف تقول ذلك؟..
ـ وتزوجى واحدا أطيب منى.
ـ أوامرك.
ـ آسف، بلغى سلامى إلى خديجة زميلتك التى خرجت الآن، أليس هذا هو اسمها؟..
ـ مازلت أنت هو أنت، لا فائدة.
ـ بل إن الفائدة دائما بين أيدينا ونحن الذين لا نمد لها يدنا.
ـ ستظل طول عمرك تحلم يا جلال.
ـ سوف أبدأ من جديد.
ـ أنت لا تكف عن البدايات.
ـ البداية هذه المرة مختلفة.
ـ كل بداياتك كانت مختلفة.
ـ سوف ترين، هذه المرة شئ آخر.
ـ أنا أراك دائما كما تريدنى أن أراك، وهذه مصيبة فى حد ذاتها.
راح يدعى أنه لا يفهم، وأن عينيها تخترقان من يقترب منها حتى ترعبه، وأنه لا يوجد من يتحمل ذلك، وقال لنفسه: إن هذا هو الذى هرب منه تماما، على الرغم من أنه فى أشد الحاجة إليه، وقال لها إنها هكذا ستعيش طول عمرها وحيدة تتفرج.
ـ أنت مالك؟..
ـ أريد لك الخير.
ـ خل عنك.
ـ تحتاجين من يقف بجوارك، هذا يستلزم أن تغمضى عينيك، ولو قليلا.
ـ ربنا موجود.
ـ صحيح؟..
ـ غصبا عنك.
قرر ألا يفتح موضوعا لا يغلق أبدا، فانحرف بالحديث فجأة:
ـ متى عاد؟..
- من؟.
- محمود، أخوك؟.
ـ…. عاد يضرب كفا على كف وهو يحكى عن أطفال المسلمين، وعن أطفال الصرب أيضا، تصور؟.. يقول إنه تغير مرغما. ذهب وهو يتصور أنه لكى تكون مسلما، أو ابن مسلم لابد أن تكون أسمر البشرة، فاغر الفم، ذابل العينين، متكلا على ما تتصور أنه الله فى بـلـه، وحين ذهب لم يصدق أنهم مسلمون، وحين تأكد، لم يصدق أنهم خواجات، دخل بيوتهم، وحمل أطفالهم، ورأى بعضهم يصلى فى المنزل، وشيوخهم يصلون فى المسجد…، ثم إنه، ماذا أقول، ثم إنه لم يكره كل الصرب، تصور.
ـ ماذا؟..
ـ أقول ما حدث.
ـ وبعد؟..
ـ أحب أطفال الصرب مثلما أحب أطفال المسلمين؟.
ـ محمود؟!!؟..
ـ محمود. عاد ينصحنى أن أفتح أبوابى كلها، وكأنه كان معنا حين أغلقناها.
ـ نحن لم نغلق شيئا، هى كانت مغلقة خلقة، من الناحيتين.
ـ ليس تماما. والله زمان، لم نتب بعد عن هذا الكلام الذى يترجع مثل الصدى.
ـ كل شئ جائز.
ـ دمك ثقيل. ما علينا. أهلا بك، هل الأمر عاجل إلى هذه الدرجة؟.
ـ أنت أيضا يا ثريا كما أنت، لا فائدة.
غيرت ثريا الحديث فهى تعلم أنه لن ينتهى، وأنه إذا انتهى لن يوصل إلى شئ، راحت تستفسر منه: هل قرر أن يقبل السفر إلى الخليج أخيرا؟.. وهل هو يريد رأيها؟..مع أن رأيها لن يقدم ولن يؤخر، وأن الذى فى مخه فى مخه، وحين لم يجب أية إجابة نافعة إلا تأكيده القاطع أنه لن يترك مصر حتى لو شحذ من كل بيت لقمة. قرر فجأة ألا يفتح الموضوع الذى جاء من أجله، وأن عليه أن ينصرف لأن الوقت طال وهما وحدهما فى حجرة المدرسين، وعاد يواصل ادعاءه أنه إنما جاء للاعتذار لا أكثر.
ـ لا عليك، يتصورون أنك تعرض مشروعا للصلح.
ـ قلت لك إننا شعب طيب.
ـ إننا شعب جبان.
-4-
ميراث فريد – صف طويل من الكراسات ذات الـ 64 صفحة، مليئة بالكلام السام. ما ذنبى أنا إن كنت ابن غريب الأناضولى، وما ذنبى أننى لم أر أبى إلا من كراسات بالية كلها إنكار وسب ونفى؟ كتابة مجسمة، كتابة مثل مشتل شوك يسقى من مياه الصرف، هل توجد حروف شائكة بكل هذه القسوة، أشعر بها تخزق عينى، أشعر بلذع الصبار فى حلقى، أشم رائحتها النتنة وأنا أقرأها، لماذا قرأت منها ما قرأت، مازال تأثيرها نافذا يتجدد. لم أتبين إلا مؤخرا أن هذه الكراريس هى أبى الذى ولدت من ظهره، لم أحدثك عما وصلنى منها يا ثريا ولا عنه، ومن أين لى أن أحدثك عنه؟ أنت تعرفينه أكثر منى، كان جاركم. يخيل إلى أننى لم أره أبدا. كنت فى الثالثة؟ لست أدرى؟ لا أذكر.
ـ خزنتها بعيدا عنى فى صندوق قديم، أرجع إليها أحيانا وأنا كاره غضبان، لا أستطيع أن أحرقها، ولا أستطيع أن أقرأ منها كل مرة سوى صفحة أو بعض صفحة. هى تصدك أولا بأول. تصدك قبل أن تمزقها.
ـ كان يمكن أن تخرج منها بشئ.
ـ خرجت من بعضها، بما تيسر، وكان كافيا لتعاسة خمسين معى.
هى لم تسأله. وهو لم يخبرها كيف كانت حروفها كالشظايا الملتهبة، لكلماتها مرارة رخوة تثير الغثيان بقدر ما تدعوك للمنازلة. لم كل هذه القسوة؟. الكراسة الوحيدة المختلفة التى احتفظت بها خارج الصندوق كانت تلك التى سجل فيها علاقته بأمى، وهى هى التى سجل فيها موت صديقة له اسمها صفية، على ما أذكر. كان يعتقد أنها انتحرت. فى هذه الكراسة، كدت ألمح محاولات تراجعه، لكن أبدا. مات أو اختفى أو انتحر، لست متأكدا. لا أعرف متى مات، إن كان قد مات. أمى كانت تحبه؟.. لا أعلم، كانت لا ترد على أسئلتى عنه إلا بالدعاء له – ولنا- بالمغفرة، زوج أمى، عم سليمان، هو أبى الحقيقى، هو أكثر من أبى، هو غير أبى. لابد أن هناك لفظا أرقى وأنظف من هذا اللفظ “أبى” بعد أن شوهه غريب الأناضولى. عم سليمان هذا هو الذى كان دائما يمنعنى أن أتمادى فى السخط عليه، أو السخط عامة، كان يدعو لأبى بالرحمة. كان رائعا هذا الرجل، أبدا أنا لم أستوعب كل ما كانه عمى سليمان.
-5-
سوف ينشر إعلانا فى الصحف يقول: “مدرس لغات وكمبيوتر”، وقرآن،!! خصوصى جدا، ليست له علاقة بالامتحانات، أو بالآخرة، ومع ذلك يضمن التفوق فيهما، يعلم الصبيان والبنات الحياة واللغات والتواصل، فيجدون الطريق معا إليه، كل واحد وشطارته”.
ابتسم وهو يتصور أنهم سوف يقبضون عليه. سوف يكتب رقم الهاتف خطأ حتى لا يعثروا عليه ليحاكموه بتهمة مزاولة التبشير بدون ترخيص. بسيطة، سوف يحاكمونه بتهمة “الجرأة على المجهول”، أو تهمة “حسن النية” أو حتى تهمة “المحاولة فى الممنوع”، وقد يحكمون عليه بالتفريق، لكنهم حين يفاجأون أنه افترق عن ثريا منذ زمن، سوف يلفقون له تهمة جديدة لا يعرف صياغتها، ربما تهمة “البلاغ الكاذب”، ألم يتجرأ ويلمح ضمنا – فى الإعلان- أنه يمكن إصلاح أدمغة البشرعن طريق تعلم نبض اللغة بطريقة أخرى. يحتاج الأمر إلى آلاف الفرص وعشرات القرون حتى يثبت لهم أن ما نشره فى الإعلان ليس بلاغا كاذبا، وأن الدنيا بخير، وأن الأطفال هم كما خلقهم الله، وأنه لا يريد أن يعلمهم إلا ما هـم. ربما حين يكتشفون عجزهم عن الحكم عليه بالتفريق، يحكمون عليه بالتزويج، هذا حكم أقسى. جريمته الأشنع هى “الحفاظ على التفكير السليم” ولمن؟ للأطفال؟ أى خطر يمكن أن يهدد كل الأنظمة الجبارة لو ظل الأطفال يفكرون كما خلقوا؟.
أثناء مرور الميكروباص مقابل مزلقان “أبو النمرس” أطل من الشباك باحثا عن عبد المعطى، فلم يلمح إلا الحاجة وردة أم البنت، كانت تجلس أمام عشتها المتهالكة توزع فتوتها الأنثوية على عمال طيبين. مر الميكروباص سريعا لكن الصورة بقيت أطول.
يكتشف فى نفسه هذه الأيام تحولا ما. كان قديما كلما قرأ خبرا فى الصحف، كذبة حكومية، ظلما سلطويا، حادث تصادم، امتلأ غما وغيظا وثورة وإصرارا على التحريض والإعداد للتغيير، يشعر الآن أنه أكثر ثقة بنفسه بقدر ما هو أكثر عجزا، هو عاجز الآن لكنه قادر على المدى الطويل، هكذا أراح نفسه، لقد أخذ الزمن فى جانبه فى محاولة التجاوز العبثية، فابتسم.
أصبح يتابع المصائب والآلام، بثقة الواثق فى النصر، فى النهاية. يبتسم ثانية، ليست فرحة، لكنه ابتسام ملئ بنبض الألم الحى، والثقة فى أمر ما. ما الذى حدث له بالضبط؟. لو رآه أحدهم وهو يبتسم هكذا لظن به الظنون، كيف يثبت لهم أنه يبتسم؛ لأنه “لم يستسلم، ولن يستسلم”،لأنه “متألم ومحتمل معا”، هذا كل ما فى الأمر.
”ابق قابلنى”.
تتدفق علاقته بالحياة كلما وعى ألمه أكثر، هو يعيش هذا الألم كلما بلغته آلام الناس. أحيانا يتصور أنه يتألم مع الناس، للناس، أكثر منهم، فيخجل من كذبه على نفسه، من وصاية عواطفه على مشاعر الناس يقينا بدوره الغامض الجديد. هل له دور أصلا، مهما كان غامضا؟. لا أحد يعلم. أخشى ما يخشاه هو ألا يكون إلا والده بخدعة أكبر وأخفى، لماذا غلبت كراسات أبيه على حنان أمه، وحكمة زوج أمه؟. عم سليمان هو والده الذى لم يلده، لماذا أصرت أمه منذ البداية على أن يناديه “عمى” وليس والدى؟. هذا أطيب، هذا أصدق، أفاده هذا الموقف بلا حدود، ليس يدرى كيف. لماذا احتفظت أمه بكراسات والده هذه؟. إنها لا تقرأ ولا تكتب، لم تكن تعرف السموم التى تحتويها؟. الكراسة التى أزعجته أكثر جنبها. يعود إليها بين الحين والحين. يبدو أن أمه أحبت أباه، لسبب ما، بشكل ما. هل تزوجته شفقة أم حبا؟. هى قريبته من بعيد، لم تعلن تلك القرابة أبدا. كانت تذهب مرة كل أسبوع تنظف الشقة، وتأخذ الغيارات المتسخة للغسيل، وتطبخ بعض النواشف التى تكفى أسبوعا، ليست شغالة، ثم تمضى، حكت له مرة، وهى نادرا ما تحكى، أنها قابلت عنده واحدة اسمها صفية، قالت إنها كانت فتاة طيبة، ثم قابلتها بعد ذلك، شكـت، ثم فهمت. لم تعلق. اختفت صفية عاما إلا قليلا. ثم عادت. أمه لم تكرهها، ثم إنها علمت بموتها مصادفة واستنتاجا، كان حزنه شديدا، وحين طلب منها الزواج بعد موت صفية لم تتردد فى القبول، عملها سرا، وفضها سرا من جانب واحد دون استئذان، لم يتردد وأنا بعد فى أحشائها. لم تلمه أبدا ولم تندم على زواجها منه. رفضت طول عمرها أن تحكى عنه إلا النذر اليسير، مثل حكاية صفية. كانت تجيب على أسئلة جلال بكلام غامض، ثم بالصمت، ثم بالابتسام، ثم بالدعاء له بالرحمة ولجلال بالسلامة، وأن يوقف الله لجلال أولاد الحلال. كان جلال قد عثر على الكراسات وهو فى سنة ثانية اعدادى، امتقع وجهها وهى توافق على تسليمها له، ثم راحت تدعو أن يحفظه الله من كل شر، لم تكن تقصد أن ما بالكراسات شر، لم تكن تعرف. وجهها امتقع على أية حال.
أربعة عقود وهو يستمع إلى صوت أبيه الذى لم يره أبدا. وهو يحاول أن يتعرف على من وهب أبوه عمره لينفيه. هذه الكراسات كلها، أغلبها، كانت تلف وتدور حول نفى كل الوجود إلا أبيه الذى اختفى بدوره كأنه ينفذ حكما صدر عليه بالإعدام أو الموت عطشا. هو الذى أصدره على نفسه من وراء ظهره. اختفى وهو يأبى إلا أن يبقى داخل ابنه هكذا.
ليس متأكدا.
-6-
بعد ظهر ذلك اليوم الخريفى المعتدل، الساعة السادسة إلا ربعا، طرق بابها، طالت فترة الانتظار أطول مما توقع. هل يكون عندها أحد منهم؟. تمنى أن لا، هو يريدها وحدها الآن. منال مازالت تمثل له الشخص المناسب الذى يمكن أن ينقذه من نوبة التفاؤل التى أصابته هكذا فى عز ما يبدد عكسها. يشعر أن هذا التفاؤل أصبح عبئا عليه. عرفها أيام الكفاح والأمل، لم يقتربا كثيرا. هما أقرب دائما مما يحسبان.
اليأس والسخط والإنكار نـعم من عند الله يرسلها إلى عباده الأشقياء ليعبدوه حتى من خلال إنكارهم له. حضر إلى منال يتزود ببعض الهواء الحار الملتهب الذى تزفره مع كل كلمة ورأى وتعليق وتعقيب، يحبها ويأتنس بها، يحترم عقلها ويرفض حريتها. يتصور أحيانا – ربما حتى يظل بعيدا – أنها تنازلت عن أنوثتها لمن لا يهمه الأمر. هل تنازلت عنها فعلا؟ لماذا إذن تتمسك بظاهر أهدابها بكل عنف. تبدو وكأنها حلـت مشكلتها الظاهرة بتغيير اللافتة مثل الكثيرين والكثيرات، اللافتات الرائجة هذه الأيام هى حقوق الإنسان وختان البنات. هى شخصيا لم تختن. ليست هذه هى القضية. الختان الحقيقى، بل الخصاء الحقيقى هو ما وجده فى كراسات أبيه. حين يقطع الإنسان نفسه عنهم، عنه، تتم عملية خصاء بشعة، عمليات بتر سرى، استئصال، يتم بها فض الاشتباك بين الناس وبين الكون: إما بالتسليم لـلذين نصبوا أنفسهم وكلاء عنه دون إذن منه، وإما بالإنكار، يادى المصيبة العمومية!!. هل هذا وقته؟. قرر أن يجدها فى الداخل. هو فى أشد الحاجة أن يجدها، سوف تفتح له مهما تأخرت. فتحت منال الباب وهى تفرك عينيها. ألم يرجح أنها قد طالت منها قيلولتها، أو لعلها زودتها أمس. فوجئت به، كانت الاختلافات بينهما قد تمادت حتى بات أى لقاء بينهما لا يعد بأى شئ، أى أنه يعد بكل شئ: لهذا هو جاء إليها بالذات؟.
فكرت منال بالأمس أن تهاتفه بمناسبة عيد ميلاده، لكنها لم تفعل، اعتادت منه فى هذه المناسبة أن يقول كلاما سخيفا، معادا، لم تعتقد أبدا أنه يعنيه.
هى تعرف أنه يريد منهم أن يروه، وأن يعلنوا ذلك له؛ ليدعى الاستغناء عنهم…..، ألعاب غبية لا يهمد من تكرارها.
ـ ادخل يا جلال، مالك واقف مثل التائه هكذا.
ـ….. بلا أهلا ولا سهلا؟.
ـ أهلا وسهلا.
ـ لا تسألينى لماذا جئت.
ـ لماذا جئت؟.
ـ قلت لك لا تسألينى.
ـ سمعت، وهاأنذا لا أسألك، ولأنى أعرف أنك لن تجيب، فاعتبرنى لم أسألك.
ـ شعرت أننى فى حاجة إلى من يلملمنى، ومن ذا يستطيع ذلك إلا واحدة مثلك، أحتاج لسخريتك الجارحة لأفيق.
ـ نعم؟. نعم؟. لقد توقفنا عن مثل هذا منذ سنوات. ماذا جرى لك؟.
ـ لم يجـر شئ، عندى مشروع أريد رأيك فيه.
- مشاريعك لا تنتهى. ما الجديد؟.
ـ مشكلة الوجود هى أن اللغات لم تعد تستعمل لتنظيم الدماغ، بل أصبحت مثل الملاط اللزج تسد المسام، وتلغى الأعماق.
ـ الله الله !!، لنفرض. مع أنى لم أفهم تماما، وأنت مالك؟.
ـ أنا وجدت الطريق لتعديل ذلك.
ـ يا صلاة النبى !!.
ـ ماتت اللغة، وأريد أن أنقذ الأطفال، أريد أن ألحقهم قبل أن يسرقوهم.
المجنون، لا يكف عن الحلم، لم لا يعقل مثلنا، عنده كل ما يؤهله للانضمام إلى “الكيتش”، الجديد، الله يخرب بيتك يا جلال يابن غريب، طالع لأبيك والنعمة.
كتمت ذلك فى نفسها وهى تبتسم مؤتنسة، ولم تقل إلا:
ـ وما دخلى أنا؟.
ـ دخلك أن تقولى لى، كالعادة، إننى مجنون.
ـ مجنون ابن مجنون، ثم ماذا؟.
ـ ثم لا أهتم بما تقولين، وأسألك إذا كان أحد معارفك، أو معارفنا عنده أطفال يريد أن ينقذهم.
ـ ينقذهم؟. بك أنت؟.. سيادتك سوف تنقذ أطفال الناس؟. ألم تكفك خيبتك- خيبتنا ـ مع الكبار؟. ألم تفق من كثرة الصك على قفاك؟ لم يتركنا ولا رئيس منهم إلا وقد ترك بصمات كفه على أقفيتنا. ماذا جرى لك يابن.
غريب؟. إعقل ربنا يهديك.
كادت يده تمتد، تتحسس قفاه. عبد الناصر، السادات، هذاصحيح، هو لا يشعرالآن بآثار الصك على قفاه، لعله تعود. هو على يقين من أنه ما زال يصك إلى الآن، ولكن ليس بالضرورة علانية على قفاه. لماذا لا يصدقه أحد، حتى منال لا تريد أن تشاركه. حتى لو كان مجنونا فهو جنون سرى طريف، ليس منصوصا على تجريمه فى قانون العقوبات أو نقابة الأطباء. مازال يتصور أن عنده ما يفيد، أنه قادر على أن يبدأ من جديد، يبدأ من الأول، من الأطفال.
أكمل حديثه وكأنها تعرف ما دار بذهنه:
-العبد لله أرخص، وأصبر، يضمن للعيال النجاح والتفوق فى اللغات والكمبيوتر، و.. والقرآن!!.
ـ طول عمرك طاقق، ما هذا الذى تقول؟.
ـ اعتبريها مسألة أكل عيش، لم يعد لى عيش فى الصحافة، لاالصفراء، ولا الحمراء، ولا الخضراء، كلهم ضاقوا بى.
ـ تترك الصحافة؟. هل تستطيع؟.
ـ قلت لك هى التى تركتنى، لم أعد أصلح لها.
ـ .. ثم ما هى حكاية القرآن؟. مالك أنت وما للقرآن؟. إفرض أن الطفل الذى ستدرس له ليس مسلما.
ـ هل أنا قلت الإسلام؟ القرآن لغة ونبض، وإيقاع، أنا هدفى تنظيم الدماغ، بالرجوع إلى الأصل، وإذا انتظم الدماغ بنبض اللغة الصحيحة، فلا تنعى هما.
ـ تنظيم ماذا يا عيونى؟.
ـ الدماغ.
ـ نحن فشلنا فى تنظيم الأسرة، وأنت تحلم بتنظيم الدماغ، ”جاتك نيلة”.
راح يشرح لها فكرته الأساسية كأنه لم يسمع، راح يعدد ما طرأ على اللغة من فساد، وبالتالى على الدماغ من تشويش، وأن الحل هو التمسك بالأصول النقية وتنشيط اللغة الحية، اللغة الأصل، وأنه متى نجحنا فى ذلك، فإن الدماغ، يعنى المخ، سينتظم حديثا عريقا.
ـ حلوة “حديثا عريقا ” هذه.
ـ أخيرا فهمتـنى.
ـ أنا أضحك عليك، لا توهم نفسك أنك مفهوم.
ـ أنا بسيط جدا، وأنت تعرفين.
راحت بدورها، تحاول إقناعه أنه مادام يتقن ثلاث لغات هكذا، فإن “المنظمة” فى حاجة إلى مثله، حتى إذا كان هو لا يؤمن بمبادئها كما يدعى، حتى لو اختلف مع إدارتها، فما عليه إلا أن يعمل مترجما محترفا دون الانتماء لها، وسوف يكفيه الدخل، بدلا من هذا الهبل الذى يحكيه.
ـ المسألة ليست مسألة دخل، أنا مستعد أن أترجم لكم بالقطعة، لكن فى نفس الوقت أريد أن أسهم فى إرساء قواعد البنية الأساسية لأدمغة البشر، ولا يوجد أنسب من أدمغة الأطفال.
ـ جلال غريب الأناضولى، يعد أطفال العالم للمستقبل بدروس خصوصية فى اللغات والهبل، يا صلاة النبى. أنت هو أنت، أنت لا تتعلم أبدا، لاتريد أن تهمد.
ـ بل مصيبتى أننى أتعلم جدا، كل ما فى الأمر أننى لا أتخلى عن وجهتى. أنا- فقط – أغير الطريق إليها.
- الله يخرب بيتك، لن تكف أبدا.
ـ اكتشفت يا منال أنه لا حل إلا إذا تجاوزنا أطفالنا، بلغة سليمة، إلى ما لا نعرف.
ـ يا خبر اسود، ماذا حل بك يا جلال؟. ميتافيزيقا جديدة، ستعطى دروسا للأطفال فى الميتافيزيقا؟…
ـ أنا أتكلم جدا.
ـ أعرفك، حتى وأنت تمزح تتكلم جدا، الله يخيبك.
ـ هل تعديننى.
ـ بماذا؟.
ـ إذا وجدت طفلا صالحا لمشروعى، أن توصى أباه أن يجربنى. مساعدة أخوية.
ـ أساعدك أن تنفث أفكارك لأطفال معارفى؟. أنت تتنفس أفكارك يا جلال، أنت تخلط الأوراق. والله لو كنت أما لأحد هؤلاء الأطفال وأخبرنى طفلى بما يصله منك لأبلغت عنك الأزهر، والمباحث، والبابا شنوده، وكوفى عنان، معا، اعقل يا جلال ربنا يهديك. لماذا لا يتوب الله عليك من وسواس السياسة؟.
-هذه ليست سياسة.
- لا يا شيخ؟.
- مازلت مثل زمان، تماما مثل زمان. لماذا لا تكون مثلنا، وخلاص.
ـ مثل من بالضبط؟.
ـ مثلنا يا أخى.
ـ قولى لى مثل من؟. ماذا تفعلون الآن؟. ماذا تفعلين الآن؟.
راحت تحكى له بحماس ليس له مبرر ما سبق أن حكته له قبل ذلك كلما التقيا، وهو لا يكف عن إعادة السؤال، وهى لا تكف عن الحكى. راحت تكرر أنها تركز الآن على “حقوق الانسان”، وبالذات “حقوق المرأة”، وتحديدا على إنقاذ البنات من جريمة انتهاك أجسادهن بالختان، فراح بدوره يذكرها بموقفها العدائى من مسألة البكارة، واتهام الرجال بأنهم قد أعطوا رشوة للطبيعة، أو لربنا، حتى يتآمر على البنات فيخلق لهن تشريحا خاصا يشعرهن بالنقص إزاء الرجال؟.
ـ طبعا، هذا غشاء لا لزوم له أصلا.
ـ وأنا مالى؟. هل أنا الذى وضعته فى البنات؟.
ـ وأنا أيضا مالى، ماذنبى أنا أن أولد بغشاء وأنت لا؟.
ـ وهل فرقت معك؟.
ـ إخرس يا كلب.
اقترح عليها أن تتقدم بطلب إلى مجلس الشعب لكى يصدر تشريعا بأن من يصر على ختان بناته، فعليه أن يزيل لهن غشاء البكارة بالمرة. همت بأن تقوم لتصفعه، فابتسم ومضى يرضيها، فزاد على اقتراحه أن تتم مع عملية ختان الصبيان إزالة إحدى الخصيتين، فيستوى الجميع فى النظام العالمى الجديد.
ـ.. طول عمرك كلب إبن كلب.
ـ ابن كلب نعم، لكنني- شخصيا- أحاول أن أنتسب إلى قطيع البشر المستأنس.
ـ طالع لأبيك والنعمة، كل ما أرجوه هو أن أتحملك كما تحمل أبى أباك.
- لست أدرى من الذى تحمل الآخر، ياليتنى ما عرفت من أبوك، وما علاقتة بأبى الذى لم يكن أبى أبدا.لا تحكى لى عنه أنت أيضا، لا أريد أن أسمع.
واصلت منال وكأنه طلب العكس، راحت تحكى له كيف تعجب والدها حين عثر مصادفة على بطاقة جلال غريب الأناضولى معها، سألها ولم تفهم عم يسألها. أصر على معرفة عنوانك، وحين تأكد زاد عجبه، أخبرها والدها أنه متأكد أن “غريب” هذا، إن كان هو هو، لم يتزوج، وأنه كان غامضا بعيدا طول الوقت حتى أنه لم يكن يشارك جادا فى تلك التجربة التى خاضاها معا تحت زعم العلاج. لم يحاول والدها أن يذكر أية تفاصيل.
طلب منها أن تسأل جلالا عن حقيقة والده، ربما كان تشابه أسماء. تبادلا بعض المعلومات بين الحين والحين حتى تأكد أن جلالا هو ابن أبيه. زاد عجبه وتوقف بعدها عن الحكى.
منال نفسها لا تعرف عن أبيها الكثير. طلق أمها منذ طفولتها، نشأت مع أمها التى تشبهها فى الشكل، وفى الطبع، لكنها لم تقطع علاقتها بأبيها أبدا. كانت تزوره أحيانا، وتبيت عنده بعض الليالى، ويحكى لها ما تيسر كلما تيسر، تزوج والدها من سيدة قوية، لم تحبها، طنط نجوى، ولا هى كرهتها ولا تكرهها، وإن أحبت ابنها، أخاها أنور. كانت قد عرفت جلالا به ذات مرة أثناء إحدى زياراته، ثـم شبه بين والدها وجلال، شبه من بعيد لا تدرك معالمه: تعديل الكون، لا بالسياسة ولا بالحرب، كلاهما يرسم مشاريع خائبة، ويردد أفكارا هاربة، وخلاص.
- تذكرنى بأبى يا جلال، خيبتكما بليغة.
ـ طالع أنا لأبيك، ماذا تعنين؟.
– والله صحيح، فيك شبه منه، لست أدرى كيف يصر أبى أن أباك لم يتزوج، حتى أنكرك.
- أنكـرنى؟. بصفة ماذا؟.
- اسأل أمك.
ـ بطلى سفالة، نتكلم فى الجد.
ـ الجد هو أن أحضر لك نشرة من نشرات المنظمة تترجمها فى أسبوع، هذا هو عين الجد. أكل عيش، لقمة طرية أحسن مما أنت فيه ياحمار.
لوح لها بالموافقة على شرط ألا يكون هذا بديلا عن تقديمه لأى من أصدقائها أو معارفها ممن له طفل يود أن ينقذه مما آلت إليه حال البشر، مجرد دروس فى اللغة العربية يسرب من خلالها اللغات الأخرى والكمبيوتر على إيقاع نبض القرآن.
راحت تضحك دون سخرية، وبدا أنها تشك – بحب حقيقى – فى سلامة عقله، ثم ضحكت عاليا وهى تقول:
-… هنا الــ BBC . لغات حية، وقرآاان، تم، تررم، تم.
- دمــك ثقيل، لماذا لا تأخذين الأمر بجدّية؟
ـ قل لنفسك، تريدنى أن أورد لك تلاميذ تجرب فيهم مشروعك السرى الجديد؟. حاضر. مقابل ماذا؟. أفعل لك كل هذا مقابل ماذا؟.
ـ أعرف مقابلا يمكن أن يرضيك.
ـ قل لى عليه لأتحـمس.
ـ سوف تتفرجين على، وستسخرين، ثم سوف تفرحين بفشلى.
ـ وما ذنب الأطفال الذين سوف أعـرضهم لجنونك؟.
- وهل أصلح الدنيا عبر التاريخ غير المجانين.
ـ لم تتغير يا جلال لدرجة أننى لست نادمة على أننى أحببتك يوما.
ـ ومازلت تحبيننى.
ـ يعنى. حب بالريموت كونترول، مع وقف التنفيذ.
ـ يا منال يا ست الكل، أى تنفيذ؟. خل الطابق مستورا.
ـ أنت لا تصلح للفرجة التى أتمتع بها معهم.
هو يزعم لنفسه دائما أنه يستطيع أن يحب طوب الأرض، على شرط ألا يقترب، لا أعرف أين يذهب حبى لهم حين أقترب، حين أتحسس من أحب، حين أصدقه؟ أستطيع أن أحب كل الناس فوق ما يتصورون، لكن من بعيد لبعيد. هو يعلم أنها مثله، وربما جاء إليها. لأنه على يقين من أنها مثله. هو واثق -مثلها- من متانة حواجز الثلج، متانة غير قابلة للاختراق، قالت وكأنها كانت تسمعه:
ـ بالمناسبة، كيف حال ثريا؟. هل مازالت تراسلك؟.
ـ تراسلنى؟. من أين؟. لقد عادت من السعودية، فـسـخـت عقدها وعادت، ولو عرفت أين كانت تبيت ليلة أمس؟. (قال الجملة الأخيرة بصوت هامس لم يصل منال)، زرتها هذا الصباح فى مدرستها بالبدرشين.
ـ هل سترجعان؟.
ـ… ذهبت إليها أبحث عن تلاميذ لمشروعى الجديد. عدلت فى آخر لحظة، لم أجرؤ أن أفاتحها أصلا كما فعلت معك حالا، تصورى أنك أقرب، برغم ألواح الثلج بيننا.
ـ.. لكنها بخير.
ـ مادامت بعيدة عنى فهى بخير.
ـ لم أر فى حياتى حبا مثل حبها لك.
ـ وأنت؟. من تحبين الآن؟.
ـ أحب من يقدر على، من يدفع مهرى؟.
ـ أنت لا تحتاجين لمهر ولا لعقد حتى تحبى.
ـ بطل يا إبن الكلب.
ـ والله أريد لك الخير، أريدك أن تدخلى الدنيا من بابها البسيط.
ـ إشبع بها أنت، إياك أن تصدق أنك دخلت الدنيا أصلا، لا من بابها البسيط ولا من بابها العريض. أنت لا تكف عن طرق بابها، لا أكثر، وحين لم تفتح لك رحت تجرب حظك مع الآخرة من باب الحيطة، أنت لم تحصل لا هذا ولا ذاك، ولن تتعلم أبدا.
ـ إيش عرفك؟.
ـ قلت لك، تذكرنى بأبى.
ـ مـن السعيد الأبله الذى ترافقينه هذه الأيام يا منال؟.
ـ ماذا تريد أن تقول يا ندل، أنا لا أمنح نفسى لأحد أبدا، أنا أتقن التمثيل خاصة فى الفراش، أتفرج عليهم، لا للتسلية، ولكن سمها دراسة. لم أجد حتى الآن من يفقسنى. صديقى الآن صاحب معرض سيارات، يحب النقود والجنس والشرب والكلام الرشيق، تصور؟. ابن طبيب يعرفه والدى، أبى هو الذى عرفنى به حين كنت معه مصادفة، وهو يفكر فى استبدال سيارته القديمة. آبى يتكلم عن أبيه بتوقير شديد، فإذا ذكر ابنه هذا صاحب المعرض مصمص شفتيه وسكت. لم أرفضه ولم أتحفظ فى الاقتراب منه برغم ما وصلنى من أبى. اختلقت الأسباب لمعاودة زيارته؛ لأستفسر عن تفاصيل خائبة. غمزت السنارة.
ـ ربنا يتمم بخير.
ـ يتمم ماذا يا أهبل؟. إنه متزوج ويعول، ولولا هذا ما وافقت.
راحت تحكى له كيف أن زوجة صديقها الجديد هذه ألمانية محجبة، امرأة شاهقة البياض؛ وشاهقة الجمال أيضا. حين عرفها بها زوجها، بكل بجاحة، فهمت من نظراتها أنها تعرف، وربما تبارك، ثم حكت له عن إحساسها أن هذه “الخواجاية” – برغم أنها خوجايه – قد اخترقـتها إلى داخل الداخل.
ـ .. شعرت يا جلال أنها وصلت إلى قالب الثلج الذى أتدرع به فى أحشائي؛ ليحمينى منكم، من كل الرجال. يبدو أن ذلك طمأنها على مدى علاقتى بزوجها. لم تتردد فى دعوتى للعشاء معهما، وهى تجمع بين السماح والتحدى. موقف يغيظ، أليس كذلك، لكنه يملؤنى احتراما لها.
ـ وهو؟.
ـ ولا عنده فكرة.
ـ بماذا؟.
ـ لا بى، ولا بها، هذا ما أتصوره.
ـ فلماذا تظلين معه؟.
ـ ربما رغبة فى التشفى.
ـ ممن؟.
ـ لا أعرف.
راحت صور الثلة القديمة تقتحمه دون استئذان، كانوا يحلمون. كانوا ثوارا بحق، ليسوا ثوارا تماما، مشروع ثوار، فقسوا اللعبة فى الوقت بدل الضائع، بل فى الوقت الضائع. “قادة بلا شعب، وثوار بلا ثورة”، سرق الحكام الجدد الحلم من أهاليهم بالتلويح بتحقيقه، ثم سرقوا منهم الوطن باعتبارهم متخلفين عقليا لا يعمل حسابهم، ولا يصلحون للاستعانة بهم.
ما الذى أتى بكل هذا إليه الآن؟. حاول أن يغير اتجاه أفكاره، فاستشعر فى نفسه قسوة غير مبررة، كأن “منال” تمثل خيبتهم جميعا، وكذبهم جميعا، عاد بكل سماجة ينصحها أن تتعرف على نفسها أكثر، أن تعطى نفسها فرصة أن تكون هى، كان يريد أن يبعد أفكار السياسة الزنخة عن أحلامه الطازجة، كاد من فرط سماجته أن يجرحها مباشرة، فوتت له وهى تتماسك أكثر قوة، وهى تدافع عن موقفها.
ـ تصور يا جلال أننى فى قرارة نفسى أخشى أن أجد لهذه المسألة حلا، يخيل إلى، أنى أتمتع بالفرجة على بلاهة الرجال الذين أخدعهم فى الفراش، أتصور أننى لا يمكن أن أترك نفسى لأى واحد منكم، لا أحد منكم يستأهل.
ـ ترعبيننى.
ـ أنت مالك، أنت أخذتها من قصيرها، واحتفظت بالمسافة طول الوقت، المسافة التى تسمح لك بالفرجة دون الاقتراب. أنا أتفرج وأنا فوق خشبة المسرح، أعنى تحت كوشة الملقن، ألقنهم فيرددون بعدى حتى تنزل الستار وقد استلقوا على خشبة المسرح وأنا أضحك. أنت يا جلال تتفرج أيضا، لكن فى سيارتك الخاصة التى تخبئها فى دماغك، تترك محركها دائرا باستمرار حتى تهرب عند أول إشارة. سينما السيارات خدعة جديدة تبعد الناس عن بعضهم البعض.
ـ ليست عندى سيارة.
ـ الله يخرب بيتك، ما أنا عارفة؟.
ـ أغيظك، باصطناع البلاهة.
ـ والله زمان.
ـ الحمد لله.
ـ بطل يا ابن الكلب.
ـ أبطــل ماذا؟.
ـ بطل حمد وتمحك فيما لا تعرف عنه شيئا، قال الحمد لله قال، تريد أن تضحك عليه هو الآخر؟.
ـ أحتاج إليه هذه الأيام ولا أريد أن أعترف بذلك. ألا تضبطين نفسك وأنت تحتاجين إليه؟. أحيانا، يعنى. ولو فى السر؟
ـ يبدو أننى سوف أحتاج إليه حتى يغفر لى بعدد الأطفال الذين سوف أعرضهم لمشروعك المتنيل بستين نيلة.
-7-
جلال يعلم يقينا كم يحب منال، و هى كذلك، لكنهما لا يفعلان شيئا إلا أن ينكرا أى احتمال جاد لذلك.
هذا أفضل، وإن كان أكذب.
الكذب أفضل، ويا حبذا لو بدأ كل واحد بنفسه، يكذب على نفسه أولا، يحبك الكذبة جدا، ليضمن بعد ذلك ألا تهتز فيه شعرة وهو يكذب على الدنيا بأسرها.
ماذا لو تجرأ فاقترب، فاقتربت؟
هو يعرف، وهى كذلك تعرف، أنهما غير قادرين على التمثيل على بعضهما البعض، ربما لهذا هما لا يقتربان.
أحيانا، وفى قمة الصراع اللفظى المناقشاتى يناديه جسدها نداء واضحا بسيطا مباشرا حتى يتصور أنها ليست هى، يستجيب جسده من بعيد. يحتد النقاش فيبتعدا.
تصور مرة أنه من الممكن أن يلتحم جسداهما من ورائهما دون استئذان، ليتصاعدا معا كلهم (وليس كلاهما).
”هكذا فقط يتحقق المستحيل”.
”بطل، يا أخى، بطّل كَفَى، مستحيل ماذا يا جدع انت، العلاقة البشرية أبسط من كل هذا”.
”أبسط يعنى أصعب”.
” كلام فارغ”.
الكلام الملئ هو أنه “جبان حالم”،
وأنها “قوية عنيدة”،
وخلاص.
* * *
الفصل الثانى
عزبة البكباشى
فلما كانت الليلة الثالثة والسبعين قبل الألف، ترقرق جدول عذب يخترق طريقه بهدوء، ولكن بتحد لا يخفى على الصخور المتناثرة التى يمر بها دون تردد.كانت الأعشاب الصفراء الجافة ملتفة حول نفسها بشكل يعلن استغناءها عن ماء الجدول المنساب، بالرغم من ذلك أحاطتها قطرات الماء برفق وهى تهدهدها، ثم تراجعت القطرات فى دلال، ثم عادت فتقدمت هامسة بين ثنيات الحشائش المجعدة.
قالت بذور اللقاح طائرة إلى المجهول “إنى راحلة”.
لم تصدقها الحدأة المحلقة فى السماء لا يراها إلا مدقق حاد البصيرة. مع أن هذه الحدأة بالذات، أو لعله صقرٌ، تنتظرطول الوقت أية إشارة لنقل حبوب اللقاح هذه – أو مثلها – إلى أرض أكثر خصوبة.
كانت”وردة” تملأ جرتها من الماءالعذب قرب نهاية مساره، فيصفو الماء أكثر ويترقرق، بل هو يتثنى، ثم يلمح ويعد، حتى يبدو أنه ما قطع كل هذا الطريق إلا ليصل إلى فوهة جرة “وردة” بالذات.
فردت “وردة” طولها وتمطت، فقفز ثدياها إلى الأمام، وربما إلى أعلى قليلا، بديا شامخان يسبحان ما فى السماوات وما فى الأرض.
عادت فجلست، ثم إنها اضطجعت بهدوء منساب على جنبها الأيسر، وقد ثنت ذراعها تحت رأسها. أغمضت عينيها برغم أن النوم لم يغلبها، بل إن اليقظة الحادة هى التى جعلتها تغمض عينيها، هكذا.
ارتسمت ابتسامة على وجهها لتؤكد أنها يقظة، أو لعلها كانت تحلم.
نظرت ضفدعة على طرف الجدول لزميلتها.
- هل رأيت؟.
نظرت زميلتها فى خبث:
- طبعا.
ـ 1 ـ
هذا اليوم: لا أكرهه، ولا أحبه، ولا أفخر به”.
راح جلال يتذكر كيف مر عليه، كيف تحايل أن يمرره مثل كل يوم. كيف قفز إليه مختلفا متحديا وكأنه يرد عليه. إنه فعلا ليس مثل كل يوم، ولا مثل أى يوم مما كانوا يسمونه عيد ميلاد. إنه.. “يوم آخر”. لم يعد عندى إعجاب برفاهة التغّزل فى هجائه،”عدت يا أيها الشقى”. كامل الشناوى كان يجمـل الحزن، وفريد الأطرش يطربه. أنا لست حزينا، ولست فرحا. لست ساخطا، ولست ثائرا!. لم تمتهن كلمة مثلما امتهنت كلمة “الثورة”، وأيضا كلمة”الحرية”.
لست هاربا، أنا ذاهب لأمر ما.
كل اللافتات والشعارات والعبارات أصبحت غائمة، بعيدة، ملتبسة، تحتاج إلى تصحيح، أو توضيح. كل عناوين الأفلام والروايات تحتاج إلى شئ ما، تحتاج إلى معجم خاص، إلى مذكرة تفسيرية، لست بطلا، ولا أريد أن أكون بطلا. الأبطال المعروفون عبر التاريخ ليسوا هم من تعرفون من مشاهير. الأبطال الحقيقيون كانوا بداخلهم، وماتوا معهم. هذه الأسماء التى يذكرها التاريخ هى من صناعتنا نحن، أسماؤهم ليست هم، أى عبث؟. الإسكندر ليس الإسكندر، ونيتشه ليس نيتشه، وقيصر ليس قيصر، وحتى غاندى ليس غاندى، وفرويد ليس فرويد، أنا كل هؤلاء.
”..نعم؟ نعم؟” .
”شكرا”.
”الله يخيبك البعيد”.
لماذا نطفئ الشموع بعدد ما مضى من سنين عمرنا. الأولى أن نشعل شمعة واحدة للعام الجديد. إما أن ينفع وإما لا ينفع، بختك يابو بخيت. هذا العدد 41، ماذا يعنى؟. لماذا لا يكون العد تنازليا من رقم افتراضى؟. ليكن 65 أو حتي70 أو مائة أى رقم، رقم قابل للتجديد، لا مانع، وليكن العد هكذا: “باقى 31 سنة، باقى30، باقى” 29. تـفرح باقتراب النهاية، وربما تحزن، كله محصل بعضه. لكنك لا بد ستتعرف على الزمن أوضح، وأدق، أراهن أن العد التنازلى سيتوقف عند خمسة عشر أو خمس، لكنه سيتوقف، وقد توهم نفسك فتضيف عددا آخر من السنين كلما اقتربت من الصفر.
”مرعوب أنا من الاقتراح”.
”كبر عقلك”.
”حاضر، ولا كأنى قلت شيئا”.
يضحك الناس على بعضهم البعض. ضحكنا على أنفسنا بما فيه الكفاية. ضحكوا علينا فضحكنا على أنفسنا توفيرا لجهد الناس “الكمل”. لم أكن أعرف أننى أستطيع أن أمشى كل هذا الوقت، خمس ساعات ونصف حتى الآن، ومازلت أسير، شارع المحطة، ميدان الجيزة، محطة موبيل، أو محطة التعاون، لست متأكدا، “الأوبرج” أو كازينو الليل كله مثل كله، الباريزيانا، المريوطية، فندق سياج، ستوديو مصر، شبرامنت. اقترحوا على أن يحتفلوا بعيد ميلادى بطريقة لم تخطرعلى بالى، أصدقائى حلوون، ياه ما أصعب الكلمة، حلو، والجمع حلوون. معقول؟. ليس هناك معنى أن أحتفل بما لا أنتمى إليه، بما ليست لى يد فيه. القرار كان قرار والدى، لا أظن أننى وجدت بناء عن قرار أصلا. هى المصادفة، أو لعلها توريطة، لعلى ولدت عن طريق الخطأ.
المسائل تجاوزت كل تلك الشكليات، المساحة تتسع، الدنيا أصبحت أكبر، حتى أننى لم أعد أعرف أكبر من ماذا؟. هى أكبر والسلام، هى أكبر فأكبر، فأكبر، كلما نظرت إليها وجدتها أكبر، أكبر وخلاص. أحيانا أنظر إليها فأشعر أنها تكبر، حالة كونها تكبر أمامى أثناء تطلعى إليها، أثناء تمعنى فيها، أثناء محاولتى الإحاطة بأبعادها، اشتريت نموذج كرة أرضية من المكتبة المقابلة لمحلات “ويمبى” أو لعلها محلات “ماكدونالدز”، هل يوجد فرق؟. محلات كلينتون، النظام العالمى الجديد، ابن القحبة، أهديت الكرة الأرضية لنفسى، هدية عيد ميلادى، كل واحد يهادى نفسه، قبلتها شاكرا. لم تعد المسألة أن الأرض تلف أم لا تلف، رحم الله كوبرنيكس ومد فى عمر فؤاد المهندس. لم يعد ينفع أن ألففها وأتحدى السماك زاعقا “الأرض بتلف”. الشيخ خميس.”السكرتير الفنى”. حاولت طوال عشرين سنة أن أتعرف على علاقة الشيخ خميس بربه، بربنا. أنا أحب الشيخ خميس، أحب عبد الوارث عسر، أتمنى أن أستنسخه لأسأله إن كان يحبنى كما أحبه، أريد أن أسأله عن ربه، ربنا، أشعر أنه ـ ربنا هذا الذى كان يعبده الشيخ خميس وهو يعلم فؤاد المهندس الغزل ـ هو شديد الجمال، الشيخ خميس -أيضا- شديد الجمال، الله جميل يحب الجمال؟. لم أتوقف أبدا عند هذا القول السائر لأتساءل: حديث شريف هذا؟. أم خفة دم الشعب المصرى؟!!. فكيف يتصور هؤلاء “الكيتش” الجديد أننى هربت منهم، يتهموننى أننى أهرب من الدنيا، كأنهم هم الدنيا، لمجرد أنهم هاتفونى ولم يجدونى، ياه!!. هل يمكن أن أكون وحيدا جميلا فى ذات الوقت، وفى هذا اليوم؟. ليس يوما شقيا يا عم كامل يا شناوى، هذا اليوم هو كما تصنع أنت منه، هو كما تصنع به، كما تصنعه. الزمن لا يمضى بنا. نحن الذين نصنعه.
”يا حلاوة!”.
“يارب تصدق”.
كيف لم أتعب حتى الآن؟. كيف أواصل السير طوال هذا الوقت هكذا؟. أين أنا الآن؟. شبرامنت هذه؟. هل أواصل السير إلى سقارة أم أنحرف يسارا إلى “أبو النمرس”؟. أريد أن أتعرف على النخيل من جديد، أريد أن أسلم على أجدادى الأحياء فى جذوعه. لقد اختلطت الأزمان عندى حتى لم أعد أصدق، أجداد مـن يا عم؟ أهو كلام. التاريخ يكتبه فريق من الهواة المحترفين !!. نعم؟. نعم؟. أتعمد الخلط طبعا مثل أدب هذه الأيام، الله يخرب بيوتهم، أشعر -أحيانا- أنه ليس أدبا بل “تورلى” تركوه خارج المبرد (يعنى الثلاجة!!) حتى فسد. نعم، الهواة المحترفون، أنا أقولها كما يخطر لى، وأنت تحلها بنفسك، قال تاريخ قال، وهرم سقارة المدرج، الهرم الآن مبرمج لا مدرج، أجلس أمام ذلك الهباب الرائع الذى كاد يأخذ منى ما تبقى من عمرى، الكمبيوتر، ألعب “بالفأرة” أو “الماوس”. لم أسموه الفأرة، كان عبده مبروك جارى فى الفصل يرسب فى كل العلوم “ما عدا الرسم”، لو كان عند أجدادى المزعومين هذا البرنامج التافه فى هذه الآلة المطيعة – إذن- لما احتاجوا لبناء كل هذه الأهرامات العبثية. كانوا عملوها بعدة قفزات من الفأرة، ودمتم. لم أحب أهرام الجيزة أبدا، لم تتملكنى الرهبة أو الخشية أو الإعجاب، لا وأنا واقف بجوار الهرم الآكبر ضئيلا ضئيلا حتى العدم، ولا وأنا أكاد أختنق فى ممراته. عاندت ذات مرة وصعدت الهرم الأكبر مع صديق رياضى شقى، كنا فى سنة ثالثة فى الكلية، ولم أشعر بشئ حتى وأنا على قمته. لم أقبل كل مبررات الخلود وراء أسطورة بنائها، ولم أفهم (وفى نفس الوقت لم أرفض) شائعات سرها، ومعجزات توجهاتها الهندسية. أعرف أنها كادت تصبح دينا عند المهووسين بها، تلك الديانة المعاصرة التى تريد أن تثبت أن الأهرامات هى رمز لاتساق قوانين هندسة بيولوجيا الصحة مع قوانين بيولوجيا الطبيعة الحجرية إلى بيولوجيا الكون، يا صلاة النبى! الموسى التى توضع فى زاوية كذا، بحيث تتوجه إلى وجهة القانون الهرمى، لا تثلم ولا تصدأ لسنين عددا، ذات مرة قررت أن أتقمص هذه الموسى حتى لا يثلم حسى، رحت أقرأ فى كتب أوهام الأهرام وسرها الباتع، وضعت نفسى متسمرا على قدم واحدة فى اتجاه الموسى الذى لا ينثلم، كنت ألعب مع القراءة لعبة أقرب إلى الكاريكاتير، لكننى شعرت أننى أبرد متجمدا، ثلمت حدى حتى أصبحت مثل سكين صدئة فاترة لا تعرف ناحية حدها من الناحية الأخرى.
كان ذلك قبل هذا اليوم بكثير،
”هذا يوم موتى.”
”هو هو يوم مولدى،”
كلام ليست عليه ضريبة، يقوله أى واحد لا يفهم منه حرفا”.
”يعنى أنا ”اللى” فاهم ؟”.
ـ 2 ـ
عسكرى المرور عند كوبرى شبرامنت، “كشكه” أبعد قليلا من الكوبرى المتجه نحو “أبو النمرس”، مع أننى كنت قد قررت ألا أمضى فى طريق سقارة وأن أتجه إلى “أبو النمرس”. لماذا أتجه إلى “أبو النمرس”، ولماذا لا أتجه إلى “أبو النمرس”؟.
”صباح الخير. صباح الفل بعد الظهر، يا صباح النور بالليل”.
شعب لا يحتاج إلى حشيش، حتى يحشش. هناك – فى الناحية الأخرى – أجد أجدادى بحق. تلك الغابة من النخيل التى تقع بعد المزلقان مباشرة بجوار طريق الصعيد. أبو النمرس أعرق من شبرامنت، النخيل أعرق من هرم سقارة، لماذا الخلود؟. هذا الوهم الذى أضاع الناس حتى أنكروا فضل الموت على البشر، ما هذه الشعارات؟. أنا أنتمى للنيل، للنخيل من حوله، وليس للأهرامات، نعم.. نعم؟، خلود ماذا؟. خلود من؟. طريق الخلود طريق الجدود، طريق الكباش طريق البلاش.
ما أقبح السجع المستظرف، لم أعد أطيقه، ما معنى كل ذلك؟.
”أنا مالى؟ أنا أقول، وهم يتصرفون،”.
من “هم”؟. لم يعد هناك “هم”، لم أعد أقابل إلا مجموعات من ضمير مستتر واحد تقديره “أنا”.
”أنا هيمان، وياطول هيامى، صور الماضى، ورائى وأمامى”، ليس تماما، لكن الأغنية جميلة، وصوت عبد الوهاب أجمل من ذكائه، هل أخذ ملايينه معه؟. لماذا حرم بناته؟. لم يكن بنات بارات؟. ولو…..
أنا أتم اليوم العام الواحد والأربعين من عمرى، ولولا هربى هذا بدءا من شارع المحطة إلى شارع الهرم إلى طريق سقارة إلى شبرامنت، لأنحرف الآن نحو “أبو النمرس” لكنت أمارس طقوس الكذابين السنوية احتفالا بعيد ليس لى فضل فيه، كل سنة وأنت طيب، وأنت طيب.
“شكرا”، “ربنا يخليك”، عقبال مائة سنة؟.
(أهو أنت)، الله يخيبكم، كل سنة وانت “كده”، ياليت.
ولك مثلما قلت، انطفأت وحدها كل هذه السنين، لا تحتاج حتى نفخـة رمزية من هواء زفيرى. مـن أكذب الكذب أن تطفئ ما انطفأ فعلا، إحدى وأربعون عاما، “إذا بلغ الفتى عشرين عاما، ولم يفخر فليس له فخار”، شعراء العرب هؤلاء أنذال فعلا، هأنذا فى العقد الخامس، ولم أفخر بعد، بماذا أفخر؟. لكن سيظل عندى ما يمكن أن أفخر به، إننى أفخر بأنى مازلت قادرا على الحب، حب كل من على الكرة الأرضية بلا استثناء، يعيش الهرب فى الكل، أهديت نفسى نموذج الكرة الأرضية بما عليها، وليس بما هى وهى تلف. هذا ما تخيلته، لا أريد أن أتوقف عند الكرة الأرضية؟. كوكب خائب عليه كيانات مغرورة تتصور أن كل شئ خلق من أجلها، حتى أنها تلغى بقية الكائنات على نفس الكوكب اللهم إلا ما يصلح منها للاستعمال الشخصى”!!. أو يادى الخيبه. أريد أن أنطلق إلى سائر الكواكب الأكثر فخامة ووعدا، إلى المجموعة الشمسية، لن تحرقنى، أنطلق إلى كل المجرات، أنطلق إلى ما لا أعرف. أريد أن أصل إلى مركز الزمن بالضبط. المركز لا يدور. يا خبر أسود، كيف أتنازل عن زخم الحركة. سوف اخترع قانونا يحافظ على الحركة فى كل الأحوال، ولا يحرمنى من حلم وصولى لمركز الكون، يعنى ماذا؟. لا أعلم. مركز الزمن الكونى لا يوجد فيه عام قادم، ولا عام مضى. ليس فيه أعياد ميلاد. هل يعنى هذا الخلود؟ يا خبر !! لا أريده، لا أريد الوصول إلى مركز الدنيا، اللهم إلا إذا ….
لا بد أن مركز الدائرة يدور – أيضا- دورانه الخاص فى السر، ربما يدور حول نفسه، لا، ليس فى المحل، ليس “محلك سر”، ولا “محلك در”. لا أستطيع، هذا عبث ضحكوا علينا به، ضيعت عمرى أبحث عن كيان وهمى اسمه”نفسى”، البحث عن الذات؟، الله يخيبك، هكذا أكـدوا لنا فى البداية، لست أدرى من هم الذين “أكدوا لنا”، لا أذكر. التفكير التآمرى يقول لى إنهم أهل الغرب والشمال، هم الذين جعلونا ندور حول أنفسنا كالنحلة، وهم يمسكون بكرباج التقدم ويلهبون دوراننا كلما قلت السرعة. عمرى ما حذقت هذه اللعبة، البحث عن الذات. ماذا يا عمنا السادات، الله يرحمك ويحسن إليك، تبحث عن ذاتك فتتكلم عن مصر كما يحلو لك. هى مصر كانت ذاتك وحدك يا رجل؟. الله يسامحك، ماذا كان قد جرى لو أنك عقلت ورضيت، وتوقفت، وباركت؟. لا أحد يتوقف بنفسه، يظل الواحد يبحث ويبحث ويؤجل ويضحك على نفسه تحت زعم أنه يبحث عن ذاته، وحين يجدها لا يكون عنده وقت ليتثبت من أنها هو. تفكير تآمرى، ليكن: تآمرى بتآمرى، هذا عن واحد مثل حالاتى، فما بالك برؤسائنا الأفاضل؟ قال يتوقف قال؟. رؤساؤنا ليسوا بهذه النذالة حتى يتخلى أى منهم عن شعبه بهذه السهولة. ربنا يخليهم. على أنفاسنا رحمة بنا من أى احتمال آخر. نحن لسنا أهلا لأى احتمال آخر.
ما ذنبى أنا فى هذا كله؟.
سحبونى من تلك العتمة الرائعة التى كنت أتعرف من خلالها على النور الذى لا يظهر فى النور. وضعونى على طريق مسفلت، لمعانه أكثر سطوعا من ضوء الشمس، قالوا لى: هنا سوف تجدها: نفسك، سوف تجدها بعيدا عن غيابات الحدس والتخبط، فرحت ساعتها بكل هذا السطوع القبيح، لم يكن قبيحا آنذاك، كان سطوعا هائلا داخل سنتيمتر ذاتى، سرعان ما عشيت عيناى من خطف اللمعان، رحت أتحسر على الكيانات الرائعة التى كانت تؤنسنى فى عتمة المحاولة.
هذا الجديد الذى أنا فيه الآن مختلف عن هذا وذاك، هل هو حقا جديد؟.
هو مرعب.
فهو جديد.
هذا التفاؤل أريد أن أصفه بالغباء، لكننى لا أستطيع، خليط من الآمال والإصرار على يقين غامض. ليكن، هى محاولة لم أخترها، هى هى، عـرضت على قبلا لكننى لم أتبين معالمها، وحين كانت تقترب من وعيى كنت أنكرها، لكنها هذه المرة اقتحمتنى من باب سرى لا أعرف كيف سهوت عن إغلاقه.
”محاولة ماذا بالله عليك؟”.
”هو كلام والسلام”.
”تفكير تآمرى آخر، بل وخرافى أيضا”.
”هل أنا سوف أحاسبك؟. وإذا حاسبتك، هل أستطيع أن أثبت عليك شيئا إلا أنك شقى أبله، حتى لو تمرغت فى خـدر كل شئ لذيذ”.
”حقد ؟؟”.
”ليكن؛ حقد حقد!! من حقى أن أحقد”.
” أحقد على من؟ أنا أحسن من الجميع هكذا !”.
”لا يا شيخ ؟!!!!”.
جندى المرور الواقف على الكشك بعد الكوبرى المؤدى إلى طريق “أبو النمرس” من شبرامنت، يشبه “المكان” الذى يقف فيه تماما. المكان ينقع على شاغله، لست أدرى كيف. لا ينقص هذا الجندى إلا أن يلبس لبدة.
ـ أليس هذا هو طريق “أبو النمرس”؟.
ـ لا، هذا طريق البدرشين، أبو النمرس من على الكوبرى، فيه تاكس بالنفر، وفيه ميكروباص، وفيه أتوبيس لكن ليست له مواعيد، أنت وبختك.
- كم كيلو حتى أبو النمرس؟.
- كيلو ماذا يا سعادة الباشا؟.
ـ ربنا يولى من يصلح.
ـ ربنا يقويك.
ـ ربنا يسد ما علينا.
ـ ربنا يسترها معك يا سيدنا الافندى.
ربنا؟. ربنا؟. ربنا؟. بين كل جملة وجملة تكتشف أن شعبنا الطيب يحشر كلمة ربنا فيها، لست متأكدا هل دار كل هذا الحوار بينى وبين الجندى أم لا. خيل إلى أننى بررت له الذهاب إلى “أبو النمرس” مشيا على الأقدام بأنه كان نذرا على، أخدنى الرجل على قدر عقلى. لم يدقق.
“ندرن على لو قلتى أيوه، لاخلى روحى فى إديكى شمعة، فى إديكى شمعة…ماعرفشى إييه فيه بعد كله، .. تمشى عليها والشمعه والعه، والشمعة والعة، كلااااام جميل وكلااااام ماعقووول ما اقدرشى أقوول حاجة عنه. …لكن خياال حابيبى المجهووول، مش لاقيه فيه حاجة منه”.
ماذا؟. فيها ماذا؟. لم يسمعنى أحد، لم أنطق، أنا أحتفل بعيد ميلادى، أغنى لنفسى، ومـن يعجبه!! الله!!!!.
الظاهر أن حكاية حبيبى المجهول هذه أكبر من ليلى مراد ومن محمد عبد الوهاب معا. هل يمكن أن يكون سحر الحب هو فى أن يظل الحبيب مجهولا، وهل خاب حبى، حبنا أنا وثريا، إلا حين انقلب حبيبى المجهول إلى حبيبى المعلوم، هل أحتفظ بالمسافة بينى وبين منال ليظل الحبيب مجهولا؟ أنا متأكد أن هناك نوعا من الجهل أوضح من كل معرفة، حين جرجرونى من العتمة المليئة بالدفء المحيط إلى شارع الأسفلت المضئ باللون الأصفر المغير على ضوء القمر الفضى، عشقت العلم، والمادة، والعقل، منتهى العقل، كله بالعقل، كله ظاهر تحت الضوء الأصفر الساطع، كيف يصير جلدنا باهتا هكذا تحت اللون الأصفر الساطع؟، ثم يصفر وجودنا كله فنذبل دون أن ندرى؟.
كانت الحسابات شديدة الإحكام، والمقدمات شديدة الوضوح، لماذا كل هذا الوضوح؟. علما بأن النتائج ليست حاسمة ولا جازمة، ليست جامعة، ولا مانعة، هذه الأضواء الصفراء التى تضئ شارع العقل الأسفلتى قبيحة مـمـرضة، تجعلنى أرى وجوه كل الناس صفرا. مصابة بالأنيميا الخبيثة، يقولون إن أنيميا البحر الأبيض اسمها الأنيميا الخبيثة، لست أدرى. اختلطت البحار والأنيميا والأصفر والأبيض، الحل فى الجنس الأصفر.
”الصينيون قادمون”، “الإسلام هوالحل”، “حل ماذا؟. جاك حل وسطك، كانت أمى تدعو على هذه الدعوة ولم أكن أفهم ماذا تعنى بالضبط بحل وسطى. أنور عبد الملك يصر على أن يجمع بين الصين والإسلام والرئيس مبارك فى فندق واحد، المفروض أن أقول: فى خندق واحد، غلطة مقصودة، أتعجب من جرأة عبد الملك هذا ـ أنا أحبه بالعافية ـ جرأته على الحقائق لا تزعجنى، والفبركة الآملة تبهرنى، لم أفرح باستهانته بالخيبة البليغة التى نحن فيها، من نحن؟. التى أنا فيها، من أنا؟. التى كل الناس فيها. لقد عولموا الخيبة البليغة قبل أن يعولموا الاقتصاد والمعلومات، أصبح من حق أى إنسان على ظهر الأرض أن يخيب نفس الخيبة البليغة التى يخيبها الآخر مهما بعدت المسافات واختلفت اللغة، وتعددت الأجناس والنظم الاقتصادية.
يمضى الوقت سريعا، عكس ما كنت أتصور، لست أعرف كيف وجدت نفسى فجأة بين هؤلاء الناس، زحمة قذرة، الزحمة ليست دائما قذرة، لكن هذه الزحمة قبيحة، لها رائحة الزحمة المنسية المتراكمة على بعضها منذ مدة، رائحة هذا العرق مختلفة، ليس عرق البشر التلقائى الذى ينضح أثناء العمل، هذا عرق لزج مستورد، عرق له لمعة مستفزة، عرق صناعى، عرق كنظام العرق، أذان الظهر حشرجة تقف فى أذنى تسدها، تتزاحم الأذانات من مساجد متلاصقة، لماذا ينفرون الناس من الأذان ومن أنفسهم؟
اختراع الميكروفونات مؤامرة على الأذان، “اخرس يا تآمرى”.
كتل من الحجارة المتنافرة الملونة بألوان كالحة ليس لها اسم، رصها بناء كاره نفسه ليعمل منها سورا للترعة التى لم تعد ترعة، كأنها مصرف مفتوح للمجارى.
رئيس مجلس هذه المدينة، أقسم أن يكره الناس فى عيشتهم انتقاما من كرهه لنفسه، أراد أن يحجب شاطئ الترعة بهذا الجدار القبيح.
للقبح رائحة غثيانية، كما أن للجمال حضورا طازجا. أبحث عن الجمال الذى ملأنى هذا الصباح، فأتعجب أنه مازال موجودا يقاوم لزوجة القبح ورائحته الزنخة. أجده مازال نشطا مبتسما ينتظر انتهائى من هذا الاحتجاج الفاشل بكل هذا الصراخ الصامت.
كيف يمكن أن أظل جميلا على الرغم من مؤامرات التشويه الملاحق فى كل مكان؟.
-3-
لست أدرى كم مضى من الوقت لأجدنى فى حضن غابة النخيل على الجانب الآخر، أنا أحبها، أخاف عليها، أخاف على، ليس -فقط – ممن يحيطون بها. أتصور دائما أن التهديد بقطعها، هو تهديد لكيانى شخصيا، أخاف عليها من مجهول آخر يتربص. بكيت صامتا فى “وادى فيران” حين شاهدت ما جرى للنخيل هناك، جذوع النخل جفت وتشوهت. فهمت ساعتها معنى كأنهم “أعجاز نخل خاوية”. عاودنى صوت عم سليمان وهو يرددها وأنا مختبئ فى عباءته، يعاودنى رنين الآية كلما شاهدت سيقان فلاحينا حين يشمرون للرى أو للحصاد. نحن نضمر مثل نخل وادى فيران، تعاودنى نفس الآية أكثر حين أرى الرجال الجوف، يا سيدنا إليوت. استقبلنى نخيل “أبو النمرس” بشموخ أبى. مازال بعافية و الحمد لله، هل هذا بفضل النيل أم بفضل الصعايدة؟. الجيزة صعيد، أى والله، برغم أنف “جامعة القاهرة”، وأبو النمرس صعيد، وأنا صعيدى، أحب أن أنتمى إلى ما أحب. وليس بالضرورة إلى حيث نشأت. لم يستأذنوا شيخ العرب السيد وهم يضمون قريتنا التى سمعت عنها ولم أرها من الغربية إلى المنوفية. فجأة أصبحنا من مواطنى البحث عن السادات، ظلمناه أكثر مما ظلم نفسه. لكنه هو الذى بدأ بظلم نفسه.
قررت أن يكون أصلى هو ما أذهب إليه، وليس ما آتى منه.
من حقى أن أحصل على الجنسية الصعيدية مادمت أنتمى إلى النخل والعرق.
أريد أن آخذ تعسيلة هنا فى حضن أجدادى.
أخشى أن أستيقظ فلا أجدنى.
ـ 4 ـ
ـ صباح الخير.
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ـ ألم يكن هذا أذان الظهر.
ـ ظهر ماذا يا سيدنا الأفندى نحن قربنا على المغرب، اسم الله على مقامك.
لم يكد يكمل الجملة حتى وجدته يتلفت فزعا حواليه.
ـ خير مالك؟. مالك؟. هل أزعجتك؟.
ـ مالى؟. القطار لم يحضر بعد، والمزلقان مفتوح، سعادتك شاهد.
ـ شاهد على ماذا؟.
ـ على أن المزلقان مفتوح.
ـ طبعا، مادام القطار لم يأت، هل حصل شئ.
ـ ما هو المصيبة أنه لم يحصل.
ـ إذن ماذا؟.
ـ ولا حاجة.
ـ طيب.. طيب هدئ نفسك.
ـ أنا اسمى جلال غريب.
ـ خدامك عبد المعطى.
ـ خدام من يا عم؟.
ـ ما هو لو كان حصلت حاجة كنت استاهل، إنما لم تحصل أيها حاجة.
ـ تستأهل ماذا؟. فهمنى. هل حان موعد القطار؟.
ـ حان أم لا، لن تمر عبر المزلقان إلا بعد القطار.
ـ يا عم عبد المعطى، أنا أسير على قدمى، لست عربة لتمنعنى، ثم إن المزلقان مفتوح.
ـ ولو….، طيب على الطلاق بالثلاثة ما يحصل.
ـ أنت متزوج؟.
ـ لأ.
ـ طيب؟.
ـ أنا حلفت بالطلاق والختمة والمصحف الشريف وكل أيمانات المسلمين والنصارى والكفرة كمان.
ـ طيب طيب هدى روحك.
ـ ألا يمكن أن تكلمهم لى يا سيدنا الأفندى ينقلونى من هنا؟.
ـ أكلم من؟.
ـ أى أحد.
ـ يعنى أروح أقول لهم يا أى أحد انقلوا عبد المعطى؟.
ـ أيوه.
ـ تحكى لى، يمكن أفهم.
ـ تفهم؟. باسم الله ما شاء الله، طبعا تفهم ونصف، ألا قل لى يا سيدنا الأفندى، أليس كل شئ بأمره؟.
ـ طبعا.
ـ إذن لماذا؟ … لماذا إذن؟.
ـ يا عبد المعطى تريدنى أن أشم على ظهر يدى، عذرك معك، لكن إما أن تحكى لى، وإما أن تدعنى أمر.
ـ بعد القطار.
ـ بعد القطار، تحكى لى، أم أمر؟.
ـ الاثنان بإذن الله.
ـ هل ستدخل لى قافية؟.
ـ أستغفر الله، وحياة النبى أنا أتكلم جد.
ـ طيب.. طيب، بعد ما القطار يمر تحكى لى.
ـ أنا حكيت لما شبعت حكى بلا فائدة.
ـ ولو….
مر القطار، وتلكأ جلال فى عبور المزلقان، وهدأ عبد المعطى.
راح يحكى بعد إلحاح متوسط: “كان اليوم جمعة، وكنت نائما تمام التـمـام، وكنت تعشيت عند عمتى مريم ربع فطيرة بحالها، وليس بى أى “حجة”. كنا قبل صلاة الجمعة، قـل بساعة ونصف، الإشارة علقت، المفروض تنور قبل القطار ما يأتى بثلاث أربع دقائق، أقوم أنا أقفل المزلقان، وأمنع العربات، خمس دقائق فاتوا، والحكاية طالت وهات يا زمامير، وهات يا سباب، وهات يا قلة حياء، افتح يا حمار، وراءنا مصالح، افتح يالوح، وناس بهوات كما تشاء. قلت يمكن أنا غلطان، يمكن الإشارة غلط، قمت فتحت المزلقان نصف فتحة، أنا فتحت من هنا وقبل ما تمر أى عربة، لمحت القطار من هنا، رحت قفلت فى ثانية. كانت القفلة ستأتى على العربة التى كادت تمر. هل فى ذلك شئ؟. بوزها كان سيمر لكنه لم يمـر، لم تخدش، ربنا ستر.
ـ الله نور، جاءت سليمة.
ـ لا العربة جرى لها شئ، ولا أحد مر، ولا حصلت أيها حاجة من أصله.
ـ الحمد لله.
ـ بس….، من يومها وأنا لا أعرف كيف أتلم على روحى، كل شوية يهيأ لى إن العربة عدت، وإن القطار دهسها، ودهسنى، وأنا عارف ومتأكد إنه لم يحدث.
ـ هذا هو كل شئ؟.
ـ وهل هناك أفظع من ذلك؟.
ـ الله يسامحك، قدر ولطف.
ـ هكذا يقولون. كل الناس تقول مثلك، هو سعادتك من أين؟.
- من مصر.
ـ ما هى مصر كبيرة، يعنى من أين من مصر؟.
ـ يعنى يا عبد المعطى لو قلت لك من أين سوف تفرق معك؟.
ـ لا أبدا، لكن يعنى، عن إذنك أحسن الإشارة نورت، والقطار الثانى قادم.
-5-
اقتربت من عبد المعطى حتى صرت مكانه، أحطت بما أحاط به مرعوبا، فزعت حتى شعرت أن على أن أنصرف حالا. أنا لا أعرف ماذا أفعل أنا أيضا. لم أفهمه من البداية، هو يعيش ما لم يحدث، كأنه حدث، فجأة صدقت مثله أنه حدث. رعبت مثل رعبه، كفى هذا، أريد أن أنصرف، ناديته رغما عنى بعد أن مر القطار، سلمت عليه بحرارة وسألته إن كان يمانع أن أحضر له بين الحين والحين، نتكلم.
ـ نتكلم فى ماذا؟. هل ستكلمهم لى فى حكاية النقل؟.
ـ حاضر، لكنى لا أنا أعرف أحدا، ولا أنا حتى عارف اسمك بالكامل.
ـ اسمى؟ اسمى بالكامل؟. هذه هى البطاقة.
قال ذلك وأخرج بطاقته الشخصية لتوه، فخشيت أن أنقل اسمه كتابة فيطمع فيما لا أعرف إليه سبيلا. حفظت الاسم من باب المجاملة “عبد المعطى أحمد أبو النجا”.
ـ بصراحة يا عبد المعطى لا أريد أن أطمعك، أنا لا أعرف ناسا مهمين، ولكنى قد أحضر ثانية ربما لأطمئن عليك، عندك مانع؟.
ـ مانع؟. اسم الله على مقامك، تحضر يا سيدى وقتما تريد، هذه أرض الحكومة، ياليت كان عندى بيت يليق بالمقام، تحضر ونصف.
ـ ونتكلم.
ـ طبعا نتكلم، ما دمت ستحضر، سنتكلم.
لم أعرف هؤلاء الناس من قبل، مع أن كل حديثنا، أحاديثنا، كانت عنهم، كنا نتصور أننا أولياء أمورهم، نحن لا نعرفهم أصلا، لم نعرفهم أبدا، لن نعرفهم أبدا.
-6-
قبل أن أنصرف، لمحت المرأة التى كان يناديها عبد المعطى أثناء حديثنا بالحاجة وردة، ولم أكن أتابع لم يناديها بهذا الإلحاح، وماذا يطلب منها. لا تكاد تجلس على طرف أريكة من أرائكها المفروشة بشرائط مصنوعة من قصاصات قديمة حتى تقفز كأنثى النمر التى رأت ثعلبا شهيا، لم تكن، حاجة ولا وردة، كانت نـمـرة فتية متوهجة، جمالها قوى لا يستأذن، لم تبلغ الثلاثين. أوكأنها كذلك. صدر نافر دون حامل، فى الأغلب. جلبابها أقرب إلى جلباب الرجال لكن الزركشة على الصدر تميزه. بدت لى أنثى مستكفية بلا رجل، نادت على ابنتها ذات الأعوام السبعة، لم ترد. دخلت إليها وعلا صوتهما دون تمييز. خرجت من العشة فى نشاط يقفز حواليها، جميلة، طازجة مثل نسمة الصباح قبل طلوع الشمس قبيل دخول الشتاء. فائرة مثل القيلولة. رائقة متنوعة مثل غسق بعد الغروب. خرجت وراءها بنتها، صورة جميلة مصغرة، تمنيت أن تكون لى ابنة شكلها. كذاب أنا، لا أستطيع أن أتحمل مسؤولية أن أكون أبا لبنت بهذا الجمال. أنا لا أصلح أبا، مثلى مثل أبى الذى لم أره. تزوجت مرة ولم أنفع، لست متأكدا هل أنا الذى لم أنفع أم هى؟. نحن الاثنان لم ننفع. كنا مثل بعضنا البعض.
تعرفت عليها بالصدفة، والدانا جاران، كانا جارين، هى رأت والدى، أنا لم أره، لا أذكره، التقينا بعد ذلك فى ميدان التحرير ونحن نحتج معا على الصمت والهزيمة، ثم صنفنا سبعينيين. لست منهم. من الذى أطلق عليهم – علينا- هذا الاسم، كله من السادات، الله يرحمه، لا نحن فهمناه ولا هو وضعنا فى الاعتبار، أحسن. جاء اليوم الذى يصبح عدم الوضع فى الاعتبار مزية. السبعينيون هم نتاج الثورة الحقيقيون، بكل الحماسة، والإخلاص، والخبرة الزائفة والسطحية، والثللية والنفس القصير، الستينيون الذين يتباهى بهم الناصريون حملت بهم مصر وتكونوا قبل الثورة. لماذا استولت الثورة عليهم ونسبتهم إليها؟. لماذا فخروا هم بذلك؟. أكره هذه التقسيمات لا أنا سبعينى ولا تسعينى. كانت هناك ثورة، نعم. من ينكر؟. إن كان على الجيش فقد قام بحركته المباركة. الناس ثورتها، ثم تنازل الناس، هم تنوزلوا عن الاثنين بخبطة واحدة، عن الحركة، وعن الثورة معا، لم تكن خبطة، واحدة بل خبطة، فخبطة، فخازوقا مغريــا، فتلوثا، فانفشاخا، فانفلاتا، فوصاية، فتشققا إلى جزر منعزلة ذات سيادة.
قررت أن أولد اليوم كما أريد، أن أفعل ما يبرر استمرارى عاما آخر، لا أريد أن أرجع لبيتى. لست هناك. حين أذهب هناك لا أجدنى، لا بديل عن السفر، أحاور الجبال وأسمع همس بحر خليج العقبة، الأوتوبيس يقوم فى منتصف الليل، ماذا أعمل من هنا حتى منتصف الليل؟. الثوار يصنعون الثورة ولا يعرفون من يرثها، سوف أصنع ثورتى الشخصية دون أن أعلنها، ليس لى وريث شرعى، ولا غير شرعى، ”أنا مسؤول عن كل لحظة، من الآن فصاعدا”، “حلوة هذه !! كيف؟”.
”لن أعلن عن ثورتى الخاصة حتى لا يستولى عليها غيرى”.
أخاف أن أرجع إلى منزلى، أخاف من رنين الهاتف، يصرون على تهنئتى، بـ “ماذا” بالله عليهم؟. حتى لو رفعت السماعة وأغلقتها دون أن أرد فمن يضمن لى أنهم لا يطبون على ليطمئنوا!!. أنا أحب الناس ولا أكره طبعهم. الناس بغير طباعهم ليسوا ناسا، لكن لابد من أن أحافظ على مسافة ما.
المسافة تتسع أم تضيق؟. لا أعرف، لكنها ضرورية كى أستطيع أن أتنفس.
كيف استطاع عبد المعطى، ووجه الصبية بنت الحاجة وردة أن يلغيا المسافة بينى وبينهم هكذا دون استئذان. هل اقتربوا هم أكثر؟. متى يختفون مثل غيرهم؟ يارب لم هذا؟. أعجب شئ هذا اليوم أننى لم أتعب بعد. الحاجة وردة لم تكتف بإلغاء المسافة.
لا أحمل ساعة، قصدا، قررت تجاوز الزمن، قال يعنى، لولا أذان العصر الذى نبهنى إليه عبد المعطى لما عرفت أن اليوم كاد ينقضى، وحتى إذا قررت السفر هذه الليلة إلى دهب فى أوتوبيس منتصف الليل فسوف أفعلها دون حقيبة، سوف أظل هكذا بكامل ملابسى حتى أعود. تحسست جيبى ووجدت المحفظة، اطمأننت، لكنى خفت أن أفتحها لأعد ما بها، أنـا على يقين أن بها ما يكفى.
حين أعود سوف أبدأ ما انتويته.
لم يعد هناك ما يسترون به عوراتهم حتى يحتاج الأمر إلى جهد الصحافة لتعريهم. لم أعد أصلح لها، ولم تعد تصلح لى. لم تعد صحافة، ما معنى الصحافة؟. هل لها لزوم؟. الاعتراف فضيلة، لم تعد لى مهنة، هى التى استغنت عنى، معها حق، ثريا أيضا استغنت عنى، منال لا تقترب أصلا مع أنها الأقرب. هى أيضا معها حق، لكنها مثلى تدفع الثمن وحدها. كلهم معهم حق،
”دعك من حكايات الحق والواجب، لابد من عمل”.
”آفتنا- آفة البشراليوم،”.
”أهكذا خبط لصق؟!”.
لا. آفتنا نحن، فقط- آفتنا ليست السياسة ولا الاقتصاد، إن آفتنا ـ وربما آفة العالم….”.
”واحدة واحدة يا جدع انت، بطل خطب”.
”آفة العالم هى فساد اللغة”.
”لا ياشيخ ؟!”.
لم تعد اللغة الحاضرة قادرة على برمجة الدماغ بما يؤكد ما يميز الإنسان. أنا أحب اللغة، اللغات، أعرف أسرار لغات الحاسوب (أكره هذا الاسم بالعربية لأنه غير دقيق، سوف أسميه الكمبيوتر بعد ذلك).
نسيت نفسى وأنا أتمادى فيما لا طائل وراءه فصحت فى:
ما هذا؟.
ومع ذلك واصلت: أنا تعلمت اللغة قبل أن أتعلم الكلام، كان عمى سليمان يحتوينى داخل عباءته وهو يقرأ القرآن، ربما بدأ هذا وأنا لم أبلغ الثانية، نشأت وأنا أهتز مع تمايل جسده وهو يهدهدنى ويقرأ، حتى لما كان يخفت صوته كانت تصلنى الأنغام كأنها هى هى، فتتخلق الألفاظ. ملأتنى هذه اللغة مشتملة، صوت عمى سليمان، دفء عباءته، الترتيل، الألفاظ، أصداء المعانى تصلنى دون ألفاظها، هل يمكن؟.
أحلم أن أقدم خبرتى إليهم، أريد أن أنقل تجربة معنى أن يكون اللفظ صورة تبعث الأنغام، لا رمزا يترجم، هكذا أوصل لى عمى سليمان المصحف، سوف يسخر السبعينيون منى، أنا لست منهم، أنا أصغرهم، أنا منهم، أغلب السبعينيين الذين أعرفهم تزوجوا وأنجبوا أولادا وبنات. لابد أن أولادهم فى حاجة إلى من هو مثلى، لـن أقول لهم إننى أهدف إلى تنظيم الدماغ ليصبح صالحا للعمل لما خلق له بتجويد لغته، لـن آتى بسيرة القرآن فأنا أعرف حساسيتهم وسخريتهم وغباءهم، كل ما سأعلنه أننى سوف أجعل أولادهم ممتازين فى اللغات والكمبيوتر، لغة العصر، سوف أضحك عليهم مثلما أضحك على نفسى.
من حقوق الإنسان الأساسية حق خداع النفس. لم أعد أطيق السبعينيين، لكننى أحب أولادهم وبناتهم، أحبهم حبا مختلفا، عن حب أهلهم لهم. لست أدرى كيف.
”أنا أحب الأطفال”.
لم أحزن للطلاق. كان القرار واضحا، كان أبسط وأصدق من قرارالزواج ذاته. ضاعت الفرصة كى يكون لى طفل أفرح به، أجرب فيه، أعطيه ما أتصور. المصيبة أننى أعرف أن طفلى سوف يكبر ولن يعود طفلا، كما أنه لن يعود طفلى.ما الفائدة؟. أطفال الناس هم الأضمن، هم يتجددون باستمرار، كلما شب جيل عن الطفولة خرج جيل جديد يعلن استمرار الحياة، أنا لا أحب أن أعيد ما أقول، ولا أحب التدريس، ولا أعرف كيف سوف أطلب أتعابى، خصوصا من هؤلاء السبعينيين. أنا لا أعرف غيرهم. مصيبة المصائب لو أهدونى كتبا من تأليفهم بدلا من الأتعاب، سأشترط المعاملة الرسمية، يكفى أن أتعابى أقل، وأننى مخلص،لست ناقصا كتابتهم.
”كتاباتهم أحالت الألفاظ إلى نيازك شاردة تبحث عما يجذبها إلى بعضها البعض”.
”اسم النبى حارسك وضامنك”.
”اخرس أنت- أنت مالك؟ إيش فهمك؟”كل المسألة أننى عقلت دون أن أتنازل عن ثوريتى”.
”لا يا شيخ؟”.
” تحوير فى التكتيك مع الاحتفاظ بالاستراتيجية”.
أما الصحافة فسوف أرسل لها المقال تلو المقال، وهم وضميرهم ومدى حاجتهم إلى هذا النوع من رص الكلام؟. لم تكن عندى فرصة للنشر أصلا، أنا لم أتم عملا أبدا، وحين أتمه سوف أواجه الصعوبة التى يواجهها أى كاتب.
لو كانت لجنة الأحزاب قد أجازت حزب السبعينيين لانضممت إليه من فورى دون أى قيد محدد، وسوف يرفتونى حتما بعد الاجتماع الرابع، تماما مثل الصحافة وثريا، كلهم يرفتونى؟. أنا جاهز للرفت طول الوقت.
آه لو سمحوا بحزب للأطفال دون الثانية عشرة ! سوف أحفز العيال الذين أدرس لهم حتى يكونوا حزبا أكون مستشاره، ولا يبقى إلا تغيير الكون، وحين أعثر على صاحبه سوف أشير عليه كيف يغيره، وسوف يعلم أننى كنت أساهم فى إعداد الأولاد والبنات بالطريقة التى تسمح له أن يعيد بناءه كما يشاء.
”خوجة”؟.
أهكذا ينتهى كل الكفاح والحماسة وحلم نضال المنشورات، ومشاريع الصحف القبرصية، ينتهى كل هذا إلى أن أكون خوجة؟. وخوجة خصوصى؟. خوجة هاو؟.
ياترى هل سأجد زبائن أم لا؟.
من الذى سيصدق أننى أحب الأطفال كل هذا الحب؟ وأننى أتصور، دون مبالغة، هكذا أقول لنفسى، أن مشروعى هذا لا يعنى أننى أتراجع؟ لا يعنى أننى أصبحت مرتزقا “قطاع خاص”؟. من الذى يصدق أن الحفاظ على عقل طفل واحد من التشويه هو إسهام معجز فى الظروف الحاضرة؟.
أنا لا أعرف أطفال اليوم. أصاب بالفزع المشوب بالحسرة وأنا أشاهد أحيانا برامج الأطفال فى التليفزيون، كأن المسئولين عنهم لم يكونوا هم أنفسهم أطفالا فى يوم من الأيام، أخاف أن أكتشف أنى مثلهم، أنا كنت طفلا، ومازلت. من أدرانى أن الأطفال الذين سوف أدرس لهم سوف يكونون مثلى، مثل طفلى، مثلى طفلا؟!
وأنا ؟ مثل من؟ أنا ؟ طفلا آو كهلا؟.
لا آحد مثل آحد.
-7-
عزبة “البكباشى”.
لم أسأل يوما من هو هذا البكباشى الذى سميت هذه العزبة باسمه، ليس جمال عبد الناصر على أية حال، الرئيس ناصر غير العقيد القذافى، صحيح أنه لم يـرق نفسه إلى رتبة مشير مثلما فعل لصاحبه، اكتفى بلقب الرئيس وأطلقنا نحن عليه اسم التدليل “الريس”، فأى بكباشى هذه عزبته؟. لم أسأل ولن أسأل، تعبت. الفاكهة مرصوصة على الشوادر، والبطيخ بوجه خاص يأخذ مساحة أكبر من كل أنواع الفاكهة المتراكمة، والقهوة صغيرة، والجلوس عليها خليط من السائقين، والعمال، والعاطلين، والصبية متعددى الهوية. هذه هى، هنا سأحتفل بمولودى الجديد.
وجهى غريب، لكننى أعرف أن أولاد البلد كلهم ذوق، سوف يتركوننى فى حالى مالم أنكشهم. هنا يولد “خوجة” خصوصى يحمل اسما حركيا يشبه اسمى، هو مازال يكتب للصحافة من على مسافة، يترك مسئولية نشر ما يكتب لضمير العصر.
”حلوة ضمير العصر هذه”، وسوف يعلم الأطفال ما يعلم، وما لا يعلم
يبدو أن هذه الليلة لن تنتهى. لنفرض أن الأطفال تحركوا فى تلك المساحة الهائلة من الجهل العظيم، ثم لنفرض أنهم حاولوا معى أن نبحث فيما لا نعرف بجد، أنا وهم، هم وأنا، ولنفرض أن أهلهم بلغهم ما نفعل، بلغهم أننا نفخر بالجهل لنخاطر بالمعرفة.
”لن يرحموك حتى ولو كانوا سبعينيين”.
”أعرف، وأحذر منهم أكثر”.
لابد أن أعمل حسابى وأن أحتفظ بأغلى منطقة عندى بعيدا عن التناول.
طول عمرى أفخر بقدرتى سرا على تحمل جهلى، أعرف كيف أخفيه وراء عدد من الأسماء والأحداث والأرقام أحيانا، لكنه ثروتى الحقيقية. لم أنجح فى أن أنتمى إلى عقيدة سابقة التجهيز، خصوصا عقيدة السبعينيين الذين ليس لهم عقيدة.
”بطل افتراء”.
”طيب !! . قل لى: ما هى عقيدتهم بالضبط؟. خصوصا بعد ما كان”
”تريد أن تعرف عقيدتهم لتتنكر لها كالعادة، إفرح يا سيدى، لم تعد لهم عقيدة”
”أعرف لكنهم راحوا “الناحية الثانية”.
”أية ناحية؟.
”أنت مالك أنت؟”.
أحضر صبى القهوة (ذو الخمسين عاما) كوب الشاى “الذى هو “، أحضره، “على مية بيضا” وتبادلنا التحية وفرحت فرحة خفية أنه لم يقل كل سنة وأنت طيب، من أين له أن يعرف؟. تحية واردة من أولاد البلد حتى بدون مناسبة، بالرغم من ذلك كنت سأنزعج منها، حتى وهو لا يقصد.
ـ نورتنا يا سعادة البيه.
ـ شكرا.
ـ أهلا وسهلا.
وضع الشاى وتركنى وهو يبتسم أدبا بلا تصنع.
ارتشف الشاى رشفة رشفة، عمل جوهرى ليس كمثله شئ، هكذا يكون شرب الشاى، كنت دائما أشربه وهو فى خلفية الكتابة، أو القراءة، حتى أننى كنت أنسى إن كان شايا أو قهوة أو لا شئ أصلا، الآن: أجد أن شرب كوب من الشاى هكذا يمكن أن يكون محور الكون، هكذا تملأ الحياة وعى النمل، والنحل، والصقور والصراصير، وكلاب الزينة، وذئاب الجبل.
ياه !! هل عشت كل هذا العمر بمنطق مقلوب؟. كان ينبغى آن آعرف من البداية آن “الشاى هو الحل”.
ـ خيرا يا سعادة البيه تأمر بحاجة؟.
ـ لا، أبدا، شكرا.
ـ يخيل لى أن سعادتك ناديتنى، أو كنت تضحك ولامؤاخذة؟.
ـ تذكرت نكتة!.
ـ والله يظهر أنك ابن حظ، مع أنى أول ما شفتك صعبت على من تكشيرتك، قلت لن تفك آبدا، فلما سمعتك تضحك، فرحت، أهلا وسهلا، فكها وحياة النبى، فكها ربنا موجود.
لم أقل له لماذا أنت متأكد هكذا؟.
فرحت به حتى هممت بتقبيله، ولم أفعل. ولم يبد على ما يشيرإلى مثل هذا الاحتمال.
وعلمت أن اسمه “صابر”.
-8-
عدلت عن السفر الليلة.
لا أحتمل الجلوس فى الكرسى وحيدا ثمانى ساعات. يفرض السائق علينا أفلاما حسب مزاجه، أو يفرض علينا صوت مقرئ متحشرج بعد منتصف الليل، أو كليهما.
أجدنى أتوجه إلى عم إدريس بدلا من سوق السلاح، لا مانع. ليكتمل الاحتفال.
لا أجده. أفرح أنه فى إجازة. أحسن. لا أحد يعرفنى.أحسن جدا، اريد أن أأتنس بنفسى.
سوف أفككنى فأكون كثيرا.
الزاوية البعيدة مظلمة، والنادل الجديد يخدمنى وهو يتصور أننى زبون جديد.
أتمادى دون رغبة حقيقية وأصل إلى الدرجة التى أضمن فيها أن أعود للمنزل بأمان. من ذا يستطيع ضبط ذلك بعد عبور خط الوسط؟.
أعود للمنزل متمالكا نفسى، أو هكذا أتصور.
أجد نورا مضاء يتسحب من تحت عقب الباب، أنا لم أتركه كذلك.
لا أذكر.
الفصل الثالث
ميدان التوفيفية
كان قرص الشمس يطرق حواف الأفق حين لاح سرب طائر وكأنه مجموعة من النوارس.
تلون الحد غير الفاصل بين البحر والسماء بلون الدم الجميل المتناثر دون تخثر، فانغرس فيه قرص الشمس بسرعة أكبر من خطواته المتثاقلة الأسبق.
حاولت منال أن تتأكد إن كان ما رأت هو سرب من النوارس أم صوت موسيقى تجسد لوعيها بلااستئذان.
خلعت القطعة الباقية من ملابسها وألقت بنفسها من الدور التاسع إلى الأمواج التى فتحت ذراعيها تستقبلها بحب أحاطها بدفء لم تذق مثله من قبل.
ظلت منال تسبح تحت الماء لا يراها أحد، وهى ترى كل أحد، وكل شىء. لم تستطع أن تصل إلى الحد الفاصل بين البحر والأفق، لكنها لم تتراجع. هى لم تفكر فى التراجع أصلا.
أخذت شهيقا عميقا وهى تحت الماء فنبتت لها أجنحه، أو هكذا أحست.
همت أن تطير ففشلت، فعلمت أنه إحساس كاذب.
عزفت عن معاودة محاولة الطيران: الآن وإلى الأبد.
-1-
”ما لهذا الرجل هكذا؟ ما كل هذا الذوق المهذب؟ لماذا لا يبدو متعجرفا جشعا؟ لم يبدو دمثا رقيقا هكذا؟.
كان جلال جاهزا لتصنيفه الناحية الأخرى. ولم لا يكون كذلك؟.
ذهب الزمن الذى كان جلال يصنف فيه كل ثرى على أنه متعجرف مستغل بشع. الأثرياء طيبون أيضا أحيانا، والفقراء أنذال أحيانا، بل غالبا، مضطرون أو مختارون، نحن نتكلم فى الحاصل.
كان جلال يتوقع ـ على الرغم مما قالته منال ـ أن يجده تاجرا بدينا يضع كرشه أمامه لا هم له إلا المكسب والمضاربات، وربما النصب على من يقع فى يده من الأثرياء الجدد، أو أبنائهم المجددين سياراتهم من باب الضجر والمعاصرة.
“لا أبدا. أنا سوف أتصل بهم شخصيا، سوف أسوى كل شئ، المهم، آخر فرصة بعد غد، سواء عن طريق البنك أو عن طريقنا مباشرة”.
وضع أمين عبد الحكيم السماعة، ومر بيده على رباط عنقه برفق دون زهو، كان السواد حول عينيه يشير إما إلى إرهاق مزمن، وإما إلى سهر مؤقت. كان لامعا رشيقا، تستطيع ملامحه أن تبدو طيبة فى أى وقت بدرجة كافية. اعتذر لجلال أنه جعله ينتظر.
ـ أهلا وسهلا، فعلا أنا أحتاج إلى جهودك، و.. وعبقريتك كما أفهمتنى منال هانم، أولادى فى حاجة إلى إنسان عصرى يربط بين خئولتهم وجذورهم..، يقولون إنه لابد من عبور فجوة اختلاف الثقافات، أليس كذلك؟.
يتكلم عن اختلاف الثقافات وعن الجذور!!. ما هذا كله. الرشاقة التى ميزت عوده ورباط عنقه ليست مختلفة عن رشاقة ألفاظه.
ـ لا عبقرية ولا يحزنون، المسألة أن “منال” ترى فى مشروعى أفكارا تفاؤلية عن المستقبل أكبر من توقعاتها، أنا أتصور فعلا أنه إذا أخذ الأولاد فرصتهم فسوف يتغير العالم.
ـ العالم مرة واحدة؟.
ـ وما العالم إلا مجموع ناس كانوا أطفالا.
ـ آه صحيح، تصور أن هذه البديهية تغيب عن أكثر الناس. المهم: أنا لى بنت فى الرابعة عشرة وولد فى الثانية عشرة وبنت أصغر فى الرابعة، جاءت خطأ هذه الأخيرة، كما يمكن أن تستنتج. أمهم ألمانية، لابد أن منالا أخبرتك، وهم يقضون شهرين من كل عام عند أهل أمهم، وعلى الرغم من اختيار أمهم الواضح، فإنها لم تتخل لا عن أهلها، ولا عن أملها فى تحقيق هذه المعادلة. …. هل تتابعنى؟.
أفاق مما يشبه السرحان. ضبط نفسه متابعا كل التفاصيل بكل دقة، على الرغم من أنه لم يكن يدرك ذلك.
ـ أفهم، أفهم، ولا أتعجب، أفهم موقف أمهم تماما لكن اسمح لى، ما هو موقف حضرتك؟.
ـ موقفى؟. موقفى ظاهر من قبولى مساعدتك لـلأولاد.
ـ ليست مساعدة تماما، هو مشروع.
ـ سمه كما تشاء، مشروع مشروع، أنا أحترم خبراتك المتعددة التى ذكرتها منال، ومحتاج لها بشكل أو بآخر على الرغم من تسميتك لما تنويه باسم “مشروع”. بالمناسبة، إذا كان الأمر كذلك، هل أعددت له ـ بصفته مشروعا ـ دراسة جدوى؟.
قال ذلك وهو يبتسم نصف ابتسامة، فاحتار جلال، أهى سخرية أم استفهام جاد؟.
ـ طبعا، لا يوجد مشروع بدون دراسة جدوى حتى لو لم نعلنها، حتى لو لم نذهب لبيت خبرة، حتى لو لم نملأ أوراق القرض اللازمة لتقديمها للبنوك، لا يوجد مشروع بدون دراسة جدوى.
سر جلال من نفسه وهو يرد بهذه الطلاقة. إن كان تساؤل صاحبنا سخرية فقد سخر بالمقابل، وإن كان جدا فقد قال كلاما جادا، واحدة بواحدة.
ـ وبماذا تـعـد دراسة جدوى مشروعك؟.
ـ أحيانا نستنتج الجدوى من انعدام البديل.
ـ لا أفهم!.
ـ حين لا يوجد حل آخر، تصبح إيجابيات الجدوى حتمية؛ أو علينا أن نجعلها كذلك.
مال أمين بكرسيه المتحرك قليلا إلى الوراء وحاول أن يخفى ابتسامة إشفاق وراء وجهه الطيب. بدا كأنه يفكر جديا فى الكلام برغم رفضه الواضح من حيث المبدأ، كما بدا لجلال أنه فاهم، ومتعاطف، بل ومهتم.، هل كان إسقاطا من جلال؟.
ـ لا أريد أن أحبط أحلامك، لكن المسألة -باختصار- تعتمد على ما سوف تقدمه للأولاد؟.
ـ سوف تكون الوسيلة هى اللغة، أتقن ثلاث لغات، بالإضافة إلى مهارة خاصة فى لغات الكمبيوتر وقدراته، والمسألة فى تقديرى أن هذا هو السبيل لتنظيم الدماغ.
(تعمد ألا يذكر القرآن. الاحتياط واجب).
ـ تنظيم ماذا؟.
ـ المخ، التفكير السليم، المنطق البسيط، كل هذا تلوث بتشوش اللغة.
ـ لا أكاد أربط جيدا، المهم، الأولاد سوف يتقنون اللغات التى سوف تدرسها لهم.
ـ وأكثر.
ـ ماذا تعنى “وأكثر” هذه؟.
ـ يعنى ستتفتح آفاقهم لغويا، بما يترتب به الوعى، فيصبحون قادرين على تجاوز ما أعرف شخصيا، المدرس الناجح هو الذى يساعد تلميذه على تخطيه.
ـ يترتب به ماذا؟. لا تصعب الأمور على هكذا، أرجو أن تساعدهم بالطريقة المناسبة، منال تثق فيك.
ثم أردف:
ـ لا تربكنى من فضلك بهذه الألفاظ الضخمة، درس للأولاد كما تشاء، والنتائج سوف تقول الباقى.
ـ هذا هو، هذا هو تماما. لا بد أن نتفق على محكات قياس النتائج.
ـ محكات؟. أية محكات ؟ المحكات هى درجاتهم فى المدرسة طبعا.
ـ آه طبعا، هذه هى الواجهة، لكن أملى أبعد من ذلك.
ـ ليكن، أنا سوف أكتفى بالواجهة، وأنت وأمهم لكما كل ما هو أبعد من ذلك.
ـ عندك حق، هذا الكلام سابق لأوانه، لنبدأ، ثم نرى.
ـ .. هذا كل ما أرجوه، فمتى تبدأ؟. ومع أى من الأولاد؟.
ـ أبدأ حالا.. أعنى لقد بدأت فعلا، فإن كان لابد من الاختيار فمع الأصغر. ما اسمها؟. أو مع الجميع إن شئت.
تعجب أمين وحاول أن يخفى دهشته، وذكره بأن الصغرى عندها أربع سنوات، ولم يقل له جلال إن الأصعب أسهل، وأن الأصغر أقرب، وأننا نحن الذين نصعبها بما نفعل بهم وفيهم، وأنه بدأ مع عمه سليمان، داخل عباءته قبل هذه السن، ربما.
أردف أمين:
ـ بصراحة، أنا أفضل أن تبدأ مع الثلاثة، بالشكل الذى تراه.
كان جلال مازال متعجبا من المفاجأة التى جعلته يقابل هذا الرجل. ما كان يظن أن أى تاجر سيارات يمكن أن يكون هكذا أصلا، أفاق من دهشته الممتدة وقد تحرك الكرسى المتحرك برقة ربما إيذانا بانتهاء المقابلة، سارع بالاستئذان والشكر، لكنه تذكر متعجبا وهو يفتح الباب.
- لم نتفق على موعد.
يبدو أن “أمين” قد فوجئ هو الآخر أنهما لم يحددا الخطوة التالية على الرغم من كل هذه الحماسة والرغبة المشتركة، ومساحة التفاهم البادية، والاحترام المتبادل، وبدلا من أن يحدد ميعادا واضحا أجاب:
- سوف أتحدث مع منال وهى ستتصل بك.
شكره جلال مغمغما وانصرف مسرعا.
أى صنف من البشر هذا الانسان؟. هل تردد؟. هل تراجع؟. هل اقتنع؟. هل اكتشف جنونه؟. كان واضحا وجاهزا ومرحبا فلماذا التأجيل؟. ثم إن جلالا راح يحمد الله على التأجيل، فهو ليست عنده أية معالم محددة لمشروعه. تنهد عميقا فرحا بهذه الفرصة من الوقت لالتقاط الأنفاس، إذ ماذا لو أنه حدد الميعاد”غدا” مثلا؟. إنه لا يعرف برنامجا محددا، وليست عنده كتب للصغار، ولا فكرة عن المقررات، ولا كيف يبدأ، ولا عن ترتيب الخطوات ولا سرعة إيقاع الجرعات، وليس معقـولا أن يشترى عباءة سوداء يحتوى فيها البنت الصغرى ليرتل لها القرآن مهتزا كما كان يفعل عمه سليمان، يرتل ماذا وهو لم يمسكه منذ ربع قرن؟. ثم إنه..، يا خبر لو عرفوا؟. لابد أن يبادر بشراء كتب فى التربية، فى مناهج التدريس. هل تساعده ثريا؟. أى ورطة؟. لم يكن يتصور حين حادث منالا أن الأمر سوف ينقلب جدا هكذا، وبهذه السرعة. 4 سنوات، 12 سنة، 14سنة، إن قلب نظام الحكم، أهون كثيرا من قلب نظام عقل طفل، أو قل : من الاحتفاظ للطفل بنظام عقله معدولا. فما بالك بطفل أخواله فى ألمانيا، وأقدام أبويه منغرسة فى مصر الجديدة، مصر الجديدة القديمة، ميدان الاسماعيلية، هكذا العنوان مبين فى بطاقة أمين عبد الحكيم.
-2-
كادت منال تستلقى على قفاها ضاحكة وهو يعيد عليها الحديث الذى دار بينه وبين أمين عبد الحكيم. أدرك جلال حقها فى ذلك. كان مازال متعجبا أن يكون هذا الإنسان الوسيم الدمث الرفيع هو تاجر سيارات.
ـ تصورى يا منال، لم يكلمنى عن عمله ونحن وسط عشرات من السيارات الفاخرة، صغيرة وكبيرة، وأنا كما تعلمين لا أعرف الفيات من الكاديلاك. تصورى أنه لم يلمح فى الكلام إلى عمله إطلاقا، لا من باب التجارة، ولا من باب التباهى، ولا من أى باب. صحيح أن منظرى لا يصلح زبونا لشراء دراجة، لكن أيضا!!!.
ـ هل كنت تريد أن يعرض عليك “شبحا” مثلا؟.
ـ لا تجرجرينى للنزال، يبدو أنه يفضل “الخنزيرة”.
ـ أنت وأبوك الخنازير.
ـ بدأنا!!؟. ماذا قال لك عنى، لابد أنه حدثك بشكل ما.
ـ طبعا قال ما قال، وضحكنا كثيرا، لقد طلبنى من فور خروجك من عنده.
ـ ضحكتم؟. ماذا قال لك؟.
ـ لن أقول لك.
ـ أنت تعرفيننى، لست لحوحا، ولكننى أريد أن أعرف. أريد أن أعرف بجد؟.
ـ كان معجبا بآرائك جدا.
ـ معجبا بها أم متعجبا منها؟.
ـ اطمئن، لم يقل عنك إنك مجنون، أنا فقط التى تعرف هذا السر.
ـ تمزٍحين؟ أريد فعلا أن أعرف انطباعه.
ـ لا أخفى عليك أنه ارتاح لك، بل ربما أحبك، ماذا فيك يا جدع انت يخدع الناس هكذا؟.
ـ بالذمة أحبنى؟.
ـ مالك كالطفل الذى يسأل عن رأى “أبله تماضر” فى أدائه الواجب، طيب سوف أغمك، لقد قال إنه خائف أيضا.
ـ يخاف منى؟.
ـ يخاف منك، أو من نفسه، أو من أمهم، يخاف والسلام. أى عاقل فى هذه الأيام لابد أن يخاف على أولاده، أليس كذلك؟.
ـ ليست عندى فكرة، ليس عندى أولاد.
ـ لا ياشيخ!؟ أليس أولاد العالم كلهم أولادك؟.
ـ لا تعرينى هكذا يا منال، أنت لا تحتملين التعرية.
ـ وهل أنت تستأذن وأنت تقتحمنى فى أى وقت؟.
كان قد نسى ـ ليس يدرى كيف ـ أن “منال” هى “رفيقة” أمين بشكل أو بآخر، لم يتذكر ذلك أبدا، لا وهو يتحدث معه، ولا وهو يتحدث معها الآن، كيف لم يخطر على باله ذلك؟ ثم ما الذى جعله يخطر على باله الآن؟. هى التى فتحت الباب، فانفتح على مصراعيه، ولم يستأذن مادام الأمر كذلك.
ـ هل صحيح يا منال أنك تنامين معه؟.
ضحكت دون خجل، ودون وقاحة.
ـ هو الذى ينام معى.
ـ أعرف، أعرف.
ـ تعرف ماذا يا حمار؟.
ـ والله العظيم لا أقصد، أنت التى قلت.
ـ عظيم فى عينك، دعنا من هذا الآن ونتكلم فى مشروعك.
ـ تعلمت من صديقك ألا أسميه مشروعا، وأن نقصر حديثنا على اللغات والكمبيوتر والدروس حتى لا يخاف هو، ولا أشطح أنا.
ـ ليكن. ماذا نويت؟.
ـ النية محلها القلب.
ضحكا معا ووضع كل منهم سيف المبارزة فى غمده.
هل حقا هو يحب منال؟ وهل هى تحبه؟ إذن لماذا لا يغار عليها؟ هل هذا هو آخر ما حاق بالمشاعر البشرية؟ أهكذا؟ إذن هو لا يحبها. وهى لا تحبه.
ليكن.
لكنه يحبها، وهى تحبه؟.
طيب …، كيف؟.
-3-
”..كم كنت أرجو ألا أكون ظالما مثله. “المنتقم الجبار”، أمه أخفت الأمر على حتى صارت فى الشهر الرابع. هى لم تفهم الفرق بين ما يسمى الزواج العرفى والزواج الحكومى. ربما أرادت أن توثق العقد بهذا الطفل الذى رفضته ورفضتها بمجرد أن علمت بالخبر، قررت الانفصال فورا. لا أنكر أننى يخطر على بالى أن أراه أحيانا، تقول أمه إنه شبهى فعلا، أو شبهى جدا، خبر اسود لو صح ذلك، ما أشقاه، وما أتعسنى به..، لو كان بيدى.. ولكن لا شئ بيدى، كل شئ بيده هو على الرغم من ثبوت سوء تصرفه طول الوقت، لمن أكتب هذا الكلام؟. لى؟. طبعا لا. لمن إذن؟ أصبحت الكتابة نوعا من القهر المنتظم.. ليكن.
”… أريد أن أكف عن الكتابة. من تقع فى يده هذه الكراريس سوف يظن أننى مدرس ابتدائى أصحح كراريس الإنشاء والتعبير، جفت كل الينابيع وأنا أزداد بعدا عنه وسخطا عليه، لا أريد الاستمرار، هذا هو الخطأ الوحيد فى حياتى، هذا جناه ربنا علينا، ونحن ننتقم منه فينا، ربما”.
وقفت الجملة الأخيرة فى حلق عقل جلال وكأنها غصه لاتريد أن تبتلع. كلما مد جلال يده إلى إحدى كراسات أبيه تلك، كرهه أكثر، ثم أشفق عليه، وأحيانا عاد يتساءل عنه، وكثيرا ما تحداه. سمع من أمه أن أباه لم يره إلا مرتين، على الرغم من اعترافه به، وإعطائه اسمه، وأنه لم يتردد فى المساعدة فى مصاريف تنشئته، إلا أنه لم يحاول رؤيته أبدا، وحتى هاتين المرتين كانتا بسبب إجراء اضطرارى: الأولى وهو يستخرج له شهادة ميلاد، والأخرى بعدها بسنوات حين ارتفعت حرارته وأصابته تشنجات متلاحقة، ولم تجد أمه أحدا بجوارها، وظنت أنه على وشك الموت فاستغاثت به، فحضر بعد منتصف الليل، وظل يعمل له كمادات مثلجة حتى الصباح، وحين انصرف لم يسأل عنه بعد ذلك أبدا.
لم يكن جلال يتصور أن ما حكته أمه يمكن أن يكون حقيقة. ذلك أن أمه كانت تحكى له كل ذلك دون ضغينة، لم تتهم أباه بالقسوة ولا مرة واحدة.
قال جلال : إن هذه الكراسة بالذات، فى هذا الوقت بالذات، تتحدى كل تفاؤله.
وقال أيضا : “ولو”. سوف يثبت لأبيه أن الدنيا بخير، حتى وهى مليئة بكل هذه السموم.
يعنى ماذا؟.
-4-
تردد وهو يرفع السماعة ليطلبها، قاوم تردده، إذ من يطلب إن لم يطلبها، كلهم أخذوا مواقف لا تسمح لهم أن يطلبهم أصلا، اللهم إلا للتباريك، والتهريج، واجترار ذكريات لا لزوم لها. أو للسخط، والسخرية، وبعض النميمة. ثريا ليست مثلهم، ليس متأكدا. الأمر العجيب أنهم جميعا يقبلونه هكذا، بل هو يكاد يشعر أنهم يحبونه، حتى من يلتقى بهم مصادفة يحبه، حتى أمين عبد الحكيم صاحب معرض السيارات الذى لم يلقه من قبل، بدا أنه قد ارتاح له، وقال لمنال إنه أحبه، ومع ذلك فهو لا يريد أن يقترب أو يصدق أو يسعد، هذه الكلمة (يسعد) سخيفة ولا لزوم لها فى قاموس الحياة المعاصرة، من أهم همومه أن يغير قاموس الحياة المعاصرة، بل بصراحة أن يغير قاموس الحياة كلها: معاصرة وغير معاصرة، أن يلغى القواميس أصلا. لماذا نجمد اللغة بقاموس؟.
ما حدث هذا الصباح هو مفاجأة بكل المقاييس، مفاجأة ربما تثبت أنه قد عثر أخيرا على الطريق الصحيح. يعنى. حين فوجئ وهو يتصفح “الأهرام”، بمقاله ممهورا باسمه فى صفحة الثقافة، فى الملحق، لم يكد يصدق، لا يدرى كيف نشروه هكذا بسرعة، على الرغم من طول انقطاعه عن الكتابة، شعر بخليط من الدهشة، والفرحٍة، والزهو، والحزن، وفى نفس الوقت قال إنه لابد أن يشاركه أحدهم بشكل أو بآخر. عنوان المقال كان جديرا أن يحجبه عن النشر” إلغاء المدارس: احتمال مستقبلى وارد”، لكنه نشر، كيف تجرؤا على نشره، لابد من احترام هذه الصحف المسماة بالقومية، أحيانا تنشر آراء إبداعية ومعارضة أقوى من صحف المعارضة، وأكثر حدة من الصحف القبرصية الصفراء والحمراء على حد سواء، كان ممدوح موسى قد عرض عليه أن يشترك معهم فى إصدار صحيفة “المسار” ووافق من حيث المبدأ، لكنهم لم يرجعوا إليه أبدا، فوجئ بصدور “المسار” بعد ذلك بأشهر دون أن يخطره أحد. قيل رجال الأعمال، وقيل القذافى، وقيل صدام، وقيل الحريرى، بل المخابرات المصرية، كل هؤلاء مجتمعين أو من وراء بعضهم البعض يمولونها، يا سلام! وإلا فكيف ظلت تصدر دون إعلانات طول هذه المدة؟. نشروا له فيها عدة مقالات بأجر رمزى، وعندما أرسل لهم آخر مقال رفضوه دون إبداء أسباب، وحين اتصل بهم طلبوا منه أن يعمل لهم تحقيقات صحفية تصلح لإعادة النشر فى صحف الخليج، تحقيقات مدفوعة الأجر. كان الأجر مجزيا، لم يشعر أنهم رفضوا مقاله عن وراثة العروش الجمهورية، ولم يشعر أنهم يستهينون به أو يحطون من قدره، وهم يشيرون إلى حاجاتهم للتحقيقات الصحفية أكثر من المقالات السياسية، لكنه أيقن مبكرا أن هذا لم يعد مكانه، وحين أرسل للأهرام هذا المقال عن مستقبل المدارس لم يكن كتبه على أنه مقال، كان يفكر بحروف مكتوبة وهو يستعد لمشروعه الجديد، ثم قرأ ما كتب فوجده متماسكا، وقد يصلح للنشر، فأعاده ونقحه وأرسله ونسى الأمر حتى فوجئ به منشورا هذا الصباح. راح يفصص كتلة مشاعره المزدحمة فاكتشف أنه دهش أكثر منه فرح، دهشة مختلة بحزن جميل، يفرح بماذا؟. عاد يرجح أنهم نشروه لغرابته، وربما لغرابة عنوانه دون أن ينتبهوا إلى محتواه، أبعد سوء الظن. عاد ينظر للهاتف، أدار القرص، رن جرس الهاتف عدة مرات، وقبل أن يضع السماعة يأسا جاءه صوتها وكأنها مازالت نائمة، فوضع السماعة خجلا بسرعة. فقد اكتشف أنه ليس عنده ما يقوله لها، ثريا هى ثريا لا يريد أن يقلب أشجانهما فى هذه اللحظة بالذات. ثم إنه لو سألها هل قرأت مقاله فى “الأهرام” أم لا، وقالت لا، وهذا ما يتوقعه بعد عزوفها عن فتح صفحات تحصيل الحاصل، كما تسميها، فسيحبط إحباطا لا مبرر له، الأحسن أنه وضع السماعة. وهى سوف تسامح الطالب أيا كان.
إنه يعرفها.
طيب منال؟.
لا. منال لاتزال نائمة. هى لا تستيقظ إلا قرب الظهر!.
ما باليد حيلة.
-5-
جلس على الدكة الخشبية القديمة وهو فرح بعودته إليها، وطلب شايا فى خمسينة، أكد عليها ألا تعامله مثل أفنديات مصر، لقد جاء خصيصا من أجل هذه الخمسينة، سأل عن عبد المعطى عامل المزلقان، وردت عليه وردة بأنها ستناديه له؛ لأن القطار قد مر لتوه والقطار القادم لن يأتى قبل الظهر، لكنه أثناها عن عزمها، وذكرلها أنه يسأل عنه فقط، وأنه ليس متعجلا، وأنه لم يستطع أن يعمل شيئا بالنسبة إلى طلب نقل عبد المعطى، وعليه ألا يأمل فيه أكثر من ذلك حتى لا يعتمد عليه بشكل يؤجل احتمال طلب المساعدة من مصدر آخر.
ـ هل هو يرغب فى النقل بجد يا سعادة البيه؟.
ـ هو قال ذلك.
ـ الله يخيبه، لقد تعودنا عليه، جدع ابن حلال، كله شهامة ورجولة، وعيناه واسعتان وحاجباه ثقيلان.
لم يربط جلال بين تعود الحاجة وردة على وجود عبد المعطى بجوارها، وبين عينيه الواسعتين وحاجبيه الكثيفين، ثم راح يتذكر وجه عبد المعطى، فتأكد له أن هذه أهم ملامحه فعلا، وتساءل: كيف لم ينتبه إلى ذلك وحده، ولم يسألها؟.
راح يرشف الشاى الأسود من الخمسينة وهو يفرد ملحق “الأهرام” صفحة الثقافة أمام عينيه للمرة العشرين على الأقل، أليس هو كاتب المقال؟. ألم يقرأه عدة مرات قبل أن يرسله؟. ألم يقرأه هذا الصباح ثلاث مرات؟. إنه صحفى محترف، أو هكذا كان يعتقد. هذا ليس أول مقال ينشر له حتى فى الصحف القومية، كان مثل كاتب هاو مبتدئ يفاجأ بنشر اسمه فى صحيفة ما لأول مرة، ولم يكن فى المقال جديد تماما، كل ما هنالك أنه تمادى فى تصوير علاقات الناس بعضهم ببعض، بالذات الأطفال حين يتلقون كل احتياجاتهم من معلومات من الكمبيوتر وهم جالسون فى منازلهم حتى يوفروا المواصلات، والوقت، ويقللوا من تلوث البيئة، فتمادى فى تصوير عواطف هذا النشء حين يكبر. عصر التواصل أم عصر فصل الناس عن الناس؟. المذياع والمسجل الصغير على الأذن حل محل الحوار فى المقاهى والشوارع معا، ممارسة الجنس أصبحت أسهل بالهاتف أو بالإنترنت، تكتمل الصورة بالاستغناء عن المدارس والمدرسين، كيف ستتكون مشاعر البشر دون احتكاك البشر بالبشر لحما حيا؟. كيف تنمو أصواتهم؟. كيف سيتشكل وعيهم؟. راح المقال يشطح ويتصور ويتساءل، لـم يبك على الماضى، ولم يضع حلولا أكثر من التساؤلات، ومع ذلك نشرته صفحة الثقافة، وفى ملحق “الأهرام”، وببنط كبير نسبيا، حتى أنه لم يلاحظ مقال شيخ التربويين الأكبر والأشمل والأكثر تخصصا، وهو المقال الرئيس المنشور بحروف أصغر وسط الصفحة بجوار مقاله الذى يقع على جانب الصفحة، لكن حروفه، حروف مقاله أكبر، يا حلاوة!!.
حضر عبد المعطى بعد أن نادته الحاجة وردة، كان جلال قد قال لها خله فى حاله. فعلا عيناه واسعتان وحاجباه كثيفان، حياه عبد المعطى فى أدب متردد، وظل واقفا حتى أقسم عليه جلال أن يجلس وهو يعزمه على خمسينة، وافق عبد المعطى فى حياء كريم.
ـ كثر الله خيرك يا سعادة البيه، لقد قالت لى الحاجة كل شئ، ما عليك، لا تشغل بالك- كل شئ قسمة ونصيب.
لم يستطع أن يبقى وحيدا فى المنزل بعد أن قرأ المقال وغازل الهاتف دون أن يكمل، خرج مندفعا دون أن يحدد إلى أين، به شوق شديد أن يسمع رأى أحد فيما كتب، أى أحد، ليس يدرى ما الذى دفعه للتفكير فى عبد المعطى والحاجة وردة هكذا مرة واحدة. لا عبد المعطى يقرأ ولا الحاجة وردة لها دعوة، لكنه وجد نفسه متوجها إليهما، وبه شوق لمناقشتهما فى المقال. أى والله، والذى يحدث يحدث، المقال لم يفهمه هو شخصيا، حين قرأه منشورا، إلا بالكاد. كان على يقين من أنه يشطح فى تصوراته هذه. هذا لم يمنعه من الحضور والجلوس وشرب الشاى فى الخمسينة، مع دافع خفى أن يناقش وردة أو عبد المعطى فى المقال، ربما بعد أن يلخصه لهما.
ـ أنت لم تذهب للمدرسة طبعا يا عبد المعطى.
ـ لماذا؟ لقد ذهبت، ونصف.
هذه أول خيبة تلحق بظنونه، كان مرجحا أن عبد المعطى لم يذهب للمدرسة أصلا، وأنه لا يقرأ، ومع ذلك تصور أنه قرأ مقاله فى الأهرام. أليس عبد المعطى هذا هو الذى افترض جلال أنه يمثل النموذج البدائى للدورة التى تبدأ باللامدرسة، وتنتهى بالمعرفة الكلية، وهى تمر بخبرات طبيعية تنظيمية للدماغ من خلال نقاء اللغة وتوحدها، هذا الكلام الفارغ الشديد الأهمية، وهو كل شئ فى حياة جلال الآن، يحضره أحيانا كأنه ألف باء الحياة. يغيب عنه أن أحدا لا يفهمه، بل هو لا يعتنى أن يهتم به أحد أصلا. هاهو قد خاب ظنه، وهذا هو عبد المعطى قد ذهب إلى المدرسة، فـلعله ذهب ولم يدرس مثل كل عيال الفلاحين الذين يذهبون درءا للغرامة، وأحيانا للحصول على الوجبة. مازال هناك أمل فى إثبات فروضه.
ـ أعنى يا عبد المعطى أنك لا تحسن القراءة.
ـ لماذا يا سيدى “البيه”؟. أنا صحيح عامل مزلقان، لكن أنا ختمت القرآن، والدى لم يرض بهذا التعليم الخائب، فكان يرسلنا أنا وإخوتى إلى المدرسة بالنهار، وأذهب إلى بيت الشيخ عبد ربه بعد الظهر، نحفظ القرآن.
ـ هل مازلت تقرأ حتى الآن؟.
ـ أنا كنت أختم المصحف كل شهر مرة، وبعد ذلك اكتفيت بشهر رمضان، أنا أختمه ثلاث مرات فى رمضان.
ـ هل تقرأ شيئا غير المصحف يا عبد المعطى؟.
ـ يا سيدنا البك، من يقرأ المصحف، يقرأ كل شئ، المصحف باب القراءة، أنا أقرأ كل ما يقع فى يدى، أنا أقرأ أية ورقة تلف بها الحاجة وردة حزمة جرجير، أقرأ أية صحيفة تطير من صاحبها من أى قطار مار، كنت زمان أتأمل صفحة الوفيات وأحاول أن أربط بين العائلات. أحيانا أقرأ صفحة الإعلانات، الآن: اختلطت على الوفيات بالإعلانات، ألا يجوز يا سعادة البيه أن تشير هذه البراويز السوداء إلى أن قبور أصحابها مكيفة الهواء. يعملونها. أليس كذلك؟. أهو حرام يا سيدنا البك لو واحد غنى غنى، ولا غنى إلا الله، يوصى بأن يندفن فى قبر مكيف مثل حجرات النوم فى قطار الصعيد؟. ما هو أيضا لا يجوز أن يندفن واحد من الأكابر مثلما يدفن واحد مثل حالاتى، هم من حقهم أن يتكيفوا حتى على ما يأتيهم ملائكة الحساب. يا ترى هل حساب القبر صحيح مثلما يقولون وهو يسرى على الكل؟. أم فيه تأجيل للناس الكبراء على ما يأتى يوم القيامة يكونون قد شافوا لهم تصريفا؟.
ـ ماذا جرى يا عبد المعطى، أنت الذى ختمت القرآن تسألنى أنا هذه الأسئلة، بصفة ماذا بالله عليك؟.
ـ لامؤاخذة، ما هو ربنا لم يقل ما يرعبنا به مشايخ هذه الأيام يا سعادة الباشا.
ـ طيب يا أخى، نرجع للمسألة.
ـ هل هناك مسألة، ولامؤاخذة؟.
كانت الفكرة الغريبة مازالت تلح على جلال، وهو مستعد أن يقسم لأى مخلوق باستحالة وجود أدنى علاقة بين عبد المعطى وما كتبه ونشر هذا اليوم فى “الأهرام”، ومع ذلك لم يستطع إلا أن يواصل التوجه نحو المستحيل الذى جاء من أجله.
ـ يعنى تقرأ الصحف التى تقع فى يدك يا عبد المعطى؟.
ـ على ما قسم.
ـ هل تلاحظ التاريخ؟.
ـ تاريخ ماذا؟. لماذا؟. هل هناك فرق؟. كله مثل بعضه، لماذا أتعب نفسى وألاحظ التاريخ اسم الله على مقام حضرتك.
ـ طيب سامحنى فى هذا السؤال يا عبد المعطى، لكنى سأسأله برغم ذلك: هل قرأت “أهرام” اليوم؟.
ضحك عبد المعطى لأول مرة وهو يصفق بيديه، ثم فجأة كـتم الضحكة، وتلفت حوله بسرعة، واكتسى وجهه برعب أصفر، وانطلق بأقصى سرعة عدوا نحو المزلقان.
فوجئ جلال بهذا القطع المفاجئ حتى ظن أن قطارا قادما فعلا، وأن الحاجة وردة لم تكن تدرى مواعيد القطارات حين أخبرته أن القطار التالى لن يأتى قبل الظهر. هم من على الكرسى يتابع عبد المعطى، ويحاول أن ينصت لأى صوت صفير أو حركة راتبة، وهو يتطلع لأى احتمال قدوم قطار صامت حتى، لكن أبدا، فأفاق على صوت الحاجة وردة.
ـ شفت الغلبان … ؟؟.
ـ ماذا؟.
ـ الحالة جاءت له، ألم أقل لك إن القطار القادم لن يأتى قبل الظهر، أين نحن والظهر؟. وحياة النبى عبد المعطى هذا لن يأتى بها لبر، من يوم أن خيل إليه أن حادثا سيحدث وهو بهذا المنظر، تصدق وتآمن بالله يا سيدنا الأفندى إنى أعز الواد عبد المعطى معزة حاجة ثانية.
ـ بكم تكبرينه يا حاجة؟.
ـ أكبره؟. فشر!!. إياك فاكر أنى عجوز ماداموا ينادوننى بالحاجة، أنا حجيت مع عمتى وأنا عندى 13 سنة، كانت وحيدة، ولا مؤاخذة، لم تتزوج. ظلت تنتظر أن تتزوج حتى تجد كفيلا يصحبها فى الحج، وقد سمعت أنها عرضت على جارنا، أبو الحاج لطفى، الحاج عبد الغنى، عرضت عليه أن يتزوجها حتى تحج معه، ويطلقها إذا مارجعوا، لا أدرى إن كان هذا صحيحا أم أنها مسخرة، ناس بلدنا هؤلاء ملاعين، قالوا إنها عملتها حجة وحاجة، ناس أبالسة، لا يتركون أحدا فى حاله.
ـ تحبينه ياوردة؟.
ـ يا ماذا؟. يسلم فمك، والله زمان، يا وردة، قال حاجة قال !، هكذا تمام التمام، ماذا قلت؟.
ـ قلت ما سمعتيه.
ـ ألا انت من أين يا سيدنا الافندى؟.
ـ من مصر، يعنى لم تردى. تحبين عبد المعطى…….؟.
ـ أعزه طبعا، أعزه مثل عينى، رجل ولا كل الرجال، وعيناه “تقولان”، وحياة النبى عيناه تقولان، من غير أن ينطق ولا كلمة.
ـ يا عينى!!.
ـ عبد المعطى ليس مثله فى الرجال، طيب، وشهم، ويعرف ربنا.
ـ وهو؟.
ـ ماله؟.
ـ يعزك مثلما تعزينه.
ـ ..، يا سيدى، يا سيدنا الأفندى، ما هو عندك، ماتسأله، الله!!.
لم يحضر القطار، لا صفير، ولا صوت أصلا، ولم يغلق المزلقان ولم يعد عبد المعطى، قام جلال، ودفع الحساب، ودفع ضعف ما طلبت الحاجة وردة، لكنها أبت وأصرت ألا تأخذ إلا ما طلبت، وأن هذا الكلام عندكم فى مصر، إنما هنا الحق والمستحق، ومن أراد أن يحسن فبالمعقول، أحسن الناس تظن كذا أو كذا، وأضافت أنهم ناس أحرار، ودمهم حام، وكادت تصبح مشكلة.
دفع الحساب والوهبة الضئيلة، وانصرف.
-6-
اليوم الجمعة، والندوة الأسبوعية تعقد فى ميدان التحرير، والرجل الكبير منتظم كالساعة، وكل من يحضرها يقرأ “الأهرام” طبعا، وجلال غير منتظم فى هذه الندوة ولا فى غيرها، بل إنه لم يذهب هناك إلا عددا من المرات لا يزيد عن أصابع اليدين، صحيح أنه صحفى، وأنه يحب الرجل، وأن أغلب الحضور هم من معارفه، لكنه حين ذهب مرة ومرة أحس ـ دون أى اعتراض على أى تفصيل – أن المسألة ليست هكذا، أى مسألة وأى هكذا؟. ليس مهما، ولكن هذا ما أحس به، فما الذى جعل هذا الخاطر يخطر بباله هذا اليوم بالذات؟. ليس خافيا أنه يطمع أنه إذا ما ذهب، فقد يعلق أحدهم على المقال بكلمة تؤنسه وتشعره بجدوى، أو حتى لاجدوى، ما يكتب، هذا هو ما يحتاجه تحديدا، فى هذا اليوم بالذات.
قرر أن يذهب إليهم.
استيقظ من قيلولته فى الميعاد المناسب، الساعة السابعة، والرجل منضبط، والحضور يحضرون فى أى وقت، وينصرفون فى أى وقت، وسوف يجد تعليقا من هذا أوذاك يطمئنه.
يطمئنه على ماذا؟.
نزل بسرعة وهو ليس على موعد، لا يستطيع أن يخفى لهفته لسماع رأى أى واحد فيما كتب. كرر: “أى رأى”، أى واحد”. مازال عنده وقت. لم يجد تاكسيا، ولكنه سوف يذهب. هو لا يعرف مواصلة محددة تنقله إلى هناك، أو إلى القرب من هناك. كان قد اعتاد أن يقطع أغلب مثل هذه المسافات راجلا، والميكروباصات عددها زاد، وهو لا يعرف لها خطوطا معروفة، أو أرقاما تحفظ، المهم، ركب أحدها وسأل السائق واطمأن أنه سيذهب إلى الإسعاف، ثم يأخذها سيرا من الإسعاف إلى شارع سليمان، ثم يقابلهم، نزل أمام سينما ريفولى، وهو على شوق أن يذهب إليهم ويسمع آراءهم، وبدلا من أن ينحرف إلى شارع سليمان فى اتجاه سينما مترو ثم إلى هناك، وجد نفسه يتجه فى الاتجاه المعاكس نحو ميدان التوفيقية، لم يكن مخدرا، ولا مقررا، ولا رافضا، ولا ضجرا ولا شيئا من هذا كله، لكن هذا ما حدث، فاستجاب.
الساعة السابعة والزبائن” الذين هم” لم يحضروا بعد، وعم إدريس الذى رجع من إجازته يبتسم فتشرق أسنانه البيضاء، كالعادة، جلس على مائدة خالية فى ركن قصـى وحيا عم إدريس الذى أحضر له الجعة دون طلب، فطلب منه ألا يفتحها.
ـ خير يا أستاذ جلال!!.
ـ خير إن شاء الله.
ـ صائم أم ماذا؟. بدرى على رمضان.
لم يقبل الدعابة، وإن كان لم يرفضها، وحاول أن يثنى عم إدريس عن التمادى. سأله فجأة:
ـ أليس اليوم هو الجمعة؟.
نظر عم إدريس فى دهشة طيبة. ورد فى سخف غير مقصود، بدا لجلال متعمدا:
ـ .. بأمارة أن أمس كان الخميس، هل جئتنا مكتفيا يا جلال بك؟.
ـ وهل يبدو على ذلك؟.
ـ سؤال سعادتك عجيب حبتين. طبعا اليوم الجمعة، لماذا تسأل يا ترى؟.
ـ هل عندك “أهرام” اليوم؟.
ـ “أهرام” اليوم أم “أخبار اليوم”، ولا مؤاخذة، هل تعرف أنهما كانا من زبائننا؟.
ـ يا عم إدريس، أنا أسأل جادا: هل عندك “أهرام” عدد يوم الجمعة، والملحق؟.
ـ والملحق أيضا؟. لماذا، كفى الله الشر.
فجأة انتبه جلال إلى أن عم إدريس، كان -على غير عادتهـ ثقيل الظل، وأن سبب ذلك فى الأغلب هو نوع أسئلته هو، كما تذكر شطحة الصباح حين ذهب يبحث عن عبد المعطى والحاجة وردة وفى نيته أن يسألهما عن رأيهما فى المقال، وها هو يعدل عن الذهاب لرواد الندوة الذين ليس لهم عمل سوى القراءة، وبينه وبينهم عشر دقائق سيرا حثيثا،مع أنه كان على يقين أنهم سيفاتحونه فيما كتب، ثم هو يحضر إلى عم إدريس يسأله تلك الأسئلة التى أثارت سخافته، مع أنه، عم إدريس، عمره ما كان سخيفا، ولا يستطيع أن يكون كذلك.
بادر بالاعتذار، وطلب فتح الزجاجة، ونظر فى ساعته، مازال أمامه أكثر من ساعتين قبل أن تنتهى الندوة.
فكر أن يذهب إليهم على الرغم من كل شىء.
-7-
أخذ يستعرضهم واحدا واحدا ويتصور التعليقات المحتملة: عبد الغفار فريد سوف ينكر أصلا أنه قرأ المقال مع أنه قرأه، وأحمد محمود سوف يطيب خاطره بغض النظر عما جاء فى المقال، فهو يفعل ذلك لكل الناس، الذى يكتب فى مدح صدام حسين، والذى يشكر الرئيس مبارك على حكمته بعدم تعيين نائب له، أما أسعد رياض فسيحتج ـ بطيبة حقيقية ـ على أسلوب المقال، وربما يسأله ناصحا متى يكف عن التفلسف…، إنه يعرف ردود أفعالهم جميعا، وعلى الرغم من ذلك فهو لم يطفئ أملا فى أن يجد فى الندوة المفتوحة شخصا جديدا لا يعرفه، وبالذات أن يكون هذا الشخص شابة جامعية لم تتخرج بعد، تكتب قصصا تعتقد أنها صالحة للنشر، فتقول له رأيها فى المقال بصراحة. حين حضرته هذه الصورة، دفع الحساب واعتذر لعم إدريس ونقده النفحة المعتادة، دون زيادة، وانصرف متوجها إلى شارع سليمان باشا.
على الناصية، وأمام الأمريكين مباشرة سمع من ينادى عليه، فالتفت مندهشا فإذا به وجها لوجه أمام رامى فرغلى، وبعد الأحضان وقبلتى الوجنتين ـ تلك العادة الرجالية الجديدة غير المفهومة له ـ سأله جلال فى دهشة عن الندوة، ولماذا لم يذهب، فأخبره أنه انقطع عنها من سنين، وأنه انصرف إلى أموره العملية الخاصة، وأن عنده الآن مزرعة دواجن بياض شغلت وقته كله، وأنه تزوج وله ثلاثة أولاد أكبرهم فى ثانية ثانوى، وأنه ينوى أن يحج هذا العام، قال كل ذلك مرة واحدة فى وقت لم يستغرق أكثر من دقيقة، ربما، هكذا على الواقف، ثم أنهى حديثه وكأنه تذكر أنه يكلم صديقه القديم المزعج المتمرد، توقف فجأة، وتراجع بشكل به خليط من الاعتذار والاستئـذان فى الانصراف، وكأنه يعلن قرارا قديما اتخذه من زمن بقطع علاقتهما نهائيا، مع أنها مقطوعة أصلا.
ـ وأنت يا جلال كيف حالك؟. ما أخبارك؟.
بدا أنه تذكر أن المفروض، أو المتوقع على أقل تقدير، أن يسمع من صديقه (زميله) القديم مثلما قال عما حدث له فى سنوات الفراق، وهو ما ظهر من شكل سؤاله عن حاله وأخباره، لكنه بدلا من أن ينتظر الجواب إذا به يهجم عليه فجأة، ويقبله من الوجنتين بنفس حرارة اللقاء، ويستأذن صائحا.
ـ خلينا نشوفك.
انصرف رامى فرغلى مسرعا وكأنه حصل على حكم بالبراءة لم يكن يتوقعه.
على الرغم من أن المنظر لم يكن يحتاج إلى تفسير أكثر مما فسر نفسه، وعلى الرغم من أن رامى فرغلى بالذات لم يخطر على بال جلال لا بمناسبة ولا بدون مناسبة، مع أنه كان من أهم السبعينيين الذين كان ينظر إليهم جلال بإكبار؛ ربما بسبب التعذيب الذى سمع أن رامى عانى منه بشكل خاص، على الرغم من كل ذلك فإن اسمه لم يرد فى خياله بين أسماء من يمكن أن يقابلهم فى الندوة.
قبل أن يختفى رامى بعد الناصية، صاح به جلال،، وهو متأكد أنه لن يسمع، كان قد اختفى، ومع ذلك صاح جلال بأعلى صوت:
ـ هل قرأت مقالى اليوم فى “الأهرام” يا رامى؟.
* * *
الفصل الرابع
مصر الجديدة
راح يرد بصوت عال وهو يتلفت خشية أن يسمعه أحد، أو أملا فى أن يسمعه أحد، على شرط أن يصدقه.
قال: “نعم”، و “ليس الآن”، و “سوف نرى”، و “إلا قليلا”، و “كله يهون”، و أشكرك”، و “هذا هو”.
التفت أمين عبد الحكيم إلى يساره فجأة، ونظر فى الأرض فرآه وكأن الأرض انشقت ليظهر من جوفها. كانت رائحة المبيد ما زالت تملأ البيت كله، قام إليه بانتفاضة مقاتلـة، وداسه حتى فعصه تماما دون عمل.
حساب أنه ما زال فوق البساط. هو يعرف تماما ماذا سيترتب على ذلك من مشاكل عائلية، لا يمكن أن تنتهى بسلام.
بعدها مباشرة، وفجأة، جرى فزعا إلى حجرة النوم وهو يرتجف. دس رأسه تحت الغطاء (اللحاف) وضم ساقيه إلى جسده حتى لامست ركبتاه ذقنه، وراح فى سبات عميق.
-1-
يطل عليه فى نضارته الطازجة وهو يفسح له مكانا بين ثنيات سحابة شاهقة البياض، هشة الكثافة. هل هو كعادته فى طريق السويس يتأمل قرص الشمس المتسحب شروقا فى يقين مطرد فى بداية رحلته إلى دهب فى صباح شتوى منعش؟.. يتشكل المنظر فى ملامح بشرية دقيقة شديدة التناسق، فيفاجأ بأن ثم فرقا لم يكن يدركه من قبل بين العيون الزرق والعيون الخضر، هذه زرقة صافية تتلألأ فى رقة عميقة.
ألم جلال بكل ذلك فى هذا الجزء من الثانية حتى قبل أن يسأل عن أمين بك عبد الحكيم.، وقبل أن تجيبه بالإيجاب وتدعوه للدخول، ألم أن السحابة البيضاء لم تكن سوى هالة شفافة، أشبه بطرحة تحيط بهذا الحضور الجميل المقتحم فى حياء متردد يفسر تلك الحمرة المشتعـلة، هل هذا حجاب أم “إشارب”؟.. هل هو تدين أم لباس جديد صنع خصيصا لهذا الجمال، هكذا؟.. أراد أن يلتفت إليها بعد أن أدخلته إلى حجرة الاستقبال ليتمكن ثانية مما رأى لكنه تحرج حرجا شديدا، وهمس لنفسه:
- “عنده حق. أمين عبد الحكيم هذا: عنده حق”.
كاد يجزم أن هذه الحورية التى فتحت له هى حاضرة، وحارة، بما يكفى وزيادة، حارة أكثر مائة مرة من منال، وطازجة، وشهية، ياه، ما كل هذا؟. حاول أن يؤكد لنفسه ما جاء من أجله: زيارة عمل؟. لكن المؤكد أكثر أنه إذا كان أمين عبد الحكيم عنده حق فى كل شئ، فإنه ليس عنده أدنى حق فى مسألة منال، بما أن الأمر هكذا. كره نفسه وهو يعقد هذه المقارنة وكأنه أهان نفسه لا منال.
جالس هو فى الصالون غير المذهب، الدال على ذوق هادئ رقيق، ينتظر. المنزل أنيق جميل بسيط، فى مصر الجديدة الحقيقية قرب ميدان الإسماعيلية شارع دمياط [الإمام على سابقا]. راح يفكر مرغما فى الفرق بين الملائكة والحور العين، وهو يعلم ـ باسما ـ أن الملائكة ليسوا إناثا، ثم اتسعت ابتسامته، وليسوا ذكورا. هو لم يحب الملائكة حبا خاصا أبدا، بل إنه لم يشغل باله بدورهم أصلا، وكان يرى ـ حين يسمح لنفسه بالتفكير ـ أن الله يمكن أن يلقى بما شاء كيف شاء فى قلوب الناس مباشرة فما بالك بالأنبياء؟. لا شئ يحول دون ذلك، فلماذا المراسيل؟. له حكمه وحكمته، هم يقولون ذلك دائما ويريحون أنفسهم. وقبل أن يبعد هذه الأفكار القديمه قدم الطفولة، وقبل أن يستغفر تلقائيا دون إصرار، اقتحمته مرغما أفكاره القديمة فى مسألة الحور العين. هى من المسائل التى قرر بينه وبين نفسه ألا يعود إليها أبدا، انتبه أكثر واستغفر بذات الطريقة وهو يطرد ما تبقى من هذه الأفكار الصبيانية (هكذا يفضل أن يسميها برغم علمه بأنها لا صبيانية ولا حاجة). استطاع بجهد حقيقى أن يستبعد هذه الوساوس، ولكنه عجز عن أن يتخلص من نفوره من أن يمدح شخص ما بأنه ملاك، أو أن توصف سيدة جميلة بأنها حورية من الجنة.
لكن. ما هذا الذى يحيط برأسها هكذا؟. بديهى أن شعرها ذهبى، أو لعله ذهبى مائل إلى البياض الذى ليست له علاقة بالمشيب، أو لعله بنى فاتح جدا. لماذا تخفيه هكذا. إذا كان هذا حجابا، فهل جاءت من بلادها ـبلاد القوة والقدرة والتاريخ والعلم المعاصر والفن الأصيل والفكر الفحل- هل جاءت إلى مصر تتزوج من أمين عبد الحكيم، لتتحجب؟. هل ستأتى فرصة لكى يسألها؟.
انتبه إلى الأسئلة التى لم تخطر بباله، ترى ما اسمها؟.
ـ “فاتيما”.
هكذا عرفته بنفسها وهى تعتذر عن تأخر زوجها قليلا لأنه فى الحمام، قدمت نفسها إليه باسمها، وهى تجلس تضيفه حتى يحضر زوجها، فرح، وتعجب، وخجل وذكر اسمه كاملا مع ترجيحه أنها تعرف اسمه الأول الذى لا بد أن زوجها قد حدثها عنه وهو يخبرها عن موعد قدومه، قال:
ـ جلال غريب الأناضولى.
ـ هل أنت من أصل تركى، أظن أن هضبة الأناضول هذه فى تركيا، أو لعلها تشمل تركيا وبعض جوارها.
كانت تتكلم بالمصرية السلسة بإتقان عجيب، بحيث لا يكاد يتبين أصلها الألمانى إلا من دقق فى الرنين، أو لاحظ بعض الحروف.
ـ لا أعلم، والدى…
سكت فجأة فهو نادرا ما يتحدث عن والده، والده ماذا؟.
ـ والدك ماذا يا أستاذ جلال؟.
ـ والدى لم يذكر لى شيئا أصلا عن عائلته، بل إنه لم يذكر لى شيئا عن نفسه، لم يذكر لى شيئا عن أى شئ. والدى ..
(سكت فجأة وهو يخشى أن يعترف لها أنه ليس له والد برغم تداعيات اسمه الأناضولي).
كيف تحدث معها عن أبيه هكذا فجأة فى أول تعارف رسمى لا علاقة له بوالده، ثم كيف أنها ـ هكذا قال لنفسه فيما بعد ـ لم تندهش أصلا لهذه المصارحة غير المألوفة، أو على الأقل لم تظهر على وجهها علامات تدل على ذلك. أتاح له كل هذا الجديد الغريب فرصة التمادى سائلا:
ـ حضرتك، تتحدثين عن هضبة الأناضول بيقين الدارس المتخصص.
ـ هذه بديهيه جغرافية يا أستاذ جلال، ألست المدرس الذى سوف يدرس للأولاد.. أم أن الاسم اشتبه على؟.
ـ لا.. لست مدرسا، ولكننى قد أدرس للأولاد.
ـ لست مدرسا؟. إذن كيف تدرس للأولاد؟.
وجد نفسه على بعد خمسين ألف فرسخ من الإجابة، فسارع مدافعا.
ـ أنا لم أدرس بعد لأحد، وبوسعكم أن تستغنوا عنى قبل أن أبدأ، والأستاذ أمين يعرف كل شئ.
انتبهت فاتيما إلى أنها أحرجته، فتراجعت، واعتذرت، وازداد وجهها احمرارا وجمالا وإشراقا، هذا الوجه المشرب بهذه الحمرة وسط هذه الهالة البيضاء، يجمع بين قرص الشمس بعد اكتمال بزوغه مباشرة من الشرق، وبين استدارة القمر فى ليلة شتاء صافية تجلت فيها زرقة السماء بعد مطر طهرها مؤقتا من كل فضلات المدنية، هذا الكوكب الجدلى المصنوع من شمس مشرقة وقمر بدر دون حرف عطف، يطل عليه الآن فى تكامل فريد من بين ثنيات سحابة لم تكتمل إحاطتها به، فرح بخجلها الذى أشرق عليه هكذا، وزال حرجه، فتجرأ ليسألها، على الرغم من علمه بطباع الأجانب، إذا ما اقترب غريب من خصوصياتهم، ومع ذلك وجد فى نفسه الجرأة أن يسأل:
ـ وأنت؟. حضرتك…. يعنى. .؟.
ـ نعم؟.
تراجع من فوره عما كان ينوى قوله، وحول الكلام:
ـ حضرتك مشغولة، أنا يمكن أن أنتظر وحدى حتى يحضر الأستاذ أمين، حضرتك تستطيعين أن تقومى لشئونك، شكرا.
بذل جهدا مناسبا وهو يحاول أن يتجنب التفكير فى إجابات للأسئلة المتلاحقة التى خطرت بباله عن حجابها، وحضورها إلى مصر، بل عن زواجها من أمين، بل إن سؤالا أخطر خطر بباله حتى تصور أنه كان يمكن أن يقفز دون استئذان بين هذه الأسئلة، سؤالا عن مدى معرفتها بعلاقة أمين بمنال، بل كاد يسألها عن حرارتها الجنسية وكيف وهى جاهزة بهذا الشكل، ينظر زوجها أمين إلى غيرها؟. أى والله، كل ذلك اختفى وراء ادعاء الأدب الذى زعم به أنه لا يريد أن يعطلها عن شئونها وأولادها، ثم إنها أجنبية، وغاية علمه عنهن أنهن لا يجالسن غرباء هكذا لمجرد انتظار زوج بالحمام، مادام هؤلاء الغرباء ليسوا أصدقاء العائلة، لكنها ردت.
ـ أهكذا الأصول يا أستاذ جلال؟. لقد تركت ألمانيا برمتها حتى لا أتركك وحيدا، كما يترك كل الناس كل الناس بعضهم بعضا هناك، لقد جئت هنا لأجالسك حتى يحضر زوجى، نتحدث.
كاد يرد عليها”جئت مصر لتجالسينى أنا؟. هنا؟. هكذا؟. نتحدث؟. لكنه امتنع فى آخر لحظة، وغمغم.
ـ شكرا.
أردف وكأنه يكلم نفسه، أو لعله كان فعلا يكلم نفسه: “… فيم نتحدث، ونحن لا نعرف بعضنا البعض؟. هل أحدثك فى الجو مثلما الأمر عندكم، أم نتحدث كما هى الحال عندنا فنغتاب أصدقاء مشتركين لم يوجدوا بعد؟. هل أحدثك بما أتصور؟. أو بما تتوقعين؟. أو بما اعتدت؟.”
كل ما نطقه بعد هذه التساؤلات الصامتة هو أن أعاد الشكر:
ـ شكرا.. شكرا.
ردت وكأنها تقاطعه:
ـ على فكرة، قد يتأخر أمين أكثر مما تتوقع، فهو لم يتخلص من هذه العادة التى يسميها النظافة الواجبة وأسميها أنا الوسواس، أنت لا تعرفه، وليس عيبا أن أخبرك، لابد أن نتحدث فى أمر ما حتى يحضر. هذا من أجمل ما تعلمته منكم هنا.
ـ بصراحة أنا لا أتقن كثيرا واجبات الضيافة هذه. لم أكن زوجا تقليديا، لم تكن لى أسرة بالمعنى المألوف إلا لعدة أشهر.
ـ وحيد أنت؟..
ـ ليس تماما، لم أشعر بالوحدة الحقيقية إلا خلال تلك الأشهر التى أمضيتها فى عش الزوجية، لماذا أسموه “عشا”.
ـ ربما ليسهل تحطيمه.
ـ كذا …؟..
ـ يبدو أن هذا هو ما فعلته أنت، وبسرعة.
ـ ليس تماما، لم أفعلها وحدى، كان عشا هشا أصلا، ثم إننا قد اتفقنا نحن الاثنين على أن المسألة لن تنفع، فعلناها بشجاعة وبسرعة قبل أن نخسر بعضينا، وازددنا صداقة بعد ذلك.
ـ فعلتم مثلما نفعل عندنا، يا خسارة.
ـ خسارة ماذا؟.
ـ خسارة هدم عش لم يتكون، وأيضا خسارة أنكم لا تأخذون منا إلا ما لم يعد يصلح لنا، ولا لكم، ولا لأحد.
صمت وكأنه تمادى أكثر من اللازم، أو كأنها تمادت هى، وحاول أن يطرد أغنية مقتحمة “والنبى لا هشه يا العصفور، وأنكش له عشه، يا العصفور”
استسلامه مكنه من أن يعاود محاولة طرد الأغنية، مع أن أثرها ـ هكذاـ هو الذى جعله يتمادى:
ـ هل تسمحين أن أستفسر أكثر؟.
ـ طبعا، نحن فى مصر.
ـ نحن أين؟. آسف.
ـ … لسنا فى شتوتجارت.
ـ يبدو أنك تعرفين مصر أكثر منى.
ـ أنا أعرف مصر التى جئتها، ولكن يبدو أننى لا أعرف مصر التى وجدتها.
ـ وأى مصر تتوقعين منى أن أمثلها.
ـ أنا لا أعرفك بالقدر الذى يسمح لى، أنا دائمة البحث عن مصر، التى أحبها، مصر التى تسمح لك الآن أن تقترب دون استئذان.
أقترب؟ أقترب أنا دون استئذان، أقترب من قرص الشمس القمر؟. أحترق يا سيدتي!! أذوب، لم يقل ذلك لكنه التقط الضوء الأخضر:
ـ هل اسمك الأصلى هكذا “فاتيما”.
ـ نعم، فاتيما، أمى كانت عندها صديقة أسمتنى على اسمها، فاتيما اسم معروف، ألم تسمع عن سانت فاتيما. ميدان سانت فاتيما هنا فى مصر الجديدة.
ـ آه، صحيح، وهل هو ما يقابل فاطمة عندنا؟.
ـ لا أعرف، يبدو ذلك، على كل حال يظهر أن أمى كانت تستجيب لحدس ما ينبئها أن هذا الاسم يتفق مع مسار حياتى.
ـ ألم يخطر ببالك أن تغيريه إلى “فاطمة”؟.
ـ ولماذا؟. لو كان اسمى فرانسواز لاحتفظت به كما هو. إن تغيير الأسماء له دلالة قبيحة، وهو خطر على الهوية التى تكونت منذ الصغر.
زادت ربكته بدرجة لم يتوقعها وتمنى فى ثانية، إحدى ثلاث أمنيات، أو هن جميعا: أن يحضر أمين فى الحال، أو أن يصاب هو بالبكم، أو أن يقفز من النافذة. ومع ذلك أكمل فى اندفاعة مباغتة وهو يحدث نفسه “سوف أقول وما يحدث يحدث:”
ـ هل تغيير الاسم أخطر على الهوية من تغيير الدين؟.
ـ أنا لم أغير دينى يا أستاذ جلال.
”الآن حصحص الحق”: قفزت جملة ثقيلة من رأسه إلى مقعدته لتثبته على الكرسى حتى لا يقفز منه. هى مازالت على دينها، وهذا جائز، فى الإسلام، بل إن هذه الحقيقة كانت من ضمن الإضاءات التى أضاءت له جانبا من دينه حتى تمنى أن يجوز العكس أيضا. هى مازالت مسيحية، قالها لنفسه وهو يواصل المغامرة غير المحسوبة. هى التى تشجعه بكل الإشارات والتحولات.
ـ فلماذا هذا الحجاب؟. أليس حجابا؟.
ـ وهل تشعر أنه يحجبك عنى؟. أو يحجبنى عنك؟.
”أى امرأة هذه؟. سأل نفسه ـ وما السبيل إلى التراجع؟. وإلى متى تطول وساوس أمين فى الحمام؟. ثم انتبه ليجيب عن تساؤلها:
ـ يحجب؟. أبدا أبدا، لا أبدا.
هل يمنع السحاب قرص الشمس من مواصلة الشروق؟. أم يزيده طزاجة وجمالا؟.
(لم يقل ذلك).
ـ أنا أخذت ذلك القرار بنفسى على الرغم من أنه ليس سنة مؤكدة.
”الله أكبر” قفزت التكبيرة السرية هذه مثلما قفزت “حصحص الحق” لكنها لم تتثاقل إلى مقعدته، بل ثبتته فى السقف بسلك صلب خفى، “سنة مؤكدة؟. ” هذه الألمانية الأعجمية الجميلة تتكلم عن السنة المؤكدة؟. ما كل هذا الفقه يا حاجة؟. أنقذه من تماديه فى الدهشة التى ظهرت بوضوح على وجهه أنها استطردت دون توقف:
ـ الأمر بالحجاب كان لنساء النبى عليه الصلاة والسلام، وأمين ليس نبيا كما تعلم.
لا… لا.. لا… المسألة أكبر من تصوره، بل من قدرته على المتابعة، المفاجآت سريعة، ومتلاحقة وهو لم يستعد لها، مع أن عنده إجابات وإسهامات، بل اجتهادات، كم اضطر إلى مناقشتها ـ بلا لزوم ـ فى محافل لا فائدة من ارتيادها، إذن فقد أسلمت، فكيف قالت إنها لم تغير دينها؟. لم يجرؤ أن يسألها، ورجح أنه أساء السمع، فرك أذنيه واكتفى بالتعليق على الجملة الأخيرة وكأنه يمزح (وهو يطرد من ذهنه علاقة أمين بمنال).
- .. أعرف طبعا أنه ليس نبيا، أعنى أن أى أحد منا ليس نبيا، وهذه رحمة من الله، أليس كذلك؟.
ـ طبعا، من ذا الذى يقدر على هداية الناس هذه الأيام؟. الأنبياء نجحوا فى مهمتهم؛ لأن الناس كان عندهم اشتياق واستعداد لما أتوا به، فضلا عن أنه كان عند الناس وقت للاستماع لهم.
قال ساهما مستسلما:
ـ يبدو ذلك.
-2-
لولا أن دخل أمين فى هذه اللحظة فربما كان قد سألها عن مدى علمها بعلاقة أمين بمنال. تنهد حتى كاد يسمع زفيره، وكأن يدا انتشلته من متاهة أخذت تتشعب به مساراتها، حتى بدت كسيقان أخطبوط هلامى أصيب بسرطان شرس يفرز له ساقا كل ثانيتين. استأذنت بابتسامة أعذب فأعذب، وتركتهما يأخذان راحتهما، هكذا قالت باسمة وهى تنصرف.
ـ أهلا أستاذ جلال تأخرت عليك.
ـ أبدا.
ـ لعلك استأنست بفاتيما، تعرفتما طبعا، يقول أصدقائى إنها محدثة رائعة، بعضهم يقولون إنها مصرية أكثر منى، تصور أننى أكاد لا أعرفها كما يعرفها أصدقاؤنا المصريون.
ـ والأجانب؟.
ـ ليس لنا أصدقاء أجانب، إلا أقل القليل.
ـ هل لى أن أتطفل فأسأل لماذا؟.
ـ هى التى اختارت ذلك، حاولت أن أعرفها على كثير من الألمان الذين أتعامل معهم فلم ترحب، وهى تزعم أن الأجانب لا يعرفون الصداقة.
ـ يعنى نحن الذين نعرفها؟. هل أخفيت عنها ما آلت إليه حالنا؟. ألم تلاحظ ذلك بنفسها؟.
ـ لاحظت، لكنها تصر، وهى تزعم أن مصر التى جاءت إليها مازالت كما هى، ولكن أصحابها لم يعودوا يرونها كما ينبغى، وهى تتصور أنها تستطيع أن تسهم فى إنقاذها…
ـ إنقاذها؟. من أهلها؟. منا؟.
ـ .. ربما، وربما من أهلها هى، من الغرب الذى هربت منه.
ـ بصراحة، لست فاهما.
ـ بينى وبينك، ولا أنا!.
ـ لكنك قلت لى إن بنتكما عمرها 14 سنة.
ـ حصل.
ـ ومازلت لا تفهمها؟.
ـ نعم.
ـ عندك حق.
خطر ببال جلال أن يربط بين دهشة أمين عبد الحكيم الممتدة عبر خمسة عشر عاما بمقاله المنشور فى “الأهرام”، لكنه لم يجرؤ مستبعدا تماما أن يكون من قراء الملحق أصلا، فاستجاب لإغراء الحديث الدائر:
ـ هل تسمح لى يا أستاذ أمين أن أسأل أسئلة خاصة بعض الشئ، أعنى أسئلة قد تبدو خاصة، وهى ليست كذلك تماما، بل لعلها تتعلق بالمهمة التى جئت من أجلها، أعنى: التى تصورت أنه يمكننى القيام بها، بصراحة هى أسئلة تتعلق بك أنت والسيدة فاتيما، وهى قد تحدد معالم مهمتى، أعنى فكرتى، لا أقول مشروعى الآن.
ـ تحت أمرك، ولكن أذكرك أن فاتيما هى التى تحمست للفكرة حين نقلتها من منال إليها.
ـ… لكنها انزعجت حين عرفت أننى لست مدرسا محترفا.
ـ هل انزعجت؟.
ـ خيل إلى ذلك.
ـ لا أظن، لقد أفهمتها بوضوح أنك لست مدرسا محترفا، بل لعلى قلت لها إنك لست مدرسا أصلا، وإن كنت لا أذكر هل حددت لها مهنتك الأصلية أم لا؟. ألست صحفيا مازلت؟.
تمنى جلال أن يسأله ـ بالمناسبة ـ إن كان قد قرأ مقاله فى “الأهرام” أم لا، خجل وتردد، طبعا هو لم يقرأه مع أنه متعلق بالموضوع.
ـ أحمل بطاقة النقابة، وأكتب أحيانا.
ـ آه، صحيح، لقد قرأت مقالك الأخير فى “الأهرام”، وتصورت أن لقاءنا هو الذى أوحى لك به، وإن كنت لم أفهمه كله.
كاد جلال يقفز من الفرحة. أخيرا وجد من قرأ المقال، بل فاتحه فيه، كاد يكذب ـ مجاملة ـ ويدعى أنه استوحاه فعلا من لقائهما، لكنه تراجع.
ـ بصراحة أنا كتبته قبل أن ألقاك.
ـ ربما، لأن “منال” حين حدثتنى عن فكرتك، كانت بهذا الوضوح، لابد أن تكون قد كتبته قبلها، ولكن ألم تضف إليه أى شئ بعد مقابلتنا، مراجعة مثلا، تعديل.
ـ بصراحة: مقابلتنا فتحت لى باب التراجع لا المراجعة.
ـ تراجع عن الفكرة، أم تراجع عن الصفقة التى سوف نعقدها معا الآن؟.
ـ صفقة؟!!.
ـ لا تؤاخذنى فى كلمة الصفقة، حكم المهنة طول النهار والليل صفقات صفقات.
راح جلال يشرح له كيف أنه تراجع عن التراجع بعد أن قابل السيدة فاتيما، وأنه شعر أن من يترك وطنه من أجل فكرة ما، هو أشجع ممن يترك مهنته من أجل مهمة مثل ما ينوى، وأنه قرر أن يواصل مهمته ما أتاحوا له الفرصة لذلك، ثم انتبه أنه لم يقل حرفا من ذلك، انتبه على صوت أمين يقول:
ـ .. ما أوله شرط، آخره نور.
ـ تذكر يا أستاذ أمين أننى لم أعـد إلا بالإخلاص والتفانى والوضوح، وقد يفيدنى فى نجاح مهمتى أن أعرف المطلوب منى تحديدا.
ـ عندك حق، فما أطلبه أنا غير ما تحلم به أمهم.
ـ ماذا تطلب أنت أولا؟.
ـ أنا؟. ليس مهما ما أطلبه، إن كان على أنا: أرسل الأولاد ليتعلموا فى بلد أمهم، وأشترى لهم الجنسية الأمريكية، أو الكندية، أو ليتجنسوا بجنسية أمهم الأولى، ويا دار ما دخلك شر.
ـ.. فلماذا كل هذا التعب؟. وفيم نتكلم إذن؟.
ـ فكرة التكامل ومثل هذه الأشياء التى لا أفهم فيها كثيرا هى فكرة أمهم، بل إنها تقول إنها هى التى ربطتها بى، بمصر، وأنا على الرغم من عدم الفهم، وافقت عليها، بل ربما استحسنتها، بل إنى ضبطت نفسى أتفرج منتظرا نتائجها، ثم التقت أحلامها، أو قل طموحاتها بفكرتك، أو مشروعك، أو اقتراحك،، هذا كل ما فى الأمر.
ـ فما هى فكرتها؟..
ـ ألم تسألها؟.
ـ طبعا لا، ثم إنها قالت لى كلاما أربكنى، كلاما أنا السبب فى إثارته حتى أنى نادم.
ـ نادم على ماذا؟.
ـ لم يكن يصح أن أفتح موضوع الدين أصلا.
ـ آه، فهمت، لابد أنها قالت لك إنها لم تغير دينها.
قالها أمين ضاحكا وواصل.
ـ إنها تعتبر نفسها، ماذا أقول لك؟. شئ أشبه بما كنا نسمعه عن دين إبراهيم أو الحنيفية، هل سمعت عن مثل ذلك؟.
ـ …. ملة إبراهيم حنيفا.
ـ ولهذا فهى تعتبر أنها لم تغير دينها.
ـ ولكن، لا تؤاخذنى… لا… لا… آسف دعنا من كل هذا، إذن فهى مسلمة.
ـ أكثر منى ومنك.
- أكثر منى نعم، ولكنك…ما علينا، هل أتجرأ وأسأل المزيد حتى أعرف بعض التفاصيل التى قد تكون لازمة للتعرف على أية أرض أسير، إذا ما قمت بمهمتى للأولاد؟.
ـ أرجو أن تكون عندى إجابات تنفع.
ـ ربنا يستر.
ـ يا رجل توكل.
-3-
لم يعرف جلال كيف تجرأ وسأل عن كيف تعرفا، وكيف تزوجا، ولم يتصور أن أمين (بك) يمكن أن يحكى له كل ما حكى هكذا بأقل قدر من التردد، وهو يترجـح بين الاستمتاع وهو يحكى، والابتسام، والتعجب، وكأن الحكاية حدثت أول أمس، وليس منذ أكثر من خمسة عشر عاما.
قال له إنها ليست قصة حب بالمعنى الشائع، وإنه لم يتعرف عليها أثناء سفره للخارج كما هو مألوف. قال له إنه تعرف على فاتيما عن طريق طبيبة كانت تساعد والده، تذكر جلال ما حكته منال عن والد أمين، الطبيب النفسى المعروف، فتابع ما يحكيه أمين وهو ما زال يتعجب من أن ينتهى ابن الدكتور عبد الحكيم نور الدين إلى أن يكون تاجر سيارات، حتى لو كان بكل هذه الثقافة والرشاقة والتحضر، ولابد أنه سأله عن ذلك بشكل ما، ذلك أن أمينا قال.
ـ تاجر سيارات والحمد الله، جاءت سليمة، هربت بجلدى من سنة ثانية طب.
ـ آسف ….، ولكن! يعنى، هل وافق والدك على هذا التحول؟.
ـ رسبت ورسبت ورسبت حتى اضطر أن يوافق، كان هذا هو السبيل الوحيد لإقناعه، لم أكن أقصد، والتحقت بكلية التجارة.
توقف أمين عن الحكى، وتساءل بصوت مسموع عما استدرجهم إلى كل هذه التفاصيل، وما علاقة ذلك بما تقابلا بشأنه.
ـ هل ستكتب قصة أم ستبدأ دروسك للأولاد بتعريفهم كيف تزوج أبوهم أمهم، أو كيف تحول مسار أبيهم الدراسى؟.
لم تمنع هذه الجملة الاعتراضية من أن يمضى أمين فى سرد تفاصيل كيف أنه التقط هو ومساعدة والده، الدكتورة إصلاح خطط والده الخفية (ثم اعتذر عن أنه ذكر اسمها ولكنه عاد وبرر وأعلن أنه لا يذيع أسرارا)، وأردف أنهما ـ هو والدكتورة إصلاح ـ اكتشفا أن والده كان يخطط لزواجهما من بعضهما بشكل أو بآخر. وذلك بعد أن فشل أمين فى استكمال دراسته فى كلية الطب، وقد رجحت الدكتورة أن أستاذها يريد أن يعوض فشله فى أن يمتد فى ابنه، بأن يحول امتداداته إلى الزوجة التى يختارها له، وربما إلى أبنائهما، وكلام من هذا.
ـ شئ معقد لم أفهمه كثيرا، كلام صعب كان يحلو لوالدى وللدكتورة أن يتبادلا الاتهامات بمثل هذه اللغة.
أضاف أمين أنه كما ترك كلية الطب، تركت الدكتورة إصلاح والده ودارت 180 درجة هى الأخرى والتحقت بشركة للأدوية، وفتح الله عليها، وتوثقت علاقتهما، كمن يجد رفيقا له يهربان معا من ذات الخطر الذى يهددهما.
ـ خطر؟. أبوك كان خطرا؟.
ـ لست أدرى، لكن الدكتورة إصلاح كادت تتهمه بالجنون برغم أننى أقسم أنها كانت تحبه، ليس فقط كأستاذ لها ولا حتى كوالد، كانت تحبه فعلا، وربما لهذا تركته.
ـ وأنت؟.
حكى أمين أنه كان يحب والده، على الرغم من أنه كان غريب الأطوار، وافر الأحلام، مزعج الآراء، شديد التقلب، ورجح- بأدب- أن مهنة والده هى التى أفسدته.
ـ كان يريد لنا، منا، أنا وإخوتى وإصلاح وتلاميذه (كان كثيرا ما لا يميز بيننا) كان يريد منا، لنا، أن نكون غير الناس، أن نكون الناس الذين يتصورون أن ربنا قد خلقهم على شاكلته، على شاكلة أبى أو على شاكلة ربنا، لست أدرى. قالت لى إصلاح مرة ـ بعد أن تركته، أوبعد، أن رأته (هكذا تحب أن تقول) ـ إنه كان يريد أن نحقق له ما فشل هو فى تحقيقه.
ـ يبدو أنها لم تنس المهنة بعد أن تركته.
ـ الغريب أنها كانت تعرف تماما موقع شركات الأدوية التى هربت إليها من فكر والدى.
ـ لعله نفس موقع تجارة السيارات.
ـ بالضبط، أنا وهى عملنا عكس ما كان يريدنا أن نعمل تماما.
توقف أمين عن الحكى وكأنه يراجع نفسه، وتعجب مرة أخرى كيف استدرج إلى كل هذه التفاصيل، وعاد يسأل نفسه: هل حقا هناك علاقة بين المهمة التى جاء جلال من أجلها، وبين ما يحكيه؟. وكيف حكى كل ذلك لواحد لا يكاد يعرفه، مهما كان قد ارتاح له أو أحبه؟. ولماذا يشعر بالألفة هكذا مع هذا الشخص الغريب، القريب؟.
قرر أن يختصر: فذكر كيف عرفته الدكتورة إصلاح على فاتيما ابنة رئيس مجلس إدارة شركة الأدوية التى تعمل بها، وكيف أن هذا التعرف كان فى مناسبة مؤلمة، رائعة، غريبة.
ـ كانت مناسبة تأبين شقيق فاتيما الذى استشهد فى فلسطين.
ـ نعم؟.
ـ استشهد فى فلسطين.
ـ هل أسلم هو الآخر؟.
ـ وهل من الضرورى أن يسلم حتى يحارب مع الفلسطينيين ليحرروا أرضهم؟.
ـ تقول استشهد.
ـ نعم، ماذا فى ذلك؟.
ـ آه، صحيح ماذا فى ذلك؟. يحاربون معا، ويموتون معا، فلماذا لا يذهبون معا؟.
أكمل أمين:
- أعتقد أن الدكتورة إصلاح، تصورت أن فى هذا الزواج ما يؤكد مزيدا من البعد عن أفكار والدى. لكننى فوجئت أن أفكار فاتيما هى أقرب إلى أفكاره!!، أفكار والدى.
ـ ماذا؟.
ـ لعلى أخطأت التعبير، فوجئت أن أحلامها أقرب إلى أحلام والدى (“يعنى”!).
اقترب جلال أكثر، ليس من أمين، إنما منه هو، اقترب من حلم مشترك، هل يمكن أن تأتى واحدة من أقصى ألمانيا لتتزوج واحدا، من أقصى مصر (الجديدة)، لأنها تشارك أباه الذى لم تره أبدا حلما لا يقره ابنه الذى من ظهره، ومع ذلك تزوجها؟. ما هذا؟.. يقول أمين إنها؟. لم تكن قصة حب، كانت نوعا من الهرب اللذيذ إن صح التعبير السمج، لكن ما الذى جعل فاتيما تقبل نقيضها؟. هل رأت فى داخله أباه بحدس ما؟. صمت جلال صمتا طويلا نسبيا، وصمت أمين لنفس الوقت وكأنهما ـ فجأة ـ اتفقا على أن هذا يكفى. مع أن جلال راح يفكر فى الشبه بين جنونه وجنون هذا الدكتور وتلك المرأة القادمة من الشمال. هل تدور الدائرة نفس الدورة كل مرة، لماذا تتعقد المسائل بهذه الصورة؟.
قطع جلال الصمت متسائلا:
ـ وما الحل؟.
ـ حل ماذا؟.
فعلا. حل ماذا؟. انتبه جلال إلى أنه ليست هناك مسألة بذاتها يحاولان حلها، وأنه جاء يتعرف على الأولاد، أو يحدد الميعاد، أو يتفق على المهمة، ولم يجئ ليحل مشكلة الكون، أو ليعمل بحثا لمقارنة الشرق بالغرب، أو الأديان وبعضها، أو حتى منال بفاتيما.
استسهل جلال أن يهرب فى التساؤل الأول: إذا كانت فاتيما بكل هذا الحضور، والجمال، والإخلاص، والحيوية، والحرارة؟. مالذى يجعل “أمين” يرافق “منال” التى لا تفعل شيئا إلا أن تتفرج عليه فى الفراش؟ هل هذا هو السبب الذى يجعله لا يغار منه على منال، ولكن بأى صفة يغار؟ لعله – أمين- مازال يواصل الهرب من أبيه؟. من فاتيما التى تمثله بشكل ما.
قال جلال فجأة:
ـ نرجع إلى موضوعنا، لا أريد أن أعد سعادتك إلا بما أستطيع.
قالها جلال وهو يكاد يرجو أن تنتهى المقابلة بفض المسألة قبل أن تبدأ.
ـ بصراحة أنت صاحب الفكرة التى أفهمتنى منال أنها بالنسبة إليك محددة تماما.
(محددة ماذا ياعم، كان على منال أن تنبهك إلى ما تعرفه من جنونى).
أضاف أمين وقد بدأ يتململ:
ـ المسألة أن ثم وجه شبه بين ما وصلنى من فكرتك، وبين ما تردده زوجتى أحيانا بشأن مصر، والأولاد، ومستقبلهم فى العالم الواسع، وكلام كبير من هذا، فلا تحشرنى فى الموضوع أكثر من ذلك. لعلى أخطأت. مسألة تغيير الأطفال، وتغيير الكون، مسائل تبدو لى مضحكة، لقد اكتفيت شخصيا بالدعوة إلى تغيير السيارات كل عام.
لم يعقب جلال فمضى أمين متعجلا:
ـ أنا واضح تماما، وهذه هى أهدافى، ليست لى أية علاقة بما تطمع فيه زوجتى أو كان يطمع فيه والدى، أو ما تخطط له أنت، كل ما فى الأمر أننى أعرف كيف أوزع الأدوار لأتفرغ لدورى شخصيا. اعذرنى وسوف أناديها لك تكمل معها حتى أكمل ارتداء ملابسى.
الخوف الذى طرأ على جلال كان جديدا، كان كمن أفاق فجأة على أمر لم يكن واضحا بدرجة كافية، هذا الرجل، الأولاد، الحلم، مصر، ألمانيا. إيش أدخله هو فى كل هذا؟. لماذا صدقته منال؟.. لماذا قـبل أمين؟. من فاتيما هذه؟.
ماذا يريد هذا الرجل لأولاده؟. ماذا تريد هذه الخوجاية؟. ماذا يريد هو؟.. هل الأولاد لعبة؟. حقل تجارب؟. أى نموذج هو يسعى إلى تحقيقه معهم؟. مثل من سيكونون؟.
نطق الجملة الأخيرة بصوت مرتفع، كانت فاتيما قد حضرت دون أن يشعر.
ـ أريدهم أن يكونوا مثل أنفسهم.
ـ يعنى ماذا؟.
ـ لا أعرف، لقد تركت بلدى وجئت مصر لأعرف .
تعرف هى أو لا تعرف، هو ماله؟. ما الذى أتى به إلى هنا؟.
كيف تحدث إليه أمين وكأنه صديق قديم؟. هل تذكر أمين والده من خلال شئ ما فى مشروعه لتعليم الأطفال؟. ماذا قال هو بالضبط هل هو الشطح أم الخيبة البليغة؟. ليس يدرى، ربما كلاهما، يشك جلال أن”أمين” قد حكى أيا من هذا الذى حكاه له لأحد قبله، كان يحدث نفسه، خيل إلى جلال أن”أمين” هذا تجنب مثل هذا الحكى سنين كثيرة، ربما طول العمر، فما الذى جعله يحكيه هكذا لشخص لا يعرفه، ربما هو فعل ذلك؛ لأنه لا يعرفه. هل جلال هو الذى يعرفه؟. هل جلال يعرف جلالا؟. كان منذ قليل يسأل فاتيما عن أولادها تريدهم مثل من، وهو شخصيا؟..جلال نفسه، مثله مثل من؟.
صحفى وخاب، زوج فاشل، شخص مهزوز، لم ينجح فى أن يتخلص من إيمانه، ولا هو نجح فى أن يكتشف إيمانه، دروس ماذا وهباب ماذا؟. لا. لن يسمح لنفسه أن يضر أحدا، يقسم بالله أنه لن يضر أحدا، خصوصا الأطفال، لن يستطيع وحده أن يقاوم كل هؤلاء، الحكومة والنقود والناس والأشباح، والمشايخ والمثقفين والسبعينيين والثوار والتنويرين ومناديى السيارات. هل هو يستسهل؟ هل هو يضع همه وحلمه فى الأطفال المادة الخام التى لا تقاوم. كيف تصور أن تنظيم دماغ طفل أو عدة أطفال سوف يقف فى مواجهة كل ذلك؟. كان غيره أشطر. تشومسكى، جارودى أو حتى بيجوفتش. قال تدريس لغات قال!!؟. هل هذا هو الذى سوف يفك الشفره بين الإنسان والطبيعة؟.
الله يخيبه.
طيب، ماذا لو اكتشف أنه لو وصل إلى فك شفرة هذا الحوار فإنه سوف يجد نفسه متورطا فى إيمان ليس هو قدره، لم يستعد له، وحتى لو نجح فى أن يتقبله مضطرا مستسلما فرحا مرعوبا، فمن أين يأكل؟. مثل هذه الدروس الخصوصية لا تؤكل عيشا، وهو يحاول أن يقنع نفسه أنه مستعد أن يبيع نفسه بالقطعة لصحف الخليج، حتى يتمكن من دفع الإيجار، وفاتورة النور، وسداد بعض الأقساط المتبقية التى تورط فيها بسبب زواجه الفاشل، ولكنهم لا يشترون أمثاله.
ـ 4 ـ
مال أمين على أذن جلال وهو يودعه:
ـ سلم لى على منال إذا قابلتـها قبلى.
التفت جلال إليه دون انزعاج، ودون فهم، ورد.
ـ الله يسلمك.
وقبل أن يغلق أمين الباب استدار جلال إليه، وكأنه نسى أمرا مهما وسأله:
ـ قل لى: هل تزوجت الدكتورة؟.
دهش أمين، وتساءل:
ـ أية دكتورة؟.
ـ الدكتورة إصلاح.
قهقه أمين عاليا وسأله فى سرور باد:
ـ لماذا؟. هل تشاور عقلك؟.
ابتسم جلال، واعتذر، وعرق، وادعى المزاح، ونزل السلالم أربع.. أربع.
* * *
الفصل الخامس
أبو النمرس
كانت البقرة لاتهز رأسها لا يمينا ولا يسارا، لكن الجرس حول رقبتها صار يشخلل بما يكفى أن يثبت أنها تلف. الغما محبوك على العيون الواسعة التى يمكن آن ترى حتى وهى وراء الغما الذى تتسع مساحته أكبر بكثيرمن وظيفته.
نبح كلبُ نباحا قبيحا، فتوقفت البقرة عن السير، وتوقف الجرس عن الشخلله. فزع الرجل المكلف بالمهمة، كان على وشك أن يغطس فى نوم متسحب برغم الصداع المتزايد بلا سبب ظاهر. مد يده فى سيالته وأخرج قرصين “ريفو” وابتلعهما دون ماء فشرق، وسعل متواصلا حتى كاد يتقيأ.
أمسك الرجل بفرع شجرة جاف يستنقذ به، فطقطق الفرع ثم انكسر فكاد الرجل ينكفئ على وجهه وزاد فزعه رغم أن الذى حدث لم يكن نادرا (ولا حتى مفاجئا).
تلفت الرجل حوله وفزعه يتزايد وكأن خطرا جسيما أصبح يهدده من خارجه من كل ناحية. اندفع نحو الترعة وهو يلعن كل شئ، سب الدين.
ابتسمت الدكتورة مادلين التى كانت تتابع المنظر من خلال نافذة صيدليتها.
أنكرت كل ذلك بينها وبين نفسها، ثم عادت فقالت بصوت عال (لنفسها أيضا):
”يستاهل”.
-1-
لم يكن يعلم أن فى مصر هرما اسمه هرم ميدوم، بل إنه لم يكن يعرف أن مصر بها من الأهرامات عشرات، وقيل مئات، كانت معلوماته تقتصر على أهرامات الجيزة وهرم سقارة. قد يكون ذلك مرتبطا بعلاقته بالآثار عموما، وبآثار مصر خصوصا، بل ربما بالماضى كله. هو يخجل من إطالة النظر إلى ما يسمونه آثار قدماء المصريين، يغار، لا يجرؤ أن يتحدى، يقف عاجزا، فيصرف النظر، كأنه يريد أن يثبت لهؤلاء الناس، أو لنفسه أن الحاضر هو الشئ الوحيد الممكن. حاول أن يقنع نفسه مرارا بما يردده الناس عن عظمة الأجداد، الإتقان القديم، البحث عن الجذور، الحرص على الأصالة، كلام كله صحيح، لكنه لا يهمه، ليس من شأنه، كان ـ ومازال ـ يفضل النظر إلى الحجارة والرمل والطين التى لم يمسسها بشر، يخلق منها ما شاء كيف شاء. كانت منال قد عرفته بأخيها غير الشقيق: أنور إبراهيم الطيب الذى يمتلك كافتريا صغيرة فى دهب يسميها “الجامعة”. تعلم أنور من هذه الكافتريا – كما تقول منال – ما لم يتعلمه فى الجامعة التى هجرها غير آسف: يمتلك أنور عربة صغيرة يسميها الكتكوت المفترس، أطلق عليها هذا الاسم ليرد به على اسم آخر أطلقه الشارع المصرى عليها حين أسموها “قفا الصعيدى”، ماله قفا الصعيدى، ربما كان هكذا ليزن مخه العظيم، مثل مؤخرة المرأة الحامل التى تنمو إلى الخلف مع بروز البطن للأمام، حتى لا تقع الأم. هو يسافر مع أنور كلما دعاه إلى رفقة طريق، يحب هذه الرحلات المتباعدة، أرخص وأطيب. تتيح له حوارا مع أنور الذى هو صديقه بمعنى ما. جلال ليس له أصدقاء، اللهم إن كان هناك شئ اسمه: “صداقة تحت الطلب” (رميس)، كان يتحاور مع أنور ومع الطبيعة فى نفس واحد. أتقن أنور لغات أجنبية كثيرة أهمها العبرية، يحدثه فى الطريق عن مصر أخرى غير مصر قدماء المصريين، وغير مصر “حلم فاتيما”. حين تضيق بجلال الحال، وتتأخر دعوة أنور، يركب إليه أتوبيس منتصف الليل ليعيش هذا الحوار الحى بين الجبل والبحر. يتأمل أنور فى كافيتريته الصغيرة وهو يحادث اليهود والألمان والطليان وبعض الإنجليز أو الأمريكان، ليس متأكدا. يشعر أنه يتابع جلسات مناقشات منتجع الشعوب المتحدة، لا يملك أحدها دون الآخر حق الفيتو، يتعرف على بدو سيناء أعمق، يتعجب أن كل من يعيش هناك، بغض النظر عن موطنه الأصلى، يصبح مثلهم، هذه البداوة الذكية العارية مـعـدية، طعم الحـبـق على الشاى حاجة ثانية. أثناء جلوسه بجوار أنور فى السيارة، وبعد أن يكف أنور عن تساؤلاته وتفاؤله وإصراره، يصمتان فجأة وكأنهما اتفقا على ذلك. قد تمر ساعة كاملة فى هذا الصمت المفعم دون فتح مذياع السيارة أو سماع نوال الزغبى، أو فريد الأطرش أو كاظم الساهر، أو فايزة أحمد، يحدث ذلك عادة بعد الفشل فى التقاط محطة إذاعة غير عبرية وغير سعودية، يجلسان ليهمس الصمت بما يشاء، تغلب فترات الصمت هذه وهما وسط سلاسل الجبال التى يتحدى جلال أن يكون فيها سنتيمتر مربع مثل الآخر. هو لا يستقبل الجبال ليرصدها كما هى، يخلق منها ما تقول، تتشكل الآثار الحية كل مرة مختلفة: طريق الكباش، مسلات متجددة، أبو الهول، آباء كثيرة للهول، يا للهول، لم يحب يوسف وهبى إلا فى أدواره الكوميدية. تعاوده تساؤلات عن إيمان عبد الوارث عسر فى السكرتير الفنى”، يلح عليه شوق إلى هذا النوع من الإيمان السهل، ربما مثل إيمان عبد المعطى أو وردة، ربما هو نفس الشعور الذى يتجلى فى فترات الصمت بجوار أنور وسط الجبال، يروح يخلق من كل جبل هرما، ومن كل لون لوحة، ومن كل صخرة أثرا. سرعة السيارة الصغيرة تسمح له بإتقان التشكيل الذى يختلف حسب مسافة البعد عنه، كان يحب أن يغرى صديقه أنور بالمرور على سانت كاترين أثناء الذهاب أو الإياب، إلا أنه بعد أن شاهد ما آل إليه نخيل وادى فيران عدل تماما عن ذلك واكتفى بزيارة الشيخ الضرير فى وادى جنى فى دهب، كلما رضى “فرج” أن يصحبهما إليه.
هو الذى اختار أن يزور محمود عبد السلام شقيق ثريا فى هذا المكان الذى يعده محمود للانتقال إليه بعد أن أخذ إجازة مرضية طويلة تمهيدا لاستقالة يخطط لها، صعب أن تستقيل من الخدمة الرسمية فى البوليس، لم ينقذه من الأمن المركزى إلا انتدابه لمهمة البوسنة، وحين عاد ـ أيقن استحالة استمراره فى خدمة الحكومة، هذه الحكومة، أو أية حكومة. كلم أناسا كثيرين مهمين قدروا موقفه فى خدمته بالبوسنة، ووعدوه بالمساعدة. هذا بعض ما حكته له ثريا عن أخيها محمود مصادفة.
شجعته مكافأة خدمته فى البوسنة على أن يستقيل، ليستقل عن كل ما هو ليس كذلك، ليس ماذا؟ لم يحدد،لكن هذا هو ماخطر بباله. كانت المكافأة كبيرة تكاد تعادل كل ما حصل عليه طول مدة خدمته، الشهادة التى أعلت من شأنه وجعلته يأمل فى قبول استقالته، كانت بشأن دور صغير قام به هناك حين أغاث، بتلقائية مصرية عفوية، طفلا صربيا، فحال دونه والضياع أو الخطف، ظروف أقرب إلى المصادفة، لم يقصد، ولم يتمنظر، ولم يدع، ولم ينتظر مكافأة، كان طفلا خواجة مثل كل الأطفال. هذا ما سوف يحكيه محمود لجلال فى الزيارة الثانية بعد إلحاح، الطفل عمره ثلاث سنوات، كان الطفل يبكى بحرقة ويقول كلاما بالخواجاتى، ولم يخطر على بال محمود أصلا ـ أن يعرف هويته، صربيا كان أم مسلما أم كرواتيا. الطفل طفل، والخواجة خواجة، والمسلمون هناك كلهم خواجات، نفس العيون الزرق ونفس الشعر الأصفر، ونفس الطفولة الباكية المتلفتة الباحثة عن أهلها أو من يقوم مقامهم، فقام مقامهم. لا تحتاج هذه المسائل إلى اتفاقية دولية للتبنى المؤقت للأطفال، وهى لا تشترط السؤال عن انتماء الطفل ولا عن هوية أو دين من يستغيث فيغاث. يحكى محمود الحكاية دون زهو خاص، حتى أنه دهش لدهشة أهل الطفل من الصربيين لما اهتدوا إليهم من خلال حل رموز كتابة على “تعليقة” فى سلسلة حول عنق الطفل، لم يصدقا، كانا والدين : “خواجة وخواجاية” مثل أى “خواجة وخواجاية”، قالا كلاما كثيرا لم يفهمه محمود، وأخذا عنوانه، وسجلا أشياء يبدو أنها كانت عرفانا أو ندما أو اعتذارا عما تعمله الفئة التى ينتمون إليها. هذا ما أبلغه محمود لجلال فيما بعد دون تفاصيل. كان بوده لو أنه وصف له شعوره وهو ينام والطفل فى حضنه يبتسم ثم يقهقه وهو نائم، لا بد أنه كان يحلم. الابتسام لغة، والأحلام كذلك، لغة عالمية لا تحتاج إلى ترجمة. حصل محمود على تقدير لم يقصد إليه أصلا، وسجل الحادث فى ملفه، وقيد اسمه فى سجل شرف ما بالأمم المتحدة، وقد يكونون قد أرسلوا إلى رئاسته فى مصر خطاب شكر أو إشادة، هذا ما استنتجه حين قالوا له إن ما فعله فى البوسنة، مما شرف مصر، قد يكون هو شفيعه أن تقبل استقالته، ليتفرغ.
ـ تتفرغ لــ “ماذا” يا محمود؟..
ـ لهذا يا جلال. ستة أفدنة من أجود أراضى جـرزة، صحيح هى بور الآن، لكنها أرض الوادى، ومعاش ومكافأة، ودخل متواضع من نصيب فى صيدلية، ماذا يلزمنى غير ذلك؟. أريد أن أبتعد عن القاهرة، وعن الكذب، وعن الكفر وعن سرطان اللهاث نحو ما لا ندرى.
ـ أنت لست مزارعا أصلا يا محمود، والفلاحون صعب، فكر كثيرا قبل أن تستقيل.
ـ لقد فكرت ما فيه الكفاية، إما أن أستقيل، وإما أن أعود إلى البوسنة، حتى بشكل غير رسمى.
ـ تعود إلى أين؟. وهل البوسنة خالية من الكذب، ومن الكفر، ومن العفن، ومن اللزوجة، خصوصا بعد الاتفاقات “النصف كم”، والمعونات المشروطة سرا أو جهرا.
ـ لا أعرف، أنا فاهم تماما أن خبرتى هناك كانت لها ظروف خاصة، أنا أعرف أنهم أول ما يستقرون، ويتمرغون فى نقود المعونات، ويقبلون شروط الإعمار الظاهرة والخفية، سوف ينسون دروس الحرب على الجانبين، وسوف ينسون سلوبودان، وينسوننى، أعنى ينسون علاقتى بسلوبودان.
ــ يا خبر أسود، علاقتك بمن؟.
ـ بسلوبودان، هذا هو اسم الطفل الصربى، صديقى الذى حكيت لك عنه.
ـ اسمه سلوبودان ميلوسوفتش؟..
ـ ميلوسوفتش من يا جلال؟ سلوبودان يعنى سلوبودان، هو اسم مثل محمد أو أحمد أو فرج، ألا يوجد سلوبودان إلا وهو ميلوسوفتش.
ـ آه صحيح، كم قاتلا وقوادا ونصابا عندنا اسمهم محمد.
-2-
على الرغم من أن محمودا هو شقيق ثريا، وأن ثريا كانت زوجة جلال، إلا أن جلالا لم يعرف محمودا من قبل هكذا، حتى المرات القليلة التى جاء يزور أخته فيها كان جلال يتجنبه؛ ربما لأنه ضابط. جلال لم يحب الضباط أبدا. بل إنه يخاف من كل من هو ضابط، أو كالضابط، مرور، مباحث، جوازات، إمام وخطيب، أى ضابط. حين انفض الزواج (ربما قبل أن يبدأ) نسى أن لثريا أخا ضابطا، وحين عادت تذكـره بأخيها كان ذلك بمناسبة تواصل حديثهما الذى لم ينقطع أبدا عن مراجعة الإنكار واحتمالات العودة.
ـ عودة إلى أين يا ثريا؟. إلى من؟. نحن لا نعرف كيف نعود لبعضنا، وأنت تتكلمين عن العودة إليه، ألن تعقلى أبدا؟ وأين تركناه حتى نعود إليه؟.
ـ مازلت كما أنت ياجلال، عنيد حتى الغباء.
ـ أنت تضحكين على نفسك يا ثريا. أنا أتكلم جدّ، أريد أن أعرف محمودا لأعرفك أكثر، وربما أعرفه أعمق. أنا لم أقابله أبدا بصفته ضابطا، أنا أخاف الضباط كما تعلمين.
ـ اطمئن، يبدو ان الله سيتوب عليه؟.
ـ.. هل سيفصلونه بالسلامة لحسن السير والسلوك؟.
ـ هو الذى طلب ذلك، ألم أقل لك؟. هل نسيت؟. هو يقول إن رغبته تلك لها علاقة وثيقة بالموضوع ذاته.
ـ أى موضوع؟.
ـ موضوع ربنا، وأمريكا.
ـ وإيش أدخل أمريكا فى ربنا؟.
ـ لا يا شيخ ! تستعبط؟! محمود أيضا على يقين من أن أمريكا ضد ربنا.
ـ.. كنا نصر على أن روسيا وأخواتها هم الذين كانوا ضد ربنا.
- يبدو أنهم كلهم ضد ربنا؟.
ـ ونحن؟..
ـ إيش عرفنى.
رتبت ثريا بعد ذلك هذا اللقاء الذى اختار له أخوها أن يكون فى “الموقع”، كأنه معركة حربية. أو على الأقل لقاء تدريب على الذخيرة الحية.
قال له محمود بعد أن رحب به بطيبة لا تتناسب مع موقف جلال غير المعلن.
ـ إذن فالموضوع يهمك.
اعتدل جلال على المصطبة المتهدمة تحت العريشة التى كانا يجلسان عليها معا خارج الدار المتواضعة التى يعدها محمود لهجرته. رد جلال:
ـ لولا أنه يهمنى ما حضرت إليك هنا بالذات.
ـ إياك أن تكون على وشك عمل موضوع للنشر فى الصحافة، لقد أخبرتـنى ثريا أنك تفكر أنت أيضا فى ترك الصحافة.
ـ يعنى.
ـ يعنى ماذا؟. لماذا؟.
ـ يبدو أن الصحافة هى التى تركتنى. أصبح ما أكتبه لا يصلح لها، وما تنشره الصحافة لا يصلح لى.
ـ إن ما تنشره الصحافة لا يصلح لأحد على كل حال، ولكنى قرأت لك مؤخرا شيئا فى الأهرام، على ما أظن، عن التعليم أو عن المدارس أو عن اللا مدارس، لا أذكر، كان كلاما صعبا لكنه رن فى داخلي؛ ربما لأنه يتعلق باستقالتى المأمولة.
ـ هل قرأت المقال حقا؟.
ـ- نعم، ماذا يدهشك فى هذا؟.
ـ تصور أن أحدا لم يكلمنى عنه إلا صاحب معرض سيارات تعرفت عليه مؤخرا، كان آخر من أظن أنه يمكن أن يقرأه أو يعلق عليه. ذهبت إليه وأنا متصور أننى سأقابل أحد الأثرياء الجدد، وهو يضع كرشه أمامه، وسلسلة ذهبية تتدلى حوله، وإذا به شئ آخر، شخص آخر فعلا.
ـ شخص آخر، لمجرد أنه قرأ مقالك؟.
حكى جلال لمحمود عن سبب مقابلة أمين، وعن مشروعه وهو يزمع أن يترك الصحافة، وعن تصوره عن دور اللغة فى تشكيل الأطفال، ومصر، و… والدنيا.
ـ يا خبر، كنت أتصور أننى وحدى الـ… الـ…
ـ المجنون؟.
ـ هكذا يقول لى كل من أعرف حين أعرض عليهم مشاريع الاستقالة والزراعة.
راح كل منهما يحكى للآخر حتى نسيا سبب المقابلة إن كان لها سبب. تأكد محمود أنه لم يعرف جلالا أبدا قبل ذلك،، كذلك جلال راح يكتشف محمودا من جديد.
ـ لم تكن هكذا عندما تزوجت أختى. أنا لا أدعى معرفتى بك بما يكفى، لكن هذا ما،… لست أدرى ما…، ماذا…..، لم تكن هكذا على أية حال.
ـ أختك تقول عكس ذلك، وتؤكد أننى لا أتغير أبدا.
ـ ربما. هى تعرفك أكثر منى.
ـ وأنت أيضا لم تكن “هكذا” عندما خطبت أختك.
ـ لا أذكر أنك خطبت أختى. أنتما تروجتما. “هكذا” فقط.
صمت جلال فجأة، كذلك محمود، ويبدو أن أمرا واحدا كان يشغلهما كل بمنطقه الخاص، بدا أن الكلام يباعد بينهما.
ومع ذلك عاد محمود يسأل:
ـ لا تصعب على الأمور، ما مشروعك بالضبط؟.
ـ مشروعى متواضع.. وعملى، يعتمد على ترتيب مخ صغار التلاميذ من خلال تصحيح اللغة. بدون تنقيـة اللغة والتصالح مع جذورها، لا أمل فى الكبار،الأمل فى الأطفال، مستقبل البشرية.
ـ يا صلاة النبى! ما هذا الكلام الذى تقوله؟. تريد أن تصبح “مدرس لغات خصوصى” بدرجة نبى.
ـ إن ما جعلك يا محمود تضع ذيلك فى أسنانك وتأتى إلى هنا يجعلنى أتصور أنك أدرى بطبيعة ما أنوى أن أفعله.
ـ فى عز الحرب والإبادة والاغتصاب، ووسط اللهجات والأصوات المحيطة بنا هناك،فى البوسنه، تصورت أن لا يوجد حل إلا أن نبدأ من جديد.
ـ نبدأ ماذا؟.
ـ نبدأ أى شئ، وكل شئ، حتى لو كان مثل الذى تريد أن تفعله يا جلال بمشروعك الخائب. وربما مثل ما أورط نفسى فيه هنا. يبدوأنه وباء جديد، ادعاء النبوة دون إعلان.
ـ ربما!!.
مرة أخرى صمت كل من محمود وجلال وكأنهما اتفقا على ذلك، كاد جلال يلمح، أو يتصور ـ أن عينا محمود اغرورقتا، ففرك عينيه هو، وأحس ـ أو تصور ـ أن يديه ابتلتا من أثر مسح عينيه، أزاح وجهه بعيدا وراح ينظر فيما حوله من معالم بدائية. لا يوجد فى هذه الأرض ما يشير إلى أى احتمال معيشة أسرة، متوسطة، محترمة. العريشة التى يجلسون تحتها تكاد تنهار، والمصاطب متآكلة، لكن النخل عريق، نخلات متفرقة لكنها تبدو عملاقة، غير غابة النخيل فى “أبو النمرس”، وغير جذوع النخيل الخاوية فى وادى فيران.
ـ وهل تنوى الانتقال بأسرتك يا محمود إلى هنا إذا قبلوا استقالتك؟.
ـ طبعا،….، يا ليت!.
ـ طبعا شئ، ويا ليت شئ آخر.
ـ أنا مرتـبـك يا جلال، بصراحة لابد من حل.
ـ “ما لا نعرف” هو الحل.
لم يضحك أى منهما.
-3-
أثناء حديثهما عن كيف سيدبر محمود نفقات معيشته حكى محمود لجلال كيف أن صديقا أو “معرفة” لوالده عبد السلام المشد، باع لوالده نصيبا فى صيدلية، الثلث تقريبا، وذلك حين اضطر هذا الصديق أن يدبر مصاريف هجرة أولاده إلى كندا، وأن والده كتب هذا النصيب باسمه دون ثريا التى لم تتكلم فى حقها أبدا، لم يتوقف جلال وتذكر أن ثريا لم تعد زوجته. مضى محمود يوضح كيف أنه لم يتصور يوما أن هذا النصيب سوف يكون أحد مصادر رزقه التى تؤمنه وهو يغامر ليستقيل، وحين تطرق الحديث عن موقع الصيدلية، وأنها فى “أبو النمرس”، قفزت إلى جلال ذكريات يوم عيد ميلاده، أو مولده، فاقترح أن يكون لقاؤهما التالى أمام تلك الصيدلية ثم ينطلقا إلى حيث يتفقان بعيدا عن القاهرة وعن جرزه أيضا، كأنها أرض محايدة. أو لعل جلالا أراد أن يتأكد أن ما يقوله محمود ليس خيالا يطمئن به نفسه، أو لعله حن لانطباعات الطريق فى ذلك اليوم الطويل الخاص. الأمورعائمة وغامضة، وكل منهما يتهم الآخر (ظاهرا وباطنا) بالشطح، وكل منهما يأتنس بشطح الآخر فى ذات الوقت، ثم يتظاهر بأنه يحاول أن يعيد صاحبه إلى موقعه، وكأنه ينبه نفسه إلى موقعه هو بتحديد موقع أقدام الآخرعلى أرض الواقع.
تقع صيدلية “المحبة” قريبة من محطة الميكروباص أمام السور الشائه الذى بناه بناء يكره نفسه، تنفيذا لتعليمات رئيس مجلس مدينة يكره الناس. أثناء مرور الميكروباص الذى أقله إلى هنا، أطل جلال من النافذة فى محاولة أن يلمح عبد المعطى أو وردة أو بنتها. هو يريد أن يتزود من أى منهم بشئ يعينه على هذا اللقاء، لكنه لم يلمح أحدا منهم. وصل إلى الصيدلية قبل الموعد بأكثر من نصف ساعة، الصيدلية مفتوحة نصف فتحة، “الصبى الرجل” يكنس أمامها بكسل لا يتفق مع نسائم الصباح المنعشة التى لم تتراجع أمام القبح الفج.
دخل جلال إلى الصيدلية ولم يجد أحدا. فأخذ يتلفت حوله ليتأكد من أن الأرفف مليئة بما تمتلئ به، نظر إلى الطاولة ذات السطح الزجاجى والحوامل واقفة على بعض أطرافها، وفيها كل ما ليست له علاقة بالطب والدواء: أمواس حلاقة، مناديل ورقية، روائح عطرية، لم يعد هناك فرق بين صيدلية وسوبر ماركت، ومحطة بنزين، كله على كله، اطمأن إلى أن نصيب محمود فى هذه الصيدلية -إن صح كلامه- يمكن أن يكفيه هو وأولاده حين تنهار أحلامه فى مشاريع جرزة الوهمية. ما له هو؟. ما رآه فى فدادين محمود الستة لا يبشر بخير، صحيح أن معاش أى صف ضابط أكبر من مرتب وكيل وزارة، لكن الأسعار تقفز كل يوم، والأولاد يكبرون – فجأة تذكر جلال ثريا وتساءل: هل تعرف شيئا عن نصيبها؟. وهل هناك نصيب أصلا؟. ثم ذكر نفسه بخجل شديد، ورفض كذلك، أنها لم تعد زوجته- ثم إن ثريا لم تكلمه أبدا فى شأن هذه الصيدلية. هو ماله؟. عجيبة،!!! منذ متى تشغله هذه المسائل!!.
خرجت الموظفة، أو الدكتورة أوالمديرة، لا يدرى، من وراء باب داخلى صغير. سمراء، نصف جميلة (وليست نصف قبيحة)، يرتسم على وجهها مشروع ابتسامة جاهزة للتشكل حسب تعبير وجه الزبون، وربما نوع ثقافته، أو برج مولده، أو موطنه الأصلى. حياها فى تردد ولم يسأل عن محمود عبد السلام المشد، لا يبدو أن هناك أية علاقة بين هذه السيدة وبين نصيب محمود المزعوم فى هذه الصيدلية، طلب شريط ريفو، فأحضرته بابتسامة تتناسب مع تفاهة الطلب، شكرها، ودفع، وخرج.
كان “الصبى الرجل” قد أنهى مهمته خارج الصيدلية. نظر جلال فى الساعة فوجدها التاسعة وعشرين دقيقة. الميعاد الساعة التاسعة، ما الحكاية؟. نظر إليه الصبى الرجل. خيل إليه أن السيدة الدكتورة فى الداخل تتابع خطواته على الرغم من أنه بعيد عن مجال بصرها، يبدو أنها تشك أنه من مباحث التموين، أو ربما من رجال الضرائب أو مفتشى مكتب العمل. عندها حق، ما الذى جاء به فى هذه الساعة المبكرة ليطلب شريط ريفو؟. اتجه ناحية شبرامنت خوفا من أنه لو اتجه الناحية الأخرى فقد تجرجره قدماه إلى المزلقان حيث وردة وعبد المعطى.
التفت يسارا فجأة نحو مشهد قفز مقتحما وعيه: طفل حول العاشرة، رث الثياب، يضع ذيله فى أسنانه ويجرى بأقصى سرعة، ثم رجل حول الأربعين يلاحقه مع الاحتفاظ بالمسافة، ربما قصدا، حتى لا يلحق به ـ يعبر الطفل الكوبرى الصغير المتهدم جانبه، والرجل يصيح به ويلعنه – يبدو أنه أبوه.
ـ والله لأوريك يا ابن الكلب.
سمع صوت موتور”الموتوسيكل” الحكومى وهو يتصاعد، يمتطيه أمين شرطة متحفز مستعد (لشئ ما)، وهو يتجه نحو الرجل وابنه (ربما هو ابنه فعلا) وكأنه يتابعهما، خيل إليه أن صوت الأمين جاءه وسط ضجيج مركبته يهدد أحدهم:
ـ عندك يا بن الشـر….، لم يسمع جلال بقية الكلمة، لكن الموتوسيكل تجاوز كلا من الاب وابنه بسرعة فائقة:
”مـن يـورى مـن: ماذا؟”.
لماذا تأخر محمود؟. ولماذا يأتى أصلا؟. ولماذا هذا الميعاد هنا هذا الصباح؟. هل كان جلال ينوى أن يحاول أن يثنيه عن الاستقالة؟. بأية صفة؟. زوج أخته؟. هو عمره ما كانت له زوجة حتى يكون لها أخ يشعر إزاءه بهذه المسئولية، مسؤول بصفة ماذا؟. هو يقاربه فى العمر، ثم إن أخت محمود هذه لم تعد زوجته، أصبحت أقرب من الزوجة وأبعد من الحبيبة. ثم إنه أصبح يشك فى كل ما هو زواج، يبدو أنها إشاعة لا أكثر، هل فاتيما زوجة أمين؟ منال أنصحهن، ترافق من تشاء اتقاء للزواج، فلا هى ترافق ولا هى تتزوج، ولا هو يكف عن حبها، ولا هى. كل البيوت فى هذه المدينة داخلها زوجات وأزواج يعيشون فى التبات والنبات وينجبون صبيانا وبنات. السبعينيون أيضا يتزوجون ويتطلقون. حين خـيروا بين الحرية والقهر اختاروا الحرية، ثم انتهى الأمر إلى أنهم استعملوها -الحرية- ليقهروا أنفسهم بمعرفتهم، وجدوا أنفسهم – بكامل اختيارهم- فى سجن القهر الدكر، فهل من مدكـر؟. من أين تأتيه هذه الآيات دون استدعاء؟. كان عمه سليمان يقرأ القرآن يوميا بصوت جميل فى هدوء رائق، كان لا يكثر، وكانت أمه يشرق وجهها دون أن تفهم حرفا، ويبدو أنه قد وصلته هذه الاستشهادات القرآنية التى ترد إليه هكذا من ذاكرة كانت تلتقط ما تريد من وراء ظهره، يبدو أن أعمق ما تعلمه كان من عمه سليمان، فى سنواته الأولى جدا، حين كان يحتويه فى عباءته وهو يقرأ القرآن.
نظر فى الساعة فوجدها تقترب من العاشرة، ليس ممكنا هذا، لابد أن يخرج من المشوار بشئ ما. عاد إلى الصيدلية، تردد قبل أن يدخل ثانية، عرف أن الدكتورة سوف تشك فيه هذه المرة أضعافا مضاعفة، ولكنه لم يملك لرغبته دفعا، ثم من أدراه؟. ألا يجوز أن يكون محمود قد حضر أثناء تمشيته على شاطئ الترعة، همهم بصوت خافت:
ـ ألم يحضر محمود عبد السلام؟. ألم يسأل عنى؟.
فوجئت السيدة (ربما الآنسة) الدكتورة (فى الأغلب) بسؤاله هذا الذى قفز منه بصوت مرتفع. التفتت إليه حتى واجهته وقد أخذت حذرها الناحية الأخرى.
ـ خيرا، ماذا تقول يا سيدى، هل تخاطبنى؟. هل نسيت شيئا حضرتك؟.
ـ لا.. أبدا، أردت فقط أن أسأل عن صديق كان مواعدنى على اللقاء هنا.
ـ صديق؟.. هنا؟. بصفة ماذا ولا مؤاخذة؟.
ـ آسف، لا بد أن أكون أكثر وضوحا. المسألة أن لى صديقا زعم أنه يملك نصيبا ما فى هذه الصيدلية، وهو على وشك عمل مشروع ما، فتواعدنا على اللقاء هنا، مجرد مكان يمكن التعرف عليه.
ـ سيدى، يبدو أنك رجل طيب، إياك أن تكون قد وقعت فى يد محتال يريد أن يبيع لك الترام!!.
ـ ترام ماذا، إنه قريبى، أعنى كان قريبى، وأنا مشغول عليه.
ـ كان قريبك !! وهل للقرابة عمر افتراضى؟ ثم إنى لا أريد أن أتدخل فى شئونك الخاصة، وليس عندى مانع أن أخبرك ما أعرف، أنا أشم رائحة خدعة، بل اسمح لى، أنا أشعر أن فى الجو جريمة نصب، احتمال يعنى.
ـ لا..لا.. لا.. أبدا.
ـ هل أنت متأكد أنه قال لك إن هذه الصيدلية، صيدلية المحبة، له فيها نصيب.
ـ طبعا، وهو الذى أعطانى العنوان.
- يا سيدى هذه صيدلية خالى مائة فى المائة.
توقف وتردد وتراجع وقرر أن يغير الموضوع حرجا أوهربا أو بدون سبب، وطلب باستيلية للسعال فأعطته إياها وهى مازالت ترفع حاجبيها محذرة. بدأ العرق يتسحب إلى مسام جلده دون أن يظهر، ما هذه الورطة التى أوقعه فيها محمود هذا الصباح دون أن يحضر؟. ماله هو واستقالته؟ يريد أن يطمئن عليه؟ هل هذا كلام؟. مـن الأولى بالاطمئنان على الآخر؟. إن حالته ألعن من حالة محمود ألف مرة، لا يستبعد فعلا أن يكون قد تقمصه لدرجة أنه يريد أن يرى مخاطر مشروعه هو، مشروع الدروس الخصوصية، من خلال التيقن من شطح المشروع الآخر، مشروع الهرب إلى جـرزة. وما دخل هذه الدكتورة التى راحت تفهمه بوضوح وتكرار كيف أن الصيدلية ملك خالص لخالها، وتحذره من احتمال تعرضه لعملية نصب كبيرة؟ لم يساوره الشك فى كلام محمود، ومع ذلك سأل وهو يغادر:
- إذن فهذه الصيدلية هى ملك خالك وحده؟.
ـ مائة فى المائة.
ـ دون شريك؟.
- هذا ما أعرفه تماما.
تطوعت الدكتورة، ربما من باب الشفقة، فشرحت له – بإيجاز – كيف أن خالها لم يقرر الهجرة إلى أولاده بعد، وهو لا ينوى بيع الصيدلية، وأن عليه، على جلال، أن يحذر حيث أن خالها مسافر مؤقتا ليرى أولاده فى كندا، وهو على وشك الرجوع، نصحته إذا كانت المسألة تتعلق باحتمال النصب والاحتيال، أن يتصل بمحامى خالها الأستاذ شريف قلتة بشبرا، فهو أدرى بهذه المواضيع حتى من خالها.
تمتم دون اهتمام:
-… ربنا يستر.
شكرها، واعتذر، وشكرها واعتذر، لكنها أصرت أن تقدم له بطاقة باسم الصيدلية والمدير “الدكتورة : مادلين رياض”، ثم بطاقة أخرى عليها اسم وعنوان محامى خالها، ثم كتبت عليها عنوان خالها أيضا. وضع البطاقتين فى جيبه دون أن ينظر فى أى منها، وانصرف مندفعا إلى خارج الصيدلية.
تلفت يمينا ويسارا، نظر فى ساعته، بدا أن الشارع قد امتلأ حركة ودخانا وصياحا وقطرانا، ثم أضيفت إليه جرعات جسيمة من قذارة غير متميزة، الناس – أيضا- غير متميزين. تماوجت حركة متداخلة من الحمير والبغال والخيول والعربات الكارو، والسيارات النصف نقل، والميكروباص، وبعض الملاكى العابرة بسرعة دون اعتبار للمارة. لم يظهر أى أثر لمحمود عبد السلام.
راح جلال يفكر أن يعوض المقلب الذى أخذه هذا الصباح بأن يمر على أصدقاء المزلقان، ولابد أنه سيجد أحدهم، عبدالمعطى، أو وردة، أو حتى بنتها – كان يأمل أن يخففوا عنه بعض ما هو فيه من إحباط وحيرة، يريد أن يراهم، لكنه يخشى أن يسأله عبد المعطى عن مسألة النقل، كما يخشى أن تكتشف وردة، بحدسها المخترق، إحباطه، وحيرته، وخيبته البليغة.
الأفضل أن يختبئ من الجميع.
أخذ يتذكر هل ذكر له محمود عبد السلام اسم معرفة والده الذى باع له ثلث الصيدلية أم لا، ماذا يفيد الاسم، هل ستفرق؟. هل هناك سر غامض يربط بين هؤلاء الناس بخيوط خفية، حاول أن يتذكر أكثر فخيل إليه أن اسمه غالى، هل ذكره محمود، أو لعل الدكتورة مادلين هى التى ذكرته، أو لعلها كانت تقول خالى، وهو سمعها غالى..، إذن ماذا؟. لا شئ.
التقط صوت مناد ينادى:
ـ واحد جيزة، واحد، واحد ميدان الجيزة، فاضل واحد.
طلع إلى الميكروباص مطمئنا أنه سوف يقوم فى التو، وجده خاليا تماما، قرأ المنادى أفكاره، فطمأنه، أنه سيمتلئ حالا، وعزم عليه ـ أمريكانى – بواحد شاى.
وجد نفسه مرتاحا لعدم حضور محمود عبد السلام من أصله.
لم يكن عنده جديد يقوله له. وإن كان عنده، فليقله لنفسه.
ويعقل.
أو يتلهى على عينه..
* * *
الفصل السادس
وادى النطرون
كان صوت البومة يأتى من بعيد وهى قابعة فوق فرع من فروع شجرة تساقطت كل أوراقها بلا استثناء.
لم تعرف ثريا لماذا قررت أنه صوت بومة وهى التى لم تسمع من قبل أى صوت لأى بومة، بل إنها لم تر فى حياتها بومة إلا فى الصور. قدرت ثريا أن البومة بعيدة تماما، أو لعلها رغبت أن تكون كذلك.
راحت ثريا تتأمل الصمغ الملتصق ببعض ثنيات جذع الشجرة كأنه ديدان من بللور تتغير ألوانه حسب زاوية الرؤية. خافت أن تمد يدها لتتأكد، توجست آن أحدا وضع لها فيروسات مجهولة تستطيع اختراق أسرار وجودها حتى النخاع.
كانت قد سبق أن قررت بشكل حاسم ألاتسمع نصيحةالأطباء أصلا بشأن العملية التى أجمعوا على ضرورتها، وإلا …..
ـ 1ـ
راح يعبث بأزرار جهاز التحكم عن بعد (الريموت) وهو يبتسم فى ألفة ليست جديدة عليه فى المدة الأخيرة على الرغم من كل شئ، من كل شئ.كان قد اشترى هذا “الطبق” (الدش) المتوسط أيام أن كان صحفيا نشطا لزوم تتبع الأخبار فى قنواتها المتعددة، خصوصا القناة المسماة “الجزيرة”. هو لا يملك ثمنه، وليس عنده الوقت للتمتع بالتجوال حول العالم مسحوبا بهذه التفاهات المتنوعة. كان قد اضطر لشرائه للقيام بمهمة مجزية، كانت الصحيفة التى يتعامل معها بالقطعة قد كلفته أن يعمل دراسة مقارنة بين قناة الأخبار العربية، وقناة الجزيرة القطرية، والفضائية المصرية والـCNN. أحب هذه المهمة، وهو نادرا ما يحب عملا له عائد كبير هكذا مما سمح له أن يقتنى طبقا. انتهت المهمة بنجاح، وخرج منها وقد كسب الطبق وخسر المهنة. تعرت أمامه حتى باخت.
كان فى البداية يجتهد للبحث عن القنوات، أما الآن فهو يحذق الهرب منها. كانت ثريا قد أبلغته باعتذار محمود الذى طرأ له طارئ ذلك الصباح لم يسمح له حتى أن يرسل اعتذاره ولو هاتفيا فى الوقت المناسب، قبل جلال العذر بينه وبين نفسه، لكنه تعجب لماذا لم يعتذر محمود له مباشرة، لماذا أبلغ ثريا اعتذاره دونه مع أنه يعرف رقم هاتفه، كما أن ثريا لم تعد زوجته مع أنها ظلت أخته. برغم هذه التساؤلات فقد وجد جلال فى نفسه عزوفا عن أن يتصل هو به ليجد الإجابات، لن تفرق .
أخذ يرتب أوراق حافظته، فوجد بطاقة الأستاذ شريف قلتة المحامى، وبطاقة الصيدلية، واسم الصيدلانية مادلين رياض، الشهيرة بالدكتورة مادلين، وعلى الجانب الآخر من بطاقة المحامى وجد اسما آخر مكتوبا بخط اليد، هو فعلا ما خطر غامضا بباله حتى أنكره، “غالى جوهر”، ياه! كيف لم ينتبه، لم شك أنه سمع الاسم؟. لقد ذكرت له الدكتورة الاسم كاملا، محمود لم يذكر إلا الاسم الأول، أيكون هو عمنا اليسارى التقدمى ذو التاريخ. ربما. لكن الدكتورة ذكرت الاسم بوضوح، بل كتبته فى ظهر البطاقة. لم يلاحظ إلا اسم المحامى على وجه البطاقة، بل إنها أضافت العنوان أيضا. يا ترى هل هذا هو عنوان منزل المحامى، أم عنوان خالها ذى الاسم الشبيه باسم أستاذه. 128 الترعة البولاقية شبرا. تشابه أسماء فى الأغلب؟. ما علاقة هذا المفكر الرائد الجميل بهذه الصيدلة وتلك الصيدلانية؟. ثم إيش عرفه بحماه السابق عبد السلام المشد؟. هذا فى واد وذاك فى واد. ثم إنه يذكر أن الأستاذ غالى قد اشتغل بالنقد الأدبى بعد أن ترك السياسة، وقد سمع حوله لغطا كثيرا، فمن قائل إنه انهزم، ومن قائل إنه تراجع، ومن قائل إنه عقل، كل ذلك جائز، حتى تحوله إلى النقد الأدبى مفهوم، ولو أنه ناقد دون المتوسط، لكن مستحيل أن يكون صاحب صيدلية، وبالذات مستحيل أن يكون هو خال الدكتورة مادلين رياض.
لماذا مستحيل؟.
-2-
فى محاولة ألا يبدو متطفلا سمجا، راح يرتب كلماته، وأحيانا مداعباته، مع بعض التظرف الذى لا يحذقه؛ فبدا زائفا حتى السخف برغم ضحكها الخافت، ربما مجاملة. سألها معتذرا إذا كان خالها هذا هو الأستاذ غالى جوهر، الـ..، الـ.. سياسى، يعنى البطل السياسى، الناقد المعروف. كان قد اصطنع أى شئ يبرر هذه الزيارة التى فرضها عليه هاتف داخلى يتراوح بين حب الاستطلاع وسوء الظن.
ـ هل تعرفه يا أستاذ؟..خالى؟ لماذا تسأل بهذه اللهفة.
ـ ليس تماما، ولكن إن كان هو هو، فهو أستاذ الجيل.
ـ يعنى ..، لقد طلق خالى السياسة بالثلاث.
ـ أظن أنه اشتغل بالنقد الأدبى.
ـ ليس لى فى النقد ولا فى الأدب، ولكنى سمعت شيئا كهذا.
رمى آخر سهم ليتأكد مما أصبح مؤكدا:
ـ هو زوج الأستاذة ملكة مناع.أليس كذلك؟.
ـ هل تعرفها أيضا؟. لقد أصبحنا معارف قدامى إذن.
راح يشرح لها أنه فى زواجه كان يرجو أن يقتدى بأستاذه، فاختار زميلة كفاح كان والدها جار والده الذى لم يره، وجاء تعارفهما وهو يخلى شقة والده بعد طول اختفائه، بناء على طلب صاحب العمارة، ولم يتردد جلال فى أن يذكر للدكتورة مادلين كيف فشلت الزيجة برغم استمرار الود والاتصال.
ـ صدقنى يا أستاذ أنت رجل طيب، هذاما قلته لك من أول مرة، حذار أن يضحك عليك قريبك هذا، ويبيع لك الترام.
ـ يا سيدتى قلت لك أنا لا أملك ثمن تذكرة الميكروباص، إن أحسن وقاية من السرقة والاحتيال، هو الفلس العظيم.
ـ بصراحة يا أستاذ، أنا من ساعة ما رأيتك، وأنا أتعجب من موقفك، ومن تصرفاتك، ومن طريقة تفكيرك، ومن أسئلتك، لاتؤاخذنى إذا أنا قلت لك أننى تصورتك مثل صبى ترسله أمه لأول مره للشراء وحده، آسفة، فعلا، لست أدرى كيف ستتقبل ملاحظتى هذه؟.. أرجو أن تعتبرها مديحا وتذكرة فى ذات الوقت، كل ما أقصده هو أن أحذرك من الاحتيال خصوصا هذه الأيام.
انتهز الفرصة، وفرح بمبادرتها للكلام فيما هو شخصى إلى هذه الدرجة، فتمادى فى سؤالها عن خالها بالذات، ولم يتطرق إلى أحوالها الخاصة، وهو يتجنب النظر إلى أصابعها الخالية من أية علامات ارتباط. وشم الصليب على باطن أسفل رسغها يقول أشياء ذات معنى، ويبدو أنه نجح فى استدراجها للحكى باعتباره ساذجا لا خوف منه.
ترددت، وأشفقت، ورحبت، وحكت له -ليس يدرى كيف – أنها تحب خالها هذا جدا، وأنها لم ترتح لزوجته ملكة مناع يوما، وأنها تعلم أنهما قررا (خالها وزوجته) ـ فى البداية ـ ألا ينجبا ليتفرغا للسياسة، لكن زوجة خالها ملكة عدلت فجأة وأنجبت ابنها الأول “جوهر” فى ظروف اختلف المحيطون فى تأويلها، ثم أنجبت بعده ثلاثة آخرين، ثم قررت السفر بناء على إغراء من أخت لها فى مونتريال، سافروا جميعا إلا جوهر، بقى مع والده، لكن خالها هو الذى لم يكن موافقا على سفر الأسرة برغم أنه يتمنى الآن سفر جوهر، وهو لم يفلح حتى الآن فى إقناعه بذلك؛ لأن جوهر كان قد ذهب إلى الناحية الأخرى.
ـ أية ناحية أخرى؟.. وما هى الناحية الأولى؟..
ـ جوهر ابن خالى يا سيدى، فى سبيله أن يتم إجراءات الرهبنة، وهذا ما يكاد يجنن خالى.
ـ لماذا؟..
ـ خالى الآن حائر بين ابنه الذى يعد نفسه للقبول فى دير فى وادى النطرون، وبين زوجته وبقية أولاده فى كندا، وهو ينتظر أن يعدل أى منهم عن موقفه، ويبدو أنه فشل حتى الآن.
انقطع الحوار فجأة، شكرها بشدة، فشعرت بصدقــه، حتى تجرأ أن يصافحها باليد وهو خارج، ولعله شعر أنها تضغط على يده، أو ربما هو تصور ذلك متعجبا.
ـ3ـ
ماذا جرى لك يا أستاذنا الجليل؟. وكيف ترهبن ابنك هكذا؟.. هل هو هروب جماعى؟.. ماذا جرى فى الدنيا؟. محمود، النقيب محمود، الرائد محمود عبد السلام المشد يزمع أن يحزم زوجته وأولاده إلى جرزة ليعذبهم فى أرض قاحلة بالقرب من هرم ميدوم، وأولادك يا أستاذنا العظيم يتركونك ويذهبون إلى كندا، وابنك يترهبن، لا أحد يريد أن يواصل …
ابتسم وهو ينبه نفسه متذكرا تنبيه ثريا ومنال الواحدة تلو الأخرى، بل والآخرين كذلك، أنه أكثر هربا، وشطحا، وربما جنونا من الجميع.
ـ4 ـ
أضاء شاشة التليفزيون، وأمسك بجهاز التحكم وهو مستلق على وشك النوم، هو يستعمل التليفزيون الآن منوما إلكترونيا، هو لا يذكر مؤخرا أنه أكمل فيلما حتى لو كان انتظره شهورا. ما إن يبدأ الفيلم، إثارة لا إثارة، حركة لا حركة، رومانسية، بوليسية، كلها أفلام مفعولها أكيد فى التهيئة لنوم عميق.
السى إن إن. الله يخرب بيوتكم. كتر الله خيركم. إلى أية مصيبة تذهبون بنا؟.
كيف كنا سنعرف كل هذا بدونكم؟.
مازال يقاوم التسليم بفضل هذه الإنجازات الاعلامية عليه كصحفى، وكبنى آدم، وهو يحاول إبعاد تعداد مخاطرها على وعيه وعلى استقلال فكره، إذ يعترف بضرورتها المثيرة، ولكن تسحبها الـلزج يصيبه بالغثيان. ماذا يعمل؟. اكتشف كل هذا بوضوح أكبر من خلال مهمة البحث المقارن إياه.
هؤلاء الأطفال على الشاشة ليسوا أطفال البوسنة، بل أطفال كوسوفو، كله واحد. أهذا ما كنت تقصده يا محمود؟. مازال يذكرالمقال الذى قرأه عن سيربرنسكا أيام مجازر البوسنة، واهتز له حتى أنه احتفظ به. المسألة هنا زادت وفاضت، يطل عليه الأطفال المسلمون الخواجات الشقر، على رأى محمود عبد السلام، فيتذكر ذلك الطفل الصربى الذى أنقذه محمود، ويكاد يسمع دقات قلبه وهو فى حضن محمود يرتجف خوفا ثم يبتسم ثم ينام مطمئنا. يتقاذف الأطفال المطرودون من بيوتهم حول أهليهم الممزقين جزعا، يتقاذفون الكرة. أما جدودهم، فهم يجرون أرجلهم زحفا حولهم إلى المجهول ـ هو سيتذكر ذلك أيضا بألم ساحق وهو يتابع ما سيجرى فى فلسطين ـ يقوم جلال فيحضر المقال القديم عن سيربرنسكا الذى كان قد احتفظ به لأسباب غير واضحة، يقرأه ثم يمزقه فى غيظ مكتوم. لم يلق بجهاز التحكم عن بعد، بل راح يعبث به مغيظا أو محبطا حسب محطة الإرسال، راح يتبين أن شعورا أشبه بشعور التلبس بالخيانة هو الذى جعله يكف عن الكتابة، يترك الصحافة، ثم ها هى الأخبار تلاحقه وكأنه مسؤول، ليس فقط عن إعلانها، ولكن عن حدوثها. يريد أن يهرب أبعد.
- لا !!. “ما أنا بهارب”!.
- إذن ماذا يا روح امك؟.
اكتشف باسما أن تعبير”روح أمك “ليس سبابا، نعم كان هو روح أمه حقيقة.
من صواب أكثر: جوهر غالى جوهر على أبواب دير وادى النطرون، أم إخوته وأمه الذين فروا إلى كندا؟. من الذى سينجح فى الهرب المحلى؟. محمود عبد السلام الذى يريد أن يهرب من القاهرة إلى الأدغال الخيالية فى جـرزة محافظة بنى سويف؟. أم هو الذى يريد أن يعطى دروسا خصوصية لأولاد أمين عبد الحكيم من الست فاتيما الألمانية؟. أم “منال” التى تتفرج على الرجال فى ملهاة الجنس دون مشاركة، وترفع راية الكفاح ضد الختان، وهى خير دليل على أن مخبأ قوالب الجليد أبعد من متناول الكذابين – لكن يا ترى هل هى فى متناول الصادقين أمثاله؟ (يعنى!) لماذا لا يجربان؟ ـ أم أخوها أنور إبراهيم الذى افتتح جامعة “الدنيا” فى كافتريا فى دهب فى جنوب سيناء.
ما الحكاية بالضبط؟.
لم يسمح لنفسه أن ييأس أو ينحى باللوم على أحد إلا نفسه. هو يفهم تماما خدعة الشعور بالذنب. هو لم يذنب فى حق أحد، هو ليس مذنبا أصلا. هذا يقين لا يتزحرح، المسئولية ليست ذنبا ومن لا يفهم ينفلق.
أخذ يرفع صوت التليفزيون حين تبين أنه كان يغير المحطات: صورة بدون صوت، لعبة اعتادها للتسلية والتأمل. ضغط زر ضابط القنوات فجاءته قناة الجزيرة، ثم قناة “أبوظبى”، ثم دبى، و السودان فاليمن. أصبحت لكل منها قناة، يا صلاة النبى لمن كل هذا البث؟. يبثون ماذا؟. لماذا؟. ليلهونا عن ماذا؟. أما القنوات الخوجاتى فخذ عندك، قنوات قليلة باللغات التى يعرفها، وعشرات غيرها بلغات لا يعرفها، أحيانا يأتنس أكثر باللغات التى لا يعرفها.
ذات مرة أخذ يلعب فى التليفزيون، وكلما أطل عليه وجه طفل أو امرأة جميلة أو شيخ عجوز يتكلم لغة لا يفهمها توجه بالسؤال فى عشم أو عتاب أو احتجاج عن هذا الطفل بالذات، وهذا الفتى الجميل الأمرد الذى بلغ الحلم لتوه، وهو يسير فى الجبل وحيدا يغنى بلغة غريبة جميلة، وهذا الشيخ الطيب، أين سيذهبون؟ الناحية الثانية؟. كم مرة نبهه عمه سليمان أنه لا يمكن “إثباته”، ولكن يمكنه أن يجده، طيب كيف؟. أين؟. فى دير أبينا متى المسكين يا جوهر يا ابن غالى جوهر؟. فى أرض جرزة يا محمود يا عبد السلام يا مشد؟. فى معرض سيارات أمين عبد الحكيم يا جلال يا غريب يا أناضولى؟. ثم ما الذى جعل إسرائيل هكذا؟ ملعون أبو كل شئ.
أحيانا يتقمص الطبق فوق السطح ويلف معه وهو يلف يجوب العالم، أى والله، يشعر أن جسمه يدور نصف دائرة، ثم ربع دائرة، ثم ثلث دائرة وهكذا، حلوة هذه اللعبة، هذه الحركة وأنت تتجول حول العالم وأنت مستلق فى حجرتك هى التى ستغير وعى البشر؟. فماذا سوف يفعل هو بدروسه لبضعة أطفال وهم يمضون ثلاثة أرباع حياتهم أمام كل هذا البث الدوار؟. وما الذى أتى بك يا فاتيما من آخر الدنيا إلى مصر هكذا؟. هذه السيدة، تبحث عن ماذا؟. هكذا؟. أما كان يكفى أن تجلسى فى شتوتجارت، وتلعبى بأزرار “طبقك” الخاص، وتسمعى أخبار مصر المحروسة التى تبدأ بمقابلات الرئيس، وتنتهى بتهنئة وزيرالإعلام؛ لتعرفى إلى أى بلد تهاجرين. ألم تبلغك هجرة أولاد غالى جوهر هم وأمهم؟. لماذا هذا التبادل الخائب؟.
خفض من صوت المحطة ذات اللغة التى لا يفهمها أصلا، مع أن الوجوه أوروبية، وهو يراهن على ذلك، لكن اللغة ليست فى متناول تخميناته، وليس فيها حتى المدة الإيطالية أو إيقاع إنهاء الكلمات الاسبانى. أدار قرص التليفون وطلب رقما، الرقم الذى قفز إلى وعيه والسلام. كان التليفزيون صورة بلا صوت، استجاب الهاتف، ليس مشغولا، خير وبركة، جاء صوتها عبر الهاتف.
ـ آلو.. آلو…من؟.
لم يرد، ولم يسرع بوضع السماعة، فرح بسماع صوتها على الرغم من أنه لم يكن متأكدا من أن هذا هو رقمها. أصابعه عرفت الطريق إلى رقمها دون أمر منه. انتظرحتى وضعت هى السماعة. وجهها جميل رائق، حوله تلك الهالة البيضاء كسحابة تتخطر بدلال حول مشرق الشمس القمر، يا خبر!! هم بأن يدير رقما آخر لكنه تراجع مؤقتا، لم يعدل، راح يفكر، وجدها لعبة لطيفة، وتمنى ألا تنزعج، سخيف هو؟. ليس بالضرورة. المعاكسة الصامتة مطلوبة أحيانا، يمكن للمنزعجة، لأول وهلة، أن تخلق منها خيالا كما تشتهى، فقرر أن يظل التليفزيون صورة بلا صوت، وأن يظل الراد على الطرف الآخر من الهاتف صوتا بلا رد، غير محطة التليفزيون فجاءته قناة دبى، كانت بدون صوت مثل الباقى، لكن خيل إليه هذه المرة أنه سمع صوت المذيعة الجميلة تناديه باسمه، رد شاكرا واعتذر. ضغطةأخرى، أطلت عليه وجوه هندية فى الأغلب، كاد يعلى الصوت ليسمع الأغنية الهندية؛ لأن الجميلات السمراوات اللاتى ظهرن، والمغنى المتمايل الفاحم الشعر، كانوا يعدون بلحن جميل، ولكنه لم يرفع الصوت، أدار رقم الهاتف الآخر، جاءه الصوت الآخر.
ـ ألو..، وبعد؟. ألوا.. ألو.. طيب اقفل يابن القـ…..
سارع بوضع السماعة مبتسما حتى لا يسمع بقية الكلمة، هى هى لا فائدة فيها، متنمرة أبدا، حتى وهى ترد على مجهول فى الهاتف. راهن بينه وبين نفسه أنها لو صالحت أنوثتها بطيبة حقيقية، فسوف تكون أجمل امرأة فى العالم. وصل به الابتسام إلى ضحك خفيف، خجل من كمية القسوة التى يخفيها هذا الضحك. منال لا تستأهل ما حبست نفسها فيه، لم لا يتقدم حتى لو…، كم هو جبان نذل.
غير محطة التليفزون من جديد فقفزت له صورة إيهود باراك، وهو يقفز كالفهد الصغير الذى يتلمظ فى انتظار حارسه الذى يهيئ له فرائسه من الحملان حديثى الولادة، لم يسارع بتغيير المحطة، لكنه فرح أن التليفزيون ـ فعلاـ صورة فقط. أطلت صورته كهلا وشفته السفلى ترتعش، عيناه زائغتان، وهو يشب بقدر ما يستطيع، لعل طوله يزيد ولو سنتيمترا واحدا عما كان عليه طالبا فى الجامعة، بعيدا عن السياسة. تساءل: يا ترى ماذا تفعلين يا سها مع هذا المسكين؟. خجل من هذه السخرية القبيحة من عجوز له تاريخ طويل زاخر مهما كان.
سافر بضغطة زر أخرى فوجد نفسه أمام أوربيات سمراوات أكثر منهن شقراوات، فعلى الصوت، فجاءته اللهجة الممطوطة كأن خيوط المكرونة الأسباجيتى لا تريد أن تتوقف عن التدلى مهما لففت الشوكة، ابتسم ابتسامة أوسع، ملعون أبو الغم، حتى لو نام أطفال كوسوفو فى العراء فوق الجليد، هل هو الذى طردهم من بيوتهم؟. جاءه خاطر من داخله ردا على السؤال، أن “نعم”، هو الذى طردهم !! فوجه الكلام إلى داخله الذى لا يكف عن التعقيب، نهره، وسبه أن: “ملعون أبوك أنت أيضا “، أدار قرص الهاتف هربا من داخله قبل أن يرد السباب بسباب أفظع. رقم آخر، نفس اللعبة.
ـ ألو..آلـووو.. ألو..آلـووو…
خيل إليه أنها تبكى، أو أنها قد استيقظت على الرغم منها أثناء حلم مزعج لم ينته، أو أنها نادمة على طلاقها منه، أو أنها كل ذلك. اغرورقت عيناه وأسف على هذا العبث. لماذا هو مازال يحب ثريا كل هذا الحب، سمع صوت السماعة وهى توضع على الجانب الآخر فى رقة حزينة، ليكن، هو ليس مذنبا، ولا هى.
عاد إلى لوحة الأزرار، واستدعى موجة الجزيرة، صوت وصورة، هذه المرة، شاهد الرجل ثقيل الظل الذى يمثل ما يشبه الديمقراطية وهو يعلن عن موضوع برنامج “الرأى الآخر” ويحرك يديه بأصابعه المفرودة انفراجا وضما قبالة بعضها، وكأنه بهذا يؤكد أن الحوار وارد، وأن الخلاف محتمل. لماذ تحقد هذه المحطة على مصر بالذات، وأين أخبار قطر المحروسة؟. منع يده من أن ترتفع إلى جبهته تبحث عن آثار البطحة.
غير المحطة بسرعة فجاءه تسجيل هذا الرجل الداعية، البالغ الحضور، المحب للغة، خفيف الظل، طلق اللسان. أغلب الناس يحبونه، فلماذا هو لا يحبه مثلهم، ليس كذلك تماما، هو يحبه لكنه لا يقبل منه أن يستهين بعقله هكذا. كان قد اعتاد أن يرد على تساؤلات هذا الشيخ الذى يتمايل زهوا بنفسه وبتخريجاته وهو يشاهده وكأنه سوف يسمعه، يرد بعكس ما يتوقع الشيخ. انتبه فجأة إلى أن مولانا الشيخ مد رجله اليمنى إلى الأمام فتصور أنه يعدل من جلسته، وإذا برجله تخرج من الشاشة إلى الحجرة، ثم تتبعه رجله الأخرى، ثم هو يخطو إلى الأريكة فى الحجرة ويتربع ثم يواصل تمايله إلى الأمام وعلى جانب ثم الآخر. كل ذلك وجلال غير منزعج، وغير مرحب فى نفس الوقت، واصل الشيخ تساؤلاته فوجد جلال أنه جمهوره الوحيد، وقرر أنها فرصة ليرد عليه بما كان دائما يخالف به جمهوره.
ـ جهنم “إييييه”؟.
= وبئس المصير.
ـ لأنهم “إييييه”؟.
= لأنهم مغفلون، فهموا الدين خطأ، وباعوا أنفسهم لعقول غيرهم.
ـ إذن “إييييه”؟.
= إذن.. ربنا ينتقم منهم.
ـ من الذين هم إييييه؟.
= من الذين ضحكوا عليهم.
ـ ورضيوا ينضحك عليهم “ليييه”؟.
= لم يسمعوا كلام عبد المعطى عامل المزلقان، ولا عمى سليمان، ولا الحاجة وردة.
= يعنى عبد المعطى هذا يمثل أحباب “إييييه”؟.
= أحباب الله.
ـ على أساس “إييييه”؟.
هز جلال رأسه وهو يعتذر للشيخ، فرك عينيه وعاد لشاشة التليفزيون فإذا بها خالية من أى صورة أو صوت. يبدو أنه أغلقه حفاظا على خصوصية الحوار، وحتى لا يربك المشاهدين المشدوهين فيحذون حذوه. وأيضا حتى لا تسمعهما الحكومة، الاحتياط واجب. عاد يلوم الشيخ بينه وبين نفسه على تسطيحه للأمور هكذا رغم حسن نيته (فى الأغلب). رد على نفسه أن لكل واحد أن يبتدع لغته الخاصة التى توصله إلى غايته وتقنع مستمعيه. انتبه إلى أن له هو أيضا لغته الخاصة التى لا يستطيع أن يدافع عنها. خذ مثلا الكلمة التى يرددها بلا توقف وهو لا يستطيع أن يضع لها تعريفا إذا سئل، كلمة “الفطرة”. كل واحد يستعملها على مزاجه، الهارب والمناور والمجتهد والأبله. الفطرة وما أدراك ما الفطرة. طيب ما علاقة الفطرة بالفطيرة؟. ثم ما علاقة الفطيرة السخنة، بالبليلة السخنة؟. ثم بالبطاطا السخنة؟. وبحمص الشام؟. وكلام قلة أدب وسمج جدا. هو يعترف أنه مخطئ إذ يسخر بهذه الصورة، وأن دمه ثقيل، وهو لا يستطيع أن يحول دون ذلك.
أعاد فتح التليفزيون ليوقف هذا السيل من التفكير المعاد، فإذا بالشيخ الجليل يقول كلاما رصينا، ويخرج من اللغة العربية معان لم تخطر على باله، يعتذر له جلال عن الحوار الذى دار بينهما، ويهم أن يقوم ليقبل يده من باب النفاق النصف نصف، لكن شاشة التليفزيون تحول ذلك قبل أن يخرج من تحت الغطاء. يكتفى بأن يرجوه عن بعد -وبكل إخلاص عاتب- ألا يستهين بعقله مرة أخرى حتى لو كان خطابه موجها إلى هؤلاء المطأطئين رؤوسهم بالموافقة، الممصمصين شفاهم بتقوى لن تشفع لهم فى الأغلب. خيل إليه أن الشيخ يبتسم له، أو أنه يغمز له بطيبة أبوية ، ولكن من موقع متعال . لم يرفض سماحه، ولم يقبله.
تساءل: هل سيأخذ هذا الشيخ المتحمس كل ثروته معه إلى الجنة؟ تلفت خشية أن يكون أحد قد سمعه، كماتذكر ميراث محمد عبد الوهاب وموقف بناته. اعتذر مرة أخرى، ولم يستغفر.
ـ5 ـ
أدار الرقم الأخير الذى كان قد طلبه حالا؛ ذلك أنه كان ما زال منشغلا على ثريا وصوتها الأقرب إلى الحزن. فعلا هو ما زال يحبها، فعلا هى تستأهل الحب، لكن قرارهما بالانفصال كان عين العقل على الرغم من كل شئ.
جاءه صوتها عبر الهاتف بنفس النبرة الجياشة فصدق حدسه، صوتها يقول إنها “فى حال”:
ـ أنا جلال يا ثريا.
- عارفة.
ـ عارفة؟. من أين؟.
ـ أنت طلبتنى قبل ذلك، منذ قليل.
كاد ينكر خجلا، لكنه سارع معترفا.
ـ نعم، ولكن من أدراك أنه أنا؟.
ـ أنا أشم رائحتك عن بعد، فى التليفون وغير التليفون. كيف حالك يا جلال؟.
ـ ولم لا تشمين رائحة حالى بالمرة؟.
ـ أنت تخاف أن أفعل.
ـ سوف أتحمل هذه المرة، فماذا عن رائحة حالى؟.
ـ عرق طازج، وعناد ذكى، وهرب دائم.
ـ هذه روائح قديمة، تعرفينها عنى من زمان، أنا أسألك عن رائحتى الآن.
ـ أشم رائحة الجبن والمراوغة، لا تريد أن تعترف أنك تحبنى.
ـ أعترف بماذا وأنت تعرفين كل شىء،هل عندك اقتراح؟.
ـ أبدا.
ـ طيب، خلاص.
ـ خلاص، خلاص. ماذا كنت تريد؟.
ـ كنت أريد أن أطمئن عليك، بعد أن سمعت صوتك مليئا بالشجن؛ حين علقتك فى المكالمة السابقة.
ـ لا عليك، أنا بخير، على فكرة محمود يكرر اعتذاره كما أبلغتك قبلا، كانت ظروفا قاهره، هو يريد أن يبلغك….
سارع جلال بمقاطعتها:
ـ بصراحة حدثت أشياء نتيجة تخلفه عن هذا الموعد تستأهل أن أشكره عليها، أشياء فى منتهى الغرابة.
ـ دائما أشياؤك فى منتهى الغرابة يا جلال، كل ما يحدث لك وحولك غريب عجيب يا جلال. أما آن الأوان أن تكف عن هذا الاستغراب الذى لا ينتهى؟.
ـ تظلميننى كالعادة، يعنى مثلا تريدين منى أن أسمع عن استقالة أخيك، وتهديد أولاده بالجوع، وثم خوفى عليه من الجنون، ثم لا أستغرب، أو لا أحاول أن أحول دون ذلك؟.
ـ وأنت مالك يا أخى، أنا يا أخته، لا أملك إزاءه شيئا.
ـ مالى كيف؟.
ـ هو عقله فى راسه، يعرف خلاصه.
ـ المسألة ليست خلاصه هو، المسألة خلاصنا كلنا.
ـ لن تتوب عن محاولة تعديل الكون بادعاء النبوة المعبأة فى قراطيس نبض اللغة؟.
ـ تسخرين؟. اسألى أخاك. يبدو أن الأمر سوف ينتهى إلى أن أذهب أدرس لأولاده فى جرزة هذه، أعلمهم كيف يستخرجون دودة الأرض من جوف الطين؛ ليصطادوا بها فى المصرف القذر السمكة التى ابتلعت خاتم سليمان أثناء “العشاء الأخير”.
ـ اتلم المتعوس على خائب الرجاء.
ـ لست متعوسا، حتى لو كان أخوك خائب الرجاء.
ـ طيب هل تريد شيئا؟. خل بالك من نفسك.
ـ تصبحين على خير.
ـ وأنت من أهله.
ـ6ـ
إلى متى يظل الحال هكذا ؟. كلما زادا ابتعادا عن بعضهما زادا اقترابا.
إلى متى يظل الاقتراب مستحيلا، والبعد ضاما مع وقف التنفيذ؟.
اغرورقت عيناه ولم يسمح للدمعة أن تنزل.
هو لا يذكر أنه أضاء شاشة التليفزيون من جديد، يبدو أنها اشتعلت تلقائيا. هذا الشاب الذى يسير وحيدا يدعوه إليه، يشبه أستاذه غالى جوهر، هل هو جوهر ابنه الصيدلى حديث التخرج الذى يريد أن يترهبن فى دير وادى النطرون. عاود الشاب الإشارة فاستجاب جلال بنفس حب الاستطلاع وبسوء ظن أقل، رجح أنه يمكن أن يعرف من جوهر ما لا تعرفه عمته شخصيا. يبدو أن جوهر قد اطمأن إلى تحقيق ما أراد فاستدار وانطلق دون أن يلتفت وراءه، وجلال يتبعه وهو محتفظ بالمسافة.
الصحراء مترامية. صحراء وادى النطرون ليست صحراء تماما، هو الذى قرر ذلك منذ زيارته لدير أبونا متى المسكين. توجد علامات متفرقة على جانبى طرق بعضها ممهد، والأخر يبدو أنه كان ممهدا، وبعضها لا يعدو أن يكون “مدقا” اخترعته سيارات الربع نقل لاختصار الطريق. انتظر أن يلتفت إليه جوهر ليطمئن أنه ما زال وراءه لكنه لم يفعل.
لم يتساءل لماذا ناداه جوهر ولا هو عرف لماذا استجاب.
تسارعت خطوات جوهر ولم تتسارع خطوات جلال بنفس القدر، وتعجب أن المسافة ظلت ثابته. هل يسحبه جوهر إلى هناك ليعلمه شيئا من واقع الممارسة بدلا من الضياع وسط كتابات ليس لجلال هم إلا أن يتشكك متى كتبت، وهو غير متأكد من مصدرها؟. اكتشف جلال فجأة أنهما يسيران داخل طرق ضيقة لم تعد تصلح لسير سيارة، طرق أشبه بمدقات الراجلين، تكاثفت أشجار الزيتون المحيطة وبدت وافرة الإثمار شديدة الجمال. كيف نبتت هكذا كاملة دون أن يلحظ؟ أين الصحراء؟ كأن المزرعة انبثقت من تحت الأرض، ومازال جوهر يسير دون أن يلتفت. كل ما فى الأمر أن عباءة سوداء لبسته فى نفس الوقت الذى اكتملت فيه مزرعة الزيتون. العباءة تشبه عباءة عمه سليمان، امتد أعلى العباءة ليخفى الرأس بغطاء مدبب الطرف حتى بدا السائر أكبر سنا (مع أنه لم يعد يرى وجهه). المشية مشية عمه سليمان والعباءة تكاد تحيط بجلال كله رغم الحفاظ على المسافة. ذلك الرحم الغامض الذى عاشه دون تمييز.
استسلم جلال للجارى وكأن هذا هو المفروض أن يحدث. لم يكن يشعر لا بالمفاجأة، ولا بالخوف، ولا بالتعب. وجد صدره يتفتح وكأنه يتسع فعلا لا مجازا، فأخذ شهيقا عميقا سمع من خلاله لحنا يحبه مع أنه لم يسمعه من قبل. راح ينصت بحنان إلى نبضات قلبه فاكتملت الحركة الثانية بتماوج قوى برغم نعومته، دون أن يفقد اللحن انتظامه المعاد بلا إملال.
هم أن ينادى جوهر ليسأله إلى أين، وربما يعرفه بنفسه، وأنه من حواريي والده، فلم يخرج صوته أصلا رغم وضوح الكلمات. هو لم يعد جوهرا (فى الأغلب)، فليناد عمه بصوت أكثر حياء. تراجع بإصرار، فهو لا يدرى كيف يواجهه وكأنه قد تخلى عن وصاياه.
ليس زيتونا فقط هذا الشجر الذى يزداد خضرة وطزاجة وكثافة وجمالا. هو لا يعرف اسمه ولا طبيعة ثماره، كان وهو ينصت للتلاوة داخل عباءة عمه سليمان يتشوق أن يتذوق ما كان يدعوه عمه “أبا”. ظل يتصور أن “الأب” هذا هو فاكهة غامضة سرية برغم أنه كشف فى المعجم على الكلمة يوما فوجد أن معناها هو العشب أو الكلأ. رفض ما جاء فى المعجم واعتبره خطأ لأن طعم “الأبا” الذى تذوقه داخل العباءة طفلا ما زال يستشعره بمذاقه الفريد حتى الآن. هو الآن وسط شجر الزيتون وهو يستطعم ثمار “الأبا”. ثمة فواكه أخرى ليس لها اسم تتبدى له فوق أشجارها فتحل محل بعضها بفضل الهندسة “الرؤيوية” وهو يمضى دون تردد وراء جوهر غالى جوهر.
توقف فجأة. قرر أن يتراجع مادامت المسائل تتساوى. جوهر، أو عمه، لا أحد منهم يهتم إن كان يتبعه أم لا، وإلا لماذا لم يلتفت أحدهما إليه ولو مرة واحدة. توقف فعلا، وحتى يتأكد أنه لن يواصل المتابعة كالمسحور، هبط فجأة جالسا على الأرض حتى آلمتـه مقعدته. لم يتوقف جوهر (أوكائنا من كان) رغم صوت ارتطام مقعدة جلال بالأرض، لكنه تباطأ، ثم تباطأ أكثر حتى خيل لجلال أنه سيدعوه (أو يأمره) أن يواصل، وتمنى ألا يفعل.
استدار لابس العباءة للخلف لأول مرة فإذا وجه فاتيما هو الذى يطل مثلما أطل عليه أول مرة من بين سحاب الحجاب الشفيف. فرح جلال بالمفاجأة وكأنه كان يتوقعها، لم تكن مفاجأة تماما. هو لا يدرى ماذا كانت بالضبط، لكنها لم تكن مفاجأة. اتسع صدره أكثر وتنوعت الأنغام التى تتردد فيه بآلات الشهيق والزفير ونبض القلب المنساب فى هدوء صاخب. لم يشعر أنه بحاجة للترحيب بها فقد كان على يقين أن فرحته وصلتها بما يكفى. تركت فاتيما العباءة تتهادى ساقطة من حول كتفيها. وإذا بها لا تسقط وإنما تتحول إلى ملاءة لف” مثل تلك التى أحبها فى طفولته وأطلقت لخياله العنان، تحكم فاتيما حبك الملاءة فى دلال. هى لا تغمز بعينيها مثل نساء سوق السلاح حين تغمرهن أنوثتهن فخرا واستبدادا. تستدير فاتيما وتعاود السير بكل ما تقوله الملاءة لجسدها وكل ما يقوله فرعها المتمايل بانسياب للملاءة.
هو ما زال متربعا لا ينادى، أو لعله ينادى بغير صوت.
قبل أن تختفى فاتيما عند نهاية الممر لوحت له بيدها وهى تقول :”باى”.
- “باى” يادّ لعدى!! أهكذا أيضا؟.
ـ7ـ
انتبه لأصابعه تعبث بجهاز التحكم من جديد. هوالذى أضاء الشاشة هذه المرة، أخذ يعبث بالأزرار حتى جاءته إحدى المحطات التى تعلن عن فتيات تحت الطلب، بالتليفون، لم يكن يعرف كيف يحضرن من هذا البعد بمجرد إدارة أرقام الهاتف التى تتدحرج فى بطء أسفل الشاشة، نبهه أحدهم إلى أن مثل هذه الدعوة هى لممارسة الجنس بالهاتف، وليس للحضور جسديا. يا خبر أسود!! كيف؟. كاد ألا يصدق لولا أن محطة أخرى من ذات النوع عثر عليها بالصدفة، كتبتها صراحة، “اتصل بى الآن، إن كنت تريد أن تمارس الجنس بالهاتف”، “النظام الجنسى الجديد”، حاول أن يستسيغ التأوهات، أو أن يشتهى صدرا متضخما، وصاحبته تضمه بين كفيها، أو أن يتقمص إصبع موز ضخم نزعت قشرته لتمر عليها بلسانها تجسد هواية السيد كلينتون، فلم يستطع. لم يشك فى نفسه، حتى حين أصابه الغثيان. لم يفسر غثيانه بالكبت أو خلافه، كان منشغلا تماما بربط كل هذا بالفجوة التى تتسع بين الناس وهم يتكلمون عن ثورة التوصيل والتواصل، تواصل ماذا؟. حلت المعلومات محل المعانى، كما حل الخيال محل اللحم والدم. لم يبق إلا أن يعبئوا المشاعر حسب درجة حرارة الاحتياج، ثم يعلنوا، توصيل المشاعر المصنعة إلى القلوب المميكنة لتليين العلاقات المبرمجة.
الله يخرب بيوتهم.
يبدو أن المصيبة أكبر من كل تصور. المفروض أن يغير المحطة كما اعتاد، لكنه هذه المرة تلكأ ليربط بين تجواله مع الطبق حول العالم، وبين دوره التربوى الجديد.
أخذ يسترجع الصور التى مرت به أثناء لعبته الطبقية “هذا المساء”. عادت إليه الواحدة وراء الأخرى، أطفال كوسوفو، باراك، عرفات، الأغنية الهندية، اللغات التى لم يفهمها، وتساؤلاته عن كيفية حسابهم فى الآخرة، وبأية لغة، فضائية أولى، ثانية، دبى، السودان،اليمن. الجزيرة، المحطة الطليانى، استضافة شيخ اللغة والتفسير، رحلة الصحراء والزيتون وتوالى الانسلاخ فى وادى النطرون.
ماذا يعنى كل هذا؟.
ماذا بعد؟.
مازالت محطة الجنس أمامه، يا خبر أسود، ما هذا؟. ماذا تفعل هذه المرأة، بتلك الأخرى؟. ماذا يريدون أن يقولوا بهذا؟. من هذا الغبى الذى تثيره مثل هذه المناظر؟. ثم ما هذا بالضبط؟. امرأة تمارس العادة من فوق السروال، وتتأوه دون شريك أو شريكة، لا يبدو وجهها أصلا، ثم يظهر وجهها وهى ترتعش حتى تهمد.
ـ8ـ
قام إلى النافذة وفتحها على مصراعيها.
نظر إلى السماء فى جوف الليل، وقال معاتبا فى عشم باد، واحتجاج متردد:
ـ أيرضيك هذا؟.
* * *
الفصل السابع
شارع المبتديان
كانت الطيور التى يسمهيا الفلاح “أبو قردان” ترفرف بأجنحتها على مسافة قريبة من الأرض المروية حديثا، وكان بعضهيا يهبط فجأة بزاوية محسوبة وكأنه يقفز قفزة
الغطس التى تدرب عليها منذ كان فرخا فى سنة أولى طيران.
لم تكن الرياح شديدة، لكنها كانت السبب فى أن يتطاير شعر بسمة فى اتساق منتظم وكأنه يعزف – أو يؤلف – لحنا جديدا لا يريد أن يكتمل برغم بداياته الواعدة جميعا.
مدت يدها إلى البضع شعرات اللاتى تراقصن أمام عينها اليسرى، ثم نظرت إلى ساعة الحائط، وقررت أن تؤجل الحمام هذا الصباح مع أنها لم تكن مرتبطة بأى موعد باكر، ثم إن عملها لا يلزمها بمواعيد محددة.
عادة، لا يمكن لأحد أن يتبين ماذا التقط أبو قردان من الأرض، لكن الذى تدلى من المنقار هذه المرة كان لا يخفى على عين. كيف سيبتلع كل هذه الأفعى؟ ومع ذلك لم تلاحظ بسمة أية غرابة إلا حين تلوى الطائر وهبط اضطراريا حتى غاص فى الطين تماما هو وقاتلته أو فريسته.
ولم يعثروا على الصندوق الأسو د حتى الآن.
-1-
ثمانية عشر عاما على الأقل”.
هتف جلال بينه وبين نفسه حين دخلت عليه رشا أمين عبد الحكيم، ودخل معها، وراءها، أيمن، أخوها، اثنى عشر عاما، معقول، بل ربما أقل، ثم لحقتهما هدى، أربعة أعوام !!!. أحلاهم هدى، لكن رشا شئ آخر، تصور أن أمها كانت فى شبابها أجمل وأشهي!!. أشهى ماذا وكلام فارغ ماذا؟ إنه بمثابة الأب، قفزت إليه سهير البابلى، وهى تعترض على أحمد بدير. “قال زى أخووكى”؟.
حرية مشاعره لا تتعارض مع قدسية مهمته، تمنى أن تحضر الأم، لكنهم أخبروه أنها ذهبت لدرس الحياكة، درس ماذا؟ هذه السيدة تريد أن تتعلم كل شئ!. حياكة ماذا؟ أفهمته رشا بكل حماسة أن أمها تتعلم الحياكة فى كرداسة، وأساسا هى تتعلم التطريز التلقائى للجلباب النسائى البلدى. أفهمته أيضا أن لأمها ملاحظات على البضاعة التى تعرض على السائحين. هى تريد أن تجعل الجلباب المصرى أكثر بساطة، وأكثر دلالة، هذه السيدة الخوجاية فى مخها “مصر” من صنعها هى، جاءت تنفـذها هنا فى أتيليه وادى النيل. هى فنانة شاطحة. هى لم تحضر لتعيش فى مصر كما هى، وإنما جاءت تنحت وجها جديدا لمصر التى حلمت بها أو تخيلتها.
دخل أمين عبد الحكيم متعجلا وهو يستأذن فى الانصراف ويشرح ظروفه، وارتباطاته، ويطمئن على أن المدرس الجديد تعرف على الأولاد، وينبه الأولاد قبل أن ينصرف إلى أن يعتبروا الأستاذ جلالا مثله تماما، ويسأل جلالا إن كان يريد شيئا قبل أن ينصرف.
ـ تعرف ظروفى يا أستاذ جلال، هه. تعرفت عليهم؟. هه؟.
التفت إلى أولاده مردفا: وأنتم كذلك طبعا.
لم يكد جلال يهم بالكلام حتى التفت أمين عبد الحكيم قبل أن يغادر.
ـ حدد معهم المواعيد بنفسك يا أستاذ!.
ثم التفت إلى الأولاد.
ـ لكن اعملوا حساب تدريبات الإسكواش، ودروس البيانو، ومسابقات العوم.
قال ذلك وانصرف مسرعا.
قال جلال فى سره: “انصرف لا يلوى على شئ”، تعبير غريب، لكن لابد أن له أصلا خطيرا “لا يلوى على شئ”، يا ترى يعنى ماذا؟ “لا يلوى على شئ”. أما جلال فهو “يلوى على شئ”، ثم ما هذا كله، الإسكواش، البيانو، العوم، المدرسة الرسمية، ثم بعد ذلك سيضاف هو شخصيا بلغاته وأحلامه وأحلام أمهم، وعلى الأولاد أن يوفـقوا بين كل هذا، غير ما يستجد من واجبات. واجبات يشعر أنه شخصيا سيكلفهم بها، أشفق عليهم قبل أن يبدأ، وأشفق على نفسه، هناك دور غامض يريد أن يقوم به، دين عليه بشكل ما.
تذكر كيف عملها معه عمه سليمان، عملها دون أن ينطق حرفا من هذا الذى يدور بخلده. أوصل إليه رسائله الكلية من داخل عباءته، حين ألزمه بالصلاة صغيرا فى رفق متناغم، وهو يحيطه بما هو، ويصر فى ذات الوقت على أمر ما، أمر بسيط وضرورى، كيف حدث ذلك؟ كيف يمكنه هو أن يقوم لهؤلاء الأطفال بما قام به عمه هذا؟ يتساءل: ماذا تبقى مما وصل إليه؟ يبدو أن كل ما وصله منه لم ينفع، أو ربما هو نفع من وراء ظهره، حتى الصلاة التى كانت تصنع “داخلا” خاصا غصبا عنه، لم يتبق منها شئ، حلم غائر مازال ينبض وسط كل ما حدث. يريد أن يستيقظ منه، وأن يحتفظ به فى ذات الوقت، لكن الذى يخشاه فعلا هو أن يكون مشروعه هذا ليس إلا محاولة تحقيق حلمه الغامض ذاك على حساب أطفال أبرياء.
الدنيا تتغير، والوسائل تختلف. ماذا يفعل؟.
”الله يخرب بيوتكم”.
لم يعرف لمن يوجه هذا السباب الذى أصبح يقفز إليه بمناسبة وبدون مناسبة.
- حضرتك سوف تعطينا ماذا؟.
بدأ أيمن بالسؤال، بعد أن طلب منهم الجلوس ليتفاهموا، وبعد أن قرب كرسى هدى منه، وقال لها إن اسمه جلال، وإنه يعرف اسمها من بابا، وإنه يريد أن يصاحبها، أن تكون صديقته إن كانت سوف تكتشف فيه ما يستأهل صداقتها.
رد على أيمن بتردد.
ـ عربى وانجليزى وألمانى وكمبيوتر، و.. وقرآن.
قال الكلمة الأخيرة، وتلفت حوله وهو يرجح أن الأطفال ربما يفهمونها كما يريد، وليس كما يريد الأهل. وابتسم.
رد أيمن دون احتجاج.
ـ لكننا نأخذ كل هذا فى المدرسة.
أحرج جلال، وفكر أن ينسحب فعلا، وأنه ربما يكون ذلك أفضل ما يمكن عمله؛ ليحقق مشروعه، ولكنه واصل العناد.
ـ أعرف، ولكن المسألة فى “الطريقة”، وليس فى ما تأخذونه.
واصل أيمن أسئلته بلهجة أشد يقظة وإثارة، واصل دور المستفهم لا المحتج، مع أن جلالا كان يرجح أن أيمن يحتج. فاستعد.
ـ هل هناك طريقة غير التى نتعلم بها فى المدرسة؟.
الإحراج يتزايد، وجلال غير مستعد، برغم أنه كان قد حاول أن يستعد.
ـ يعنى…،سوف نرى معا.
تدخلت رشا بقدر أقل من الاعتراض.
ـ معا؟.
وجد فى سؤالها منقذا ما.
ـ نعم معا، وربما تكون هذه هى بداية الاختلاف عما يجرى فى المدرسة.
أكملت رشا سؤالها بسماحة أكبر.
ـ حضرتك تعنى معا: أنا وأيمن وهدى، أم “معا” من؟.
ـ معا يعنى “معا”، وأنا معكم.
ـ و “بابا” و “ماما” أيضا؟.
فوجئ بالسؤال. هل يشرك بابا وماما فى “معا”؟ بابا فى واد، وماما فى واد آخر، وربما يأمل كل منهما، على حدة، أن يقوم جلال عنهما بدورهما الذى لا يعرفانه.
ـ بابا وماما هما اللذان استدعيانى لهذه المهمة، فلابد أن يكونا معنا، أن يوافقا على الأقل. يعنى؟.
قالت هدى فجأة:
ـ حين توافق ماما، بابا لا يوافق، وحين يوافق بابا، ماما لا توافق.
هدهد على هدى باسما.
ـ وماذا فى ذلك؟. لابد أن نتعلم أن الناس لابد أن تختلف، حتى بابا وماما لابد أن يختلفا، لابد أن نتعلم جميعا كيف نختلف.
واصل أيمن تعقيباته:
ـ لا دخل لبابا وماما فى….
قاطعه جلال بسخف دون ضجر، بدا متعجلا فقط:
ـ “بابا” “وماما” هما اللذان أتاحا لنا هذه الفرصة.
سارع أيمن بالتراجع أو بالتقدم (لم يستطع جلال أن يقرر).
ـ فرصة ماذا؟. فرصة أن نفعل ماذا؟.
أسقط فى يده أكثر “ندرس ماذا؟.” ماشى، لكن “نفعل ماذا؟.” كيف يرد؟.
ـ نفعل ما يمكننا.
ـ يعنى نجرب؟. هل تتصور حضرتك أن عندنا وقتا؟.
ـ… ماذا؟.
همت رشا أن تقول شيئا؛ اعتراضا على أيمن؟ ربما. تنبيها له أنه زودها؟ ربما. دفاعا؟ ربما. طلبا للتأجيل، لكنها لم تفعل، وعلى الرغم من تعجب جلال لاستعمال فعل “نجرب” تلك الكلمة التى لا يحبها لله فى لله، مع أنه يمارسها على العمال على البطال.
ـ الحياة كلها تجارب يا أيمن، أليس كذلك؟.
- لست فاهما. ربما.
فجأة أحس جلال بأنه أمام عقول لم يعمل حسابها، شعر بنفس الرغبة فى التراجع وود لو ينصرف بعد أن يقـبل رأس أيمن بالذات اعتذارا مثلا، وبقدر ما فرح بكل هذا الحوار ـ بصفة عامة ـ بدأ حجم الصعوبة يتبين من واقع الحال. هو لم يكن يعرف ماذا يحمل عقل الطفل، أى طفل، فما بالك بهؤلاء هكذا؟.
أنقذه رنين جرس الباب، ثم صوت مفتاح يدور فى قفله لتدخل مشرقة وسط هالة السحاب الهفهافة. كانت ترتدى سروالا من الجينز (ليس ملتصقا) أسود اللون وبلوزة لونها سمنى فاتح جدا، أكمامها ثلاثة أرباع.
ـ أهلا أستاذ جلال.
خيل إليه أن التحية كان بها من الفرحة بقدر ما كان بها من الترحيب المصرى، والذوق الأوربى، جرعة متوازنة. تمنى أن يكون ظنه فى مسألة الفرحة فى محله، بل تمادى فى التمنى أن تكون جرعة الفرحة أكثر، فهو ـ عن نفسه ـ امتلأ بالفرحة حتى فاض بها وجهه. فرحة حقيقية ليس لها أى مبرر، لماذا نسيها تماما (الفرحة) ثم إذا بها وهى تهل يعرف أنه لم ينسها أبدا. ولا ثانية؟.
التفتت للأولاد ونظرت فى الساعة، وأخبرتهم أن السائق ينتظرهم، وأنها أسرعت بالمجئ ليلحقوا ميعاد دروس البيانو، وأمرتهم أن يسلموا على الأستاذ، وأنها سوف ترتب معه المواعيد. زام أيمن دون اعتراض، وقفزت هدى ومدت يدها وخدها إلى جلال، وسلم أيمن سلام الرجال، وقبلته رشا بعينيها وهى تقول بأدب جميل “عن إذنك”.
أخذ جلال شهيقا رقيقا حاول أن يخفى عمقه حتى لا يعلن ما بداخله، مازالت الفرحة تغمره، يا رب سترك.
ـ كيف حالك يا جلال؟.
هكذا بدون أستاذ !!.
ـ تسمح لى؟.
قال “طبعا” دون أن يعرف بماذا يسمح لها، بالجلوس وهى فى بيتها؟ أم برفع الكلفة ومخاطبته هكذا بــ “جلال” مجردة؟. يسمح لها ونصف. جلست على راحتها، لعلها كانت تقصد السماح ببعض الوقت مثلا، المهم أنه سمح، هى ونيتها يا رب وهو فى حالة السماح هذه تطلب ما لا يخطر على باله، ولا على بال أحد.
ـ هه؟ كيف وجدت الأولاد؟.
ـ على خير ما يرام.
أحس بأنه ليس هو الذى يجيب بهذا الأسلوب، أسلوب رسمى ماسخ مثل تقارير مدرس الفصل لمفتش المادة، تعبير غريب عليه، لكنه التعبير الذى أسعفه.
ابتسمت وكأنها التقطت ما يدور بخلده.
ـ عفاريت؟. أليس كذلك؟.
ـ لا أبدا !!. أيمن فقط هو الذى يحب أن يستفسر عن كل شئ.
ـ أعرف.. وهل أجبته عن تساؤلاته؟.
ـ من أين؟.
قالت عابثة فرحة:
ـ إياك أن تكون قد أربكت الأولاد؟.
ـ وهل هم ناقصون يا سيدتى؟. إنهم عفاريت أكثر مما تحسبين.
ـ أقول لك: جلال، تقول: “سيدتى”؟.
ـ ماذا أقول إذن؟.
إن لم يكن لأنك زوجة آمين عبد الحكيم؟ فكيف أنسى شتوتجارت؟. ماذا تريدين؟.
ـ فاتيما، أو فاطمة إن شئت.
ـ ألم تنبهينى إلى خطورة تغيير الأسماء؟.
ـ بلى.. بلى، كنت أعنى ألا نكتفى بتغيير الأسماء. مجرد تغيير الأسماء بديلا عن التغيير الحقيقى عبث، وأحيانا يكون خداعا أو خطرا.
ـ لقد قلت إن تغيير الأسماء هو تهديد للهوية، أوهذا ما فهمته على الأقل.
ـ مازلت عند رأيى، الاسم علامة لا تتغير، نحن نغير داخلنا إذا شئت، لكنى فى ذات الوقت أقبل تعدد الأسماء، لا أعنى أسماء التدليل، ولكن من حق كل واحد أن يرانى بالاسم الذى يشاء. مثلا: السائق هنا والشغالة والحارس كلهم ينادوننى بفاطمة؛ لأن اسم فاتيما غير معتاد.
ـ أرجو أن أنضم إليهم، هذا يشرفنى إن كنت لا تعلمين.
ـ اسمع يا جلال، أنا أعرف عنك أكثر مما تتصور، صديقتنا منال، أعنى صديقة زوجى، صديقتنا يعنى، حكت لنا، لى أنا وأمين تاريخك كله، فبدا لنا تاريخا جديرا بالتأمل والاحترام. أنت تحاول أن تكون أنت باستمرار. هذا ما وصلنا من منال على الأقل. ليس كذلك تماما لكن… لا أعرف ماذا أقول لك؟.
تعجب لحديثها عن منال، كما تعجب لحديث منال عنه.
ـ منال لا تعرفنى!.
ـ أعرف.
ـ من أين تعرفين أنها لا تعرفنى؟.
ـ لأنها لا تعرف نفسها.
ـ ومن أين عرفت، أنها لا تعرف نفسها؟.
ـ ماذا ياجلال؟ تحقيق هذا؟. نادنى كما تشاء حتى لو قلت صاحبة العصمة أو صاحبة الجلالة، لكن دعك من هذا التحقيق، نرجع للموضوع ما رأيك؟.
ـ فيم؟.
ـ فى الأولاد.
ـ يبدون كما لو كانوا أولادك جدا، أكثر مما هم أولاد أبيهم.
ـ الله يجازيك، هل تتصور أن أباهم لم يلاحظ ذلك؟.
ـ طبعا، لاحظ، وربما غار.
ـ لا أبدا، هو بعيد، مطمئن، موافق، يعمل كثيرا ويكسب كثيرا، ويشترى دماغه. ويوافق، وخلاص، هو يسلم نفسه لطلبات الأولاد، وينسى.
كاد يقول، وهل يسرى هذا أيضا على منال، وعليك؟، لكنه أحجم، ثم وجد داخله يقترب منها بلا دعوة، أو بدعوة سرية. وجد قلبه يخفق مثل مراهق فى السنة الثانية فى مدرسة ثانوية، يقف به المصعد فجأة بين الدور الثالث والرابع، وليس معه داخل المصعد إلا جارتهم الحسناء جدا، الفائرة جدا، المتزوجة حديثا، الجاهزة دوما، ما هذه الخواطر؟. لماذا يقفز منه داخله نحوها هكذا؟. هو ليس مراهقا، ولا سائبا، ولا أى شئ.نهر نفسه نهرا شديدا، وهو لا يكاد يصدق، فتضاعف خجله، وربما استغفر، لكن الذى أعلنه أنه أغضى بصره حتى كاد يطأطئ رأسه، ويبدو أنها لاحـظت.
ـ ماذا بك يا جلال؟.
أفاق فجأة، ورفع رأسه ولم تكن الحالة قد ذهبت. ماذا به؟ احتواها شهية دون استئذان. كان يترجم لغة داخله الزاحف. هز نفسه ناهرا بلا قهر.
ـ لا.. أبدا، تذكرت موعدا لابد أن ألحق به.
ـ آسفة،أخرتك.
ـ لا أبدا.
ـ تتصل بالأولاد لتحددوا الميعاد؟ إلى متى التأجيل؟.
ـ طبعا.
ـ بالهاتف إن لم يكن عندك وقت.
ـ…….
ـ 2ـ
ـ ممدوح يا موسى.
ـ جلال يا أناضولى.
ـ خالتك اسمها حنفى.
ـ الله الله!!! من أين أنت قادم بالله عليك؟.
فى حجرة سكرتير تحرير “مجلة المسار”، بشارع المبتديان، كانت الساعة الحادية عشرة مساء والعدد الجديد من الصحيفة الأسبوعية (ذات التصريح القبرصى) صدر أول أمس، وميعاده الرسمى أمس، والدنيا رائقة نسبيا، وكان جلال قد حضر هكذا دون استئذان، أخذها سيرا على الأقدام من ميدان التوفيقية حتى شارع المبتديان؛ حيث مقر الصحيفة المؤقت. لم يحدد الدافع الذى جعله يحضر هكذا دون إخطار، بل دون داع، لعل الدافع هو عم إدريس الذى سأله عن بقية الثلة، وعن ممدوح موسى بالذات، مجرد سؤال عن أحواله، وأنه لم يره من زمان، فحضر.
ـ تصور يا ممدوح يا موسى أنا لم أفهم دلالة هذه العبارة أبدا.
ـ أية عبارة؟.
ـ “خالتك اسمها حنفى”.
ـ ولا أنا، أحسن شئ ألا تفهم، وأن ترضى بذلك.
ـ وقعت فى يدى نشرة أمس عن مؤتمر علمى مكتوب على غلافها عبارة “الفضيلة تواكب العلم”، تصور!!.
ـ ماذا فى هذا؟ عبارة واضحة كالشمس.
ـ تعبير “خالتك اسمها حنفى” هو واضح أيضا.
ـ آه صحيح، واضح لكن فيه معايرة. ما ذنبك إذا كانت خالتك اسمها حنفى؟.
ـ وما ذنب العلم إذا كانوا قد سرقوا منه الفضيلة؟.
ـ صحيح !!. من الذى سرق العلم؟.
ـ أصحاب الفضيلة.
ـ أنا أحب أبلة فضيلة.
ـ أنت لست على بعضك يا جلال، من أين أنت قادم؟.
ـ لا صحيح. هل أنت الذى سميت خالتك؟.
ـ والله زمان يا جلال يا بن غريب، والله زمان. ماذا بك هذا المساء؟.
ـ أين تذهب هذا المساء؟.
ـ والمصحف أنت شارب.
ـ والقرآن المجيد… (ولم يكمل).
نظر كل منهما للآخر، واحد يحلف بالمصحف، والآخر بالقرآن المجيد. استطرد جلال، وهو يتحدي؛ ليثبت أنه فائق، وهو ما أتى من ميدان التوفيقية سيرا على الأقدام إلا ليفيق، ثم إنه وهو كذلك، هو أكثر فوقانا من ممدوح موسى. ما الذى جعل عم إدريس يسأله عن ممدوح؟ كان قد قرر أن يقطع صلته بالصحافة منذ فكر فى حكاية التدريس للأطفال هذه، لغات وكمبيوتر، كمبيوتر ولغات (أضاف فى سره بصوت أكثر خفوتا، مع أن كل الكلام كان فى سره: “و.. وقرآن”). حين راح مخه ينغم الكلمات دون إرادة منه، أحس أن مسألة الفوقان هذه بعيدة المنال فى الوقت الراهن، وأن مباحثاته مع ممدوح موسى فى مسائل “العلم” و”أبلة فضيلة” و”خالته حنفى” هى مباحثات “واعدة وبناءة”.
يبدو أنه قال اللفظين الأخيرين بصوت مرتفع.
فرح ممدوح بأنه قفشه متلبسا، وأنه سـيرجع إليه الاتهام.
ـ جلال يا غريب، ما هى التى “واعدة وبناءة”؟.
ـ المحادثات؟.
ـ هأ أو…، محادثات من يا بطل؟.
ـ محادثات باراك وعرفات، ألستم هنا فى صحيفة المسار ضد التطبيع؟. لقد جئت لكم بما يثبت أنكم أخطأتم، فها هى المحادثات “واعدة وبناءة”، فما اعتراضكم؟.
ـ خلها فى سرك يا رجل، أنت ابتعدت عن الصحافة، ولا تعلم إلى أين وصلنا؟.
ـ إلى سان فرنسيسكو.
ـ ألم أقل لك إنك طينة.
ـ هل عندك أريكة أتمدد عليها قليلا؟.
ـ هذه دار صحفية، وليست فندقا يا عم جلال.
ـ أعرف، ولكن لابد أن هناك أريكة، الأمر لا يسلم. الشئ لزوم الشئ.
ـ لا، إسمح لى.
ـ السلام بالدماء.
ـ الله..الله!! والله أنا فرحان أن أراك هكذا، والله زمان، فى غير هذه الأحوال دمك يلطش، اسمها الجلاء بالدماء، وليس السلام بالدماء!
ـ آه صحيح!!. ما أنا قلت الجلاء بالدماء.
ـ لا، أنت قلت السلام بالدماء.
ـ طيب يا سيدى نصلحها، أو بالتعبير الجديد، نحدِّتها: “السلام بالكلام”، “والجلاء بالدماء” حلوة هذه؟.
ـ قديمة.
ـ… سوف أجعلها تنفع: “السلام بالدماء”، إنهم يذبحوننا، ويكسرون عظامنا، ويقتلون أطفالنا، كل ذلك سعيا حثيثا فى سبيل “السلام”، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
ـ والله فكرة، سوف آتى معك المرة القادمة مادام الصنف بهذه الجودة.
ـ عم إدريس يسلم عليك.
ـ إظهر وبان، كيفه.
ـ هل تعرف أن السبعينيين قد أخطأوا الطريق؟.
ـ كيف؟.
ـ كنتم تتعاطون السياسة صرف (سك)، أما الآن فقد تعلمنا نحن أن نخلطها بقليل من الجنس والبورصة والثقافة و.. وحقوق الإنسان.
ـ لا لا، أنت مائة فل وأربعة عشر يا جلال.
ـ3 ـ
فرك عينيه وهو يتلفت حوله، ويرفع جفنيه بتثاقل ثم بسرعة، قفز ليتأكد أنه لا يحلم وهو يتحسس جسمه وساقيه بيديه، ما الذى أتى به إلى هنا؟. أين هو؟. نظر إلى المكتب الكبير وحاول أن يتذكر بعد أن عاد وألقى نفسه فى الكرسى الكبير، متى؟. كيف؟. نظر فى الساعة، السادسة؟. يا خبر!!، نور النهار يتسحب إلى الحجرة، بدأ يتذكر تدريجيا وهو حزين، اختلط الحزن، بالخجل، بالصداع، وأخذ كل واحد منهم يحاول أن يحتل مساحة أكبر مع تراجع الدهشة وزحف التذكر. أف على كل هذا، أين ممدوح؟. تركه النذل. أما كان أولى به أن يصحبه إلى منزله، يتركه هكذا؟. وعلى الكرسى؟. ألا توجد أريكة فى حجرة مجاورة؟.
دق جرس التليفون فتردد فى رفع السماعة، ماله هو؟. ماذا لو شك أحدهم فيه، أو حضر من لا يعرفه؟. ولا يعرف علاقته بممدوح، لن يرد، سكت الرنين بعد فترة فتنهد أحس بمثانته ممتلئة، يا خبر! أين دورة المياه؟. تلفت حوله لعل ثم بابا يؤدى إليها، لكنها حجرة سكرتير التحرير، ويستحيل أن يكون بها مثل هذه الرفاهية، فما العمل؟. يخرج إلى الصالة يبحث عن دورة المياه؟. ماذا لو يقابله أحد لا يعرفه؟ ماذا يقول له؟. وحتى لو لم يخرج لابد أن الساعى سيحضر عاجلا، أو حتى آجلا، سيحضر سيحضر. رن جرس التليفون من جديد، كان شعوره المتزايد بامتلاء المثانة مبررا كافيا للرد على التليفون.
ـ آسف ماذا يا ممدوح؟. أهكذا؟. أهكذا أيضا؟.
حاول بجهد متوسط ألا يقفل المكالمة، يريد أن يعرف مكان دورة المياه أولا وقبل كل شئ، ثم يحدث ما يحدث بعد ذلك، قبل أسف ممدوح بعد أن شرح له الموقف بسرعة، وأنه حين وجده متعبا، نزل يقرب السيارة أمام مدخل العمارة ليصحبه إلى المنزل، كان قد ركنها بعيدا فى الشارع الموازى وقت حضوره، ثم حكى له عن الحادثة الصغيرة التى كبرت وتمادت وتضاعفت حتى وصلت إلى القسم، وبلغت حد الاشتباه، وكيف أن السيارة الأخرى كانت بها ممنوعات، وهو لا يعرف أى نوع من الممنوعات، ويبدو أن قائدها تخلص من بعضها بإلقائها داخل سيارته، وكلام كثير من هذا وتفاصيل لازمة، وغير لازمة، والمثانة تزداد إلحاحا، وجلال يقتنع بسرعة بيولوجية.
ـ خلاص خلاص يا ممدوح حصل خير، شكرا، أين دورة المياه هنا؟ جاءت سليمة، أين دورة المياه فى شقتكم المظلمة هذه؟.
تعجب جلال من الجواب، طبعا، لابد أنها عبر الصالة، وسيجدها على اليمين أو على الشمال، اطمأن إلى أن ممدوحا قد اتصل بالحارس والبواب وأخبرهما بوجوده.
ـ ماشى.. سأنتظرك على كل حال، لا تتأخر.
قرر أن ينتظره لسببين: الأول حتى يعرف منه ماذا قال أمس بالضبط؟. والثانى حتى يمكن أن يختلق مبررا لمجيئه غير ما قاله له مما لا يعرف.
ودعا الله فى سره أن يستره.
ـ4 ـ
كان جلال يتصفح أعدادا قديمة، من الصحيفة الأسبوعية المسار، أى مسار؟. كلام مجانى، لو كان هو المسؤول، لسمى الصحيفة “إلى أين؟” قرأ مرة فى تاريخ الثورة أن مقالا بعنوان “إلى أين” فى بداية الثورة قد أغلق صحيفة عريقة كان اسمها “المصرى”، لعل كاتبه كان أحمد أبو الفتح. نعم، إلى أين؟. صحيح إلى أين؟. قال المسار قال !!.
رفع رأسه بعد سماعه فتح الباب ليجد الرجل الطيب فوق الستين وهو يبتسم ابتسامة مصرية من ابـتسامات ما قبل الثورة (حسب ما تؤكده الأفلام: أبيض واسود)، حتى الابتسامات تأتى على السيرة، وبعد تبادل تحية الصباح سريعا سريعا بادره الرجل الطيب:
ـ ألا تذكرنى يا أستاذ جلال؟.
ـ طبعا أذكرك.
لم يكن يذكره ولا حاجة، لكنه اعتاد هذه الإجابة، مثل معظم الناس، وقد التقط عم بيومى المجاملة فلم يواصل بسؤاله “إذن من يكون؟”.
ـ كانت أيام يا أستاذ جلال، لم تكن منهم بعد، أنا أحسست بذلك، شقة الأستاذ رامى فرغلى، والمنشورات، والأستاذة منال، ووالدك الله يرحمه حين جاء يبحث عنك.
ـ عم بيومى !!؟!!!؟.
قفز من على كرسيه فرحا، ولم يلاحظ أن هذا يعنى أنه لم يتذكره أولا، شعر بأبوة سهلة، ما الذى جعل عم بيومى يذكره الآن بهذا الحادث؟ فاستطرد، مصححا (دون داع):
ـ لم يكن والدى يا عم بيومى.
ـ كان يحبك بشكل.
ـ كان عمى…. عمى سليمان.
ـ كيف حاله؟.
ـ تعيش انت، العمر الطويل لك.
ـ الله يرحمه، بصراحة لا أنسى لهفته، كيف لم يكن والدك؟ لقد كان والدك ونصف.
ـ طبعا، قالوا: والدك من؟ قالوا: من رباك؟.
ـ عليك نور، مثل هذا يا أستاذ جلال؟ أنا لم أسمع به.
ـ ولا أنا.
ـ مثل زمان يا أستاذ جلال، ابن حظ. أين الأستاذ رامى فرغلى الآن؟. هل تراه؟.
ـ رأيته مصادفة من مدة قصيرة.
ـ كيف حاله؟.
كاد يحكى له عن تفاصيل المقابلة أمام أمريكين سليمان باشا، لكنه تراجع.
ـ بخير… بخير.. لم أره إلا مرة واحدة لكنه بخير، هل ترى أى أحد من الثلة يا عم بيومى؟.
ـ الأستاذة منال أراها أحيانا، تأتى هنا أحيانا، تكتب عندنا أشياء جديدة يضحك منها الأستاذ ممدوح كثيرا، تدخن كثيرا، وتنفخ كثيرا، بنت حلال والله يا أستاذ جلال.
ـ صحيح، بنت حلال، وأنت يا عم بيومى، كيف حال العيال؟.
ذكره عم بيومى أنه لم ينجب وعاتبه أنه نسيه، فاستسمحه جلال أن يفوت له، فهو متعب. وقد صدق عم بيومى وانصرف بسماحة أكبر مما طلب جلال.
ـ سأحضر لك الشاى حالا، هل أحضر معه شيئا خفيفا؟.
شكره جلال، واكتفى بالشاى وعاد يتصفح الأعداد أمامه وهو يتساءل بعد أن تمت إفاقته: أليس الأولى به أن يذهب من فوره؟. ليس عنده ما يقوله، حتى عم بيومى، ليس عنده أولاد، ولا أحفاد. هو خارج مشروعه بشكل أو بآخر، يريد أن ينجح أولا ولو مع طفل واحد، ثم يتحدث عنه للجميع، يريد أن يكتب عن هذا الطفل كلاما منظما ومفصلا، أحيانا يتصور أنه سينتهى من هذه التجربة بكتاب فى التربية مختلف كل الاختلاف عن كل كتب التربية المعروفة، أو حتى يكتب قصة.
ثم خطر بباله خاطر أفزعه حول مشروعه. ذلك أنه فى قرارة نفسه يتمنى أن يفشل فشلا مبكرا وحاسما حتى يكف عنه، وبقدر ما رحب بترحيب زوجة أمين عبد الحكيم، هذه الألمانية المحجبة، فإنه فرح أكثر ـ برغم الحرج ـ بصعوبة المقابلة الأولى مع أولادها، الفشل ظاهر منذ البداية، والعيال فى غاية اليقظة، لا يصلحون أطفال تجارب؟ الأطفال ليسوا فئرانا يا أخى.
ما البديل؟.
تصور أنه لو نجح النقيب أو الرائد أو حتى المقدم محمود عبد السلام فى أن يستقيل، وأن يهجر القاهرة إلى جرزة، وأن يأخذ أولاده وأمهم معه، وأن يبنى لهم مستقبلهم الخاص جدا والمختلف جدا، فقد يكونون هم أنسب الأطفال لتعليمهم ما يريد مما يتصور أن به يتم تنظيم الدماغ البشرى المعاصر.
ثم إنه عاد يتمنى ألا يحدث أى من هذا أبدا.
أى بصيرة حادة يرصد بها خيبته الحالية، والمنتظرة؟. ولماذا لا تحول هذه البصيرة دون التمادى فى أحلامه هذه، وياليت أحلامه هذه تقتصر عليه وعلى خيبته البليغة فى محيطه الخاص، ولا تمتد إلى الناس، وخاصة الأطفال.
كاد يبكى، كل همه ألا تفسد أمريكا الأطفال، كل الأطفال. هل فى هذا عيب؟.
إذا أرادت أمريكا أن تفسد الناس أطفالا، فلتبدأ بأطفالها هى، أطفال أمريكا، ولا حتى أطفال أمريكا. هو مسؤول عن كل أطفال العالم.
الأطفال أحباب الله.
وهو حبيب من؟.
هل مازالت آثار أمس تعمل دون رادع؟.
ـ5 ـ
أجاب فجأة على طرقات الباب التى أنقذته من كل هذا الإحباط:
ـ تفضل، ادخل.
…. كاملة النضج، كان يظن أن الطارق ممدوح، لعلها فى ريعان منتصف العمر دون تسنين، لكنها رائعة الأنوثة، محتشمة الجمال برغم قوته وحضوره، سمراء على خفيف، واسعة العينين، لماذا أصبحت كل النساء جميلات هكذا فجأة، ليس فجأة تماما،لكن فجأة : الواحدة وراء الثانية؟.
ـ آسفة، لكن عم بيومى هو الذى أذن لى وقال إن حضرتك صديق ممدوح، وإنك تنتظره، وإننى يمكن أن أنتظره معك، قصدى…، هل تسمح؟.
ربنا يخليك يا عم بيومى يا أمير، كنت على وشك أن أعلن التسليم بلا قيد ولا شرط، يبدو أن الفشل يحتاج إلى قدر من الشجاعة ليس أقل مما يحتاجه النجاح، نظر إلى يديها فجأة، إلى أصابعها مباشرة، ليس يدرى لـم هكذا بهذه السرعة، ومن الأول، لا تلبس “دبله”، لا فى اليمين ولا فى الشمال، لا هو صائد نساء، ولا هو ينوى إعادة محاولة الزواج، إذن ماذا؟ ودعا الله ألا تكون قد لاحظت.
ـ اسمى جلال غريب.
ـ وأنا بسمة قنديل.
ـ بسمة من؟.
ـ بسمة قنديل، هل تعرفنى؟.
ـ طبعا، أنا قرأت لك كثيرا، (واستدرك)… أيام القراءة.
قال ذلك وهـم أن يقوم ليصافحها من جديد، كانت قد جلست قبالته على الكرسى الآخر الذى أمام المكتب، وبينهما طاولة عريضة حالت ـ والحمد لله ـ دون معاودة مصافحتها، لاحظت هى كل ذلك، سألته:
ـ أيام القراءة؟ هل كانت للقراءة أيام، فماذا عن أيامنا الآن؟ هل هى أيام الكتابة؟.
ـ أقصد أيام القراءة والكتابة.
ضحكت بصوت أعلى فازدادت أنوثتها حضورا، وتساءلت وهى لم تنه ضحكتها بعد:
ـ والله فكرة، الأمية الثانية، “الأمية اختيارا”، اسم فيلم حداثى !.
اندفع يشرح لها فكرته دون استئذان، لكنه اكتشف بعد دقائق أنه لم يقل شيئا محددا، وتعجب لحسن إنصاتها، هذه ميزة القصصيين، ينتهزونها فرصة لقصة جديدة، يشعر أنه وضع فجأة تحت عدسة مكبرة، وأن ما يمكن أن يقوله، قد يصلح أن يكون مادة قصة، بل رواية، هل التقطت شيئا من أفكاره التى طردها بعيدا وهو يقول:
ـ اسمحى لى أن أقدم لك احترامى.
فرح فرحا مناسبا، ثم ملكه غم ملاحق، ما أسهل إطلاق الحكمة، وما أصعب تنفيذها، ثم إنها كتبت مثل هذا فى قصصها، إنه معجب أشد الإعجاب بما تكتب، ليس فى الأمر جديد،” الكتابة هى….. “، وابتسم وهو ينظر إليها، قالت فى سماح أكبر:
ـ ماذا؟ ماذا هناك؟. ابتسامتك تقول شيئا يثيرنى.
ـ تذكرت بعض كتاباتك، وتخيلت أنها أسهمت فى إلهامى مشروعى.
ـ ألهمتك ماذا؟.
قرر فجأة ألا يخوض معها فى أية تفاصيل أخرى، وراح يحكى لها رأيه فى بعض ما تذكر من قصصها. هو يعرف أنه يستطيع أن يفتح قلب أى كاتب متى أشار إلى ما كتب، أو أشعره أنه قرأه بجدية كافية، لكنه كان فعلا منبهرا بما تكتب، ولم يكن يتصور، لا يدرى لماذا، أنها هكذا، قالها ورزقه على الله.
ـ على الرغم من صورتك على بعض مجموعاتك إلا أننى لم أكن أتخيلك هكذا.
ـ هكذا ماذا؟.
تأسف، وتهته، واعتذر بأنه مجرد صحفى سابق، وذكر اسمه كاملا بلا داع. اعترضت بسمة على كلمة “سابق” وتذكرت – ربما فجأة أيضا – مقالا شدها نشر فى الاهرام مؤخرا وأن الاسم استرعى انتباهها فعلا؛ حيث ذكرها بذكرى قديمة كانت السبب فى تغيير مسارها، وربما فى إبداعها.
ـ تقول جلال الأناضولى. كنت أعرف شخصا ربما كان قريبا لك، كان زمان، اسمه غريب الأناضولى، لكن مدى علمى أنه لم يتزوج ولم ينجب.
قال إن عندها حقا، وأن الأمرقد لا يعدو أن يكون تشابه أسماء، لأن والده لم ينجبه حتى لو كان هو والده. قال كل ذلك فى سره وهو يهمهم.
عادت بسمة إلى فكرة المقال فاندفع يشرح هذه المرة كيف سينقذ الأطفال من المدارس، حتى كاد يزعم أنه سيحل شخصيا محل المدارس، ثم توقف.
ود لو يتراجع، أراد أن يهرب فوقع، لو أنها أعفته من شرح فكرته التى أصبح يخجل منها وهو يخفى فخره بها، دخل ممدوح فى هذه اللحظة بالذات وكأن حدس جلال نجح فى أن يناديه لينقذه، وبعد أن تأسف ورحب..، وتأسف ورحب، سألهما:
ـ هل تعرفتما؟.
بادرت بسمة ضاحكة بمغزى:
ـ جدا.
التفت إلى جلال فى دهشة:
ـ جدا؟.
فهم جلال لمزته الخفيفة فأسرع:
ـ الأستاذة بسمة من أندر من غاص فى المشاعر الإنسانية، وصورها إبداعا قصصيا يصلك فى دقائق أو أقل، ثم إن حضورها هذا الصباح أنقذك مما كان ينتظرك منى.
ـ ألم تقبل عذرى، والله حتى الخامسة صباحا فى قسم البوليس.
حكى ممدوح بسرعة عن ذكاء الضابط الذى أطلق سراحه أخيرا بعد أن استبعد أن توجد مضبوطات متشابهه فى سيارتين لايعرف صاحبهما اسم الآخر، وزاد فى مساحة التعرف بين بسمة وجلال، مطمئنا إياها أن جلالا من المنتسبين، وأنه ليس سبعينيا خالصا، كما أن بسمة تعتبر نفسها من جيل الستينيين.
قالت بسمة:
ـ رجحت ذلك.
قال جلال فجأة :
ـ رجحت ماذا؟.
ـ رجحت أنك لست سبعينيا.
قال ممدوح متحفزا وهو يوجه السؤال إلى كليهما:
- ومن السبعينى عندك يا ست الكل؟.
رد جلال وهو يحاول أن يكون غير ما يشعر.
ـ السبعينى هو من ليس ستينيا ولا ثمانينيا.
ولم يضحك أحد.
ـ 6ـ
قال جلال وهو متردد:
” لولا أن هناك شيئا اسمه الغيب، لما كان ثم مبرر لأى شئ”.
ثم كررها مرة أخرى بيقين لا يعرف مصدره.
قبل أن ينام جاءه صوت محمود عبد السلام المشد عبر الهاتف يخبره فـرحا، أنهم قبلوا استقالته، فرد عليه جلال:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
* * *
الفصل الثامن
المريوطية
…. بدا اللون الأخضر متعددالدرجات حتى استحال رماديا فى بعض مواقعه، ناهيك عن أنه كاد يختفى فى ثنيات الرائحة النتنة ، تبرقش المنظر كله بما يشبه البقع المتناثرة بشكل قبيح وكأنها لا تنتمى إلى ما يسمى ألوانا أصلا، لكن سوادا خبيثا يطل منها أحيانا فيلمع، ليس لأنه يعكس أشعة الشمس، ولكن ليؤكد لـزوجته برغم هشاشته.
كل بقعة منفصلة عما بجوارها حتى لو كانا من نفس اللون. جميع البقع تدعوك إلى القاع، ولكنه ليس قاعا واحدا معا على كل حال.
وصل حجم الذباب ذى الطنين النشاز إلى ما بين النحلة والزنبور، يبلغ من ثقله وجسارته أنك تخشى أن تهشه من على جسدك حتى لا يعضك.
اختلط الطنين النشاز، باللزوجة الهشة، بالرائحة النتنة، باللون الكالح المتغير، فتكون من كل ذلك كيان غازى ثقيل جعل العالم الفذ الدكتور جميل النشرتى يبذل جهدا فائقا وهو يسحب الشهيق إلى صدره، ثم إنه يبذل نفس الجهد حين يحاول أن يزفر ما شهق بعد أن تفاعل داخله بما لا يدرى، فيخرج فحيحا مندفعا كأنه اللهيب الذى ينطلق من وابور اللحام يمسكه ابن عم محمد حسن سمكرى السيارات.
على شجرة قريبة مورقة، ودون أن تهب الريح، تساقطت قشات عش عصفورة ضئيلة الحجم، تناثر ما كان بالعش فانكسرت البيضات المتناهية الصغر، مع أن الأرض كانت رخوة تماما.
-1-
كان يحاول أن يـفسح لها طريقا بين زحمة الخارجين، وهى تكاد ترفض ذلك، لكنها تتبعه. كانت الندوة “شديدة الثقافة” “صارخة الحرية”، “حادة العقل” “حريفة المنطق”، يعنى ماذا؟. ما هذه الصفات التى خلقتها لغته الخاصة التى اكتسبها وهو ينسحب من لغتهم؟. حين كان يكتب ليبلغ رأيه للناس الذين لا يريدون أن يسمعوا آراء أصلا، كان يضطر إلى التأدب والتحفظ والتبسط وادعاء الوضوح، وحين كف، أو حيل بينه وبين الناس، وجد هذه اللغة تتخلق لتختصر الوقت والجهد. المختصر المفيد، لا، المخترق الجديد، حلوة هذه، لم يعد يستريح كثيرا حين يطلق على مثل هذه الندوات صفة “ثقافية”، كان قد توقف نسبيا عن حضور الندوات التى تتصف بتلك الصفة الملتـبـسـة (كلمة من معجمهم) كما توقف نهائيا عن حضور الصالونات المنغمسه، (كلمة من معجمه) .
” المنغمسه فى ماذا؟”.
”فى إيهام أنفسهم أن فى الإمكان غير الذى كان. بمجرد الكتابة والكلام.”
”ما هو لازم!!”
”يا الله،…”كله يصبر نفسه”!!”.
لولا أنها هى التى دعته، لما حضر. هو لا يعرف موقفها من هذا النشاط وأمثاله، لابد أنها مازالت تأمل فيهم خيرا، وإلا لما دعته، أو لعلها تكون مثله، اتخذتها حجة لتدعوه، كما اتخذها مبررا ليستجيب.
ثم إنه، والحق يقال، لا يحضر مثل هذه اللقاءات التى يحكم عليها بكل هذا السلب، إلا ويتجدد أمله فى شئ ما.
الأرجح أن هؤلاء الناس يتجمعون -فعلا -على أمل ما. ليس مهما ما يقال فى هذه الاجتماعات والندوات والصالونات، لكن المهم ما يشعر به المترددون عليها من أن الناس مازالت تستطيع أن “تهتم”. تهتم وخلاص.
شئ مختلف، شئ جديد فى هذه القاصة المثيرة التى تجمع بين ما هو إباء متحفز، ودفء واعد.” شئ ما.
علاقته بالمثقفين شئ، وبمؤسسات الثقافة شئ، وبالثقافة نفسها شئ.تعب من شرح وجهة نظره لعدد من الأصدقاء والمعارف والأغراب. لا فائدة، عجز عن أن يوضح نفسه لأحد، طبعا لم يجرؤ أن يكتب رأيه هذا فى مقال. من الذى سوف يقبل نشره، هم لم يعودوا ينشرون له حتى الكلام الماسخ تحصيل الحاصل، وهم يطلبون بدلا منه تحقيقات؟. فكيف يأمل فى نشر ما يهز قيما أصبحت من الرسوخ بحيث لم تعد تثير حفزا إلى مناقشتها أصلا؟.
ليست عنده أية أوهام بالاضطهاد أو حتى بسوء الحظ، هو على يقين أن أحدا لا يرفضه، ولا يقلل من شأنه، فشأنه لم يصل إلى درجة يستأهل معها الرفض أو التهوين. هم فقط أزاحوه، فانزاح.
كان يقلقهم قليلا (أو كثيرا،ليس متأكدا) حين يكتب كلاما مختلفا، حين يعلن موقفا يعتبرونه نشازا، نشازا عن ماذا؟. هل ثم لحن أصلا؟ فاستغنوا عن خدماته بأن شطبوه من ذاكرتهم من الأساس، لكنهم حين يلتقون فبالأحضان والقبل و”أين أنت يا رجل”؟. و “والله زمان”، والله زمان ماذا؟. “الآن” هو الزمان الوحيد. لمـا دعته بسمة، إلى تلك الندوة، تحرك فيه هذا الشئ، هذا الشئ الغامض الذى هو فى أشد الحاجة إليه، شئ ليست له علاقة بالثقافة والمثقفين، ولكن بها شخصيا، برغبته ـ التى لم يتبينها بوضوح ـ فى التعرف على “ماذا هى”، على موطنها الأصلى، على موقعها فى الثقافة أو فى الحياة، أو فى الوعى. كان قد رسم لها صورة ما، استلهمها من نبض قصصها القصيرة التى أبلغته رسائل متنوعة متجددة باستمرار، وكان قد تصور من خلال هذه الصورة، أن مثل هذه الندوة ليست هى موطنها الأصلى، ولا هى حتى موطن هجرتها المؤقت أو الدائم.
من أين أتت؟. وإلى أين تذهب؟.، هذا السؤال وذاك يلحان عليه هذه الأيام. ليست المسألة تسلية، أو تفلسفا. هو السؤال الذى لا يكون الإنسان إنسانا إلا بمحاولة الإجابة عليه، ليس مهما أن يجد الإجابة ولكن المهم المحاولة “إلى أين؟. “إليه يصعد الكلم الطيب”، يعنى ماذا؟. عباءتك يا عمى فضفاضة وظلامها مضئ، لكنك تركتنى معهم دون أن ترسم لى سورة “الناس”، أريد ناسا يا عمى ربما هم الذين يوصلونى إلى، إليه. لا أعرف كيف تزوجتكَ أنت بالذات بعد أبى، أو كيف تزوجتها؟. لا بد أن الله أراد أن يكافئها، ويغفر لها ذنب أنها أنجبتنى من هذه الكراريس، أبى هو الكراريس نفسها وليس الذى كتبها. أمى لم تخدعنى. لم توهمنى أنك أبى، أنا أتقدم إليك مرة أخرى أطلب منك أن تتبنانى من جديد. تتبنانى دون شروط. أعرف سماحك.
يا ترى يقبلنى ربك بجوارك حتى لو لم أتعرف عليه قبل أن نلتقى؟. من يدرى؟.
هل تشفع لى عنده؟.
بائخة هذه، أنا لا أحب الشفاعة.
قل لربك يا عمى إننى أجتهد نحوه طول الوقت، وأنت شاهد، حتى لو لم أصل إليه، فأنت شاهد. ليس ربك وحدك، هو رب حتى من لم يجده. لوصح ما وصلنى منك يا عمى من عدله فسوف يكافأ كل بحسب اجتهاده، لا بحسب ما وصل إليه، حتى لو أدى اجتهاده للبعد عنه. هو أعلم بالصادقين.
” هذا صحيح”.
”كنت أعلم أنك ستوافقنى حتى لو لم تقلها”.
ـ2ـ
كانت تنقر بأصابعها على الطاولة ذات المفرش الجميل فى المطعم الطليانى الصغير، صاحبه مصرى وزوجته طليانية، يقومان بخدمة الزبائن بأنفسهم. توجد على بعد مناسب مائدتان مشغولتان بأجنبى وصاحبته، بل هى مائدة واحدة، ثم صورتهما فى المرآة العريضة التى تعطى المكان الصغير اتساعا يسمح للخيال أن يمتد، وللمتخيل أن يتابع نفسه، جلال يرتاح للتواجد مع الخواجات فى مثل هذه الأماكن، ومع أولاد البلد فى خص الحاجة وردة، أو مقهى صابر فى عزبة البكباشى، وليس ما بينهما (لا خمسة نجوم ولا مهابر الكباب والفراخ المخلية). المطعم الطليانى تحت مستوى الشارع بثلاث درجات. الزرع بجوارهما كثيف قصير، لا يحول دون رؤية بعض المارة النادر مرورهم من خلف الزجاج راجلين، هو الذى اختار هذا المكان لأنه صغير، وجميل، ويعرف أسعاره عن ظهر قلب، ويقدر عليها، وهى قبلت دعوته بعد الندوة وأصرت على أن تكون”دعوة إنجليزى” كل واحد يدفع لنفسه، أو بالنصف، لكنه حين ركب سيارتها قال لها إنها إذا أصرت فلسوف يدفع هو نصف البنزين ونصف استهلاك العربة، ضحكا بحق حين عجزا عن حساب قيمة استهلاك العربة، فتنازلت، وتمت الصفقة: “التوصيلة مقابل العشاء”.
كانت تنقر بأصابعها، على الطاولة الصغيرة ذات المفرش الجميل، لم يكن لحنا بذاته، ولكنه كان نقرا منغما رقيقا، ربما أصابعها الطويلة الناعمة هى التى كانت رقيقة فجعلت النقر رقيقا، وفى ذات الوقت كانت ممتلئة، كيف تمتد أنامل بهذا الطول بلا عروق ظاهرة (أو خفية ـ ربما)، ولا نتوءات عظام ظاهرة (أو خفية !!) لابد أن تكون ممتلئة بالحساب الأنثوى الدقيق. قرب أطراف أصابعه من أطراف أصابعها دون أن يلمسها، أفاد هذا الاستغراق فى التفاصيل فى تجنب التقاء عيونهما قبل الأوان، رفع عينيه، فإذا هى تبتسم وكأنها كانت تتابع إنصاته لحوار الأنامل دون تلامس، ابتسم بدوره، أصابعها كلها خالية من أية خواتم أو حلقات خانقة.
ترددت هى قبل أن تقاطع شطح خياله، ربما لتسمح له بمزيد من الوهم، لكنها لم تستطع إطالة الصمت:
ـ هل قالت لك أصابعى شيئا؟.
ـ قالت لأصابعى، وليس لى.
ـ لا أظن.
ـ ولا أنا، رجعت فى كلامى.
ـ قل أنت.
ـ ماذا أقول؟.
ـ أى شئ غير ما فى بالك؟.
نظر إلى العشرين إصبعا وانتبه مرة أخرى إلى ما انتبه إليه بالنسبة إلى أصابعها: لا خواتم ولا حلقات، لا عروق ولا عظام.
ـ إذا كنا قد نجحنا فى أن نتخلص مما يخنق الأصابع فنحن لم نستطع أن نتخلص مما يخنق وجودنا، هذه فرصة أكبر لمزيد من الحرية.
ـ . . . . الحرية؟. هل أنت ممن يعيشون وهم الحرية؟.
ـ يعنى.
ـ ألا تعتقد أن الحرية أصبحت من الكلمات المتحفية هى الأخرى، مثل الديمقراطية والعدل؟.
ـ أعتقد، لكننى لا أجرؤ أن أفتح هذه السيرة مع أحد.
ـ ولا أنا.
ـ أنت التى فتحتيها.
ـ مغامرة.
ـ جاءت سليمة.
ـ لست متأكدة.
خطر بباله فجأة، دون أى مبرر ظاهر، ودون ذوق أيضا، أن يسألها عن سنها، ما أقل ذوقه، ما هذا السخف؟. تراجع من فوره، هذه الأنوثة الطاغية من حقها أن تشكل عمرها كما شاءت، أنى شاءت.
ـ أنا متأكد أنك تبحثين مثلى، على الأقل من خلال قصصك.
ـ أبحث عن ماذا؟.
ـ عما أبحث عنه، عما يبحث عنه أى واحد يريد شيئا آخر.
ـ شيئا آخر، أم شيئا أول؟.
ـ ألم أقل لك إننا نبحث عن نفس الشئ.
ـ يعنى. ماذا يهم الناس فيما نبحث فيه أو عنه، المهم الناس.
ـ قد نجد أن ما يصلح لنا هو هو ما يحتاجه الناس.
ـ لقد توقفت عن تعاطى هذا الكلام بعد ما جرى لى ما جرى فى عيادة طبيب مجنون، اكتشفت أننا لا بد أن نعيش بجوار كل هذه التساؤلات التى ليست لها إجابة، لا أن نحاول أن نحقق ما نظنه إجاباتها فنجن مثله. من ثم وجب الفن فهو الذى يجاور التساؤلات لا يجيب عليها ولا ينفيها.
ـ لست فاهما تماما، قلت “طبيب مجنون”. أليس كذلك؟.
ـ .. طبيب نفسى كان يحلم مثل مرضاه الشاطحين تماما، لكنه يرتدى سماعة ويكتب وصفات، هو أخطر. يا ساتر، أية ذكرى، وأية شهرة، وأية خدعة، كان يريد أن يعدل الكون من خلال مرضاه، كان يتصور أن ما عجز عنه الأصحاء سوف يحققه المرضى، وهذه هى النتيجة. تلك التى تجلس أمامك.
ـ، نتيجة مثل الفل، لو أعرف أنك شخصيا نتيجة شطحاته وأحلامه تلك لما تردت فى الذهاب إليه.
ـ أحلام ماذا وشطحات ماذا ؟ قلت لك إنه مجنون، طبيب مجنون.
ـ وأنت؟.
ـ كما ترى، أنا لا أنسى فضله، لا أنكره، مستحيل، لكن حياتى توقفت عند ما كان يطمعنا فيه، كان يتصور أن الإنسان يمكن أن يكون إنسانا، وأن الله موجود فى علاقاتنا وامتداداتنا، وليس فى عقولنا ولا فى السماء، وكلام من هذا.
ـ أهذا هو ما تثبتين به جنونه؟.
ـ لست أدرى ماذا أقول لك بالضبط، الذى خرجت به هو أننى مازلت أبحث عما كان يقوله لنا، عما كنا نمارسه فى صحبته، كان عبثا أن تبحث عن كل الأصول والجذور والمعنى وأنت تجلس مع أمثالك الحائرين المخدوعين فى حجرة مغلقة، إن كنت تريد أن تبحث: ليس أمامك إلا أن تفعلها أنت بما هو أنت، وسط الناس وبهم، ثم لا تتوقف، حتى لوتركوك.
ـ يا ليت .. كيف؟. مشاريعى فى هذا الاتجاه كلها مضحكة، لا تريد أن تبدأ أصلا.
ـ حين أكتب ما أكتب لا أتصور أننى أكتب، أنا أتحرك مع الحروف والصور، فعـل الكتابة شئ، ورسم الكتابة شئ آخر،.،.،.،.
ـ واحدة واحدة على من فضلك.
ـ ومع ذلك فأنا لا أنكر فضله، كلما كتبت قصة، مفاجئة لى، شعرت أننى أقترب منه.
ـ ممن؟. من الطبيب أم من الجنون؟.
ـ منه وخلاص يا أخى، ألا تفهم؟.
ـ يا بسمة، واحدة واحدة على، تشغلنى هذه الأمور وأهرب منها بانتظام، كيف تتكلمين عنها بهذه البساطة؟. أنا لا أعرف كيف حلها هؤلاء المثقفون، أوعلى الأقل كيف تخلصوا منها، نحن فعلا نمتد، إلى أين؟. هل لابد أن نعرف أم نواصل الامتداد، وخلاص؟.
ـ كانت تجربة فظيعة حالت دون أن أعيش مثل الناس، حالت دون أن يكون لى بيت وأولاد. هذه التجربة نفسها هى التى جعلت منى تلك التى تجلس معك الآن. قصصية أنا أم ماذا؟. لست أدرى. حين أكتب، أحس أننى أخترق الحواجز إليه، فجأة يلتحم كل شئ بكل شئ، ثم يضيؤك فتقول. ربما يرجع الفضل إلى هذه التجربة التى أشكو لك منها الآن، أحيانا أشعر أن ما تضيفه الكتابة إليهم، إلى، هو بفضل هذا الدكتور نورالدين. لكن الثمن غال. لست متأكدة إن كان هو قد دفعه شخصيا أم أنه أحال فاتورته على حساب مرضاه؟. على حسابنا.
ـ تقولين الدكتور نور الدين؟.
ـ نعم، لم أكن أريد أن أذكر اسمه.
- الدكتور عبد الحكيم نور الدين؟.
- نعم هل تعرفه؟.
ـ أعرفه؟. أظن أنه..، أننى…..
ـ كان معنا واحد اسمه يشبه اسم والدك غريب الأناضولى، ظل يمشى فى الاتجاه المضاد طول الوقت حتى اختفى.
شعر أنه يحتاج، ضد مقاومة شديدة، أن يقول ما يعرف، أغلب ما يعرف، تذكر أنه قد لاحظ انتباهها لاسمه من البداية، وأنه لم يتماد فى النفى أو الإثبات، وأنه لا يريد أن يفتح هذا الموضوع الذى يحيطه من كل جانب بمصادفات لا يمكن أن تكون مصادفات، من هذا الطبيب الذى يظهر له مثل الشبح، فى هؤلاء الذين يلقاهم بهذا الشكل؟. لم يجد مفرا من أن يقر أنه ابن أبيه ذى الاسم المذكور، وأن يشير إلى بعض محتويات الكراسات اياها. لم تصدق بسمة مع أنها كانت تومئ برأسها طول الوقت. سألته بحدة ليست مناسبة وهى تريد ألا تصدق.
ـ هل أنت متأكد أنك ابن غريب الأناضولى.
أجاب ساهما فى رفض غامض:
- بصراحة لست متأكدا تماما. كم تمنيت ألا يكون هذا صحيحا، أنا لم أر أبى هذا أبدا، ومع ذلك أكاد أعرف كل من كان يعرفه، والعجيب أكثر هو ذلك الطبيب الذى يدور حوله حديث كل من يعرف، أو يسمع عن، أبى، حتى ابنه، تعرفت عليه أيضا.
ـ ابن من؟.
ـ ابن طبيبك هذا.
ـ هل أنت متأكد؟.
ـ شككت فى البداية لكننى تأكدت بعد ذلك.
ـ ابن الدكتور عبد الحكيم نور الدين؟.
ـ نعم: أمين عبد الحكيم نور الدين. عرفتنى عليه صديقة كفاح قديم، والدها كان يعرفه أيضا. صمتت بسمة فجأة، وبدا عليها استغراب لايريد أن يدعها تصدق.
ـ حذار أن تذهب إليه، قد يكون مثل أبيه، لابد أن يكون طبيبا مهفوفا مثل أبيه.
ـ أذهب ماذا؟. ومهفوف ماذا؟. لا أنا مريض ولا هو طبيب.
ـ ألم تكن تتحدث عن ابن الدكتور عبد الحكيم نور الدين؟.
ـ نعم، لكنه ليس طبيبا؟. أصلا.
ـ ماذا يعمل إن لم يكن طبيبا، كان أبوه يصر أن نكون جميعا أطباء، هواة أو محترفين، لم يكن يفرق، كان يقول إن المجتمع يحتاج إلى أطباء من كل الأشكال، وكنت أحس أنه يمكن أن يتصور أن أطباء المجتمع هؤلاء هم بمثابة أنبياء أول الزمان، تصور؟.
ـ أتصور.
ـ كيف تتصور وأنت لم تعش التجربة معنا، ياه، كان يقول إن الساسة يخطبون، وأن المثقفين يكتبون، وأن الاقتصاديين يسرقون، أما هؤلاء الأنبياء الأطباء فهم الذين سوف ينقذون البشرية.
ـ الله الله، فهمت الآن وصفك له بالجنون، العقبى لنا.
ـ إياك، لا أحد يخرج سليما من هذه المحاولة.
ـ ولكن يبدو أن ابنه خرج سليما معافى، لقد نجح نجاحا يتحدى كل الأنبياء المزعومين .
- تقول إنه ليس طبيبا مثل أبيه، أذكر أنه دخل كلية الطب، ماذا هو إذن؟.
ـ هو صاحب معرض سيارات.
ـ معرض ماذا؟.
ـ معرض سيارات.
ـ ابن عبد الحكيم نور الدين صاحب معرض سيارات؟؟!!!.
ـ نعم، ألم أقل لك إن الله فتح عليه الناحية الثانية.
أصرت بحسم أن تتوقف عن التمادى فى الأسئلة، على الرغم من رغبتها الفائقة أن تعرف أكثر، قررت أن تدير الحوار إلى اتجاه آخر، وليكن حديثهم فى موضوع الندوة.
ـ ما رأيك فيما دار فى الندوة؟.
ـ أية ندوة؟.
ـ ندوة الليلة، ماذا جرى لك؟.
ـ شكرا للفرصة على أية حال، لولا هذا اللقاء بعدها لطالبتك بالتعويض.
ـ أسألك عن رأيك، لا أطلب شكرك، ولا مسخرتك.
ـ هى ندوة، وهم منتدون، انتدى ينتدى فهو منتد، والجمع منتدون، ونحن كذلك.
ـ نحن… نحن ماذا..؟.
ـ منتدون.
ـ إسمع، أنا جادة فى السؤال، لا تسخر، أريد أن أعرف رأيك بجد.
ـ عيب أن أقوله. طال سكوتهما حتى قطعته.
ـ إذن فيم نتكلم وقد دعوتنى للعشاء بعد الندوة لنتحدث، نتحدث فى ماذا؟.
ـ كان لابد من حجة، أما هؤلاء القوم، فهم فى واد، والناس فى واد.
ـ أى ناس يا جلال؟.
ـ الناس الذين هم ناس بحق، كنا زمان نتكلم عن الشعب، عن تكامل القوى.. عن الكادحين، وعن تحالف لا أدرى ماذا؟ مع ما لا أدرى من؟.
ـ وماذا تغير؟.
ـ أشعر أنك تعرفين الإجابات، فلماذا تسألين؟.
ـ فلماذا دعوتنى بعد الندوة ما دمت أعرف ما تعرف، وأنت تعرف ما أعرف. هل نظل صامتين؟.
ـ هناك شئ مشترك. ندعه يتولد.
ـ دائما هناك شئ مشترك. لكن كيف يتولد بدوننا؟.
ـ إن ما أبحث عنه فيما يمكن أن يكون مشتركا بيننا هو…، لست أدرى بالضبط.
ـ ظريف أنت والله العظيم، نبحث معا عما لا نعرف، أفهمك تماما، وأوافق. بل لعل هذا ما يحضرنى وأنا أكتب أحيانا، أبحث عن ذات الشئ الذى لا أعرفه مع القارئ، فتخرج القصة.
ـ شعرت أننا يمكن أن نتعرف على ذلك الشئ أكثر، وربما أعمق، إذا تعرفنا على الناس الناس، وليس الناس المثقفين أو المنتدين، إذا تعرفنا على بعضنا البعض. إن ما لحق باللغة التى نستعملها ونحن نحاول أن نعرف بعضنا البعض أصبح هو هو الحاجز الذى يحول دون أن نعرف بعضنا البعض.
ـ ألغازك أصبحت أكثر جذبا، إنه مثل الذى يتجلى لى وأنا أكتب، أو هو قريب الشبه جدا، هذا الشئ !! هو موجود فى الناس البسطاء، موجود فى الناس الحقيقيين. عرفت أنه مؤكد وقريب ومشترك، لكنه غير محدد، لا يمكن فصله، وإن كان لا يتكرر، هو هو يتجدد ولا يتكرر، لست أدرى كيف، آسفة، لا أقصد..، قل لى يا جلال : لماذا لم تحاول أن تكتب قصة؟.
- يا ساتر !! تريديننى أن أبتعد أكثر من هذا، أنا ما صدقت.
- ما صدقت ماذا؟.
- لا أعرف.
- لا أتصور كيف ستعثر على ضالتك دون أن تكتب، ترسم، أى شئ، لست أعرف..، كيف ستجدها إذن؟.
ـ عند مزلقان “أبو النمرس”.
ـ مزلقان ماذا؟.
ـ لا شئ لا شئ، أحكى لك فيما بعد.
ـ3ـ
كان ممتلئا ببسمة تماما وهو عائد، امتلأ بها وبه معا، كانا واحدا أخذاه كله حتى كاد يرتفع من على الأرض.
لكن وحدته زادت أكثر.
قال: إنها ليست مسألة بسطاء ومثقفين، وقال إنها مسألة أكبر من ذلك، وإن كانت تبدأ من ذلك، وقال: إن هناك عملية برمجة معلنة وخفية أشبه بالجريمة المنظمة، وقال أيضا إن الذين يسرقوننا إنما يسرقون أنفسهم أولا، أو أنفسهم أساسا، يحرمون أنفسهم من يقينهم، فيحتمون بيقين من خارجهم، مرة يسمونه العلم، ومرة يسمونه العقل، ومرة يسمونه التنوير، ومرة يسمونه الدين، وكانت بسمة قد أخبرته أنه يخطر لها مثل ذلك، وأنها توهم نفسها أنها تصدق هؤلاء الناس المثقفين جدا، تصدقهم لترتاح، مع أنهم ليسوا هنا. هى لا تعرف كيف حلها هؤلاء الناس، يبدون فى حالة من الطمأنينة الرخوة، أكثر ممن تسلموا صكوك الغفران.
أخذ يسترجع ما ذكرته بسمة عفوا من أنها تعانى أكثر حين تزحف هذه الرؤية من إبداعها إلى حياتها العادية. كيف تمتلئ إيمانا به وهى تكتب، لكنها لاتدرى ماذا تفعل لو أنها آمنت نفس الإيمان ذاته وهى تمارس يومها المعتاد. ثم كيف أنها حين تفكر فى هذا الأمر، تكاد تتوقف عن الإبداع وعن الإيمان معا، وأنها أحيانا تذهب إلى الناحية الثانية. لتنقذ نفسها مما لا تعرف.كان قد سألها عن هذه الناحية الثانية.
قالت له إنه حين يهاجمها هذا اليقين الغامض تلجأ إلى عالم صديق رائع يمتاز بفكر مصقول، ليس له هم إلا أن ينفى كل هذه الأوهام الخرافية بمنطق ووثائق شديدة الإحكام. هو باحث عالم مؤرخ مفكر، دكتور بحق، يقدس العلم والمنهج العلمى. بدأ حياته عالم كيمياء حيوية، ثم استهوته قراءة التاريخ، فتحول إليه وحصل على ذات المراتب والدرجات والشهادات الأعلى، نعم. هو الذى أخذ اسمه يتردد مؤخرا فى معارك التفكير والتكفير، هو أكاديمى متعدد المواهب، حتى حقق أعلى المراتب الأكاديمية فى الجامعة، فى كل من العلوم الطبيعية والإنسانية معا، هو عالم حاد الذكاء، لامع المنطق، يمسك بمكواة التاريخ الملتهبة جمرا يكوى بها أى نتوء يمكن أن ينحرف بنا نحو الخرافة، هكذا يسمى الإيمان فى جلساته الخاصة. كانت بسمة قد قالت له -أيضا- إنها حين ترجع من عند هذا الأستاذ الألمع ترجع مأخوذة معجبة، وما أكثر معجباته، ترجع منشقة مطمئنة إلى استحالة التسليم للخرافة، فليظهر من تبحث عنه كيفما شاء فى إبداعها، لكنها تكون قد تحصنت ضد ظهوره فى حياتها اليومية، لا فى وعيها ولا فى علاقاتها ولا فى عقلها، هى لا تسمح له بالظهور إلا فى قصصها وبشكل عفوى تشعد بنبضه دون أن تحدد نعته أو اسمه.
اعترفت بسمة – لجلال – أنها لا تلبث أن تعانى من تداخلات رؤيتها الإبداعية فى وعيها العادى، تخاف أن تدخل منطقة مجهولة، أكبر من قدراتها التى تعرفها، فتعاود اللجوء إلى الكى بمكواة ذلك العالم الكيميائى، الممنهج، المؤرخ أيضا. ثم إنها اعترفت له أنها قللت من زياراتها للأستاذ الدكتور جميل النشرتى، هذا هو اسمه، بعد أن تضاءل مفعوله شيئا فشيئا، ليست تدرى لماذا.
قاطعها جلال:
ـ وهل تصلح لمثلى مكواة هذا الأستاذ أو مشرطه حتى لو لم أكن مبدعا أكتب القصة؟. هل تصلح تلك المكواة الفكرية لمن لا يملك إلا حيرته وسعيه، حتى هذا السعى أنا لست متأكدا من توجهه.
ـ أعتقد أن علمه أو معلوماته يمكن أن يخلصك من كل ما هو “ليس كذلك”.
ـ أخاف أن أكون أنا شخصيا مما “ليس كذلك”، هل يخلصنى من نفسى؟. المهم، هل يمكن أن تعرفينى به؟. أشعر أنى محتاج إلى مشرطه، أليس آخر الدواء الكى؟.
تواعدا أن يذهبا إلى الأستاذ الدكتور جميل النشرتى فى محاولة استئصال أورام الخرافة بالمجان، فى محاولة التخلص من إدمان تعاطى السحر والدين والبله.
لظروف لم تسمح لها أن تصحبه إليه شخصيا فى الموعد الذى اتفقوا عليه، أعطته العنوان، ووصفت الطريق، واتفقا على أن يذهبا متلاحقين كل على حدة، ليلتقيا هناك.
ـ4 ـ
الطريق لم يرصف بعد، على الرغم من أن العمارات حديثة. مازالت بضع عشرات الأمتار المربعة مزروعة بالأذرة، كوز الأذرة هنا يساوى كم مائة جنيه؟. كم سنتيمترا يشغل عود الأذرة؟. كم يبلغ السنتيمتر الآن فى هذه الأرض التى يأكلها النمو الخرسانى من كل جانب؟. المنطقة بجوار ترعة المريوطية أرحم من غيرها، يبدو أن الحكومة لحقتها فى آخر لحظة فخططتها وسمحت ببعض التنظيم الذى يمكن أن يـستكمل تدريجيا.
هى لا ترفض التراب المثار تحت أقدامها وهى فى طريقها إلى منزل الدكتور جميل النشرتى، بل لعلها تشعر أن هذا التراب المثار هو أكثر حنانا من قسوة الأسفلت وسواده. يوجد “سوبر ماركت” فيه كل شئ فى هذه المنطقة التى لم تكتمل، تعتبره بسمة علامة على الناصية التى ينبغى أن تنحرف إليها يمينا، على الجانب المقابل ناحية حقل الأذرة البضعة أمتار، يوجد زير مغطى، ملئ بالماء كما يدل عليه رشح جداره، وفوقه كوز. من ذا الذى يجرؤ هذه الأيام أن يشرب من كوز فوق زير لا يعرف من الذى شرب منه قبله؟. احتمال تلوث معلن يمكن التحكم فيه، التلوث العصرى الآن بالغ الخفاء. على الأم أن ترضع رضيعها لبنها الطبيعى لتمنحه الحنان مع كل اللازم، حاضر. ماذا تفعل الأمهات فى الخبر الذى نشر أول أمس يقول إن ثلاثمائة مادة سمية تتعاطاها الأم من البيئة المعاصرة تفرز فى لبن الأم؟. ثم ما هى سموم المعلومات التى نتعاطاها جميعا طول الوقت؟. أورام الفكر، وسرطانات الوعى ليس لها علاج. ماذا يفعل الدكتور النشرتى الغارق فى التاريخ؟. وهل عنده خبر كيف نصاغ الآن؟. لماذا يركز على استئصال أمراض الخرف الأصولى دون بقية الأورام الأحدث؟.
كانت بسمة كلما قطعت هذه المسافة الترابية تجد نفسها فى هذه المتاهة من الفكر الملبد بالغيوم والغموض. أفاقت بسمة على تزايد سحابة التراب المتصاعد فى دلال لزج عنيد، لم يبق أمامها إلا بضعة أمتار، بعدها سوف تصعد إلى بيت الدكتور. لولا الموعد الذى ضربته لجلال حتى يتعرف على الأستاذ الدكتور لرجعت مثلما فعلتها قبل ذلك مرارا. كم مرة وصلت إلى هذا الموقع تحديدا، ثم عدلت عن الزيارة؟. لقد شبعت من هذا الكلام، ومن ضده أيضا. لكنها واصلت المسير.
بيت مفتوح لكل مريد ومنبهر، وبالذات لكل مريدة ومنبهرة، وهى لا تعرف أين تضع نفسها، مريدة أم منبهرة، هى مستكشفة متحدية هاربة مما تستكشفه أثناء إبداعها دون قصد، هذا كل ما فى الأمر. إلى متى ستظل تستكشف وتنبهر وتتحدى ثم تنكر، وتدفع الثمن؟. ولماذا هى التى تدفع الثمن دون غيرها؟.لكن من أدراها أن غيرها لا يدفع الثمن؟.
هذه المرة لم تأت لتتداوى بالكى، لتتخلص من إيمانها الذى يظهر فى إبداعها ويهدد حياتها اليومية. هى أحيانا تأتى لتراه فحسب. كلامه المندفع الساخن يثير أشياء أخرى، ربما هذا هو ما يجذب المعجبات إليه. هى تأتى هذه المرة لتعرف جلالا عليه، هو الذى طلب، ربما تتعرف هى بدورها عليه من خلال جلال هذا. تنبهت إلى أن جلالا يبدو عكس أبيه تماما، ربما عكس ما وصله من أبيه مثل أمين عبد الحكيم، لكنه يقول إنه لم ير أباه؟. كيف ذلك؟. ربما. قررت ألا تحدث جلالا أبدا عن أبيه الذى تعرفه أكثر مما يعرفه ابنه، لا داعى، لا مبرر.
ـ5ـ
لم يفتح الدكتور النشرتى لها الباب بنفسه، كان هو الذى يفتح الباب عادة، يقبل وجنتيها، ويكاد يقبل شفتيها، لكنه لا يفعل، فلا هى تمانع، ولا هو يـقدم، الذى فتح لها الباب هذه المرة كانت سيدة (أو آنسة)، حول الثلاثين، شديدة سواد الشعر واسعة العينين، سمراء، قالت بسمة لنفسها: إنها منهن، المعجبات الخليجيات اللاتى لا يخلو بيت الدكتور من إحداهن، امتعضت قليلا ولكنها أسرعت بإخفاء ذلك، ابتسمت ظاهرا، فكثيرا، وسألت عنه. قالت الفاتحة (التى فتحت لها) إن الدكتور انصرف مستأذنا فجأة بعد مكالمة هاتفية، وإنه قال إنه سيعود بعد دقائق، عرفت نفسها، فعرفت الخليجية بنفسها بدورها(حصة)، وقالت إنها تعرف الاسم، اسم بسمة، وإنها قرأت لها، تبادلت معها بسمة المجاملة، ومن ستر الله، هكذا قالت بسمة لنفسها، أنها تذكرت أنها قرأت لها شعرا متوسطا فى مجلة خليجية، ثم عرفت المرأة الثانية نفسها بلهجة شامية (ميادة)، لا تستطيع بسمة أن تفرق بين اللهجات اللبنانية والسورية والفلسطينية أضافت ميادة أنها باحثة تحضر دكتوراة، أما الثالثة فلهجتها مصرية (إحسان)، ذكرت اسمها ولم تلحق به أية صفة، هى حرة، لا داعى للإحراج.
كما هو متوقع، دار الحوار بسهولة بين بسمة وبين الشاعرة الخليجية حصة، وفرحت بسمة فرحا هادئا حين علمت أن حصة قد قرأت مجموعتها القصصية الجديدة، وتدخلت ميادة برأى متوازن، فقد قرأت بعض قصص المجموعة وليس كلها، ولم يبد فى الحديث أى نقد حقيقى، أو عمق مناسب، كانت مثلما يفعل أغلب الناس حين يجدون أنفسهم أمام كاتب قرأوا له وكونوا عنه فكرة ما، ثم إذا بهم يفاجأون به لحما ودما مختلفا عما تصوروا، أو مطابقا لما تصوروا!، لم يخرج الحوار عن المديح المعتاد. انتقل الحديث إلى قضايا إشكالات الأدب النسائى، واتفقت الاثنتان على رفض هذا المفهوم، جاءت سليمة وإلا ما كان للنقاش أن ينتهى، ثم انتهزتا الفرصة لتتكلما فى اهتمامات الدكتور ومنهجه.
ـ إن الدكتور يصحح التاريخ من البداية، وبمنهج محكم طول الوقت.
ـ من البداية؟. أية بداية؟. هل أحد يعرف البداية؟.
ـ بداية التاريخ، إنه يكاد يكتبه من جديد، يكتب التاريخ.
ـ كانت إحسان تتابع الحديث بهزات من رأسها موافقة كل جانب أولا بأول.
ـ أحيانا أتساءل: لماذا التاريخ بالذات؟.
ـ إن لكل تخصصه، وهذا هو تخصصه.
ـ ليس هذا تخصصه الأصلى، هو عالم كيمياء أساسا.
ـ مسألة التخصص هذه تأتى فى كثير من الأحيان بمحض الصدفة، لكن التاريخ أصبح تخصصه، وقد تفوق فيه أكثر من أهله.
قالت بسمة:
ـ يخيل إلى أحيانا، أو لعلى خشيت، أن يكون الدكتور متورطا فى ما لم يختر.
ـ وماذا فى ذلك؟. إنه مستمر، كل واحد من حقه أن يعيد الاختيار كما شاء، مادام قد استعد لذلك.
ـ إنها منطقة تكلف من يدخلها ثمنا باهظا لا ينبغى أن يدفعه إلا من يختارها.
قالت ميادة بلهجة لم تخل من غيرة ما، أو هكذا حسبت بسمة:
ـ تشفقين عليه إلى هذه الدرجة؟.
ـ ليست شفقة. مجرد فكرة.
ـ اطمئنى، حتى لو كان متورطا فى البداية، فإن استمراره يجعله هو المسؤول عن ذلك، بل إنه يجعل نفسه مسؤولا ليس فقط عما يكتبه هو، وإنما عن كل من يتصور أنه يكتب مثله، أو يستعمل منهجه.
قالت بسمة:
ـ أحيانا يخيل إلى أنه لا يكتب التاريخ، وإنما هو يمارس نوعا من الكتابة البوليسية، كأنه يجمع قرائن لتدين متهما ما.
ـ هذا نوع من كتابة التاريخ على كل حال.
ـ لكنه يجره إلى تحيز واضح.
ـ كل من يكتب فى التاريخ، مهما كان منهجه، هو متحيز بالضرورة، عرف أم لم يعرف، اعتـرف أم لم يعترف.
ـ والدكتور؟. أنت أدرى به، هل يعرف أو يعترف بتحيزه أم لا؟..
ـ هو لا يعترف. هو يتصور أنه الأقرب للحقيقة من كل من سبقه. لعله كذلك.
ـ إنه يشوه كل ماشاع بين الناس، أتصور أنه حتى لو كان المعروف تاريخا خطأ، فهو خطأ مفيد، الأولى أن نترك الناس يستفيدون منه.
ـ ماذا تقولين؟. إن الدكتور عالم، باحث أكاديمى، وليس خطيب جمعة.
ـ لا أقصد.
ـ فماذا تقصدين؟.
ـ لا شئ.
أرادت بسمة بذلك أن تقطع الحديث فجأة، خاصة حين انتبهت إلى أن أكثر من ربع الساعة التى قيل أن الدكتور قد يرجع بعدها قد مر، وأيضا هى بدأت تنشغل على تأخر جلال عن الحضور، كان ينبغى أن تصحبه، لكنها خافت. مم؟. لا تدرى. إنها تهتدى للبيت بصعوبة، فكيف به وهو لم يحضر قبل ذلك أبدا. لم تنتبه إلى صعوبة العنوان، إلا وهى تتذكر أنها – شخصيا- تعلم الشارع بالسوبر ماركت على الناصية، ثم أين الدكتور؟. ما الذى أخره هكذا؟. ثم إنها لا تدرى متى خرج بالضبط.
ـ قبل حضورك بحوالى نصف ساعة.
ـ ياه !! لقد تأخر.
ـ هل أعطاك موعدا محددا؟.
ـ ليس تماما، أنا عادة أحضر بغير موعد.
ـ معنى ذلك أنك نلت ترقية ما، إنه لا يسمح بذلك إلا للصفوة.
ـ لا صفوة ولا حاجة، كل ما فى الأمر أننى لا أحضر كثيرا، وأننى أخلفت عدة مواعيد وراء بعضها، فاعتدت أن أحضر بغير موعد.
فى هذه اللحظة دق جرس الباب، لعله جلال، أو الدكتور، لكن الدكتور معه مفتاح، وهو عادة يدق الجرس قبل استعمال المفتاح تأدبا.
الطارق يعاود الطرق. لعله جلال. نظر بسمة إليهن وكأنها تستأذن، واتجهت نحو الباب.
ـ6ـ
شاب حول الخامسة والعشرين، يسأل عن الدكتور، يتقدم إلى الداخل مباشرة دون انتظار، وكأنه من الصفوة التى سمحت لها بمثل ذلك، تحتار بسمة وتتلكأ، ثم تستسلم، ولا تجرؤ على أن تسأله عن غرض المقابلة، من هى حتى تفعل؟. يتقدم الشاب إلى كرسى بالصالة، ويجلس، يمد يده إلى مجلة على المنضدة، وكأنه يعرف موقعه تماما، فتطمئن، لكنها تتوجس حين تلاحظ أنه يغض بصره كثيرا، يخطرها بأدب شديد، أنه “ما عليها”، وأنه سوف ينتظر، وأنها يمكن أن تنصرف إلى ضيوفها. لا بد أنه تصور أنها زوجة الدكتور، وأن عندها ضيوفا هم الذين وصلته أصواتهن عبر باب حجرة المكتب. هو ليس من الصفوة وإلا لعرف أنه ليست للدكتور زوجة تقيم معه، ما الحكاية؟. ما لها هى؟ تركته فى الصالة ودخلت إليهن، وأجابت باحتمال أن يكون طالب بحث، جاء يستفسر عن مرجع، ثم ألمحت لهن إلى أنه يغض بصره، يغضه كثيرا، ضحكن معا؛ ربما لأسباب مختلفة، ثم ساور كل واحدة منهن خوف لم تعلن عنه.
لابد أن سببا ما يجعل الناس يحضرون إلى هذا المكان النائى نسبيا، يتحملون طريقه غير الممهد، لابد أنه يوجد عند هذا الدكتور ما يفسر هذا الجذب الخاص، كانت بسمة معجبة بأفكاره أساسا، وانتقل الإعجاب، دون أن تدرى إلى شخصه، ربما، وما أكثر معجباته. هل التاريخ وإعادة كتابته وحتى تصحيحه، يجذب المعجبات هكذا إلى هذه الدرجة؟. أم أن الموضوع الذى يتناوله هو الذى يحرك فيهم، وفيهن، هذا التحدى وحب الاستطلاع؟. العمر الافتراضى لحب الاستطلاع عند النساء أطول، ربما.
حين بدأت بسمة تكتب القصة، بدأت تعرف أن الكتابة ذاتها وسيلة معرفة، هى لا تكتب ما تعرف.، هى تعرف من خلال ما تكتب. بداية، كانت الكتابة تساعدها على أن تعرف نفسها أكثر فأكثر، ثم أخذت تكتشف أنها بالكتابة تعرف من حولها أكثر وأعمق، ثم بدأت تتفتح آفاق المعارف إلى ما لا تعرف، إلى ما بعدها، إلى “المابعد”، إلى الغيب، إلى المطلق الواعد المتجلى، كما يتكشف فى الإبداع، إنه هو هو الذى تكتشفه فى البسطاء بعيدا عن التاريخ وعن المنهج، ثم إنها سمعت عن هذا الدكتور، وحين زارته شعرت أن ما يروجه يكاد يخنق معرفتها الوليدة فى مهدها، هذا الكشف المتمادى الذى كان على وشك أن يأخذ بيدها إليه، إلى نفسها، إلى التناغم المتكامل، شكت فى نفسها. قررت ألا تهرب، أن تواصل الحوار معه تناقشه فى الفرق بين المنهج الأكاديمى والمنهج الإبداعى لاكتشاف المطلق. رجحت كما سمعت أنه يرحب بالمتسائلين، وأكثر بالمتسائلات، ضحك منها وهى تستعمل تعبير”المنهج الإبداعى”. كلما حضرت وناقشت رجعت مهزوزة، وتراجعت، واقتنعت بأن تواصل الانشقاق الذى يفصل إبداعها عن حياتها.
هكذا كانت قد شرحت نفسها لجلال، تـرى هل فهمها؟.
ثم إنه لما تضاءل مفعول الدكتور فى أن يوقف زحف ما تراه فى إبداعها إلى حياتها، أزاحت هذه المسألة من بؤرة اهتمامها حتى لاتتعطل، وفى ذات الوقت – بصراحة – أرادت أن تراجع اقتناعها بمنهج الدكتور ومنطقه، لكنها ما زالت تأتى، هى تصر على أن تأتى، لا تخاف الاختلاف. إنها مازالت تأمل أن توفق إلى حل ما.
ـ “الإبداع هو الحل”؟.
قالتها فجأة بصوت عال، ففوجئت بنفسها بذات القدر الذى فوجئت به الجالسات.
ضحكت حصة، وقالت:
ـ صح النوم!! “الشعر هو الحل”.
قالت إحسان التى لم تشارك فى أغلب ما دار:
ـ يا صلاة النبى !! “الجنس هو الحل”.
أخذت بسمة كلامها جدا، ولم تستهن بقولها، ولم تعرف لـم أشفقت عليها، واحترمتـها فى ذات الوقت.
- عندك حق، فالجنس الحقيقى هو إبداع، هو شعر، هو صلاة، وهو حوار ليس أعمق منه.
فرحت إحسان، لم تكن تقصد، وتصورت أنها فهمت، أو لعلها فهمت.
ـ7ـ
خيل إليهن أن جرس الباب دق ثانية، هل جاء جلال أخيرا؟ فتح الباب قبل أن تفكر بسمة فى الذهاب لفتحه، لابد أن الشاب بالردهة هو الذى فتح، كن قد نسينه تقريبا، كيف؟. غريبة!. سمعت حركة قيام الشاب ثم صوت حديث متبادل، ليس صوت جلال، ثم صوت إغلاق الباب، شعـرن أن المسألة أصبحت خارجة عن سيطرتهن، اقترحت ميادة الانصراف.
ـ ننصرف ونترك فى البيت أغرابا.
ـ لم تأخر الأستاذ الدكتور؟. هذه ليست عادته.
خرجت بسمة إلى الردهة، مازالت تفكر أنه ربما يكون الطارق جلالا، لم تجد الشاب ولا جلالا، وجدت وجها آخر، لكنه وجه مألوف، ياه !، إنه أحمد عبد الغفار، الصحفى المحترف، عرفها فى ذات اللحظة التى عرفته فيها، أو قبلها بثانية.
ـ من؟. بسمة؟.
ـ أحمد؟.
ـ ما الذى أتى بك إلى هنا، قصة جديدة، أم خبرة معادة؟.
ـ يا نذل الذى جاء بى هو البحث عن الحل الاشتراكى، التحريرى، القومى، المادى، المعتبر…، لماذا جئت أنت هنا من أصله، هل ينقصك المنهج؟ أم تعانى من وساوس الخرافة؟.
ـ تسخرين مثل المرتدين عن حلم العدل، يا ناكرى الجميل،.. يا أوغاد.
قالت مقاطعة:
ـ أوغاد فى عينك، ألن تهمد وتتأدب وتنظر إلى نفسك وإلى أين انتهيت؟.
ـ أنا لم أنته، ولن أنتهى، أنا أبدأ دائما قبل أن أنتهى. أعرف كل الطرق التى تؤدى إلى كل الطرق، أنا حياتى كلها للكادحين والحرية.
- يا صلاة النبى! هكذا يكون الكلام التمام يا بو حميد. أنت هو. بطل كل العصور.
– لقد كلفت من المجلة أن أعمل مع الدكتور حديثا عن التهديد الأخير الذى وصله، وعن الهجوم المتزايد عليه من الجماعات، ومن أكاديميين عتاة فى ذات الوقت، ولكن قولى لي: أين هو؟. ومن ذلك الشاب الذى فتح الباب؟.
ـ ألا تعرفه؟.
ـ أعرفه؟. من أين؟.
ـ ألم تسأله؟.
ـ أسأله عن ماذا؟.
- صحيح، أين هو؟.
ـ إيش عرفنى، لقد أدخلنى وانصرف متعجلا دون كلمة، بل إننى حسبت أنه قد أنهى حاجته، وأنه فتح الباب مصادفة، وهو يهم بالانصراف، أليس الدكتور موجودا؟.
ـ ليس بعد، هو لم يكن موجودا منذ حضرت.
ـ ومن معك؟.
ـ بعض رواده، أو مريديه. تعرفت عليهم حالا.
ـ عليهم، أم عليهن؟. جوقة المعجبات؟.
ـ أحمد، إلزم حدودك، مازلت كما أنت، تغار منه.
ـ ليس تماما، أنا أعرف حدوده.
ـ لست فاهمة.
ـ أحسن.
دعته إلى الدخول إلى الحجرة، فهو ليس غريبا، عن…، عن من؟. وهل هنا إلا أغراب؟. دخل أحمد يتلمظ. شئ ما يجعله فى حالة تلمظ مستمر، حيا الجالسات وتوقف أكثر على وجه حصة، لماذا..؟. كان لا يستطيع أن يخفى تلمظه، سواء كان المثير سلطة أو مكافأة أو جائزة أو امرأة، أخذت بسمة تراقبه. هى تعرفه، لكنها أرادت أن تتأكد من أنه لم يتغير، بل: إنها أرادت أن تتعرف على استجابة الحاضرات لتلمظه، وهل التقطت إحداهن لغته أم أنها هى التى تظلمه؟.
فجأة خطر ببالها خاطر ليس له أى مبرر. ما الفرق بين أحمد عبد الغفار وبين هذا الاستاذ الدكتور العظيم؟. لم تجد إجابة، بل إنها فزعت من السؤال؛ إذ لا يوجد وجه شبه أصلا، هكذا قالت لنفسها، ثم ردت: ألا يوجد وجه شبه حقيقى؟. ثم إنها خطر ببالها أن الفرق أن أحمد عبد الغفار يعمل حساب الحور العين من ضمن المكافآت والحوافز فى الدنيا وربما الآخرة، وهو فى الأغلب قد عقد صفقة مع نفسه حتى يتوب “فى آخر لحظة” ويشهر تدينه خفية أو بواسطة بعض الشيوخ الخصوصيين، من يدرى؟. أما الدكتور، فهو يزهو بجاذبيته الفكرية أولا، ويبدو – حسب ما وصلها – أنها قد تكفى لتسعف جاذبيته الأخرى طول الوقت. هذا الدكتور ليس له هم إلا أن يعرى كل ما يشير إلى وجود هذا الذى تبحث عنه، الذى كفت عن البحث عنه، الذى يطل يطل عليها فى إبداعها بالرغم منها. هو لا ينكره صراحة. يبدو أنه صنع لنفسه عالما خاصا من تلفيق قصاصات المعلومات التى يعيد ترتيبها بطريقته بعد أن يحرق كل ما لا يتفق مع هذا العالم الخاص الذى بناه بمعرفته.
يبدو أن كليهما قد نجح فى أن يستغرق فيما يلهيه ويبرره، الدكتور شحذ آلة عقله حتى خفى عنه كل ما عدا ذلك، أما أحمد فيبدو أنه شحذ آلة شهوته ليغوص فى ذاته دون ما بعدها.
سألت بسمة نفسها كيف تفكر هكذا فى الناس، وكأنها لم تفعل مثلهم. ألا يجوز أن يكون إبداعها الذى تتصور أنه أداة معرفتها الجديدة، هو -أيضا- البديل الذى شحذته ليحل محله، حتى لم يعد يملأ حياتها إلا قصصها واسمها؟. تنوعت المهارب حتى لم يعد أحد يميز الهرب من المسير. زادت حدة المسألة عليها بعد أن قابلت جلالا هذا مؤخرا، ثم تأكدت وهى تواصل الحوار مع صديقها الهولندى الذى تعرفت عليه عن طريق الإنترنت، لعبة جديدة فيها ما فيها من الدهشة..؟ والمفاجأة.
انتبهت بسمة لحركات أحمد عبد الغفار الذى يبدو أنه تصور أن السنارة قد غمزت فى اتجاه حصة، التى راحت بدورها تـضاحكه بطلاقة جاذبة، هل وصل الأمر بهذه السرعة إلى أن يحكى لها نكتة خارجة من نكاته؟. استبعدت بسمة ذلك، ومع هذا فقد تملكتها رغبة خبيثة فى أن تفسد عليهما الأمر، أى أمر.
ـ لقد تأخر الدكتور، بدأت هواجسى تتزايد، ثم أين ذلك الشاب الذى دخل دون موعد، وخرج دون استئذان، ألم يقل لك شيئا يا احمد؟.
ـ أبدا، نظر فى ساعته، وقال لي: تفضل، ثم نزل وهو يكاد يقفز على السلالم أربع، أربع.
ـ غريبة.
انصرفت ميادة، ثم حصة ثم أحمد عبد الغفار بعدهما مباشرة، ولم يبق مع بسمة إلا إحسان التى لم تعرف بسمة لها هوية “ثقافية” محددة، التفتت إحسان إلى بسمة فجأة قائلة:
ـ إياك أن توافقى، هذه نصيحة مجربة.
ـ أوافق على ماذا؟.
ـ على ما يطلبه منك الدكتور.
ـ ماذا تقولين؟. هو لم يطلب منى شيئا.
ـ سيفعل، هو لا يترك واحدة من المعجبات إلا حاول معها؟.
قالت بلهجة عدوانية لتقفل الموضوع:
ـ تتكلمين عن خبرة شخصية.
لم تفاجأ إحسان بالرد.
ـ نعم.
لم تصدق بسمة، ولم تكذب، ورفضت أن تتمادى، فأغلقت الحديث فجأة، شاكرة، ليست تدرى على ماذا.
قالت إحسان:
ـ لا شكر على واجب، عموما هو لا خوف منه، إنه يتمتع بعفـة تؤمـن كل المعجبات، عفيف برغم أنفه.
مازالت إحسان تلمز وتجرح، قررت بسمة أن تحسم الأمر بصراحة.
ـ اسمحى لى، أنا لا أقبل مثل هذا الكلام عامة، ولا أقبله على الدكتور الذى يفتح لنا بيته وعقله، ومكتبته بكل هذا الكرم والسماح.
ـ نسيت أن تقولى ويفتح قلبه.
ـ لم أنس.
ـ و أزرار سرواله؟.
لم تجد كلاما أقسى توقف به هذا الحديث الملئ بحقد ما، أو بصدق ما، لم تستطع أن تحدد، فواصلت إحسان:
ـ قلت لك إنه كالباب المقفول الذى ليس وراءه شئ.
كادت بسمة تترك الحجرة احتجاجا، تراجعت و قررت أن الصمت أقوى رفضا، إذا كانت هذه المرأة تحمل كل هذا الحقد للدكتور هكذا، فلماذا تحضر إليه؟.
ـ أنا أحضر لأنتقم منه، أنا لا أنسى الإهانة.
ـ أية إهانة؟ . ثم لماذا تعممين تجربتك الشخصية معه على الجميع، إن كانت قد حدثت أصلا؟. ما له فكره ومبادئه وعلمه ومنهجه، بما تزعمين عنه..؟
ـ عرفت الكثير من الكثيرات.
ـ تتقصين عنه فيما لا يحق لك.
ـ لا. هذا يحق لى ونصف، أفسد عقلى قبل أن أعرفه، وخيب ظنى بعد أن عرفته.
ـ لست متخلفة، ولا قاصرا، وجذب المريدات إليه وتعلقهن به لابد أن يعرى مبالغاتك، من خلال غيرتك.
ـ بعضهن يغريهن الباب المقفول، وبعضهن مثلى يريدون التأكد فالانتقام. أما من يختفين بعد الخيبة الأولى، فلا أنا ولا أنت ولا أحد يعرف عنهن شيئا.
حاولت بسمة أن تقاوم الغثيان الذى أحاط بها وهى تواصل الحديث مضطرة، ليست مضطرة تماما على أية حال، كان بودها أن تعرف أكثر، أن تربط السلوك الشخصى بالفكر المتحيز البراق، لكنها واصلت الدفاع.
ـ الأستاذ الدكتور مفكر شجاع، وهذا هو كل ما يهمنى.
- يبدو أنه يخاف منك أكثر من أية آخرى.
ـ لم يخطر على بالى أى من ذلك، مارأيك نقفل الموضوع. الحمد لله أنه دار بيننا فط، آه لو كان أحمد سمعه…..
ـ آه صحيح، من أحمد هذا؟. كاد يأكل المرأة أكلا بعينيه.
ـ هل تريدين أن تختبريه هو أيضا؟.
نظرت بسمة فجأة إلى الساعة ووجدت أنها تأخرت فعلا، ومع رغبتها الشديدة فى أن تواصل حب الاستطلاع، أو تنتظر حتى تطمئن على الدكتور، أو حتى يحضر جلال .. لا، لن يحضر بعد كل هذا، مع ذلك وجدت نفسها تقول لإحسان:
ـ هل تأذنين لى فى الانصراف؟. تأخرت أكثر من اللازم، عندى موعد.
ـ بصفة ماذا تطلبين منى الإذن؟.
ـ لا أعرف، ولكن لم يبق إلا أنت وأنا.
ـ سأنصرف معك.
قررت ألا تصحبها فى الطريق مهما كان، ولم تنجح.
ـ 8 ـ
ترى أين ذهب الدكتور، هل اختطفوه؟.
هل تحققت أمنيته فاغتالوه؟.
بسمة رجحت هذه الفكرة من بعض محاضراته وكتاباته. هى لا تعلم لماذا تركوه حيا يرزق حتى الآن، لقد اغتالوا من هم أخفت منه صوتا، وأقصر لسانا، ثم من أين لها هذا التصور: تصور أنه يريد أن يغتالوه؟. إنها حين تكتب القصة القصيرة تجد نفسها أحيانا فى هذه المنطقة، منطقة الكشف المغامر، وهى كثيرا ما تكتشف نفسها كما تكتشف ما لم تأمل فى اكتشافه. بعض ذلك يخرج قصصا، والبعض الآخر يقودها إلى ما تسعى إليه حثيثا برغم جهلها به، وبعضها يقفز إليها فى شكل استنتاجات أو نبوءات.
هذه الفكرة عن رغبة الدكتور فى أن يكون قربانا جاءتها بشكل ما أثناء كتابتها قصة قصيرة عن “طفل فى الرابعة، شديد السعادة، نسيه أهله على الشاطئ، بخطأ غير مقصود، وحين تأكد من غيابهم بكى، ثم صمت فجأة واندفع إلى الماء جريا بأقصى سرعة وغرق.”
ما علاقة هذه القصة بتأويلها لموقف الدكتور ورغبته فى أن يقتلوه؟. إن الذى يعنيها قبل كل هذا وبعد كل هذا، هو أن تتأكد من أن الذى يتبدى لها فى إبداعها ليس له أدنى علاقة بهذا الذى يهاجمه الدكتور سرا وعلانية، إنها متأكدة أن القصص التى تكتبها، التى تـكتب منها، هى الطريق إليه، وهى التى يمكن أن تجعلها تفهم التاريخ دون وثائق، أو تؤمن دون مشايخ.
ـ9ـ
جلست بسمة أمام الكمبيوتر، وفتحت ملف بريدها الإلكترونى وهى حريصة على الاستماع إلى صديقها الهولندى.
تعرفت عليه عن طريق إعلانات التراسل عبر الإنترنت، تلك البدعة الجديدة الرائعة الخطيرة. حاولت هذه المحاولة حين ضاقت بها السبل، وتأكدت أنها كلما اقتربت من آخر، حقيقى، ابتعدت عنه ضعفين، هى لم تستطع أن تتخلص من الخبرة التى عاشتها فى تجربة العلاج المجنون فى صدر شبابها، جعلتها هذه الخبرة دائمة الكشف والاكتشاف بما أعاقها وأوحدها، كلما اقتربت من رجل (أو امرأة) اكتشفت فيه ما يبرر ابتعادها، مرة تكتشف فيه بلادة الوعى، ومرة تكتشف الصفقة، ومرة تكتشف الجوع الذى لا يرتوى، ومرة تكتشف المناورة، وماذا فى هذا؟. هى لا تزعم أن كل ذلك مكتسب من خلال كتابتها القصة أو تجربة علاجها. لقد كانت الحال هكذا وهى فى السادسة عشرة، لا تزال تذكر حوارها الأول مع أمها، وهى ترفض خطيبها الأول فى هذه السن، ذلك الخطيب “الجاهز من كله”، كما أنها تذكر بذات الحـدة موافقتها المستسلمة، على خطيب آخر انتقاما من فرط الرؤية، وإمعانا فى إيذاء الذات. حين تظاهرت بقبول الخطيب المناسب (الجاهز من كله أيضا). أمها هى التى رفضته من أجلها بعد أن احترمت موقفها. منذ ذلك الحين وبسمة تواصل سلسلة من الرفض ليست لها نهاية، حتى وجدت نفسها تعيش قصصها بدل حياتها. زاد الكشف وزاد البهر، وزاد الجوع إلى التعرية والتعرى، ولم يعد يرويها شئ مما يرتوى به الناس، ولولا ما تجده من خلال همس القلم للأوراق لما أكملت.
هل سلكت طريقا خطأ؟.
إنها فى أشد الحاجة إلى لغة أخرى، ذات طعم آخر.
ليست اللغة الإلكترونية الحديثة على كل حال، ومع ذلك ….
فتحت البريد الإلكترونى، وقرأت بالإنجليزية.
” أو حشتنى، أفتقدك هذا اليوم بوجه خاص، أنتظر بفارغ الصبر عودتك آخر النهار لأسمع منك اليوم مساء، اليوم إن أمكن. أنا أحتاجك أكثر من أى يوم. هناك كلام عن احتمال نقلى إلى مكتب الشركة فى إيطاليا، لكننى أفكر فى رفض الترقية. مازلت أزاول التدريبات اللازمة للإعداد لاجتياز المرحلة التالية التى أستطيع بها أن أصبح بوذيا أكثر عطاء، يعنى أخذا. اعتناقى البوذية هو أهم حدث فى حياتى حتى الآن. لست أدرى هل هو الأهم أم تعارفنا هو الأهم؟. أظن أن التعرف عليك هكذا بكل هذا القرب، هو جزء من تحولى إلى البوذية، كل يوم أكتشف فى البوذية بعدا رائعا. هذه ديانة تحترم الإنسان، إن كانت ديانة أصلا. هى إيمان سلوكى لا يعد ولا يهدد، وهل الدين إلا هذا؟. لا جنة، ولا نار، ولا آخرة ولا عبودية، التزام واحترام وصفاء، أليس هذا هو ما يحلم به كل مؤمن، لا أريد أن أقنعك أكثر. البوذية التى تعرفت عليها وتحولت إليها موجودة فى كل دين، أنتظر موعد لقائنا فى إجازتى القادمة، وأخاف منه خوفا حقيقيا، أفتقدك اليوم أكثر، استجيبى لى الآن”.
قرأت الرسالة مرة ثانية، وثالثة، ولم تجد فى نفسها أية رغبة فى أن تكتب له الآن هكذا من فورها كما طلب. أحست بنذالة فائقة. هى لا تحاول أن تراجع نفسها فى رأيها فيه، إلا حين يقترب احتمال اللقاء المزعوم. تنتظر بريده كل ليلة دون استثناء، تعرف صورته، أرسلها لها عبر الإنترنت، وهى كذلك، هذا هو النموذج المناسب لها تماما، يعرف سنها، يعرف تاريخها، هو تزوج أربع مرات وفشل، أو لعله نجح فى أن يفشل. له ابن من واحدة، وبنتان من أخرى. أما الثالثة والرابعة فكانتا أعقل. هى لم تدخل التجربة أصلا، علاقاتها كاملة، ورؤيتها حادة، ليس عندها ما يمنع، تتساءل: ماذا لو عرض عليها الزواج فى إجازته التالية، هل تقبل؟. وهل هو سيقبل قبولها؟. ولماذا فشلت كل محاولاته السابقة؟.
لابد أن هذه الأميال هى التى تطمئنها، وتشجعها على الاستمرار فى الحوار.
أعظم ما يحافظ على علاقة ما، هو ألا تختبر.
فتحت الإنترنت وحاولت الدخول إلى بريدها، وإذا بها تكتب “كلمة المرور”.
خطأ لأول مرة. تعجبت وتوقفت، ثم عادت تحاول وهى غير مصدقة…
انقطع النور فجأة، وأظلم كل شئ حولها، لكن عينيها كانت تلمع مثل قط جميل.
غمرتها راحة غريبة، وإن لم تظهر تفاصيل تعبيرات وجهها فى الظـلام.
* * *
الفصل التاسع
المعادى
فتح الحوت فاه فاندفع الماء إلى جوفه حاملا ما لاذ به من أحياء، وأعشاب، وبقايا عضوية وغير عضوية. على مرمى البصر لم يكن يظهر من الحوت إلا بعض ظهره.
كانت السفينة العملاقة تتهادى فى فخر زائف.
نادى ربانها على البحارة هيا نلعب لعبة القرصان. ابتسم شيخ البحارين فى سخرية الجد الذى لا يستغرب أن حفيده ما زال قزما. وقال فى سره ولو..!”.
قالت فاتيما للمرأة التى فرضت صداقتها بحرارة يونانية على ظهر السفينة، وكانت قد نسيت اسمها برغم أنها ذكرته لها عشرات المرات: “إنى راحلة”.
قالت المرأة بخبث باسم:
”أنت تكونين أجمل وأنت تكذبين”.
-1-
لو أنهم وقعوا البيان باسم أصدق لما أثاره هكذا. إن الذى أثار حفيظته، بل شكوكه هو حكاية “أقباط مصر”، مالهم هم فى المهجر بأقباط مصر؟. إيش عرفهم بأقباط مصر؟. حتى لو تصوروا أنهم كانوا منهم يوما، أقباط مصر ـ الذين يعرفهم ـ لا يـهاجرون، ولايكرهون،، ليسوا مسيحيين ولا نصارى ولا حتى من أهل الكتاب، القبطى قبطى “ابن عم” “أخ” “خال”، “ولد” خال”. أما المسيحى فهو مسيحى، المسيحى تجده فى كندا، فى استراليا، فى ألمانيا ـ فى مصر ـ من أصل شامى، أو هو حضر إلى مصر حديثا، ولم تتح له فرصة أن يشهر قبطيته بعد. القبطى يظل قبطيا حتى لو أسلم، ثم إنه لا يحتاج إلى أن يسلم؛ ما دام قبطيا.
”ماهذا التخريف”؟.
”أنت مالك”؟.
هذه الفكرة ربما تفسر موقف فاتيما أم العيال، باكورة مشروعه. يبدو أن فاتيما حين تزوجت أمين عبد الحكيم، وحضرت إلى مصر، يبدو أنها تقبطنت حين أسلمت، لو كان محمود عبد السلام يعرف هذا التخريف لما فوجئ وهو يتعرف على جيران فدادينه الستة من القبطيات المحجبات.
” قبطيات الصعيد ـ يا محمود ـ فلاحات، محتشمات يا أخى”.
”حجاب فاتيما شئ آخر”.
”حجاب فاتيما ليس له علاقة بإسلامها ولا بقبطية فلاحات جـرزة، إن له علاقة بتجليات جمال الكون فى جمال البشر”.
”طيب: كيف؟”.
”أنا إيش عرفنى؟.
رن جرس الباب، نحى الصحيفة التى بها البيان جانبا، وخفق قلبه؛ لأن الجرس رن. هو لم يتخلص بعد من إشراقة البحر فى وجه فاتيما الذى يطل عليه من خلف السحاب الحانى المبرقش. أعطى الزبال كيس القمامة الأسود الذى لا يحتوى سوى عدد من الأوراق المطبقة كيفما اتفق، وقبل أن يعود إلى الصحيفة رن الجرس ثانية فراح يفتح وهو مطمئن هذه المرة إلى أنها رنات الصباح الروتينية المتلاحقة، فإذا به أمام محمود عبد السلام شخصيا، ياليته تذكر حاجة حلوة. ابتسم، تذكر أن الحرارة مقطوعة من تليفونه، لعل محمودا حاول الاتصال به وفشل. ها هو أمامه.
فوجئ، وفرح، ورحب، وخاف، واكتشف أنه يحبه، نفس طعم الحب الذى يحب به أخته ثريا، سبحان الله. هل الوراثة يمكن أن تحدد حتى نوع الحب الذى تستثيره؟.
ـ أطلبك من يومين وتليفونك ميت، حتى ثريا لم تتمكن من العثور عليك.
ـ خيرا،ادخل يا رجل، استرح.
ـ أخيرا، قبلوا الاستقالة بصورة نهائية تصور، جئت لأرى كيف تستقبل الخبر، لم يعجبنى صوتك فى الهاتف.
كاد يقول له: “وأنا مالى”. لم يستطع أن يقول له: “مبروك “، فلا هو قال هذا، ولا ذاك، إنما قال:
ـ أخيرا؟.
ـ أخيرا.
ـ وما هى المدة المسموحة لك لترجع عنها؟.
ـ أرجع عن ماذا يا جلال ؟.
ـ عن الاستقالة.
- ما الذى جرى لك، أنا ما صدقت؟.
ـ ربنا يجعله خيرا.
ـ إن شاء الله.
كيف يمكن أن يشاء الله أن يجعله خيرا؟. هذه هى المسألة، كان عمه له دلال خاص على الله، يأخذ كل مقلب ومقلب، ودلاله هذا يزيد ولا ينقص، وكان جلال يسأله ـ طفلا ـ عن ثقته هذه فيطمئنه أنه راض عن الله، فلا بد أن الله راض عنه. طيب بالذمة يا عمى كيف أرضى أنا عن الله؟. أرضى بقضائه؟. أرضى بالرزق الذى كتبه لى؟. حاضر، لكن أن أرضى عنه هو؟! صعب على يا عمى، طيب يا محمود يابن عبد السلام كيف يشاء الله هكذا أن تخرب بيتك مع سبق الإصرار والترصد، ثم تصدق أن ربنا سيجعله خيرا؟. كيف يمكن أن يكون خيرا هذا؟. وكيف يشاء الله مثل ذلك؟.
التفت إلى محمود ليقولها بصوته المعلن هذه المرة، قالها بكل سخف يمكن أن يوصل له استياءه، وكأن الحديث لم ينته بالتسليم للمشيئة.
ـ وأنا مالى؟.
ـ مالك يعنى إيه، أخبرك يا أخى.
ـ ما هو المطلوب منى؟.
ـ تبارك لى؟.
ـ حاضر. ألف مبروك، والعقبى للاستقالة الكبرى.
ـ من الحياة؟. تعنى؟.
ـ إفهمها كما تشاء، ولكنها ستكون أهون مما فعلت على كل حال.
ـ2ـ
لماذا حضرته صورة غالى جوهر بجوار بيان “رابطة أقباط مصر فى المهجر”؟. هو لا ينسى فضل هذا الرجل على فكره فى صدر شبابه، أهدى له مفاتيح التفكير السليم،… ثم ماذا؟. ثم يبدو أنه تراجع وتركه، تركهم، فريسة للتفكير السليم، ثم راح هو يكتب فى النقد الأدبى، ويؤرخ للتفرقة العنصرية فى تيمورالشرقية وجنوب السودان. أستاذه يستعمل التفكير السليم استعمالا انتقائيا تكيفيا، مع أنه كان يعلمه أنه إما أن يكون التفكير سليما ومنطقيا وماديا وعقلانيا طول الوقت، وإما أنه لا لزوم له أصلا. ماذا حدث؟. هل وجد نسخة معدلة للتفكير السليم سمحت له أن يتنقل كل هذه النقلات الناعمة.
لاشك أن الأستاذ غالى جوهر حر فيما اختاره ليكمل به حياته، عمره ما كان متعصبا، أو على الأقل عمره ما فشل فى إخفاء تعصبه عن نفسه أولا. هو ليست له علاقة ببيان أقباط المهجر، فلماذا قفزت صورته بالذات إلى خيال جلال؟. صحيح أنه علم مؤخرا أن زوجته و أولاده ـ فيما عدا جوهرا ـ هم من أبناء المهجر، لكن هل لمجرد أنهم هاجروا فهم مسؤولون عن هذا البيان؟. وهب أنهم من أول الموقعين عليه، فهل الأستاذ مسؤول عن توقيعات زوجته وأولاده المهاجرين؟. يبدو أن إصدار البيانات هكذا تتصدر حقوق الإنسان المهاجر.
من حق هذا المعتوه الذى اسمه محمود عبد السلام أن يصدر بيانا من جرزة يدافع فيه عن حقوق المهاجرين إلى جرزة، حتى لو كانوا واحدا، ولا مانع أن يرفع الأمر إلى المنظمة. حلال عليك يا ست منال. سوف تثبتين ـ أنت الأخرى ـ بكل أسلوب، وعلى نطاق العالم، أن محمود بن عبد السلام المشد قد تم ختانه مرة ثانية فى البوسنة دون أن يوقع إقرارا بالموافقة، وأن أخته ثريا قد طلقت منى لأننى لم أقف بجواره فى ثورته ضد أية حاجة؟.
”والله يا محمود أنا لا أعرف ضد ماذا؟. أو ضد من أنت ثائر؟”.
ثار أهلنا ضد الإقطاع، ثم ضد أعوان الاستعمار، ثم ضد الإمبريالية، ثم ثرنا نحن ضد أنفسنا، لكن أنت؟. ما هذا الهباب الذى تعمله هناك، ثم تأتى وتقول لى قد أحتاجك لتساعدنى فى التدريس للأولاد؟. وأين؟. فى جرزة؟. طيب يا أخى ألا تنتظر حتى تمشى الحال معى هنا فى أى مكان مع ناس يستأهلون، ثم نرى مسألة أبناء جرزة المستوطنين هؤلاء.
ـ هم بمثابة أولادك يا جلال، أنا أعرف حبك للأولاد، كل الأولاد.
ـ نعم..، نعم، ولكن بالأصول، فى المكان المناسب، وبالمنهج المناسب.
ـ أتساءل كيف يمكن أن يتموا دراستهم فى هذا المكان؟
- يا أخى، إفرض أنهم ولدوا هنا.
ـ لا يا شيخ؟.! تستعبط حضرتك، لهذا جئت إلى يا محمود. أنت عزيز على، وأنا تحت أمرك. لكنك تدخلنى فى أشياء تبدو لى غير مرتبطة ببعضها، المفاجأة تلو المفاجأة، ثم أختك يا أخى، ثريا، أليس الأولى أن تسألها هى، وهى المدرسة فى مدرسة رسمية، وتعرف المناهج والمقررات وربما المدارس القريبة من منتجعك الجديد؟.
ـ هذا بالضبط هو ما جعلنى لا أسألها، وأحضر لك.
ـ ما هذا الذى هو بالضبط، الله يسامحك؟.
راح محمود يشرح لجلال كيف أنه يبحث عن بديل حقيقى، عن تعليم لا عن تحفيظ، عن علامات تدل على اطراد نمو معارف أولاده، لا عن غـش ينقلهم من صف إلى صف، وأن هذا هو الذى دعاه إلى التفكيرالجاد فى الاستكفاء الذاتى.
ـ استكفاء ماذا؟. لم تقل لى شيئا عن هذا الاستكفاء، كل ما حدثتنى عنه هو الاستقالة، والزراعة التى لا تعرف فيها الأذرة من الباذنجان، ثم كلام عن الغش، والجنون.
ـ أنا حدثتك عن الجنون؟.
ـ وهل لابد أن تحدثنى. أفعالك هذه ماذا تسميها؟.
ـ ألم تحدثنى أنت دون دعوة منى عن مشروعك للتدريس للأطفال، لماذا لا تأخذنى مأخذ الجد مثلما تفعل مع غيرى؟. أليس أطفالى هؤلاء ضمن أطفال العالم الذين سوف تغيرهم دروسك؟.
نفى جلال أنه حدث محمودا عن أطفال العالم، أو عن تغيير العالم، ونبهه إلى أن هذا الكلام أصبح قديما، ومضحكا، وأن المسألة كلها انتهت إلى أن تكون وسيلة أشرف لأكل العيش، باستثمار مهاراته الخاصة فى اللغات والكمبيوتر لصالح الأصغر الأقدر على استيعاب حركة التطور.
ـ حركة ماذا؟. تضحك على نفسك، ماعلاقة أكل العيش بحركة التطور؟.
ـ علاقة أوثق مما تتصور.
راح محمود بدوره يقنعه ألا يتمادى فى خداع نفسه، وأن مشروعه هذا تكمن وراءه رغبة فى تغيير العالم أساسا، وأن زلة اللسان هذه بذكر “التطور” وهو يحاول أن يجعل المسألة واقعية وأكل عيش، إنما تدل على مقصده الأعمق، وأنه ما دام الأمر كذلك، فإنه الشخص المناسب الذى يمكن أن يساعده فى تنشئة أولاده فى هذه التجربة، فقد يتمكنان من أن يحققا كيف يتعلم الأطفال ما ينبغى، لا ما يضيعهم وينفيهم، يعلمانهم ما لا يكون الإنسان إنسانا إلا به، وتمادى محمود فى كلام كبير من هذا.
ـ اسمع يا محمود، لا تزد من انشغالى عليك، ولا تشركنى فى هذه الجريمة.
ـ هذه الـ “ماذا”؟. مرة تسميها جنونا، والآن تسميها جريمة، تتخلى ـ إذن ـ عن مشروعك، عن الوقوف بجانبى، وبجانب أطفالى،… (سكت فجأة).
ـ اسمع: أنا تحت أمرك، فى حدود ما أعرف، وما أنوى، وما أقدر، لا أكثر ولا أقل.
ـ اتفقنا.
ـ ليس تماما.
ـ3ـ
هو لا يعرف لماذا يصر أن يطمئن على أن أستاذه غالى جوهر ليست له علاقة بهذا البيان الصادر عن غير ذى صفة، هو يتابع بتسليم عاقل ما طرأ على أستاذه من تحولات ظاهرة ومعلنة. هذا أمر لا يخفى على أحد، لكنه كان دائما، أوغالبا، يتصور أن هذا الذى طرأ على أستاذه هو للاستعمال الظاهرى فحسب. أما أستاذه، فهو أستاذه لا يمكن أن يتغير،هو خال الدكتورة مادلين!! خالها خالها، ما لها هى؟. وماله هو؟. عنده عنوانه على ظهر بطاقة الصيدلية، ولابد أنه رجع من كندا بعد زيارته لأولاده. فليذهب إليه مباشرة.
دخل جلال وهو يشكر الأستاذ غالى الذى فتح له بنفسه، يشكره على ما يتيحه لمثله من فرصة لقائه هكذا دون تلكؤ، وما هو إلا أحد المعجبين بدوره. الأستاذ هو الأستاذ، كان كذلك، وسيظل كذلك.
ـ يا رجل !! يا رجل !!، واحدة واحدة، أشكرك على حسن ظنك، ولكن…
قاطعه جلال:
ـ لا تتواضع يا أستاذنا.
ـ … تواضع ماذا يا أستاذ جلال، أنتم الجيل الواعد الآن.
ـ جيلنا جيل هش، لكن أنتم، شئ آخر؟. أنتم جيل لا ينكسر.
تردد الأستاذ قليلا، حاول أن يخفف من غلواء زائره. راح يتحدث عن الظروف، والواقع والعقل، وكيف أنه “لابد” ..، و”بما أن”، قاطعه جلال.
ـ على الرغم مما أقرأ لك أحيانا مما أنكر، لكنى أقول لنفسى إن لكل مقام مقالا، وأن كل وقت وله أذان، وكلام من هذا، أقوله وأنا غير مقتنع، مازلت حتى الآن أرجح احتفاظكم بأفكاركم وثوريتكم وطموحاتكم للوقت المناسب.
ـ يبدو يا جلال أن هذا الوقت المناسب لن يأتى أبدا،..، هل ما زال أحد يستعمل هذه الألفاظ التراثية؟.
ـ تراثية؟.
راح الأستاذ غالى مرة يبدى التواضع، ومرة يدعى التواضع، ثم إنه راح يشرح له كيف أن اشتغاله بالنقد الأدبى بدا له فى أول الأمر حلا جيدا يبعده عن اللحظة الراهنة على أرض الواقع، لكنه لا يحرمه من استمرار التنفيث عن موقفه النقدى المتحفز، إلا أنه اكتشف أنه يكتب نقدا سياسيا لا نقدا أدبيا، وأنه صار مرفوضا من النقاد ومن السياسيين على حد سواء، فاكتفى بكتابة المقال المتوازن بتعقل شديد، حتى أنه ـشخصياـ يصاب بالغثيان حين يقرأ ما كتبه منشورا، حين يكتشف مدى التمادى فى جرعات التعقل التوازنية، وقد قرر ـ لهذا ـ أن يكتفى بكتابة المقال المتوازن دون قراءته.
ـ أصارحك يا أستاذ ولا تعتب على، أنا ـ أيضا ـ كففت عن القراءة لك، آسف، لكننى كنت حريصا على ألا تتغير صورتك، كنت أشعر بالخجل من ذلك، لكننى اطمأننت الآن إلى أنك ـ أيضا ـ لست من قرائك.
ـ كل مرة أتصور أننى سأتجاوز هذه الحكمة الماسخة، ثم أكتشف أنى لا أفعل شيئا إلا محاولة إرضاء جميع الأطراف، ألا قل لى يا أستاذ جلال: هل يمكن إرضاء جميع الأطراف؟.
ـ أظنه يمكنك يا أستاذ، الأمر يحتاج إلى حكمة خبير.
ـ كنت أتصور أننى أجمع الأطراف إلى بعضها البعض، ثم اكتشفت أن المسألة ليست هكذا، المسألة ليست لها أطراف.
قال جلال متشجعا:
ـ نحن ـ أيضا ـ لاحظنا أنها ليست هكذا.
ـ ماذا لاحظتم بالضبط؟.
ـ الغثيان،… يعنى؟.
ـ ماذا؟.
فوجئ جلال وتذكر أن تبسط الأستاذ فى الحكى لا يعنى أنه يسمح له.
ـ أقصد أن المسألة يعنى، حضرتك الذى…، حضرتك الذى قلت “غثيان”.
ـ أنا قلت “غثيان” يا جلال؟.
ـ أظن أننى سمعت ذلك، أو فهمت ذلك وأنت تصف قراءتك لمقالاتك المتوازنة.
ـ ربما، لا، ربما، لا. ثم ماذا هو؟. يعنى موقفكم؟. ماذا تعملون؟. ماذا تنتظرون؟. أين تذهبون؟.
حاول إزالة الحرج باستظراف يعرف أنه سخيف، رنت فى عقله حين سمع تساؤله “أين تذهبون” فكاد يقول: “هذا المساء”، لكنه منع نفسه، وتمادى فى سرحان شبه مقصود أكده بغمغمة استعباط متهـرب.
ـ لم ترد على تساؤلاتى يا أستاذ جلال؟.
ـ وهل حضرتك تحتاج إلى رد مثلى، أنت أعلم بما آلت إليه حالنا.
تذكر جلال فجأة البيان الذى دعاه إلى تحديد هذا الموعد، ولكنه خجل أن يفاتحه فيه، بعد أن تطور الحديث هكذا بعيدا عنه، ثم أفاق مرة أخرى على صوت الأستاذ.
ـ يا خبر، أنستنى حرارة حماستك أن أقدم لك شيئا، بهية… يا بهية.
دخلت من ناحية المطبخ، فتاة حول العشرين، شديدة الجمال، ما الحكاية؟. همس جلال لنفسه. كلهن شديدات الجمال، كل واحدة شديدة الجمال، لا توجد واحدة نصف نصف؟. لكن جمال بهية هذه (حفظ اسمها فى ثانية) جمال طازج دافئ، جمال بهية هذه مسلم الهوية، الله يخرب بيته. ماذا جرى فى عقله هذه الأيام؟. لماذا يصنف الجمال، والفكر، والعواطف وأشياء كثيرة أخرى تصنيفا دينيا بشكل جديد شديد الخصوصية؟. هو نفسه يستغرب هذه اللغة الجديدة عليه، متى يكون الجمال مسلما؟. ومتى يكون مسيحيا؟. ومتى يكون بوذيا؟. ومتى يكون كافرا؟. الجمال ينتمى إلى من يحب الجمال، ما هذا الذى اعتراه هذه الأيام؟ تصنيف تصنيف تصنيف؟ حتى الجمال؟! حاول أن ينظر فى باطن رسغها الأيمن أو الأيسر ـ مثلما فعل فى الصيدلية مع الدكتورة مادلين ـ لكنه خجل من نفسه، المنديل ذو”الأوية”، والنضارة السمراء، والجسم الملفوف، والدلال البيتى، لا يمكن أن تكون بهية شغالة؟.
سأله الأستاذ جوهر ماذا يشرب؟. يبدو أن جلالا قد نسى أو تناسى أنه كان على وشك الانصراف، فطلب شايا بدون سكر؟. لماذا بدون سكر، لا يعرف. وفى انتظار الشاى، مع انصراف بهية تاركة وراءها مشاعر متسائلة شهية، وإجابات مثيرة لذيذة، وفروضا عبقة نفاذة.
”غلبتك اللغة الخاصة يا روح قلبى؟.”
”الشئ لزوم الشئ”.
مع تذكر المهمة الأولى التى جاء من أجلها سأل جلال الأستاذ (مازال يصر أنه كذلك) عن موقفه من حركة أقباط المهجر، واستغرب أنه لا يوافق، ولا يرفض، يا خبر!!، إذن كان عند جلال حق، حين قفزت صورة غالى جوهر إلى ذهنه مع البيان. كان يخشى أن ينحرف الحديث إلى هجرة أولاده، ولكن جلالا لم يجرؤ على أن يعلن عما خطر له من ربط بين موقف الأستاذ هذا بمشروع رهبنة ابنه جوهر، فما بالك لو كان قد تجرأ على السؤال عن دور “بهية” فى حياة الأستاذ؟. تمنى أن تأتى بالشاى بسرعة حتى لا يتطور الحوار إلى مالا ينبغى أو ما لا يحب، لكن بهية تأخرت، عن قصد غالبا;
”لأنها تريدنى أن أبقى أكثر”.
”لا ياشيخ”!!؟.
”أنت مالك انت”.
اضطر ـ دفعا لكل هذا ـ أن يسأل الأستاذ عن مشاريعه المستقبلية.
ـ مشاريعى أنا؟. المستقبلية؟. هل تعرف كم عمرى؟.
ـ … تعلمنا منك أن مسألة العمر مسألة فى أيدينا نحن. نحن الذين نقررها.
ـ أنا علمتكم هذا؟.
ـ طبعا حضرتك.
ـ….، على أية حال، ليست لى مشاريع، وليست لى مستقبلية!!.
خطر على بال جلال أن يستفسر منه عن تطور موقفه من الدين، وهل يسرى عليه ما يسرى على الأصغر مثله؟. وماذا يفعل به الخوف من النهاية مع تقدم السن؟. يريد أن يسأله عما صارت إليه أيديولوجيتهم وشعاراتهم، بل عن بهية بالمرة. فضل جلال أن يبدأ من الآخر، فسأله فعلا عن بهية، ليس يدرى كيف احتال ليسأله. لكنه سأله. الأمر العجيب أن الاستاذ لم يدهش للسؤال، ولم يحاول أن يتهرب، ولا هو أجاب، فهى ـ على كل حال ـ ليست شغالة، وليست قريبة، وليست سكرتيرة.
ـ لكنها، والحق يقال، أهم ما تبقى لى فى هذه الدنيا.
كاد جلال يقول، ولكنها مسلمة، وانتبه إلى أنه “إيش عرفه”؟.
هذا الأستاذ الجليل، الذى أصبح حكيما بلا لون، ولا طعم، على الرغم من الرائحة الفاترة اللزجة الملحة، هذا الأستاذ قد قرر أن يتخلص من الصراع بين رهبنة ابنه وهجرة بقية الأسرة بأن.. بأن..ماذا؟.
ـ هل تسمح لى حضرتك بسؤال شخصى؟.
ـ وهل تكلمنا حتى الآن فى أى شئ غير شخصى؟.
ـ أعترف أننى لم أعد قادرا على التمييز بين ما هو شخصى، وما هو غير شخصى.
فجأة أشرقت فى رأس جلال فكرة جعلته يتمادى ليكمل:
ـ وهل هناك ما يشير إلى أنه قد يثبت العكس، عكس ما كنا….؟.
ـ أى عكس تعنى؟.
راح الأستاذ غالى يروغ من الرد المباشر، حتى صرح أنه يبدو أن الدين ليس هو الذى يخدر الشعوب، لكن رجال الدين هم الذين يسرقون وعى الشعوب لصالح أسيادهم.
ـ هذا كلام قديم، آسف، أنا لا أعنى هذا تماما هكذا، ولكنى أعنى ..، ما لم أستطع..، أقصد..، يعنى، ربما . “الله” يعنى.
ـ ما له؟. “الـله” ماله؟.
ـ هل وجدته، حضرتك؟.
ـ أين؟.
ـ لا أقصد.
ـ جوهر ابنى ذهب يبحث عنه فى الصحراء الغربية، وذهبت أمه ومعها إخوته إلى كندا حيث يبدو أنهم وجدوا منه صورة حديثة مع هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يتخلصوا من مصر داخلهم فيحقدون عليها، يساعدهم فى ذلك رب خواجه جاهز.
ـ حضرتك إذن تعتبر بيان أقباط المهجر خطأ؟.
لم يرد الأستاذ جوهر، وكأنه تورط فى التصريح بما لا يقصد، فراح يبدى تعجبه من أسئلة جلال، وينصحه أن الحياة مليئة بمشاكل أهم من هذه المناقشات المضيعة للوقت، وأنه يقدر نزوع الناس هذه الأيام إلى الخوض فى هذه المسائل؛ كلما ضاقت الدنيا، واختل المنطق، لاحت الدروشة فى الأفق، وأطلت الخرافة تعرض خدماتها.
لم يكمل جلال التصريح بما دار فى ذهنه واستأذن بسرعة بعد أن نظر فى ساعته، وتعجب الأستاذ جوهر لتأخر الشاى، وهم أن ينادى بهية، لكن جلالا حسم الموقف معلنا فى إصرار أن موعدا يستحيل تأجيله قد أزف، وأنه آسف على ضرورة انصرافه الآن، كما أنه شاكر جدا على الوقت الذى قضاه معه.
-4-
شعر جلال بالغثيان وهو يخرج، وحتى لا يتطور الأمر، راح يطلق لخياله العنان وهو يسير فى الشارع كأنه لا يرى.
جاءه حدس غريب أثناء سيره، شعر بأن أحدا يتتبعه، يريد أن ينشله، أحكم أزرار سترته. شعر أن هذا الذى يتبعه هو “خواجة” ابن خواجة، ومع ذلك هو يخرج لسانه ويهتف: “يابو الريش انشالله جلال يعيش”.
يسخر منه أم يرجو إسهامه؟.
بعض الأمريكيين يعرضون حلولا فى اتجاه حلوله لتغيير برامج حياتهم، هل ثم مجال للتعاون معهم، ألا يمكن أن يكون مشروعه قريبا لما يفكرون فيه.
أحس أن المتابع تغير وتعدد حتى أصبحوا صبية كثيرون، خواجات أيضا، بل وسود أيضا ليس متأكدا هل هم من أمريكا الجنوبية أم من أفريقيا لم يلتفت، بدأوا يهمسون بما لم يتبينه، أخذت الأصوات تعلو وهو يسرع الخطى، ”العبيط اهه، أهه، العبيط أهه”، تحددت هويتهم فهم ليسوامجرد خواجات، هم أمريكيون جدا وحتى السود أمريكيون، سرعان ما سوف يتجنس العالم بالجنسية الأمريكية، فلا يعود هناك أحد أحسن من أحد ”سوف يختزل إلى نوعين لا أكثر: أمريكى أصلى وأمريكى مضروب” ” طيب والصين؟” “آه صحيح، والصين؟”.
اختفت الأصوات فجأة على صوت كابح سيارة توقفت قبل أن تصدمه بعدة سنتميترات. أفاق جلال تماما كأنه سقط من شاهق وهو يسمع التقريع والسباب من قائد السيارة، ومن السيارات المجاورة، وحتى من بعض المارة الذين شاركوا فى لعنه هو وأهله وربما دينه أيضا، أين كان ؟ هل بصق بعضهم عليه فعلا؟ وإلا، فمن أين هذا الرذاذ ؟ لعله العرق.
هو تجاهل ذلك وكأنه لم يكن.
وتأكد أنه مخطئ مائة فى المائة. ولم يحدد “فى ماذا”.
وندم على محاولة العبور.
ـ 5 ـ
ـ نتفاهم،..، ماذا تريدين بالضبط؟.
كانت هى التى دعته إلى لقاء خارج المنزل فى هذا المطعم الصينى على أطراف المعادى، واشترطت أن يكون العشاء ضمن اتفاق العمل حتى تبرر أنها هى التى ستدفع. لم يتمنع كثيرا، ولم يوافق بسهولة، ربما هو بدأ يتعلم لغة أصول اتفاقات العمل، وهو غير واثق إن كان الذى جعله يقبل الدعوة من فوره هو احتمال أن تكون بداية مهمته قد قربت، حتى لو كانت بداية هى النهاية ذاتها، فيرتاح، ويريح؟. أم أنه كان يريد أن يجلس معها هى بمفردها بعيدا عن المنزل هكذا؟. زوجها يعرف، يعنى، ويرحب غالبا، وهو يشكرهما أنهما أعفياه من التفاصيل، حيث كل ما عليه هو أن يدفع التكاليف المطلوبة منه دائما ومن فوره، ثم إنه لا يهمه إلا أن يرى النتائج فى تفوق أولاده وتميزهم.
هذا موجز ما أبلغته فاتيما لجلال بعد جلوسهما فى المطعم الذى من ضمن ميزاته ـ كما قالت هى من سابق خبرتها – أن خدمته بطيئة؛ مما يجعل اللقاء حول المائدة أهم من التهام ما يوضع عليها. ردت على سؤاله المستوضح عن موقفها هى من مشروعه بعيدا عن موقف أبى الأولاد.
ـ أنت تعلم، فى الأغلب، ما أريده أو قل ما أتمناه.
ـ أحسب أننا ألمحنا فى اللقاءات السابقة إلى الخطوط العريضة، وقد آن الأوان أن نحاول الدخول فى التفاصيل.
ـ تعنى المواعيد، والساعات، وتوفيق ذلك مع ارتباطات الأولاد؟. أم ماذا؟.
يحاول هو طول الوقت أن يمسك نفسه حتى لا يخترق المائدة، هذه “ليست خوجاية” والمصحف. ليست بعيدة، ليست باردة، ليست عنصرية، ليست متكبرة، ليست متحذلقة، ليست مهذبة جدا، ليست هشة.
(“ومن قال إن الخواجايات هن كذلك؟ أنا”.”إيش عرفك؟”. يتهيأ لى”.”طيب يا فالح)”.
أعاد نفسه بالقوة إلى موضعه الذى لم يتحرك منه أصلا، وقال:
ـ لا أقصد ذلك، ولكن أقصد الأهداف، أهداف المهمة.
ـ ألست أنت صاحب العرض، أليست صديقتنا المشتركة “منال” هى التى عرفتك على أمين بناء على طلبك تلاميذ لمشروعك؟. إنك تعرف أهدافك بكل وضوح، هذاما بدا لى من أول وهلة.
ـ لا أخفى عليك، ليس تماما، أنا أعرف أهدافى وأنا جالس فى بيتى، أما عند التنفيذ وإشراك آخرين، واحتمال البدء فى العمل مع أطفال الناس، فلابد من التحديد. ثم ماذا لو كانت أهدافك، أهدافكم، غير أهدافى. لابد من التوفيق بين وجهات النظر، منذ البداية، وإذا لم ننجح فى التوفيق. فلا مفر من العدول عن المشروع قبل البداية.
ـ بصراحة يا جلال، يخيل إلى أحيانا أنك تتمنى أن تفشل قبل أن تبدأ.
ـ كيف عرفت؟.
ـ قلت لك يخيل إلى.
ـ أنا أيضا يخيل إلى ذلك، أحيانا أيضا.
ـ بل دائما.
ـ… دائما.
ـ فلماذا إذن….؟. أنت غريب يا جلال، وأنا أحب غرابتك هذه.
كاد يقول لها، مثلما قالت، وأكثر، لكنه عدل، وادعى لنفسه أنه ليس متأكدا، إن كان يحبها هى أم يحب غرابتها؟. حتى هذه اللحظة لم يكن قد حسم أمره بشأن مشاعره نحوها. هو ليس من السفالة بحيث يستغل فرصة دخوله منزل رجل ائتمنه، ثم يلعب بذيله، ثم إنه ليس من البلادة بحيث يستطيع أن يكتم مشاعره. ما هذا؟. تذكر أنه اكتشف أنه أصبح” جاهزا مع وقف التنفيذ”؟. هو يشعر بذلك مع كل واحدة يلقاها، دون استثناء بهية، لكن مشاعره الآن مختلفة. هى ـ دائما ـ مختلفة مع كل واحدة، مشاعره تتجلى على مزاجها بتشكيلات مبرمجة تناسب كل واحدة بحسب موقعها شديد الخصوصية بين خلايا حضوره الجسدى المعنوى الإيمانى المبتكر.
يا ليلة لن تمر!!!. أين تذهب به هذه اللغة؟.
طال صمته فقطعته:
ـ ماذا قلت؟.
ـ فيم؟. أنا لم أقل شيئا.
ـ ما رأيك؟. نبدأ من فورنا ونرى. المهم الآن هو العمل، وهو سيوصلنا إلى هدفه.
ـ لا لا لا، عندك. هذه لعبة أمريكية لابد من حبك “الغمى” على عيون الثور حتى لا يكف عن الدوران.
ـ ماذا؟. أمريكية؟.
ـ أنا لا أقصد…، هى جاءت هكذا، وأنت؟.
ـ أنا ماذا؟.
ـ ألا ترين ذلك؟.
ـ أنا هاربة من كل ما هو أمريكى، لكن يبدو أنهم تحت جلدى.
ـ إذن نحاول أن نحدد مهمتنا، مهمتى، ولو بطريقة تقريبية. ما هو المطلوب منى؟.
- أنت الذى تجيب، أنا طلبت مقابلتك لتحديد الخطوات، لا الهدف؟.
- لكننا اتفقنا على الخطوات، لقد قلت لى فى الهاتف إن سبب اللقاء فى الخارج هو أن نأخذ راحتنا فى الحديث فى التفاصيل.
ـ آه صحيح، هذا ما قلته فعلا.
ـ إذن، هيا..
ـ هيا ماذا؟.
ـ هيا إلى ما جئنا من أجله.
ـ كنت أريد أن أتعرف عليك أكثر، أتعرف عليك عن قرب. أستاذ أولادى!.
كاد أن يصدق، وابتسم، ثم سارع بالرفض. هو ليس لعبة جديدة تعبث بها وهى تقلبها وتفكها وتفحص أجـزاءها، ثم تعيد تركيبها.
ـ تتعرفين على ماذا بالضبط؟.
ـ عليك يا أخى، عليك. وأنت…..؟.
أنا ماذا؟. هل أمارس أمامك عجين الفلاحة حتى تتعرفى على؟.لم يظهر أثرهذا الاحتجاج على وجهه، أكملت هى لما لاحظت صمته وتغير قسمات وجهه:
ـ هل آذيت مشاعرك؟. ألا تريد أن تتعرف أنت على..؟.
بحلق فى وجهها ليتأكد أن الحجاب مازال فى موضعه، تعجب لربطه هذا بذاك.
ـ أريد جدا، أريد طبعا.
ـ هيا نتعرف.
يا ليلة لن تنقضى، هيا نتعرف. كيف؟. هنا؟. يبدو أن كلام الخواجات، حتى بالعربى، له معان أخرى، فى الأغلب. إن كان عليه فهذا المكان لا يسمح له بالتعرف، هو مطلق وبيته خال، لكن المسألة ليست كذلك، إنه لا يفهم …، وهو لا يريد أن يفهم.
على الرغم مما غمره من كل شئ، قرر أن يهبط اضطراريا دون فتح المظلة، وليكن ما يكون.
ـ الأولاد فى منتهى الذكاء، عملت الهندسة الوراثية عملها.
قالها وضحك ليخفف من سخفه.
ـ تقصد التهجين، لا الهندسة الوراثية.
ـ كله محصل بعضه.
ـ يعنى؟.
ـ لن توجد مشكلة فى سرعة تعلمهم، ولكن ماذا تنتظرين من جهدى بالضبط، ماذا تتوقعين من مشروعى؟.
ـ… دعك من حكاية “بالضبط” هذه، إن كل ما أرجوه هو أن يكون فى إخلاصك وحماستك وقدراتك ما يسمح للأولاد أن يتعرفوا على أنفسهم، وعلى إيمانهم، وعلى جذورهم المشتركة دون تمزق، هذه هى الحكاية.
ـ فقط !!!؟.؟.
قالها فيما يشبه التنبيه الموقظ الذى لا يخلو من سخرية، ثم أردف:
ـ أحسب أنى سمعت كلمة “إيمانهم”، ضمن ما تنتظرين منى أن أعرفهم به من خلال اللغة.
ـ فعلا قلت ذلك.
ـ ومن أين لى أن أعرف إيمانهم حتى يمكن أن يتعرفوا عليه؟.
ـ إيمانهم هو إيمان أى مخلوق خلقه الله، لقد خلقنا الله مؤمنين، أليس كذلك؟.
ـ أنت الأدرى.
ـ وأنت؟.
ـ أصدقك.
ـ ألم تكتشف أنت بنفسك ذلك؟.
ـ أكتشف ماذا؟.
ـ تكتشف إيمانك، كما خلقك الله.
ـ ربما اكتشفته طفلا داخل عباءة عمى سليمان وهو يرتل القرآن، لكن المشايخ الرسميين سارعوا بالاستيلاء عليه، كان ينبغى أن أسجل “حق الاكتشاف” فى وعيى غائرا قبل أن يسرقوه.
ـ لا شئ مما نكتشفه أطفالا يمكن سرقته.
ـ ربما، ولكن يمكن طمسه وتشويهه.
ـ صحيح. يبدو أننا نكتشف الله أطفالا قبل أن يكون لنا حق تسجيل الاكتشافات.
ـ وياليتهم يستولون على ما نكتشف ويريحوننا فنستسلم، لكنهم يخفونه لحساب عكسه، ويسجلون ما زيفوه بنفس الاسم حتى لا ننتبه إلى السرقة.
ـ لست فاهمة؟.
ـ ولا أنا، أقصد يسمون “ما يشبه الدين” الذى يخفون به إيماننا، باسم “الدين”.
ـ هذا بالضبط ما أريدك أن تحمى الأولاد منه.
ـ أنا؟. أحميهم؟. كنت حميت نفسى!!!. أحميهم بدروس اللغة؟.
ـ ليس تماما، ولكن اللغة، أنت الذى قلت لى ذلك، اللغة حين تحمل معناها تصبح وسيلة لتوصيل هذا اللحن الكونى المتناغم، فنحافظ على كوننا بشرا. هل رجعت فى كلامك.
ـ أنا قلت ذلك؟.
ـ على ما أذكر.
ـ كل ما أعرفه هو أن نبض الوجود لا ينبغى أن يسلم لأمناء المخازن، وهذا لا يتم إلا بالحرية واللغة ذات المعنى.
ـ حرية ماذا؟. أنا هاربة من حرية ما، ألا يوجد لفظ آخر لوصف هذا الشئ الذى ندور حوله، فلا نحن نحققه، ولا هو يلحقه منا إلا التشويه. ألا تدور محاولاتك فى هذه المنطقة؟.
سيدتى، إنك تمدين يدك إلى داخل داخلى، أنا لست ناقصا.
لم يشعر من قبل كيف يكون الكلام نابضا غائرا ممتلئا مثلما شعر فى تلك اللحظة، لم يكن ناقصا عليه إلا أن يمد يده فيمسك بكلماتها بكلتا يديه، بدت له الحياة الممتدة من هذه اللحظة إلى المطلق، متجسدة فى كلمات. حتى الكلمات العادية التى نتكلمها أصبحت كأنها الحياة ذاتها، هذه الكلمات فيها خليط من الجنس والحب والإيمان، النسب رائعة التمازج، لو استمرت هذه المرأة تفعل به ذلك فقد يصل إلى الذروة حتى يرى الله جهرة، حضرته ـ من بعيد ـ تلاوة عمه سليمان وهو قابع طفلا داخل عباءته دون استئذان، لم يتذكر آية بذاتها، لكنه امتلأ بصوت عمه، وكاد يصل فعلا.
لابد أن ينتهى هذا الموقف حالا، وإلا فهو غير مسؤول عما يحدث: قال لها قبل أن يتردد:
ـ أحسب أننا تقاربنا بشكل لم أتوقعه. أتبين من خلالك أننى إنما أحاول أن أسترد ما سرق منى طفلا، هذا ما أسعى إليه من خلال مشروعى لحماية أطفال لم تتم سرقتهم بعد.
ـ ربما يكون ذلك من أهم ما دفعنى للحضور إلى مصر، مصر التى…
قاطعها وكاد يقول فى خاطرى وفى دمى شعر أنه يسخف الأمر كأنه يلقى بزجاجة حبر، كيفما اتفق، على لوحة تتكون، فكادت تكشف سره وتعريه دون أن يقصد، منع نفسه، وقال مقاطعا أيضا:
ـ مصر التى تخلينقها تخلقا كما تخيلتها.
ـ لا أظن. أنتم فعلتم فى مصر، مثلما يفعل المتدينون التقليديون بأطفالهم، يستولون على إيمانهم، ويستبدلونه، ثم يلصقون عليه اللافتات التى تنفر الأطفال والكبار وكافة المؤمنين والكفار منه، هكذا فعلتم بتاريخ وحضارة أجدادكم، أجدادنا..
ـ أجدادكم غير أجدادنا.
ـ ليس تماما، أجدادكم هم أجدادنا الحاضرون الآن فى خلايانا، كل ما فى الأمر أنهم تجلوا أكمل وأجمل فى فترات حضارة زاهرة عندكم، كانت حضارة هؤلاء المصريين من أهم ما سجل التاريخ لحسابكم، لكنه سجلها لنا جميعا نحن البشر.
ـ لست فاهما؟.
ـ أحسن.
بدأت الحالة التى غمرته، الحالة التى لا يعرف لها اسما، بدأت تهدأ تدريجيا وهو يحاول أن يغض بصره مرة، و أن يركز فى الأفكار دون لحم الكلمات مرة، فتعاوده الطمأنينة، فيتمنى ألا ينتهى اللقاء أبدا، أو أن ينتهى حالا، فكر أن يساعد نفسه على العودة “كما كنت” بأن يذكر لها جانبا من حديثه الجاف مع غالى جوهر، أستاذه، أو الذى كان أستاذه.
ـ تصورى، بعد سرقة أهلنا لإيماننا، واستبداله بما أسموه دينا، كل حسب جبنة، راح الفريق الآخر يعلمنا كبارا أن نتخلص من كل ذلك بزعم أن الدين مخدر للشعوب.
ـ كم انبهرت بهذه الدعوة زمنا.
ـ منذ أيام قابلت، أحد أساتذتنا الذين كانوا يغسلون أدمغتنا من آثار التلوث الدينى الذى محا إيماننا أطفالا. سألته بعد غياب عقدين، سألته عن موقفه الآن من حكاية أن الدين مخدر، وفهمت منه أنه تراجع عنها، لكننى لم أستطع أن أفهم تراجع إلى أين، أذكر أنه قال إن رجال الدين هم الذين يسرقون وعى الشعوب لصالح أسيادهم، أو شئ كهذا.
ـ عنده حق، يبدو أن الدين الذى يسوقونه أصبح نفيا للإيمان
ـ هه؟.
ـ تكاد تكون مهمتنا الأولى هى أن نمنع ذلك، لا أكثر ولا أقل..
ـ مهمتنا؟ مهمة من؟…
ـ فهمت منك أن محاولة إحياء اللغة فى حضور حى، هى شئ من هذا القبيل.
هاجت عليه المشاعر الخطرة من جديد: يختلط الجنس بالإيمان باللحم باللغة بالصلاة بالدم حتى الامتلاء فالذروة، يا دى الليلة السودا، واحدة واحدة يا امرأة.
لم يجرؤ أن يسألها، وما هو الحضور الحى حتى لا يجد نفسه بين أحضانها؟. فقال:
ـ على خيرة الله.
هم بالوقوف لكنه تراجع بحسم، وقد بدأت حالته الباردة نوعا تعود إليه لتثبت أقدامه، فتمكن مقعدته من الجلسة، قال لها:
ـ والأستاذ أمين؟.
يبدو أنها فوجئت بتوقيت السؤال، لكنها ربما كانت تنتظر ذات السؤال وتستعد له، ربما قدرت أنه سوف يطرح هذا السؤال فى وقت مبكر فى الحوار، وليس فى هذا التوقيت. هذا هو ما أدهشها، أما الإجابة فبدت جاهزة من قبل، لكنها مهدت لها بسؤاله:
ـ ما له؟.
ـ أين هو من كل ذلك؟.
ـ هو فى معرض السيارات، وهو مشغول بالاستعداد لمشروع ضخم لتجميع نوع كورى جديد من السيارات، يقول إنه سيفاجئ به السوق، ويكتسح.
ـ ألا ترين أن هذا الموقف هو…، يعنى…،يمكن أن يكون…، قصدى، ضد، ليس تماما، لكن، ما هو أيضا… أساسا، أليس هو والد الأولاد الذين نحاول أن نحافظ عليهم كما خلقهم الله؟. أليس كذلك؟.
ـ مالك يا جلال، طبعا والدهم، لملم نفسك بعض الشئ..،هل تشك فى هذا؟.
ضحكت ثم أكملت:
ـ ولكن مالك تناثرت هكذا ياجلال ، أعنى كلامك، لا تؤاخذنى كنت أتابعك بصعوبة.
قالت ذلك ضاحكة ـ أيضا ـ ضحكتها هذه فيها طيبة عذبة، وكأنها….، كأنها ماذا، ليس يدرى.
ـ أليس من المناسب، بل لعله من اللازم أن نشركه فى الأمر، يعنى؟.
ـ ما هو مشترك.
ـ أقصد أن يوافق على التفاصيل.
ـ وهل نجحنا نحن فى تحديد التفاصيل حتى نطلب منه أن يوافق عليها، ثم إنه مادام يدفع أتعابك فهو موافق.
ـ أعرف أنك لا تقصدين ذلك تماما، وأنا جاد فى معرفة حجم مشاركته لنا.
ـ هو يشاركنا بقدر ما لا يعترض على ما نفعل.
كادت حواجبه تلعب منه رغما عنه، لكنه قال منضبطا:
”والله فكرة”.
لم يكن متأكدا إن كان قد قالها بصوت مرتفع، أم همس بها لنفسه.
ـ 6ـ
كاد يطلب منها أن يجلس فى المقعد الخلفى، أو أن يستقل تاكسيا بحجة أن عنده ميعادا فى الاتجاه الآخر، وأيضا هو تمنى فى ذات اللحظة أن تختفى هذه المرأة من حياته الآن، وإلى الأبد، حتى لو اضطره الأمر آن يتنازل عن مشروعه، لكنه استسلم تماما وهو يلقى بنفسه فى المقعد بجوارها. جميع عضلاته سائبة تغلى فى صبر متحفز، والمصيبة أنه كان على يقين من أنها تدرك بعض ما به، أو كل ما به، بل إنه قد خطر بباله أنها تدركه أكثر مما يدركه هو، كيف استطاعت أن تعريه هكذا؟. بإيمانها؟. فلماذا الجنس؟. أى جنس؟. ومن الذى جاء الآن بسيرة الجنس؟. يكاد لا يستطيع ـ كما سبق له مثل ذلك أو قريب من ذلك ـ أن يفصل الجنس عن الإيمان، عن المعنى عن الامتلاء، عن الصلاة. كل ما يقدر عليه هو أن يبدل مواضع الكلمات: الإيمان، المعنى الصلاة، الامتلاء،الجنس، قال ماذا؟. أزاح الجنس ليصبح فى ذيل القائمة، لكن القائمة ليس لها رأس وذيل، هى كتلة متداخلة، تمد يدك لتمسك بإحدى مفرداتها فلا تعرف. لا تستطيع إلا أن تحتويها كلها معا بكل مفرداتها بداية ولا نهاية، أين النجاة؟.
لم تتكلم وهى تواصل القيادة وكأنها تركته قاصدة أن ينجى نفسه بنفسه.
سمعها دون أن تنطق فقال وكأنه يرد:
ـ سبحان المنجى.
استسلمت فى أمومة، وحتى أمومتها بدت له كأحد تجليات الكتلة الحيوية المتعددة المتداخلة الغامرة، قالت:
ـ مم، من ماذا؟.
رد عمه، نيابة عنه، فأنقذه: “من المهالك”.
تذكر فجأة لقاء محمود الأخير. لماذا لم يحدثها عن مشروع محمود، مع أنهم شركاء هم الثلاثة فى شئ ما، قرر أن يفاتحها الآن، فى السيارة، وكأنه يستغيث باستحضار محمود عبد السلام ليقف بينهما ويحول دون زحفه إليها، فيها، بها، فتشبث بالمقعد وربط الحزام على الرغم من بطء سرعة السيارة.
ـ أريد أن أحدثك عن صديق يمكن أن يساعدنا.
كادت تعتذر فالوقت تأخر، لكنها بدلا من أن تفعل، أدارت السيارة إلى الاتجاه المعاكس.
لم يفهم سر الالتفاف، وكاد يصيح:
-إلى أين؟.
ـ لا عليك، إحك، خذ راحتك أريد أن أسمعك أكثر.
ـ لا.. لا.. ليست حكاية، لكن موقفه، موقف صديقى محمود هذا قد يفيدنا، يعنى، ربما قد يفيد الأولاد.
ـ كل شئ، يمكن أن يفيد، حسب موقفنا منه.
شرح لها أنه ليس صديقا تماما، وأنه كان نسيبه، كان شقيق زوجته، التى لم تعد زوجته، وأنه ضابط سابق، أصبح سابقا حديثا جدا، وكيف أنه استقال، يقول إنه استقال من أجل الأولاد، وكيف أنه قد عرض عليه أن يقوم بذات المهمة لأولاده بعد أن يهاجروا.
ـ يهاجرون؟. هل ستقوم بمهمتك هذه، فى المهجر؟. هل سيرسل لك طائرة خاصة فى ميعاد الدروس، أم ماذا؟ أين ذهبت يا جلال، نحن لم نشرب شيئا.
ـ يهاجرون إلى جرزة.
ـ جرزاااا؟.؟. لم أسمع عنها، هل هى فى كندا أم فى نيوزيلندا؟.
رد جادا:
ـ جرزة، وليست جرزاااا، جرزة – فى محافظة بنى سويف، بلد صغير بالقرب من هرم ميدوم، هل سمعت عن هرم ميدوم؟.
ـ أظن، لكنك قلت يهاجرون.
ـ نعم، هو ـ أيضا ـ يعتبرها هجرة، شئ أشبه بما فعلتـه أنت حين هاجرت من ألمانيا إلى مصر، أو إلى ما كنت تحسبينه مصر، هو ـ أيضا ـ يحسب أن جــرزة هى أرض الميعاد مثل أولاد الـ… خاف أن يكمل، فهو لا يعرف موقفها من السامية، ”سامية” تعنى ماذا؟” ” سامية يا حمار، بشد الهمزة” “الله يخرب بيوتهم.”
راح يكمل آملا ألا تكون قد سمعت حواره الداخلى:
ـ ترك له أبوه بضعة أفدنة نصف نصف، يريد أن يزرعها بنفسه هو وأولاده، يتصور بذلك أنه ينقذ أولاده من النظام القاهرى الجديد، ويريد منى أن أساعده فى تعليمهم، بحيث يكونون هم، يعنى كما خلقهم الله، شيئا أشبه بما تقولين.
ـ ياه، إننا لسنا وحيدين.
ـ إننا: من؟.
ـ أنت وأنا.
ـ أنا وأنت؟.
ـ نعم.
لم يصدق، ولم يفسر، ولم يسمح لنفسه بالتمادى، فرجع هاربا إلى الكلام فى “المشروع” والشريك الجديد، وكأنه يجر القارب بحبل إلى الشاطئ برغم مساحة الطين الرخوة الممتدة.
ـ هه؟. هل لديك مانع أن نشركه معنا، أعنى أن نشرك أولاده فى الأمر؟. فى الدروس؟. مع أولادكم؟. يعنى.
ـ إذا أمكن ترتيب الأماكن والمواعيد، هل تبعد جرزا هذه كثيرا عن القاهرة.
ـ يعنى، أقل من ساعة.
ـ لست متأكدة، على أية حال شوقتنى للتعرف على صديقك هذا، وعلى جرزة، الهجرة إلى جرزة -بنى سويف كما تقول!! فكرة..! فعلا فكرة.
ـ بصراحة هى شطحة ليست فكرة. صاحبى هذا عاد من البوسنة مختلفا تماما، مر بخبرة هناك لا أعرف منها إلا ملامح يسيرة، عاد منها مختلفا.
ـ…، هل كان فى البوسنة؟. أريد أن أتعرف عليه، لى أصدقاء بوسنيون من الذين هجروا إلى ألمانيا أثناء الحرب، ما اسمه؟.
ـ محمود.
ـ محمود؟.
ـ ماذا هل تعرفينه؟.
ـ لا.. طبعا.
ـ تكررين اسمه كأنك تعرفينه.
ـ ماذا جرى لك؟.
ـ أبدا.
سألته أين يسكن حتى تقوم بتوصيله بعد أن تأخر بهم الوقت أكثر. اعتذر وشكر فأصرت، وحين وصل إلى منزله تلكأ فى النزول، لكنه اندفع خارج العربة دون أن ينظر إليها، وهو يقول لها: “تفضلى”، كلمة مصرية عابرة فى مثل هذه المواقف. خاف أن يصافحها قبل أن ينزل.
لف حول العربة من الخلف وهو يشير بيده أن “مع السلامة” ووجهه إلى الناحية الأخرى.
لاحظ أن باب السائق يفتح بهدوء، وهى تهم بالنزول، تردد وأعاد: “تفضلى”.
وتفضلت.
* * *
الفصل العاشر
جرزة
تسحب القط الأسود اللامع السواد بين الأعمدة العملاقة، ثم اقترب من أقربها وتمسح به وهو يقرقر بصوته الملئ بنداء جنسى حنون.
فجأة عقص القط ظهره فى وضع الاستعداد للقتال، إذ خيل إليه أنه رأى شبح كلب يتنقل بين عمودين قريبين.
لا يستطيع القط أن يميز بين الذئب والكلب عن هذا البعد، وهو لا بد أن يستعد للنزال أيا كان الأمر، ثم إنه ليس متأكدا إن كان الشبح خيالا أم حقيقة مع أنه يهجس لنفسه بأنه شبح، ربما كان شبحا حقيقيا.
على ناحية جانبية ليست بعيدة من بهو الأعمدة، جلس محمود عبد السلام على كرسى من الجريد وراح يرتشف الشاى الأسود الذى لا يحبه، وحين التقط انتقال القط الأسود من حالة المواء الحنون (القرقرة الجنسية) إلى حالة الفزع المتربص، انخرط فى بكاء بنشيج داخلى بلا دموع.
أخذ محمود يردد بصوت مسموع ” لست أنا: “أنا لا أعلم شيئا”، “لم أكن هناك أصلا”. “ربما” . “ليس حتما”.
وقال لنفسه: لو نجحُت أن أرددها تسعا وتسعين مرة، دون مسبحة، أو عد على الأصابع، ودون أن يصل العد إلى مائة أو يقف دون التسع والتسعين، فأنا برئ وسيكتب الله السلامة لأولادى، وينجح فتحى فى امتحان نهاية العام بتفوق.
-1-
ـ أريد أن أرى “فرح” يا أبى.
– قالها وائل وهو متردد، فقد كان فى الواقع يريد أن يرى أمه، لا أخته “فرح”.
– وائل فى الثانية عشرة، وفرح فى الرابعة، رحلت مع أمها بعد فشل محاولة الأم أن تحتمل الإقامة فى “هذه الخرابة”.
هكذا كانت تسمى الأم المكان الذى يسميه الأب ”المزرعة”.
ـ حاضر يا حبيبى.
ـ متى يا أبى؟.
ـ وقتما تريد.
ـ هل يمكن أن أذهب إليها؟.
ـ طبعا.
كلام يشبه الجد، توقف وائل. سمع ذات الإجابات كل مرة ولم يحدث شئ، ولم ير ”فرح”، ولم ير أمه، ماذا يفعلون هنا؟. لم تركوا بيتهم فى مصر؟. لم كل هذا؟. ماهو الخطأ الذى ارتكبوه ليعاقبهم أبوه هكذا، هنا بالذات؟. هو يكره البعوض، ويكره أكثر ذلك الذباب المتوحش الذى لا يخاف الهش، هو يكره أباه، ليس تماما، لكنه يكرهه، هو لا يستطيع الاستغناء عنه؛ لأنه يحبه، هو يحب أمه، وهو لا يحب فرحا بقدر ما يحب أمه، لكنه يقول إنه يريد أن يراها ليرى أمه.
والده بطل كبير، يعمل بيديه مع الفلاحين، يعزق الأرض، يشارك فى كل الأعمال، يقرأ فى المساء كل الأخبار، هو يريد أن يتفرج على التليفزيون مثل زمان، والده يحكى له حكايات لطيفة و أخرى سخيفة، يسمع عن المسلسلات فى المدرسة، يريد أن يستذكر عند سيد ابن عم عبد المقصود معاون الزراعة لأن عندهم “تليفزيونا”، أو يذاكر عند فؤاد ابن عم عبد ربه السائق، عندهم – أيضا – تليفزيون، والده يعده أنه سيحضر لهم “تليفزيونا” عندما يصلحون البرامج، إن ما يشاهده عند سيد عبد المقصود، وفؤاد عبد ربه ليس مكسورا ولا مسدودا، مالذى يريد والده أن يصلحه فيها؟. ماذا ينتظر أبوه حتى يفى بوعده، ويحضر لهم تليفزيونا يتحوطونه مع أمهم؟. أين أمهم؟. ومع فرح ـأيضاـ مثل زمان.
ـ لقد أصلحوا البرامج يا أبى.
ـ من قال لك ذلك؟.
ـ شاهدتها بنفسى.
ـ شاهدت ماذا؟.
ـ البرامج….، ووجدتهم أصلحوها.
ـ فأنت تذهب عندهم لتشاهد البرامج، لا لتذاكروا معا.
ـ نذاكر ونشاهد.
ـ الله.. الله، وكيف عرفت أنهم أصلحوا البرامج؟.
ـ الألوان والأغانى والمسلسلات لا تتوقف، النور لا ينقطع، والصورة لا تهتز، لم تهتز مرة واحدة.
ـ ولكن ماذا يقولون فيها، فى التليفزيون؟.
ـ يقولون فيها كل حاجة.
ـ طيب.. طيب، سوف نرى.
ولا يرى وائل شيئا أبدا. ماذا جرى لوالده؟. لقد كان ضابطا كبيرا، وكان العساكر يخدمونه، كما كانوا يخدمونهم هو وإخوته ـ أيضا ـ طول الوقت. لماذا انتقلوا إلى هنا؟. لماذا يرضى فتحى أخوه بكل هذا؟. لماذا فتحى يبدو سعيدا مع أبيهم هذا، هكذا؟. إنه يساعده فى كل شئ. فتحى لا يسأل عن أمه ولا عن فرح ولا عن التليفزيون. هل لأنه كبير؟. فتحى فى سنة أولى ثانوى، هل يمكن حين أكون فى ثانوى، أن أفرح مثله وأصاحب أبى مثله؟.
ـ لماذا عند كل الأولاد مدرسة واحدة، ونحن ثلاثة يا أبى؟.
ـ ثلاثة؟. أين هم الثلاثة؟.
ـ مدرسة البلد، والشيخ حسين، ثم عمى جلال. تقول حضرتك أنه سيدرس لنا أيضا.
ـ آه صحيح، لكنها مدرسة واحدة، ثم قرآن، ثم تقوية، و.. و كمبيوتر.
ـ كمبيوتر ماذا يا والدى؟. إن عمى جلال يقول إنه سوف يعطينا أشياء كثيرة جدا.
ـ اللغات مهمة يا وائل، غدا ستكبر، وقد تسافر وتعرف قيمة اللغات.
ـ أسافر إلى أين؟. إلى مصر؟. إلى أمى؟. إلى أين يا أبى؟..
ـ تسافر إلى الخارج.
ـ وهل أمر على أمى أسلم عليها وأنا مسافر؟.
ـ طبعا، طبعا.
ـ وهل سأنتظر حتى أتعلم اللغات وأكبر وأسافر، حتى أرى أمى؟.
ـ أبدا، تراها وقتما تشاء.
ـ مثل كل مرة؟.
ـ مثل كل مرة.
لم ينتبه محمود عبد السلام إلى سخرية وائل المقصودة أو بالصدفة. لم ينتبه أن “كل مرة” هذه لم تأت أبدا. هو لا يمنعهم من رؤية أمهم “كل مرة” يعدهم فيها بذلك، هو لم يطلقها. هى التى تركتهم وأصرت على ذلك. لا هى ترسل أحدا للتفاهم، ولا هو قابـل شروطها. لابد أن يراها الأولاد يوما، قريبا، محمود ـ أيضا ـ يريد أن يرى فرحا، أن يقذف بها إلى أعلى مرة وثانية وهى تكركر، هو يريد أن يفعل ذلك هنا، وليس فى القاهرة. هو يريد أن يراها أمهم كذلك. هو لا ينكر أنه يريد أن يراها وهو يرى فرحا، بل دون أن يرى فرحا، لكن هى حرة، هى التى اختارت، وهو لن يتراجع.
ـ2ـ
ـ ألم تفكر فى الأمر يا محمود؟. الأمور لا تسير كما تتصور.
ـ من قال لك ذلك، لعله وائل.
ـ المسألة لا تحتاج أقوال أحد.
ـ لا يوجد هنا من لا يعترف بما أفعل، بل إنهم يمجدونه، كلهم يحبوننى ويحبون الأولاد، كل شئ يسير على ما يرام. اسأل عم اسماعيل مثلا.
ـ حتى لو…، لكنك لا تعرف بقية الصورة.
ـ لقد ختم الأولاد مع الشيخ حسين جزء “قد سمع” لا تتصور كيف تحسنت لغتهم، وصح نطقهم، وهم يحبون الشيخ حسين أكثر من كل مدرسى المدرسة.
ـ الشيخ حسين بالذات يستأهل الحب، يعزف لهم على السلامية كلما طلبوا منه ذلك، وهو يقرأ لهم القرآن مثل عمى.
ـ عمك من يا جلال؟.
ـ عمى الذى ربانى وزرع فى ما تبقى لى، وهو ما لم أنجح فى التخلص منه، وهو ما أسعى للرجوع إليه.
ـ ماذا؟. يعنى ماذا؟.
- يعنى هذا. ما تراه أمامك.
ـ هل أنت جاد ياجلال فى محاولة الرجوع إليه.
ـ لا طبعا، أنا فى ربكة بلا حدود.
ـ يا جلال أنا أحب الشيخ حسين وقرآنه، بل إنى أعيد التعرف على دينى من خلال مساعدته للأولاد، الشيخ حسين أيضا لا يفسر لهم آية واحدة من آيات القرآن، إذا سألوه عن معنى آية يقرأها لهم ثانية، وكثيرا، إنه يترك القرآن ينساب إلى خلاياهم.
ـ أوافقك ابتداء لكننى مرعوب التسليم للمجهول الغامض.
ـ ربما. هل يمكن أن يكون الحال هكذا: “كلما ازداد الأمر غموضا ازداد وضوحا”.
ـ أرأيت؟.
ـ رأيت ماذا؟.
راح جلال يحكى له كيف أنه يـقر فعلا أنها تجربة حتى أنه تحدث عنها مع الكثيرين، ومنهم من أبدى إعجابه بالفكرة، بل طلب أن يحضر هنا بنفسه، مثل القصصية المعروفة بسمة قنديل التى لم يسمع عنها محمود ـ هكذا قال. هى تريد أن تتعرف على المكان والأولاد أكثر من رغبتها فى مناقشته
ـ تريد أن تكتب عنى وعنهم قصة؟ أليس كذلك؟.
ـ لا تأخذ المسألة بحساسية هكذا.
- إذن ماذا تريد صديقتك هذه؟.
- لا أعرف.
ذكر له جلال ـ أيضا ـ أن صديقة ألمانية الأصل متزوجة من مصرى، رجل أعمال، أبدت حماسا أضعاف ما أبدت القصصية بسمة، وأنها تريد -أيضا- أن تتعرف عليه هو، وليس على المكان والأولاد فحسب، بعكس بسمة، وأنها كانت أسهل اقتناعا وأشد حماسة لأنها تعتبر هجرته هذه أشبه بانتقالها إلى مصر، وزواجها من مصرى، وكلام من هذا، المهم أنها تريد أن تزوره أيضا.
ـ الله!! الله يا جلال، أصبحنا مزارا!. سوف ندرج فى قائمة الآثار المصرية، لم يبق إلا أن نطبع تذاكر دخول، ونعمل سيادتك دليلا للسائحين، وبعد قليل تعمل لنا برنامج صوت وضوء بلغاتك الحية، دعاية لمشروعك “زوروا هرم ميدوم، وتفرجوا على محمود وأولاده”، لماذا لا تتركوننى أقتحم الممكن بطريقتى؟.
ـ ممكن ماذا، وزفت ماذا، تقتحم ماذا؟ بصراحة إن ما تفعله يا محمود، هو ردة وليس اقتحاما، أنت تمارس الوقوف على الأطلال، لا ترميم التراث. إفعل ما بدا لك، لكن الأولاد يا محمود، حرام عليك أن تسميه الممكن؛ لأنك تعلم أنه المستحيل.
ـ تسخر منى أنت أيضا، تنضم إليهم؟.
ـ أنا لم أوافق من الأول، على الأقل من أجل الأولاد، كيف لا ترى التعاسة على وجه وائل؟.
ـ وأنت، كيف لا ترى السعادة على وجه فتحى؟.
ـ لست متأكدا هل هى سعادة أم بهر المراهقة؟.
ـ أنا ـ أيضا ـ لست أدرى هل هى تعاسة تلك التى تظهر على وائل أم أنها حكمة المواجهة؟.
ـ حكمة ماذا؟. فى هذه السن تفرض على أطفالك آراءك ومواقفك هكذا.. تفرح حين تصور لنفسك أن حزن ابنك الذى مازال فى الابتدائى هو حكمة. وحكمة ماذا؟. حكمة المواجهة.. الله يخيبك، يا أخى، حرام عليك، والله حرام.
ـ حرام عليهم هم.
ـ على من؟. على الأطفال؟.
ـ على كلينتون، ويلتسن، وجورباتشوف، وسوروس، وباراك، وستالين، وصدام، وزكى بدر، وشيخ الأزهر، والرئيس، والشيخ صالح، وأبونا شنوده، ووزراء البحث العلمى و…. قال جلال مقاطعا، وكأنه يوقف بيده شريط تسجيل علق:
ـ هل تواجه كل هؤلاء بهربك، وتعذيب الأولاد؟.
ـ يا جلال، يا جلال، نحن فى البداية، كيف تحكم على هكذا مبكرا؟.
ـ الثمن باهظ، يدفعه الأبرياء أكثر، وأخفى.
ـ أنت مثلى تماما يا جلال، لكنك أجبن، هذا كل ما فى الأمر.
ـ بصراحة: يجوز.
ـ3ـ
ابتسم اسماعيل أبو عطية وهو يدخل متسحبا يحمل صينية صدئة عليها أكواب صغيرة، ومحمود يجلس على كنبة عربى صلبة الحشية، ويستند إلى مسند صغير أكثر صلابة، كانت ابتسامته تحمل رسالة أخرى غير “مساء الخير”، وغير “حمد الله على السلامة”.
ـ لقد وافقت أمها يا سعادة البيه، نقول مبروك؟.
ـ مبروك ماذا يا عم اسماعيل؟. أم من التى وافقت؟.
ـ أم فكرية.
ـ فكرية من؟.
ـ خدامتك، العروسة.
ـ العروسة؟. أية عروسة؟. ثم إن فكرية، على ما أذكر صغيرة جدا، أليست هى التى جاءت بالغداء أول أمس؟.
ـ هى بعينها، سعادتك ناقـرها، أنا لاحظت.
ـ أعتقد أنها لم تبلغ سن الزواج.
ـ سن ماذا؟. نحن لايهمنا هذا الكلام، نسننها يا سعادة البيه، إنها عز الطلب، اسألنى أنا.
ـ أنت حر.
ـ على خيرة الله.
ـ ولكن من السعيد إن شاء الله؟.
ـ ماذا جرى يا سعادة البيه، هل تمزح؟.
ـ لا والله، أنا أسأل بجد: من سعيد الحظ؟. أنت حر إن كنت لا تريد أن تقول.
ـ ماذا جرى ياسعادة البيه، ولا مؤاخذة، ألم تقل لى إنك تريد أن تتزوج أربعة على سنة الله ورسوله، فكرية خدامتك، هى الثانية بالصلاة على النبى.
ـ يا خبر!! أتقصد؟. يعنى؟. لقد كنت…
ـ كنت ماذا؟. ترجع فى كلامك؟.
ـ كلام من يا رجل، إجلس اجلس.
راح محمود ـ بصبر مختلط بغيظ يخفى غثيانا غامضا ـ يصحح لإسماعيل “أبو عطية” ما وصله من سوء فهم، وأنه لا يفكر فى الزواج، وأنه ليس بينه وبين زوجته أم فتحى أى خلاف سوى مسألة الإقامة هنا، وكلام من هذا….، كان اسماعيل أبو عطية يسمع، ولا يفهم، ولكنه يهز رأسه باستمرار، وكأنه يوافق، وحين انتهى محمود من هذا الكلام الصعب، والذى لا لزوم له، قال إسماعيل أبو عطية بكل وضوح:
ـ يعنى ماذا؟.
ـ يعنى ماذا؟. بعد هذا كله يعنى ماذا؟. يعنى أنت فهمتنى خطأ يا عم اسماعيل.
ـ يعنى ماذا؟. أقول لهم ماذا؟.
ـ تقول لمن؟. لا تقل شيئا، لأننى لم أقل شيئا، أنا لا أتزوج يا عم اسماعيل.
ـ يعنى نؤجلها؟.
ـ تؤجل ماذا؟.
ـ .. والمصحف الشريف ما هو طمع، أنا صعبان على وحدتك. ثم سعادتك الذى قلت.
أحس محمود أنه لا مفر من المقاطعة، والهجوم، وحتى التهديد:
ـ إسمع لما أقول لك، إياك أن تأتى بهذه السيرة ثانية، لا مع قريب ولا مع غريب. فاهم؟.
ـ آه ! يعنى….. لكن عيب، طيب حتى ورقة بيننا وبين بعضنا.
ـ الله!! الله!! ورقة ماذا يا رجل؟. هل جننت؟ بصراحة: لا تجعلنى أضطر لطردك، يبدو أنك معتوه لا تستأهل.
انتبه اسماعيل أبو عطيه، ربما فجأة، إلى احتمال قطع عيشه المنقطع من أصله، فسكت، وتبين أنه فاهم كل حاجة، هكذا مرة واحدة، فهم كل ما كان ليس فاهمه، جاءه كل الفهم دفقا حين تهددت لقمة عيشه بهذا الوضوح، أهل مصر هم أهل مصر، سواء كانوا أفنديات أم عسكر أم أمسكوا الفأس وتصنعوا التواضع، هم أهل مصر، لا فائدة منهم، يستكبرون علينا مهما فعلنا، إخص…” لم يقل حرفا من ذلك، لكنه قال:
ـ الشاى برد يا سعادة الباشا، أعمل لك غيره.
ـ لا سخنه فقط. أو اذهب به، لا أريد شايا ولا زفتا، لاترينى خلقتك الآن.
لم يكن محمود يتصور قبل أن يحضر هنا أنهم هكذا، كبارا وصغارا، أثرياء وفقراء، ليست المسألة قهرا ولا جهلا، يبدو أن ثمة معركة خفية تدور بينهم وبين عدو مجهول، بداخلهم أو بخارجهم، بل بداخلهم وخارجهم معا. اكتشف أنهم مضطرون إلى تخليق ذكاء خاص يساعدهم فى هذه المعركة المستمرة، لم يكن يعرف أن الذكاء يتشكل بالجغرافيا والتاريخ بهذه الصورة المميزة، إن ما كان يسمع عنه من لؤم الفلاحين كان يعتبره حكما فوقيا يصدره من لا يعرفهم، من يخاف منهم، من يتعالى عليهم، لكنه حين واجه هذا النوع من اللؤم برره فى البداية بأنه ربما يكون دفاعا مشروعا فى مواجهة القهر والسحق عبر التاريخ، وكذا فى مواجهة مؤامرات البهوات والأفندية حاليا، لكنه راح يتبين تدريجيا أن المسألة أكبر من كل ذلك، هو يفضل استعمال لفظ “لؤن الفلاحين” بالنون لا بالميم، لأنه يشعر أنه شئ يميز هذا النوع من المخلوقات. إنه سلاح خاص يحتوى قدرا متوازنا من الحرص على الحياة، والاعتزاز بالنفس (داخليا على الرغم من مظنة قبول الإهانة ظاهرا)، هو مزيج من الرفض والتحدى والثقة بالقدرة على التلاعب، هو يقين بأن هذا النوع من الذكاء سيخرج صاحبه كسبانا من أى موقف، حتى لو خسر، مهما خسر.
محمود لم يكن يتصور أن نفسهم طويل بهذا الشكل!!.
كل ذلك جعله يتراجع تدريجيا عن الأمل فى الائتناس الحقيقى بهم، يبيعونك فى ثانية دون نذالة حقيقية، حتى لو أسميتها أنت كذلك، هى قوانينهم الخاصة، ومع ذلك لم يلمهم، لم يحتقرهم، لم يتعال عليهم، ومازال يذهب يلعب الدومينو على أريكة عم عبد الصمد البقال أمام دكانه، وهو يلعب الورق مع رمضان المزين بعد العشاء، فى المقهى أو فى بيته، وهو يحب لعب الدومينو؛ لأنها ثابتة لا تطير إذا ما قام الهواء، وهم يجلسون على المصطبة أمام الدور. لم يعدم أثناء الخدمة أن يتعامل مع أشكال مختلفة من الفلاحين. مكان وطبيعة خدمته فى القاهرة جعلا مثل هذه المعاملات مقصورة على من تركوا بلدهم للعمل فى المدينة أو للخدمة الإجبارية. هؤلاء الذين يبدو أنهم حين تركوا قريتهم قاموا بتخزين هذا النوع من الذكاء هناك فى صناديق أمهاتهم ليتفرغوا للطاعة والخنوع؛ خوفا من أن يعوقهم اللؤم عن تمام الاستسلام لقوانين المدينة وأسيادها. هؤلاء النازحون إلى القاهرة نادرا ما يستحضرون هذا الذكاء من البلد إلا إذا فتح الله على واحد منهم، وأصبح مقاول أنفار يحتاج إلى هذه القدرات الخاصة ليوفق بها بين طمعه، وحذق صاحب المال، ونذالة هؤلاء الأنفار أولاد الكلب.
كان محمود يتصور ضمن مشروع هجرته أنه سيبدأ من البداية، وسط جو أقرب إلى الطبيعة، وفعلا رحبت به الطبيعة القاحلة، والطبيعة البور، والطبيعة الواعدة (كما تصور)، لكنه لم يجد أى معالم تبشر بتحقيق أى شئ مع هؤلاء الذين كان يظن أنهم أقرب إلى الطبيعة البشرية، هؤلاء الفلاحين، ياه!
لا يمكن أن يكون هذا الذى جعلهم هكذا هو قهر قرن أو قرنين، إنه لم يتراكم هكذا إلا خلال الزمن كله.
ثم إن محمودا ليس متأكدا من أى من هذه الأحكام.
هو يقول لنفسه إنه حين فوجئ بعكس ما توقع، بعكس الصورة التى كانت تمثل له ما هو “فلاح مصرى”، راح يشوه كل شئ وكل واحد، وواحدة، حدث ذلك بعد أن تخطى مرحلة من يدعى الشفقة ويبالغ فى المصمصة، وكذا تخطى مرحلة المبالغة فى التفسير والتبرير، وسواء كان مصيبا أو مخطئا فقد أخذت وحدته تزداد بشكل لم يتصوره. الوحدة فى المدينة صريحة ومتحركة، أما الوحدة التى اكتشفها هنا فهى متسحبة وثقيلة، راسخة، وشاملة، ومتزايدة.
ألا يمكن أن يكون كل هذا منه هو، لا أكثر ولا أقل، وأنه كان سيظل وحيدا سواء فى القاهرة أو فى حلايب، فى مرسى مطروح أو فى مرسى علم، فى البوسنة أو فى الشيشان؟.
”لا،،لا..البوسنة شئ آخر”.
”ولا شئ آخر ولا حاجة، “لا..، هى شئ آخر ونصف” ” ديتها أن تنتظر بعد الحرب عدة أشهر، وسوف ترى، وهات يا أمريكان، وهات يابلاستك” ليكن، إذن جرزا هى الشئ الآخر، لا تراجع عاد يوجه كلامه لجلال
ـ لا سبيل إلا بإزالة التلوث الذى عملوه فينا صغارا وكبارا، عمالا وفلاحين، أفندية وضباطا، مصريين وبوسنيين وصربا.
ـ عملوا ماذا؟. هل هم الذين عملوه ونحن نتفرج يا محمود؟. أم أننا نستأهل ما يجرى لنا؟.
ـ نستأهل ونأخذ بالحذاء أيضا، هم لم يعملوا ما عملوا إلا حين قبلنا أن نرعى فى داخلنا الطمع، والعمى، والنسيان، والخوف، والغباء.
ما هذا كله؟.
ياخبرا أسود إذن كيف؟. يبقى ماذا؟.
ـ4ـ
دخل فتحى على والده وهو يرتب ورق اللعب أمامه وكأنه “يفتح الكوتشينة”، كانت لأبيه تسليات خاصة مع الورق، لم يكن يتكلم فيها مع أحد، شئ أشبه بالألغاز أو التطير أو ما لا يدرى أحد ماذا. كان وجه فتحى متغيرا، وكان إذا وجد والده مشغولا فى هذه الأحاجى يتركه ويمضى أو يفاتحه من فوره فيما يريد، هذه المرة لم يفعل هذا ولا ذاك، ظل واقفا ليس بعيدا عن ناظرى والده، وليس فى مواجهته تماما، وحدث ما أراد حين التفت إليه والده بإعجاب، واحترام، وفرحة، ومودة كالعادة، كان محمود يأتنس بابنه فتحى هكذا طول الوقت دون أن يعلن ذلك لأحد، ولا لنفسه، كان يحبه، كان يستطيع أن يوصل إليه ما يريد دون أن يقوله، أو لعل فتحى كان يلتقطه وحده، كان محمود يطمئن كلما رأى فتحى مقبلا نشطا، هائصا، شاطرا، لا يكف عن الحركة والسؤال والمحاولة والخطأ والتصويب، كان يتصور أن كل هذا بفضل هذه النقلة العظيمة إلى الأرض البكر، العودة إلى الأصل، لكن وجه فتحى هذا اليوم، هذه المرة، الآن، كان مختلفا، ترك محمود ما بيده والتفت إليه.
ـ هه؟. خيرا؟.
تردد فتحى قليلا، وكاد يعدل عما جاء به،، لكنه يعرف والده، فلم يتماد فى الانتظار.
ـ مينا يا والدى؟.
ـ ماله يا ابنى؟.
ـ مينا ابن عمى إسحق
ـ ماله يا فتحى؟.
ـ مريض
تعجب محمود، ورجح أن الأمر ليس بهذه البساطة، سأل ابنه عن مرض مينا بعد مقدمة قصيرة عن أن كل الناس تمرض وتشفى، وأنه ـ فتحى ـ أصيب باللوز من ثلاثة أسابيع، وقام مثل الحصان، وأنه شخصيا، وهو والده، يعاوده المغص الكلوى بين الحين والحين، وتمر، ولم ينفع كل ذلك فى أن يغير تعبير وجه فتحى.
ـ لكن حرارة مينا لا تنزل منذ عشرة أيام، وقد غاب عن المدرسة أسبوعين، وأنا أذهب إليه بالدروس أولا بأول، لكنه أمس وأول أمس لم يعد يفهم ما أقول، ولم يرد على كما اعتاد، وعمى إسحق يقول إنه سيذهب به إلى طبيب كبير فى مصر، وأنه قد يدخله المستشفى.
استمر محمود فى محاولة طمأنة فتحى أن كل هذا لا يعنى أن المسألة خطيرة، ولا أن المرض مستعص، وأن الطب تقدم جدا، ويستطيع القضاء على كل الأمراض، يعنى أغلب الأمراض إن شاء الله تعالى، لكن فتحى واصل، وكأنه لم يسمع شيئا:
ـ لكن مينا لم يعد يفهم، لم يعد يرد، يقولون فيروس فى المخ. لم أفهم شيئا.
ـ ولو!! الطب الآن لا يقف أمامه شيء.
قالها محمود وهو يبلع ريقه ويخفى جزعه.
ـ ربما يموت.
ـ الأعمار بيد الله يا بنى، لا أحد يموت من حـمى عابرة.
ـ لا، ليست المسألة فى هذا.
قالها فتحى وهو يحاول أن يخفى نشيجه المكتوم الذى كاد يقفز رغما عنه فى نبرات صوته.
ـ المسألة فى ماذا إذن يا فتحى؟. ماذا بك اليوم؟.
سكت فتحى.
سكت محمود بعد ذلك طويلا، فهو يعرف فتحى، ويعرف أنه لا يستطيع أن يهون عليه الأمر بتسطيح يمر، وأن ابنه هذا لا يدعه إلا وقد أحاط به من كل جانب، قطع فتحى الصمت.
ـ لم أكن أعرف أنى أحبه هكذا، وأحب عمى اسحق، وأحب خالتى حنونة، وهم يحبوننى أيضا، بل يحبوننى جدا، ويحبونك أنت أيضا يا أبى، ويدعون لك، ولأمى التى لم يروها.
قال محمود مراوغا، وكأنه أطمأن إلى تغيير الموضوع:
ـ الحمد لله، أنت قلتـها بنفسك.
ابتسم فتحى، وكأنه الوالد وأبوه الابن، ولم يقل له: “قلت ماذا”؟. “قلتها” ماذا؟. ابتسم ثانية ومازال الألم يعتصره، ولم يحك له كيف أنه ومينا كانا قد قررا، بعد أن توثقت علاقتهما لدرجة خاصة جدا، أنه إما أن يسلم مينا، وإما أن يتنصر فتحى حتى لا يفترقا هناك، وأنهما حين حسباها خاف فتحى على حزن عم اسحق وخالته حنونه أكثر مما خاف مينا على حزن عمه محمود، وقررا أنهما إذا فعلاها سيفعلانها بينهما وبين ربهما، لكن مينا مرض قبل أن يتخذا قرارا نهائيا: هل يسلم مينا أم يتنصر فتحى؟. وكان الأقرب أن يسلم مينا مادام الأمر سيتم سرا؛ لأنه لن يحتاج إلى تعميد فى الكنيسة، ومن ثم العلانية التى يبدو أنه لابد منها فى حالة ما إذا تنصر فتحى، لكن مينا مرض. لماذا مرض قبل أن يستقرا على رأى؟، ثم إن هناك سببا آخر وهو أن القرآن أسهل، وكان هذا من بين ما أثاره فتحى ذات يوم حول ما سوف يدرسه لهم عمه جلال.
ـ لماذا يا عمى جلال لا يوجد قرآن للمسيحيين؟.
ـ المسيحيون عندهم قرآنهم.
ـ ولكن الشيخ حسين وأنت تقولان إن القرآن حاجة ثانية.
ـ ربما لأن الإنجيل يكاد يكون مترجما من لغة قديمة، وربما بحكم العادة، وربما نحن مخطئان، أنا والشيخ حسين، إيش أدرانا نحن بقرآن الآخرين.
ـ ألا يمكن ترجمة قرآنهم إلى اللغة العربية ليصبح أسهل ونتعلمه ـ أيضا ـ معا؟.
ـ ما هو باللغة العربية يا فتحى. ماذا جرى؟.
ـ آه، صحيح!!.
لم يسأله فتحى إن كان يمكن توحيد الكتابين، أو أن يكتب الإنجيل الذى يقرأ فيه أحيانا مع مينا بلغة القرآن وأنغامه، لم يسأله لأنه كان يعرف أن عمه جلالا سوف يقول له كلاما صعبا مثلما اعتاد، قد يعود يحدثه عن أصول اللغة ووحدة الأشياء وتنظيم الدماغ، أو عن أمريكا بنت الكلب، وهو قد شبع من هذا الكلام، وهو ليس متأكدا إن كانت أمريكا هى السبب فى مرض مينا أم لا؟.
ـ هل يمكن يا والدى أن تكون أمريكا هى السبب؟.
ـ السبب فى ماذا؟.
ـ فى مرض مينا؟.
ـ كل شئ جائز، أمريكا أصل التلوث، والفيروسات الأحدث لم تنتشر هكذا، إلا بعد أن تغير المناخ، وهى التى غيرته. كل شئ جائز، هذا هو النظام العالمى الذى يقولون عنه.
ضحك فتحى فى سره؛ لأنه لم يكن جادا وهو يسأل، وكان يتعجب من مناقشات أبيه وعمه جلال حين يختلفان فى كل شئ ولا يتفقان إلا فى أن أمريكا هى السبب فى كل شئ، وحين سأل والده هذا السؤال الغريب كان يتمنى أن يكتشف والده أنه يقول أى كلام من فرط انشغاله على مينا.
وعده أبوه أن يزور مينا هذه الليلة. وحين زاره استقبله عم إسحق أحسن استقبال، وقال له إنه أخذ إجازة خصيصا ليرعى مينا، ولم يكن محمود قد عرف تحديدا عمل عم إسحق إلا أنه كان يعرف أنه يعمل فى السكة الحديد، ولهذا يغيب أياما ويحضر أياما أقل، ثم عرف أنه سائق قطار، وأنه يحب عمله، ولو أنه مسئولية. ولا يدرى محمود كيف ربط بسرعة بين بعض تفاصيل حكاية عبد المعطى الذى حكاها له جلال، وبين عمل عم اسحق، حتى تصور أنه كان سائق القطار الذى أفزع عبد المعطى وكان ما كان.
حين دخلت خالتى حنونة عليهما بالشاى. قال فى نفسه إنه مستعد أن يقسم بالله العلى العظيم لابنه فتحى أن الله يعرف ماذا يفعل أحسن منا جميعا، وأن على فتحى أن يطمئن على مينا مائة فى المائة.
ـ ادع له يا “أبو فتحى” من أجل خاطر ربنا، الولد سيضيع منا، قل لأم وائل تدعو له.
هذا ما قالته خالتى حنونة، وهى تودعه على الباب، قالت ذلك وهى متماسكة بالكاد، وكان إسحق قد أصر على أن يوصله إلى نهاية الشارع بعد رفض شديد من محمود أن يصحبه حتى المنزل. وحكى له عم إسحق فى الطريق، كيف أن فتحى هو مثل ابنه مينا، وهما أخوان على كل ملة ودين، وأنه مشغول على وائل الصغير، وأنه مستغرب من محمود، وأنه ـ برغم العشرة والفرحة بوجودهم هنا ـ يرى أن يأخذ محمود ولديه ويرجع لأمهما فى مصر لأنه ـ عم اسحق ـ يحبهم حبا يجعله يتحمل فراقهم. سمع محمود كل ذلك فأطرق، ولم يجب.
أحس محمود وهو فى حضن عم اسحق، وهو يودعه فى نهاية الشارع، بالدفء والأبوة جميعا، أحس أنه مطمئن إلى كل شئ مهما حدث.
ودعا محمود لمينا بالشفاء أثناء عودته، بيقين لا يهتز، أنه سيستجاب له، حتى كاد يقسم، ثم دعا له أكثر فى صلاة القيام فى جوف الليل، ولا أحد يراه إلا هو.
ـ5ـ
ـ وحتى لو كانت المشكلة فينا نحن، فهم الذين أوصلوها إلى هذه الدرجة.
قالت ذلك بسمة قنديل وهى فرحة بالزيارة التى رتبها جلال. كانت الفرصة مزدوجة لما رتب جلال أن تصحبهما فاتيما عبد الحكيم التى كانت بسمة تريد أن تتعرف عليها من كثرة ما حكى جلال عنها.
فرصة مزدوجة، مضروبة فى المكان والمفاجآت والناس والأولاد.
قال محمود وهو غير مقتنع بما يقول:
ـ هم أم نحن؟. المسألة تحتاج إلى حسم ومواجهة، وقد فعلتها ومتحمل مسئوليتها، لم يعد عندى مشكلة، كانت….، وراحت.
ـ تقصد: “تاهت ولقيناها” كما يقولونها هنا. سمعتها هكذا فى إحدى المسلسلات.
ـ مسلسلات ماذا، أنا هنا فى المسرح الكبير، ليس عندى “تليفزيون” من أصله.
ـ ليس عندك ماذا؟.
ـ تليفزيون.
ـ والأولاد؟.
ـ ما لهم؟.
ـ لاشئ.
تذكرت بسمة قنديل أنها ربما نسيت، ذلك أن ما يبلغها الآن قد أدهشها من جديد على الرغم من أن جلالا قد حكاه لها من قبل، وهى إنما جاءت تبحث عن تفاصيل التفاصيل، القصة القصيرة، بالذات علمتها أن تقول ألف تفصيلة فى جملة واحدة.
ـ وهل العائد هنا مجز يا كابتن محمود؟.
هذا ما قالته فاتيما دون توقع.
ـ لم أعد “كابتنا” يا سيدتى.
تعجب جلال من فاتيما، فهو لم يتوقع سؤالها هذا، كان يتصور أنها سوف تهيم فى الطبيعة، وتسأل عن كم يبعد هرم ميدوم من هنا، ومن الذى بناه، وكلام من هذا، وأيضا تصور أنها سوف تداعب أطفال الفلاحين وتوزع عليهم الحلوى، والزمامير، مثلما تفعل السائحات من بنى جنسها، أو مثلما يفعل المرشحون لمجلس الشعب قبيل الانتخابات. نادرا ما تفعل مثقفات حقوق الإنسان شيئا شبيها، كان يتصور وهى خوجاية بيضاء هكذا، ومحجبة، أنها سوف تثير الفلاحين ليتفرجوا على الحاجـة القادمة من بلاد بره، وخلاص. لكن أن تتكلم فى “العائد” هكذا مع الكابتن محمود، فهذا شغل زوجها ليست هى.
ليست “هى” التى ألقت هذا السؤال، ولا هى التى لقيها فى المنزل، ولا هى التى تناول معها العشاء فى المطعم الصينى، ولا هى التى جلس بجوارها فى العربة حتى كاد أن يذوب، يتلاشى، فيها، يملؤها بهما، دون إرادة، ولا هى التى “تفضلت” ليلتها حين قال لها “تفضلى”. هو لم يجرؤ بعد ذلك أن يدعوها، وهى لم تـشـر إلى الموضوع ثانية أبدا. تبدو له الآن وهى تحدث محمود عن “العائد” أقرب إلى.. إلى زوجها، ربما، بل هذا هو، حتى بدا له أن وجه زوجها يطل من خلف حجابها، خيال هذا أم ماذا؟.
واصلت معتذرة فى تردد.
ـ آسفة يا محمود بيه.
ـ ولا “بيه”.
ـ ماذا أقول لك إذن؟.
ـ إذا تفضلت فأنا محمود.
ـ شكرا، تزيل الكلفة مبكرا؟.
ـ أنا حضرت هنا إلى جرزة، لأتخلص من كل ذلك.
ـ وأظن أننى حضرت ـ أيضا ـ إلى هنا؛ لأتخلص من مثل ذلك.
ـ إلى جرزة؟.
ـ .. إلى مصر.
راح محمود يشرح لها ظروفه ردا على سؤالها، وكأنه يطمئنها على نفسه ومصيره، وذلك حيث أن له معاشا، وعائدا ثابتا من ميراث محدود، وأن هذه الأرض يمكن أن تعطيه ذهبا لو أنه أحبها وأحبته.
تغير وجهها فجأة:
ـ الأرض تحبك يا محمود، هل تعنى ذلك؟.
ـ إذا أنا أحببتها بجد، فإنى واثق أنها سوف تحبنى، هى لا تملك غير ذلك، فقط تشترط الصدق.
أشرق وجهها كما رآه جلال أول مرة، بزغت الشمس المشربة بحمرة القمر من خلف السحابة الهشة الحنون. عادت فاتيما التى عرفها، التى مدت يدها إلى داخله وعــرتـه، التى أحاطته حتى احتواها، كيف يذهب الإنسان ويعود هكذا وهو واقف فى المحل؟. ما الذى يجرى لنا بهذه السرعة، وهذا الحسم؟.
ـ ياه، أفقتنى، يا محمود، كنت أتكلم وكأنى أمين زوجى، تصور؟.
تأكد جلال من حدسه، وأن الوجه الذى أطل من وجهها حينذاك كان وجه أمين عبد الحكيم، وهو فى معرضه يعقد صفقة!!. إلى هذا الحد يمكن أن يلبس الإنسان آخرا وهو لا يدرى!!. إن فاتيما ما جاءت مصر ـ فى تقديره ـ إلا لتخفف من ثقل هذه الحسابات طول الوقت، كم؟. كم؟. كم؟. تصور جلال ذلك سواء نتيجة رغبته هو أو نتيجة ما وصله منها فيما سبق، هل يمكن أن يتسحب أمين تحت جلدها دون أن تدرى، وحين يختفى تتجلّى من جديد؟.
واصل محمود شرحه أن هذا لا يعنى أنه بعيد عن الواقع، أو أنه لم يحسب العائد، ولكنه حسبها بطريقة أخرى، فهو يخوض تجربة متكاملة، ولا بد أن يتكلم عن عائد التجربة، لا عن عائد الأرض.
نظر محمود إلى جلال نظرة حاسمة حتى لا يقاطعه، وصلت الرسالة إلى جلال فزم شفتيه بالموافقة، ومنع نفسه من التعليق، فاطمأن محمود إلى أنه لن يتدخل.
هذه هى فاتيما التى يعرفها جلال، التى يريدها، التى “هى”، أخذ الحديث يتطور بينها وبين محمود وهى تتجلى، نعم هذا هو اللفظ الذى يصفها الآن، حين تحضر بما هى، تتجلى: جنسا، ومعرفة، ودفئا وكشفا معا، كيف ذلك؟. وهل يا ترى وصلت هذه الرسالة إلى محمود كما وصلته؟. صوتهما يخفت بالتدريج حتى لا يكاد يسمعهما. إنه يضحك. هو لم ير محمودا يضحك هكذا منذ مدة. ما الذى جعله يضحك مع فاتيما هكذا؟. ما الذى جعلهما يضحكان معا هكذا؟.
ـ6ـ
بناء على دعوة من محمود ـ يبدو هذا ـ هم الاثنان بالقيام متوجهين نحو الباب، فاتيما وهى تومئ برأسها، ومحمود بعينيه، لابد أن محمودا سوف يرى فاتيما المزرعة. كانت بسمة قد استأذنت لتنفرد بنفسها لتبادل بعض الفلاحين الحديث، أو لتنصت إلى همس بعض الأشجار، وربما لتسمع دبيب بعض الحشرات فوق وتحت التراب، لعلها ـ دون أن تدرى ـ كانت تجمع مادة مجموعتها القصصية القادمة، لماذا لا توجد قصص قصيرة كافية وعميقة عن هذا الريف الغامض بكل أسراره الحقيقية الراسخة فيهم أرسخ من كل الأهرامات؟. هؤلاء الناس الفلاحون جدا لم يحضروا أبدا فى رواية أوحكاية تقول ما هم هكذا. هل استطاع الفلاحون أن يتخفوا حتى عن تناول إبداع أغلب الرواة على مختلف أنواعهم، يبدو أن هؤلاء الفلاحين يحتفظون بما هم حتى عن المبدعين، هل يشكون حتى فى حساسية القاص؛ خشية أن يكون بصاصا لحساب فراعين الأهرامات لا لحسابهم؟. هل حالت تلك القشرة الدفاعية المضادة للتقصى أن يزور المبدعون صناديق قلوب هؤلاء الفلاحين المغلقة على تراكمات الزمن، يزورونها، ولو على سبيل أخذ عينة محدودة؟.
قبل أن يغادر محمود الحجرة مع فاتيما، التفت فجأة إلى جلال، فتذكر، وخجل قليلا، وشكره فى سره، ولم يشعر بالذنب.
ـ تأتى معنا أم أنك مررت عليها من قبل مرارا؟.
كذا يا محمود أيضا؟. كذا؟.
ـ لا شكرا، كما قلت أنت، لقد مررت عليها من قبل، مرارا.
ما هذا؟. يكاد يتأبط ذراعها، مازالت الفرحة تغمر محمودا، ومازالت فاتيما تتجلى بعد تخلصها ـ ولو المؤقت ـ من أمين عبد الحكيم الذى أطل من تحت جلدها منذ قليل. كيف كشفت فاتيما أغطية محمود هكذا بهذه السرعة؟. ربنا يستر. كيف؟. يستر من؟. يستر ماذا؟. ما هذه النار كلها؟. ليس بينه وبينها مايلزم أيا منهما بأى شئ، ومع ذلك فالنار تزداد اشتعالا حتى تذكر منال – دون جرح – وهى تتفرج على أمين عبد الحكيم وهو منهمك فى جسدها لا يميز.ماذا عماك هكذا ياأمين؟.
-7-
انتبه جلال إلى أن رفا موجودا بالحجرة الخالية من الأثاث ـ تقريبا ـ عليه بعض الكتب، كما أنه لا توجد فى المتناول صحف يتسلى فيها حتى يرجعا. متى يرجعان؟. هدأ جلال فجأة وكأنه نسى كل شئ.
فكر أن يتجول هو ـ أيضا ـ وحيدا مثل بسمة قنديل، لكنه انتبه إلى أنه تجول عدة مرات، وحيدا ومع محمود، وأنه حاور معظم الناس هنا أيضا، بل لعله حاور كثيرا من الأشياء كذلك، وأنه أشفق على محمود أكثر حين تيقن أن الفلاحين هنا يرونه كما يريدون لا أكثر ولا أقل. هم لا يرونه واحدا منهم طبعا، لم يصدق أى منهم سبب مجيئه، كما حاول أن يشرح نفسه ومشروعه، ولا حتى حين شاركهم آعمالهم كـتفا لكتف. تصور بعضهم ـ بل أغلبهم، وربما كلهم ـ أنه يتعامل مع إسرائيل بعلم الحكومة ليجربوا طريقة زراعة جديدة، ألم يكن ضابطا قديما؟. على من يا عم؟. كان محمود قد حاول أن يخفى عمله السابق حتى لا يخيفهم، أو يثير شكوكهم، حتى يكون أقرب. هو لم ينجح. قالوا: إنه مازال فى خدمة الحكومة، لكنه فقط “لابس ملكى” حتى لا يقال إن الحكومة تتعامل مع إسرائيل، ثم إنه حتى الآن قد ثبت أنه لا يفهم فى الزراعة، فلا بد أنه معتمد على التعليمات التى ستأتيه من إسرائيل عن طريق الحكومة فى السر.
أشفق جلال على محمود من كل هذا، وتساءل: هل يا ترى بلغته هذه الظنون؟. وكيف تعامل معها؟. كيف استمر هكذا وكل هذا يحيط به؟. لو أنه مكانه لاختنق.
لم يجد فى نفسه أية رغبة فى مغادرة الحجرة، فلا هو يريد أن يتجسس عليهما، (يتجسس؟. فوت هذه؟.) ولا هو يريد أن يقطع تزود بسمة بما تريد لمجموعتها القصصية القادمة، فالتقط كتابين من على الرف، ثم ثالثا مختلفا (فى الظاهر) “أمريكا طليعة الانحطاط”، جارودى، “ماذا يريد العم سام”؟. تشومسكى؟. عادل المعلم؟. جلال لم يعرف أن محمودا، النقيب محمود عبد السلام المشد، يتعاطى القراءة من أصله، أخذ يتصفح الكتابين، محمود يخطط ـ أيضا ـ أثناء قراءته. هل تغير محمود هكذا أم أن جلالا لم يعرفه أبدا؟. راح جلال يقرأ ـ بالصدفة ـ بعض الأسطر التى وضع محمود تحتها خطا. (ص6)
”بل إن هنتينجتون يعطى ـ أيضا ـ كلا من المجموعتين صبغة دينية؛ إذ سيكون الصدام بين “يهودية مسيحية، وأخرى إسلامية كونفوشيوسية”.
وجد ـ أيضا ـ (ص 177) تعقيبا بالقلم الرصاص، وعلامة تعجب، ودائرة حول:
” التكنوقراطية هى تلك الطريقة للسير نياما….. إنها قائمة على الافتراض: أن كل ما هو جائز تقنيا مرغوب فيه وضرورى “.
”.. إن التكنوقراطية هى ديانة الوسائل”.
أرجع الكتابين على الرف، لكن لفت نظره كتاب أو كالكتاب موضوع بالعرض، مصور فى الأغلب، هم أن يسحبه ثم تراجع. وهو يحاول أن يمسح كل ما كان يدور فى مخه.
ـ 8 ـ
عاد محمود وفاتيما وهما “فى حال”.
هذا رأى جلال. بحث عن النار فى قلبه فلم يجدها. لم يرفض ولم يوافق ولم يقبل، لملم كل شئ. هو لم يحبها، ولم ينسها.
عادت بسمة وهى “نصف نصف”، هذا رأى جلال أيضا،
أما هو. خله هو فيما هو فيه مما لا يعلم، ولماذا يعلم؟. وكيف؟.
سألها دون أن يلتفت إلى محمود:
ـ هه؟. مارأيك؟.
هى التى التفتت إلى محمود.
ـ صديقك هذا رائع يا جلال.
ـ أسألك عن رأيك فى المزرعة.
ـ أين هى؟.
ـ المزرعة؟.
ـ لا توجد مزرعة إلا فى عقل صديقك الرائع هذا.
ـ رائع فى ماذا.
ـ مجنون رائع.
كتم غيظه قبل أن يظهر، حاول أن يبتعد عن الموضوع فالتفت إلى بسمة التى كانت ما زالت نصف نصف، حتى صمتها كان نصف نصف.
ـ هه يا بسمة هل وجدت ما كنت تبحثين عنه؟.
ـ لم أكن أبحث عن شئ.
ـ مواضيع لقصصك.
ـ ماذا تقول يا جلال؟. البشر ليسوا مواضيع، البشر بشر، كل ما عليك إن أردت أن تعرفهم، أن تسمح لهم بأن يدخلوا إليك، أن يصبحوا بعضك، أن يسبحوا فيك، أن يكونوك، ما عليك إلا أن تفتح مسامك، فيحتلون وعيك دون إذن ودون وصاية، دون أن تدرى فى الأغلب، ثم بعد ذلك أنت وشطارتك. أما أن تذهب لتتفرج كأنك تجمع حجارة بالية من آثار مهجورة، فإنك لن تبنى بها إلا عشة منهارة تظل مهجورة مهما زينتها، بل إن هذا الافتعال يكاد يصل إلى أن يكون جريمة وامتهانا، لا كتابة ولا إبداعا.
لم يفهم كثيرا، وإن تمنى أن يكون مبدعا، ثم تراجع.
قرر أن يلتقط ألفاظها ليكمل الحوار، ثم عليها أن تتصرف هى بمعرفتها، قال دون أن ينتبه إلى أنه ربما يسخر.
ـ وهل دخلوا وعيك بالسلامة؟.
ضبط نفسه وهو يخلط المزاح بالجد، وفوجئ أن بسمة قد أخذتها جدا.
ـ لا أعرف، أظن أن هؤلاء الفلاحين هم صناديق رائعة محكمة الإقفال، لم أستطع إلا أن أتحسس الأقفال فقط، أقفال وضعها طابور من الحكام، والكهنة، والقهر، والاستسلام، والإصرار، والتحايل، والصبر، والتحدى.
أوقع فى يده، يا ليته ما مزح، لكنه تمادى فى ادعاء الفهم.
ـ يا خبر!! كل هذا فى نصف ساعة؟ وتقولين إنك لم تتعرفى عليهم؟.
ـ أنا أقول لك ما تحسسته من أقفال، أما الصناديق وما تحوى فيبدو أن هذا بعيد المنال. فعلا بعيد المنال.
ـ هل سوف تؤجلين الكتابة عنهم حتى يفتحوا صناديقهم، وماذا لو لم يفعلوا؟.
ـ أنا لا أكتب عن أحد.
ـ ماذا أقول، حيرتنى.
ـ أنا أكتب نفسى، أكتب الناس، اكتبنى ناسا، أنا لا أكتب عن الناس.
ـ والله ما أنا فاهم.
تدخلت فاتيما التى كانت تتابع حديثهما دون أن يلحظا.
ـ أنا سعيدة بالتعرف عليك يا أستاذة بسمة.
تعجب جلال من تدخلها، واحتمال أن تكون قد فهمت ما لم يفهمه هو، لم يعترض وعاد إلى بسمة:
ـ لكن كثيرين كتبوا عنهم، قصصا وروايات، وحاجات، فهل كانوا يتصورون ما بالداخل دون أن يقلبوا فيه؟.
ـ تصور، لقد خطر لى ذلك وأنا أحدثهم، لا، ليسوا هم، لا أحد كتب عنهم، لا أحد كتبهم، لا “الأرض”، ولا “الوسية” ولا أحد ممن أعرف، ربما خيرى شلبى ربما عبد الحكيم قاسم، ولكن المسألة صعبة على أى واحد يكتب من الخارج، تصوروا أنه خطر ببالى خاطر بعد الإحساس بالعجز أمام صعوبتهم: أن أحدا لايمكن أن يكتبهم إلا هم، وبلغتهم التى لا نعرفها.
ـ هل لهم لغة خاصة غير العربية؟. اللغة الجرزاوية مثلا، أم أنك اكتشفت أن الهيروغليفية كامنة فى صناديق وعيهم البعيد عن التناول؟.
ـ لست أدرى، ربما يبتدعون لغة خاصة جديدة، هم يحتاجون إلى شفرة تحميهم منا، لكنها للأسف ستزيدهم بعدا عنا. ربما، تذكرنى خيبتنا فى فكرتنا عن ناسنا هؤلاء بخيبة برامج الأطفال التى تعرى جهلنا بكل ما هو طفل، بل بكل ما هو نحن.
كان محمود يتابع الحوار بشغف شديد، وبدا عليه ارتياح حقيقى، وكأن هذا الحوار قد حل له إشكالا طال معه دون حل، تذكر المراحل التى مر بها وهو يتعرف عليهم، على هؤلاء الفلاحين الذين كان يظن أنه أحدهم بشكل ما، كيف أنه تصور أنه سيقابل البساطة والبراءة والتلقائية والمعاناة والحاجات التى يمثلها الكلام المرصوص الذى قرأه فى الكتب والقصص التى تصفهم أو تتحدث باسمهم، يكتشف أنه لا أصله البعيد، ولا عمله السابق، ولا قراءاته أفادته فى التعرف عليهم.
قالت بسمة بعد أن حكى لها ملامح مما مر به من مراحل.
ـ سامحنى، لكن هل يمكن أن تحكى لى بعض التفاصيل؟. أنا أريد أن أطمئن أن هناك من يشاركنى خيبتى هذه.
نظرت فاتيما إلى محمود منجذبة!! إذ عاودتها حالة التجلى المشرق، وهى مازالت تحيط بمحمود حتى تكاد تحتويه:
ـ يا ليت يا محمود يا ليت.
تذكر جلال فروضه حول فاتيما، وكيف أنها تحاول أن تتعرف على مصر أخرى بعد أن فوجئت بأن مصر التى أحبتها غير التى تخيلتها، وغير التى وجدتها فى زوجها وفى القاهرة، وربما فيه تلك الليلة، وقبلها وبعدها، هذا هو ما يفسر حركة قرون استشعارها التى أثارها هذا الحوار الذى تابعه بالكاد.
انطلق محمود وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة.
ـ كانت السلبيات هى أول ما صدمنى. كنت أتصور أننى أعرفهم. فوجئت: باللؤم، والمناورات والذكاء الخاص المدفون فى اللحم الباهت مثل دود الأرض فى جوف الطين، شككت فى نفسى وفى حكمى، ثم شككت فيهم وكدت أحزم أمتعتى، بما فى ذلك أولادى، (ياخبر!! يبدو أننى أعتبر أولادى من ضمن أمتعتى)، ما علينا، ثم رويدا أخذت أبحث عن ملامح تحت السطح، وصلتنى بعض الرسائل.
ـ مثل؟.
ـ لا أعرف، لم أعرف، أو عرفت لكننى لا أستطيع أن أحدد.
ـ ماذا عرفت؟. ولو بالتقريب، ولو رائحة ملامح، أنت تكاد تصبح واحدا منهم.
ـ ياليت.
ـ يا ليت وأنت لم تصلك إلا السلبيات.
ـ يخيل إلى أننى لا يمكن أن أعرفهم إلا حين أصبح واحدا منهم بسلبياتهم وغيرها، فعلا، ولكن كيف؟. إنى احتاج قرونا لأكون منهم، وساعتها…
كان جلال يتابع الحوار ويكاد ينكر محمودا تماما. عاوده التساؤل: أهذا هو ضابط الشرطة شقيق ثريا زوجته، طليقته،……؟.
هل تغير إلى هذه الدرجة أم أنه لم يعرفه أبدا؟.
خطر على باله خاطر، ربما بدافع الغيرة والغيظ معا، وهو أن يفسد استرسال محمود وهما منجذبتان إليه هكذا، بأن يسأله سؤالا يفضح قسوته، بأن يتهمه بالتجريب فى أولاده وتهديد مستقبلهم وكلام من هذا، فيحول الحديث، ويضطره للدفاع المتهالك، لكنه عاد فى آخر لحظة، وحول الكلام كله دون استئذان إلى شأن آخر تماما، وهو يتصور أن هذا ـ أيضا ـ يحقق بعض غرضه مع قدر أقل من الإيذاء.
ـ اسمح لى يا محمود أن أعترف لك، لقد عبثت ببعض أشيائك وأنت غائب.
ـ ليست لى هنا أشياء تغرى بالعبث بها.
ـ كتبك.
ـ آه..
ـ خيل إلى أنى أتعرف عليك من بعض تخطيطك تحت بعض العبارات.
ـ إذن عرفت عنى ما لا أعرف عن نفسى؛ لأننى لا أعرف ماذا خططت، ونادرا ما أعود لكتاب قرأته.
ـ فأنت تعتقد أنها أمريكا.
ـ لست آخذا بالى؟. ما لها أمريكا؟.
ـ تعتبرها سبب المصائب، هكذا بدا لى من تخطيطك.
ـ ليس تماما، إلا إن كنت تعنى كل أمريكا، إذا كان الأمر كذلك، فأمريكا هى السبب فعلا، أمريكا التى فى داخلنا يا عم جلال، أنا هارب من أمريكا القاهرة، لا أمريكا واشنطن، ولا أمريكا مونيكا، أنا هارب من أمريكا نفسى.
تدخلت فاتيما وكأنها تلتصق بمحمود، ما لها قريبة منه هكذا؟.
ـ وأنا هاربة من أمريكا ألمانيا، ألمانيا الشرقية والغربية معا، لا فرق، كلهم أمريكا، كان جدار برلين وهما “خالصا”، كانوا وما زالوا هم هم على الجانبين، متى نزيل كل جدران “برلين” التى تضعها أى أمريكا فى أدمغتنا، فى داخل داخلنا، فى أعماق وجودنا.
قال جلال محتجا:
ـ أنتم بهذا الشكل تكادون تعفون أمريكا الدولة من المسئولية، أمريكا الواقع، أمريكا الغول الحقيقى المتوحش الذى يطاردنا فى كل موقع، تعفونها من مسئولية ما آلت إليه الحال.
ـ بالعكس.
قالها محمود محتجا، وأكمل:
ـ أمريكا الغول هذه هى فعلا التى أمركتنا، أمركت العالم، لكنها لا تمتلك الوسائل التى تمنعنا من أن نحاربها داخل أنفسنا، إنها مسألة وجود مبدئى نحمى أنفسنا به من أن تنطلق علينا الطيارات بلا طيارين، وأن تحصدنا القذائف بلا جيوش، أمريكا لاتهزمنا إلا إذا أمركت داخلنا، وأمركت أحلامنا، وأمركت أولادنا. إن الأمركة تحيط بالداخل والخارج حتى كاد يصبح الجنون هو وسيلة الهرب الوحيدة المتبقية، نحن خضعنا لها حتى وصلنا إلى أنه لا بد أن نهرب من أنفسنا إذا أردنا الهرب منها.
استغرب جلال من جديد كلام محمود، هو فعلا لم يعرفه من قبل، أكمل محمود:
ـ وحين نهرب من أنفسنا، ماذا يتبقى لنا، أليس هذا هو الجنون بعينه؟. أليس الأولى أن نفر بجلدنا قبل أن نجن؟.
استطرد -أيضا- دون أن ينتظر جوابا:
- لقد نجحنا فى أن نؤجل إعلان جنوننا لما تعودنا الهرب الجماعى كل الوقت، بدأنا الهرب فى 56 ثم 67، ولولا الستر لأكملناها فى 73. نحن فى حالة هرب دائم، أصبح الهرب مكافئا للوجود،” أنا أهرب، إذن أنا موجود”.
ـ … إذا كنا نهرب منهم ومنا، أفليس مهما أن نسأل، نهرب إلى أين؟.
كانت بسمة هى التى تسأل وهى منبهرة أيضا، ولكن انبهارها كان أقل من جلال؛ لأنها لم تكن قد رسمت لمحمود صورة أخرى تقيسه بها، رد محمود:
ـ …نهرب إلى أين؟. معك حق، بعد أن تساوت مخابئ الهروب عندى، انتبهت أن السؤال الأهم هو: نهرب إلى من؟. وليس إلى أين؟.
ـ إلى من؟.
ـ نعم إلى من؟.
قالها محمود وكأنه يشير إلى موقع بذاته، وليس إلى المجهول، ولم يستطع جلال أن يحدد هل كان يشير إلى قلبه؟. أم إلى مجموعة المتحاورين؟. أم إلى كل المحيط من حولهم؟. أم إلى وجود حاضر بكل اليقين دون حاجة إلى ظهور ماثل؟. جلال لم يشك فى صدق تعبيره، ولا فى واقعية خبرته على الأقل فى هذه اللحظة، فمضى يستوضح:
ـ اسمع يا محمود، ثريا أخبرتنى عن خبرة مررت بها فى البوسنة، لم أستطع حتى أن أسميها صوفية، قالت لى ثريا، ربما مازحة، أنك وجدتـه هناك. ربما تعنى أنك تعرفت عليه من خلال خبرتك هناك. حلال عليك، فهلا قربت لنا المسألة بكلام نفهمه؟. كلام نعيشه، فعل نلمسه.
تدخلت فاتيما دون توقع:
ـ ما يقوله محمود هو فعل ملموس، ما نحن فيه هنا ووجوده مع أولاده هكذا، أليس كل ذلك فعلا ملموسا؟ إن السعى إليه لا يكون إلا “معا”.
قال جلال وهو يشك أن ما سمعه كان صحيحا، ربما هو تخيل أنها قالت ذلك، قال وكأنه يشير إلى شئ يجاهد فى إخفائه، حتى على نفسه، بأية صفة يغار؟ ومن الأولى أن يغار عليه: فاتيما أم منال؟ قال:
ـ وهل وجدتماه “معا” أثناء تجوالكما “معا” الآن؟. حلال عليكما.
نظر كل من محمود وفاتيما إلى بعضهما البعض نظرات رفض أن يفهمها جلال، ولم يحاول أن يفسرها، لكن النار اشتعلت فجأة كما كانت قد خمدت فجأة، قال محمود كأنه يمزح.
ـ مالك أنت؟.
رد جلال بحدة، وكأنهما على وشك النزال:
ـ مالى أنا؟. ألست من عبيده يا كابتن؟.
وضح من استعمال اللقب أن الغضب، وربما الحقد قد خيم على الجو تماما.
تدخلت فاتيما محتجة:
ـ ماذا فعلت يا أستاذ جلال؟. لقد خرجت بنا عن الموضوع؟.
”أستاذ”؟. هل تعلن عودة الكلفة احتجاجا؟. لم عادت “أستاذ” تسبق اسمه الآن؟. هل هى تدافع عنه؟. عن محمود؟. هى ترد على تلقيبه إياه بيا” كابتن”، فى حين تدفعه هو بعيدا عنهما. هكذا!!
ـ أى موضوع؟.
ـ لست أدرى لكننى شعرت فى لهجتك أنك تتكلم على موجة أخرى.
تدخل محمود وحاول أن يكمل ما يبين به أننا لا نعرف الفلاح المصرى على حقيقته، وأن معرفته ليست فى المتناول كما نتصور، ثم وجه حديثه إلى فاتيما بأن عليها أن تعرف هؤلاء الناس، إن كانت تريد أن تتعرف على مصر حقا.
لا يعرف جلال لماذا، ولا كيف، قفزت إليه عبارة نطقها دون تردد، كطفل يريد نصيبه من الكعكة قبل أن تنتهى.
ـ ما أنا ـ أيضا ـ مصر.
انتبه بعد أن نطقها أنه كشف نفسه، حاول أن يستدرك بسرعة، وأن يشرح العبارة بأنه يعنى أن هؤلاء الناس، هؤلاء الفلاحين ليسوا الممثل الأوحد لمصر، وأن زوجها أمينا، وبسمة، ومنالا، و… محمودا، هم أيضا مصر، وكذلك هو. وقبل أن ينبرى لاستكمال مرافعة الدفاع عما لا يدرى، عـدل، وانتظر يختبر وقع عبارته، فلم يعقب أحد بما يفيد أنهم التقطوا المغزى الذى أرعبه احتمال الكشف عنه. قالت بسمة فجأة:
ـ لما عانيت هذه الصعوبة التى تتحدثون عنها، قلت أتعرف عليهم من خلال ما ليسوا هم، من خلال رفض كل صورهم التى خلقناها لهم والتى نعاملهم على أساسها. فكما كنا نتحدث عن الطبقة العاملة والبروليتاريا، وكلام من هذا، ثم اكتشفنا أننا لا نعرف شيئا عما نردده بيننا وبين بعضنا البعض بعيدا عنهم، أيضا نحن لا نعرف شيئا عن فلاحينا هؤلاء، فقلت أرفض كل صور تزييفهم ابتداء، ثم أرى ماذا بقى بعد التعرية.
بدا أن اللعبة أخذت تحلو، شدت انتباه الجميع برغم غموض ما يتحدثون عنه مما يسمونه المنهج، وقد طلب أكثر من واحد أن تبدأ بسمة بالمزيد من الإيضاح.
بدأت بسمة:
ـ هم ليسوا فلاح عبد الرحمن الشرقاوى، ولا فلاح محمد عبد الحليم عبد الله ولا فلاح محمد عبد الوهاب، قال محلاها عيشة الفلاح قال، ولا فلاح ثروت أباظة، يا خبر!!، وهم ليسوا فلاحى مسلسلات التليفزيون، وليسوا فلاحى مجلس الشعب، إن وجد فيه فلاحون أصلا.
تدخل محمود فجأة منبها:
ـ عندنا قائمة لن تنتهى، فهمت الآن. يكاد يكون هذا هو ما مررت بمثله تماما.
تدخل جلال وكأنه يريد أن يكشف أن محمودا ليس “هو” الذى..
ـ مررت بماذا؟. أن تعرف من “هـم” بنفى ما “ليسوا هم”.
سر من نفسه حين أوجزها فعقدها هكذا، وتمنى ألا يرد محمود فيبدو غير فاهم.
قال محمود:
ـ تريد أن تنقلب المسألة درسا فى الفلسفة؟.
استسخف جلال نفسه، وتصور أن محمودا قبل التحدى، وقذف إليه الكرة أقوى؛ ليتهرب من الرد التفصيلى الذى يكشف قلة حيلته أمام إبداع بسمة أو اطـلاعه هو، إلا أنه فوجئ بمحمود يكمل:
ـ لقد كانت تجربة مزعجة مفيقة، فوجئت حقيقة بما هو عكس ما تصورت، دون أن أحدد هذا العكس. أنا أيضا اضطررت أن أرددعكس ما هم،ما كنت أتصور: اكتشفت أنهم ليسوا بناة الهرم، وليسوا هم من حفروا قناة السويس، وليسوا من أمروا بالانسحاب أمام الإسرائيليين، وليسوا وليسوا وليسوا، حتى خلت الصفحة كلها إلا من خيبتى البليغة.
ـ فتراجعت؟. أليس كذلك ؟ عليك أن تشك فى منهجك ، هذه ألف باء المراجعة.
قالتها بسمة وكأنها فرحت بالهزيمة التى تطمئنها إلى مشروعية ما انتهت إليه.
ـ لا، لم أتراجع لكننى شككت فيمن كتبوا التاريخ كله.
ـ يا أخى عندك حق، إذا كنا عاجزين عن التعرف على الحاضر الماثل، فكيف ندعى معرفة التاريخ.
هز جلال رأسه ـ مضطرا ـ إلى أسفل علامة أنه موافق.
ثم هز رأسه بعدها مباشرة يمينا وشمالا علامة أنه ليس موافقا. ونظر فى ساعته.
ـ9ـ
شفى مينا إسحق، ففرح فتحى فرحا شديدا، وأخبر أباه أن خالته حنونة تقول إنه شفى بفضل دعائه ـ دعاء والد فتحى ـ ودعاء والدته، بل إنها تقول إن حب فتحى لمينا، وحب مينا لفتحى، هو ـ أيضا ـ كان سببا فى شفائه. هل هذا معقول؟. قال محمود إنه معقول ونصف، وقال عم اسحق ذات الكلام.
ثم إن فتحى اتفق مع مينا أنه ما دام الله قد استجاب لهم، فلا داعى لشئ آخر.
ـ10ـ
ـ لماذا لا تأتى أمى مع عمى جلال مثلما أتى بالسيدتين؟.
ـ تأتى يا وائل، تأتى، ستأتى، هل أنا مانعها؟.أنت كبير وتعرف أنها هى التى لم تحتمل.
ـ وهل حضرتك تشرط على من لا يحتمل أن.. ألا يأتى.
ـ هو حر.
ـ وهل أمى حرة؟.
ـ أظن ذلك.
ـ وهل حضرتك حر؟.
فوجئ جلال بالسؤال.
فوجئ وسكت.
ولكنه أصر على الإجابة حتى لا يبدو أمام ابنه كذا أو كذا، هو لا يريد أن يكذب، وهو لا بد أن يجيب بما يعتقد، هل هو حر فعلا؟. ماذا يقول؟.
رفع رأسه؛ إذ يبدو أنه كان مطأطئها، فلم يجد وائلا أمامه. رجح أن صمته طال أكثر من اللازم دون أن يدرى.
فى الأغلب أن وائلا قد التقط حـرجه فانصرف تأدبا دون أن يلح على الإجابة.
يتسحب مشروع دمعة فى شكل غلالة تتراقص فى عينى محمود، لكن يواكب ذلك أن سهما من اللهب شديد الإيلام ينغرس فى قلبه.
تتراجع الدمعة احتراما وإباء وعنادا، ويزيد اللهب اشتعالا.
ـ11ـ
”- أنا فى عرضك يا سعادة الباشا” قالها اسماعيل أبو عطية وهو مندفع يلهث إلى داخل الحجرة، حتى انحنى على حذاء محمود الذى هب واقفا متراجعا. كان اسماعيل دون طاقية فبدت صلعته المتسخة مبرقشه ببقايا شعر متناثر مثل قلقاسة سقطت فى وحلة، ولم ينشف الطين من عليها بعد. لم ينجح محمود بتراجعه أن يفلت من أن يرتمى عم اسماعيل على فردة الحذاء الوحيدة التى كان محمود يلبسها دون أن يربطها بعد. لم يكن قد لبس الأخرى. شخط محمود، وصاح، وأبى، وانحنى يرفع عم اسماعيل وهو يمسكه من تحت إبطيه، ثم راح ينهره بلا فائدة. فجأة استرجع سلطانه البوليسى القديم، ورفسه بقوة أمنية جعلته ينتصب واقفا ويرتعد حتى يلتصق بالجدار المقابل وهو يرتعد.
سأله محمود:
ـ ماذا حدث يا عم اسماعيل؟.
رد اسماعيل وهو مازال يلهث فلم تخرج الكلمات واضحة:
ـ أنا عارف إن سعادتك مازلت فى الحكومة، كلنا نعرف ذلك. الولد ضحكوا عليه، فى داهية، ربنا يعوض عليها، نحن ليست لنا دعوة، هو الذى أتى به لنفسه، أمه تولول وتدعى على الحكومة، من نارها يا باشا، قلب الأم يا سعادة الباشا. كفى هذا يا سعادة الباشا، ليس ذنبها. هذا ضنا يا باشا.
كان محمود يتابع كلمات عم “اسماعيل أبو عطية” وهو لا يفهم شيئا، لم يستطع أن يلتقط شيئا محددا يفسر به الجارى. هى ـ إذن ـ مسأله: تتعلق بإبراهيم ابن عم إسماعيل، الذى كان محمود يعتبر أن التحاقه بكلية الحقوق هو أكبر دليل على إصرار هؤلاء الذين يعيشون تحت خط الفقر على تعليم أولادهم، حتى اسماعيل أبو عطية الذى كاد يبيعه طفلته فكرية، استطاع أن يتحمل حتى يصل ابنه إلى الجامعة.
تقدم محمود إلى”إسماعيل أبو عطية” وقد ازاح قديم سطوته جانبا، لم يعد لها لزوم، وطلب منه أن يجلس، إلا أن عم إسماعيل لم يجلس، وإن كان قد هدأ قليلا، سأله محمود:
ـ ما له إبراهيم يا عم إسماعيل.
ـ إبراهيم تعيش انت يا سعادة الباشا.
ـ إبراهيم!!؟.
ـ إبراهيم يا سعادة الباشا، ضحكوا عليه السنية يا سعادة الباشا، هو ليس له شأن بهم، يعوض الله يا سعادة الباشا، كفى هذا.
ـ ماذا تقول يا عم إسماعيل؟. لقد شاهدته أول أمس فى صلاة الجمعة، ماذا تقول؟. ماذا حدث؟. حادث؟.
ـ حادث ماذا يا سعادة الباشا، الحكومة قشته مع الذين تقتشهم، سعادتك عارف ياما حذرته، ياما وعيته، هذا عمره يا سعادة الباشا، كفى هذا، كفى هذا. ورحمة والديك، ترحمنا الله يستر عرضك، نحن فى عرضك، نحن فى عرض الحكومة كلها، نحن أغلب من الغلب.
لم يكن هناك أى سبيل للاستفسار أكثر. لم تنفع محمود قرون استشعاره البوليسية القديمة حتى يتمادى فى التصور، لكن الأمور استبانت له بعد ذلك من أكثر من مصدر.
كان إسماعيل أبو عطية قد انصرف وهو ينشج دون أن يبكى، كان ينتفض حتى يكاد يسقط، خرج وهو يحك كتفه فى الحائط احتماء ورعبا، ووجهه لمحمود طول الوقت، وما أن انزلق من الباب نصف المفتوح حتى اختفى يجرى وهو يتلفت.
علم محمود أن إبراهيم ابن عم إسماعيل قد قتل برصاص الحكومة أثناء اقتحام بيت أحد زملائه؛ بحثا عن شخص بذاته لم يكن موجودا بينهم أصلا. لم يكن هناك حادث قريب يفسر هذا الاقتحام، لا سائح مات، ولا سائحة خطفت، ولا نصرانى ضربوه وهو عائد إلى بيته فى الظلام، ولا شئ بالمرة، هذا على حد علم محمود الذى لا يقرأ الصحف ـ قصدا ـ بانتظام. مات إبراهيم، قـتل، هو وزملاؤه، كل ما فعله أبوه أنه جاء يقبـل حذاء الحكومة التى قتلته، يستجير بها. من ماذا؟. يعتذر لها. عن ماذا؟. عن أن الأم الثكلى تكشف رأسها وتدعو على الحكومة من نارها، وقد يسمعها أحد.
كره محمود نفسه أكثر، وكره عمله السابق، وكره عم إسماعيل وابنته فكرية، حتى ابنه القتيل إبراهيم كرهه أيضا، بل كره ولديه فتحى ووائلا. و لم يستطع أن يكره فرحا، مع أنه كره وزارة الإسكان وأمريكا. لم يعرف لماذا وزارة الإسكان وليس وزارة الداخلية أو العدل أو إدارة المخابرات؟.
اكتشف ـ بعد قليل ـ كم كان يحب المرحوم إبراهيم ، وهو لم يتبادل معه كلمة واحدة.
* * *
الفصل الحادى عشر
شارع جامعة الدول العربية
كان الجواد الأشهب “أصيل” يتقدم السباق بشكل لم يعتده المراهنون من قبل.
التقط عبد المعطى المنديل الورقى الذى تطاير من نافذة السيارة الشبح، لكنه سرعان ما أطاح به جانبا، مع أنه لا يعلم شيئا عن صفقات دفن النفايات الذرية فى صحراء مصر المحروسة.
كان ذلك على الطوار المقابل لحلبة السباق مباشرة، فى نفس الوقت الذى فزع فيه الناس، والمتسابقون والجياد حين تعثر “أصيل” قبل علامة النهاية، وسقط، و نفق.
-1-
ـ أين أنت يا جلال بك؟.
قالتها وردة، مرحبة وهى تقدم له الشاى فى الخمسينة.
ـ أبدا.
ـ وحشتنا يا سعادة البك، عذرك معك، الدنيا مشاغل، كان الله فى العون.
ـ وأنتم أيضا، كيف الحال، وكيف ابنتك؟.
ـ تقبل يديك، أصبحت عروسة.
ـ عروسة ماذا يا شيخة؟. لم العجلة؟. لم تطل غيبتى إلى هذه الدرجة.
ـ بشروا يا سعادة البيه، من يدرى. أمها تزوجت وهى مازالت تمص إصبعها.
ـ تذكرين كيف زعلت منى حين سألتك عن سنك يا وردة، وكيف فرحت حين ناديتك “وردة” بدون “حاجة”.
ـ أنت فاكر؟.
ـ أقول لك يا حاجة أم يا وردة؟.
ـ كله حلو من فمك، تذكرنى بعبد المعطى، الله يرحمه.
كاد يقفز من مقعده.
ـ الله ماذا؟. عبد المعطى؟. ماذا تقولين يا وردة؟.!!
ـ ألم تعلم؟. عبد المعطى تعيش انت.
ـ يا خبر!! ماذا تقولين؟.
صمتت وردة قليلا، بلعت ريقها وأشاحت بوجهها، ثم قالت وكأنها تخاطب نفسها:
ـ هو حر، استرد وديعته.
- حر؟ ؟ حر تقولين، حر؟ حر ماذا يا وردة؟
- الأعمار بيد الله.
- يعنى.
- يعنى ماذا يا سعادة البيه ؟ ماذا جرى لسعادتك
ـ… يعنى البقية فى حياتك.
- حياتك الباقية يا سعادة البك، خلى بينا.
أمهلته. حتى تأتى حالا.
لم يقل لها كيف أنه لم يفهم طول عمره ما الذى يتبقى بعد الرحيل ليمتد فى حياته، حتى تصبح حياته الباقية.
دخلت إلى عشتها، وغابت أكثر مما توقع. يبدو أنها كانت تمسح دموعا غالبتها، أو تتجاوز نشيجا محتملا، أو ما لا يعرف. وحين عادت حكت له عن تزايد نوبات فزع عبدالمعطى وجريه للتأكد من إغلاق المزلقان دون مبرر. كما حكت له عن كثرة مخالفاته حين كان يغلق المزلقان دون قدوم أى قطار، ثم كثرت إجازاته المرضية، وأنه ذات صباح وجدوا المزلقان مغلقا، والعربات تكدست خلفه وهو لا يفتح، ولا يظهر، ثم وجدوه “ياحبة عينى” مهروسا تحت القطار.
ـ قضاء وقدر طبعا؟.
ـ طبعا، ماذا سيكون؟. على أية حال، الله أعلم، وربنا غفور رحيم، يعنى يا سعادة البك بعد كل هذا الشقاء، يموت عبد المعطى وربنا غضبان عليه؟. لا يمكن. يبقى قدر.
صمت جلال طويلا وهو يكاد يرفض، إن كان يستطيع أن يرفض.
كان الموت بالنسبة له من دواعى تمسكه بموقفه الدينى أو اللادينى. كان يرفضه، وفى ذات الوقت هو يعرف أنه أصدق ما فى الحياة. كان يردد ـ عادة بينه وبين نفسه ـ أنه ليس معنى أننا نموت، وأننا نرفض أن نموت، وأننا نخاف أن نموت، وأننا نحـزن حين يخطف منا الموت عزيزا، ليس معنى كل ذلك أن نخترع ما يبرره.
موت عبد المعطى هكذا، سواء كان صدفة أو يأسا، أو قرارا، جعله حزينا، حزنه هذا ثقيل مثل بحر من الرصاص البارد الثقيل السائل المجهول الشائك.
”لا” قالها وهو ينظر إلى السماء فى غضب
ـ … عبد المعطى مات يا وردة. مات عبد المعطى. أليس كذلك.
لم ترد وردة، دخلت بسرعة إلى العشة مرة ثانية، ولم تغب مثل المرة الأولى، وعادت متثاقلة وقد أحضرت قهوة لم يطلبها جلال. قالت وكأنها تكلم نفسها.
ـ عاش شقيا، ومات شقيا.
ـ كنت تحبينه يا وردة.
ـ طبعا، سعادتك تعرف كل شئ، شفت هذا من ساعتها.
ـ حصل.
ـ لكنك لا تعرف ما الذى حدث بعد ذلك؟.
ـ الذى حدث أنه مات.
ـ صحيح، ولكن بعد ماذا؟.
ـ بعد ماذا؟.
ـ بعدما فاتحنى هو بأنه يريدنى، بعد أن تعلقت به ابنتى أكثر مما تعلقت بأبيها، بعد ما فرحنى يا سعادة البيه.
لم تهرب هذه المرة، وسمحت للدموع أن تنزل أمام جلال، فكاد يقوم ويضع يده على كتفها، أو يملس على شعرها يهدئها، لكنه فضل أن يتراجع، ليس خجلا أو حرجا، ولكن لأنه شعر أن من حقها أن تعبر عن هذه اللحظة أكثر، لكنها لم تفعل.
أحس باقتراب شديد منها، أحس بصدقها وعمق حزنها، كما سبق أن أحس بطزاجتها ونقاء حسها، وتساءل ـ على الرغم من أن السؤال بدا غير مناسب ـ تساءل: تــرى هل كانت ستحزن عليه كل هذا الحزن لو أنهما تزوجا؟.
كان قد وصل الى اقتناع يقول إن القاعدة أن “القرب يـبعد”، وأن “البعد يسمح للخيال أن يقرب”، أو هو يسمح للواحد أن يأمل فى القرب، هكذا تقول تجربته، بل تجربة كل من يعرف، كاد يسألها عن تلك المعادلة، ولكنه تراجع مرة أخرى، يمكن أن تكون الألفة عند هؤلاء الناس حاجة ثانية.
كيف استدرجه تفكيره هكذا بعيدا عن الموت؟. هل فى ذلك تخفيف لحزنه؟ فهاجمه الحزن منقضا؟.
قرر فى ذات اللحظة أن يتركها فى الحال. يريد أن يخلو إلى نفسه.
قرر -أيضا- أن يستعد للموت.
كيف؟.
لا يعرف، ولكنه يعرف أن عليه أن يستعد للموت.
”للموت؟ أم لما بعد الموت”؟.
”قلت للموت. ألا تفهم”؟.
”كيف”؟.
”بأن أعيش يا بارد”.
”خيبتك بليغة”.
كاد يخرج لسانه وهو يقول.
”الحياة هى الحل”.
التفت بسرعة إلى وردة وتأكد أنها لم تسمع شيئا، فاستأذن، وعزاها مرة أخرى، وسلم عليها، وطبطب على كتفها، وطلب منها أن تشد حيلها، وكاد أن يطلب يدها،
”ماذا؟.!!”.
”ماذا فى عينك”، انت مالك انت؟”.
”قلت لك خيبتك بليغة”.
”البركة فيك”.
ارتبك فى مشيته حتى ترنح، فعاد وجلس، لاحظت وردة ما اعتراه فى لهفة، جرت نحوه تطمئن، وتكاد تهم بأن تعدل له جلسته.
ـ خير يا سعادة البك؟. يا سعادة البك!.
طمأنها، واعتدل، وقال لها إن الحذاء ضيق، وإنه تعثر لا أكثر ولا أقل.
ضحكت وردة لأول مرة بعد سيرة الموت وهى تصدق أنه تعثر، ثم ضحكت ضحكة ثانية قبل أن تنتهى الأولى، لكن الثانية كانت أعلى. نظر إليها متعجبا حتى ضحك هو الآخر دون سبب، لعلها عدوى، امتلأ وجهها بفرح مضئ قبل أن تطلق سراح الضحكة الثالثة، فبدت مثل طفلة وجدت حافظتها التى فقدتها، واكتشفت أن ما بها من نقود كانت أكثر مما ظنت.
لم يفرح جلال فرحة ساذجة سلسة هكذا منذ مدة طويلة، فاحترم مرغما الفكرة المستحيلة التى كاد يترنح من مفاجأتها حتى قرر أن يتمادى فيها ووردة تروح وتغدو أمامه. نظر فى ساعته، وأخبرها أنه تأخرعن الميعاد، وأنه لن يلحقه مهما فعل، فطلب شايا بحليب.
ـ لماذا بحليب هذه المرة ؟.
ـ لا أعرف، ولكنى أريد الآن أن أشرب شايا بحليب. عندك مانع؟. بل أريد أن أعزمك يا وردة على كوب معى.
ضحكت من جديد. هل تنسى نفسها بذلك سيرة الموت؟.
سأل نفسه من جديد: ما هذا الضحك الذى بدأ يزيد حتى كاد يبوخ؟.
ـ ما الذى يضحكك يا وردة هكذا؟.
لم يقل لها “هل هذا وقته”؟.
ـ أقول؟. أم تزعل؟.
ـ تقولين، وحياة بنتك تقولين، ما اسمها؟.
ـ توحيدة.
ـ ياه!! اسم طويل، أنت أمها، اسمك وردة، وهى الصغيرة تسمونها توحيدة.
ـ أبوها الله يسامحه، سماها على اسم أمه، وكان يرفض حتى أن أناديها توحا.
ـ كنت تحبين حماتك يا وردة؟.
ـ طبعا يا سعادة البيه، أنا قلبى أبيض. انت عارف.
ـ ….، فماذا كان يضحكك الآن يا ام توحيدة؟.
ـ لما حضرتك تعثرت، وقلت إن الحذاء ضيق، قلت: حلو خالص حضرتك اسم الله كبرت عليه.
قالت ذلك وضحكت ضحكة أخرى بحياء، كادت تضع رأسها فى صدرها الذى بدا ناهدا وكأن أحدا لم يمسسه من قبل ـ لا توحيدة ولا أبوها.
ـ كبرت على ماذا يا وردة؟.
ـ على الحذاء، ماهو العيال لما يكبرون، الأحذية تضيق عليهم.
ضحك هو هذه المرة، ضحكة اتسعت حتى ملأت وجهه، ثم ملأت كيانه كله، واحتوتها أيضا.
ـ آه والله !!.
أردفت:
ـ ثم لما طلبت شايا بحليب على غير عادتك، قلت: يبقى كملت.
ـ يبدو أنها كملت فعلا يا وردة!.
حين أحضرت وردة صينية عليها كوبان من الشاى “أبو حليب” فوجئ. كان قد نسى أنه دعاها أن تشاركه، وضعت الصينية، وبغير تردد جذبت الكرسى وجلست قبالته. كانت حالة الطفولة الطازجة المرحة التى تتـفجر أمومة وأنوثة معا مازالت تملأ كيانها كله، فيحس أمامها بضعف الطمأنينة المدغدغ.
ـ ما رأيك يا وردة نرشف الشاى واحدة واحدة، ونحن جالسان هكذا لا نتكلم؟.
كتمت ضحكة جديدة، ربما بدأت تتبين أنها زودتها، وقالت باسمة:
ـ لماذا؟. كفى الله الشر.
ـ أنا عارف؟. هى جاءت فى مخى هكذا.
ـ مثلما يعملون فى السيما؟.
ـ… حاجة مثل هذا.
ـ لكنهم حين يسكتون فى السيما يمسكون أيديهم فى أيدى بعض.
ـ أى والله، لم أكن آخذا بالى.
ـ والنبى انك رجل أمير وابن حلال يا سعادة البيه، ومتواضع، وتحب الناس.
كانت تتحدث وهى ترشف الشفطة تلو الأخرى وكأنها فى عجلة ما من أمرها.
ـ مستعجلة يا وردة؟.
ـ كفاية اسم الله على مقامك، والنبى ربنا سيفتحها فى وجهك.
مضت، وخيل إليه أنها تمتمت، أو لعلها فعلا همست “الله يرحمك، يا عبد المعطى يا بن بهانة”، لابد أنها قالتها. هو لم يكن يتخيل، لأنه لا يعرف أن أم المرحوم عبد المعطى اسمها بهانة. ردد وراءها فى سره:
الله يرحمك يا عبد المعطى يا بن بهانة.
وجد أنه لم يشرب الشاى بالحليب، وأنه كاد يبرد، فقرر أن يسمح لخياله بالتمادى، وأن يشرب هذا الكوب نصف الساخن رشفة رشفة، ببطء أطول. راح يبنى بين كل رشفة ورشفة فقرة طويلة فى قصة قصيرة، مرقمة.
ـ 1 ـ
يتزوج وردة.
ـ 2 ـ
تفرح، وهو يفرح.
ـ3 ـ
ترضى بعدم الإنجاب، مكتفية بتوحيدة.
ـ 4 ـ
لا يتناقشان أبدا.
ـ 5 ـ
يفرحان جدا.
ـ 6 ـ
وخلاص.
[انتهت].
كان يحسب أنها قصة قصيرة، فوجدها ـ هكذاـ رواية كاملة.
تذكر أن ما يفسد العلاقة بين الناس هو المناقشات والكلام الكثير، يسمونه حوارا. اكتشف أن أغلب ما يسمى حوارا، هو دفع بالكلمات. كل كلمة تخرج من واحد، تدفع الآخر فى صدره بعيدا قليلا، ثم بعيدا قليلا، ثم بعيدا قليلا، حتى يصبح بعيدا كثيرا، ثم لا تبقى إلا الشفاه تتحرك دون صوت، ثم تسقط ستارة الرصاص المتجمد بين المتناقشين؛ لتحول دون القتل مع سبق الإصرار!. وحين يتبين المتحاورون العرب أن الأمر كذلك يصدرون بيانا بالإجماع، وحين يتبين المتحاورون الأحبة أن المسافة تتسع بالحوار يشاركون فى أمر يقع خارجهم ويسمون ذلك أسماء رشيقة، حديثة غالبا. مع وردة، الأمر يختلف.
”كيف”؟.
”قلت لك انت مالك؟ لا تنحشر فيما ليس لك فيه.”
”قل لى كيف؟ كيف يختلف الأمر مع وردة؟.”
”الله يخرب بيتك”.
” لا يمكن أن تستعبطها يعنى؟”.
” ليس لك دعوة”.
”لا..، لى ونصف”.
”توجد مائة طريقة للحوار غير المنظرة والكذب، أو الدفع فى الصدر وزعم المشاركة”.
”صعبها، صعبها، جاءتك نيلة”.
”جمعا”.
ـ خير يا سعادة البك شكك سرحان، حليبك برد.
أفاقه تنبيهها فاعتذر وشرب نصف الكوب المتبقى فى جرعة واحدة، نظر فى ساعته وشكرها وأسرع الخطى فى اتجاه البلد، دون أن يحاول أن يركب إحدى سيارات البيجو أو الميكروباص الذاهبة إلى وسط أبى النمرس، ولاحظ أنه تعمد ألا يطالع وجه عامل المزلقان الجديد الذى حل محل المرحوم عبد المعطى.
ـ 2 ـ
ـ صباح النور يا أستاذ، لكننا بقينا العصر.
ـ آه صحيح، سعيدة.
ـ سعيدة مبارك.
ـ لماذا سعيدة بدلا من رد السلام، وعليكم السلام، أو حتى “على الأرض السلام”.
ـ صدقنى، لا أعرف لماذا؟.
ـ الأغرب أننا أصبحنا نقلدكم. وأنا داخل عندك ذلك اليوم، قلت لـلرجل على الباب “صباح الخير”، فشخط فى، ورد أنه “وعليكم السلام ورحمة الله”. ما الحكاية؟. هل أصبحت “صباح الخير” حراما هى الأخرى عند المسلمين؟.
دخل زبون، فاستأذنت الدكتورة مادلين، وراحت تلبى طلبه. لماذا لا تعيـن لها مساعدة، وتكتفى هى بتحصيل النقود، مالزوم البكالوريوس؟. دخل زبون آخر، فنظرت إلى جلال مستأذنة بعينيها هذه المرة، نظرت فى الوصفة التى قدمها هذا الزبون الجديد، هذه كل فائدة البكالوريوس، رجعت إلى جلال، وطلبت منه ألا يظل واقفا هكذا، وأن يجلس حتى تنتهى، فجلس راضيا وهو يتعجب أنها تعامله، ليس باعتباره غريبا هذه المرة.
كلما ذهب إلى المزلقان تذكر الصيدلية، فرصة أن يعرف منها أخبار الأستاذ. لم يعد يكتب فى الصحف. كان خيال الأستاذ يعاوده أكثر بعد خبرة صحراء المريوطية. له أن يخترع لها سببا آخر يفسر مجيئه. لم يعد ينفع الكلام عن نصيب محمود عبدالسلام فى الصيدلية. هى ليست لها دعوة بكل هذا. فرح لتوالى الزبائن واحدا واحدا، ولـلخمتها فى خدمتهم، حتى يعثر على سبب وجيه يبرر به قدومه. ابتسم وكأنه يقول نكتة لنفسه، كانت فعلا نكتة حين قال إنه سيورطها لتخطب له وردة، وقال لنفسه إن الدكتورة مادلين شخصيا غير متزوجة، وقال ـ أيضا ـ إنها لا تفكر فى الزواج. طيب، من أين له هذا؟. تخريف؟ لا طبعا، لأنه لا توجد امرأة فى الدنيا لا تفكر فى الزواج مهما قالت غير ذلك، حتى الراهبات. صحيح؟. إيش عرفه؟ هو لا يدرى إن كانت هذه الدكتورة تفكر فى الزواج أم لا، لكن وردة جاهزة مائة فى المائة، لابد من سبب يفسر مجيئه. تذكر فجأة أن شم النسيم هو الاثنين التالى، وهو يحب هذا العيد المصرى حبا لا حدود له، ليس لأنه عيد الربيع، ولكن لأنه عيد الناس، كل الناس. هذا سبب وجيه ـ إذن ـ فهو قد جاء ليعيد عليها، لابد أنه جاء يعيد عليها، وأنه كان ناسيا. فرغت من آخر زبون وعادت باشة بحق،!!، إنها تستطيع أن تضحك، أى اكتشاف؟! صحيح أنها ضحكة قبطية مترددة طيبة، ولكن أين هذه من كركرة وردة؟. الحاجة وردة؟. لم يستطع أن يصنف ضحك وردة بطريقة تصنيفاته العابثة الجديدة، رحب بضحكة الدكتورة، ضحكة مهذبة مترددة فعلا وكأنها تستأذن أن تكملها قبل أن تتم، وحتى لو أذن لها، فهى لا تكملها، فعلا، ضحكة قبطية جميلة.
ـ أهلا أستاذ جلال. أليس كذلك؟.
فرح أنها تذكره بالاسم، لم يعد زبونا عابرا إذن.
ـ أهلا دكتورة، كل سنة وانت طيبة.
ـ وانت طيب.
ـ كنت مارا قلت أعيد عليك.
ـ فيك الخير، وجهك حلو علينا.
فرح. يبدو أنها هى التى ستتحفه بسبب لمجيئه.
ـ الله يبشرك بالخير، بصراحة أنا فى أشد الحاجة إلى أخبار سارة؛ لأنى علمت منذ قليل أخبارا سوداء. عبد المعطى تعيشين أنت.
ـ من عبد المعطى؟.
انتبه فجأة أنها لا تعرف عبد المعطى، وأنه لم يحدثها عنه أبدا. أراد أن يتراجع لكن الأوان كان قد فات.
ـ آسف، لم أحدثك عنه، عبد المعطى كان صديقا طيبا، مات دون أى داع.
بدت عليها مسحة من الدهشة، لكنها كتمتها بأدب قبطى متسامح، مازالت تلاحقه لغة التوصيف الدينى للمشاعر والملامح.
ـ دون داع؟. أى دون مرض، تقصد؟.
ـ لا، اعذرينى، أقصد: دون داع فعلا.
ـ لا أفهم.
أفهمها كيف أنه كان صديقا جميلا، ورجلا شهما، أنقذ عددا كبيرا من الناس ذات يوم بشجاعة، وتلقائية، ثم ظلت تنتابه نوبات كأنه لم ينقذهم، بل كأنهم ماتوا وهو السبب، ثم مات شخصيا، أو هو قرر أن يموت، توقف عن حب نفسه فمات.
ـ تتكلم اليوم لغة غريبة يا أستاذ.
ـ آلا يوجد عندكم دواء يجعل الإنسان يحب نفسه.
ـ فكرتنى، هذا هو الخبر الذى كنت أود أن أخبرك به، خالى غالى…
قالت ذلك، ودخل زبون فاستأذنت من جديد.
حمدا لله أنها هى التى جاءت بسيرة خالها، كأنها التقطت من داخله السبب الحقيقى لمجيئه الذى لم يكن هو شخصيا قد تبينه بعد. ولكن ما علاقة الأستاذ بالدواء الذى يجعل الإنسان يحب نفسه، فيمنع موت عبد المعطى؟. المهم أن ثم خبرا طيبا، وأن وجهه حلو عليها، أو عليهم لا يذكر، وكلام من هذا. انصرف الزبون بسرعة؛ فعادت مستبشرة لترد على لهفته، وهو يسألها “خالك، الأستاذ غالى، ماله.”
ـ استقر أخيرا وقرر أن يدخل فى مشروع عملاق.
ـ مشروع ماذا؟. وهل فى النقد الأدبى مشروع عملاق؟.
ـ نقد أدبى ماذا؟. لقد توقف عن كل ذلك.
راحت تشرح له كيف تعرف خالها على وكيل شركة أدوية كندية عن طريق شقيقات زوجته هناك، وكيف كلفوا خالها أن يصبح وكيلهم فى مصر، ثم فى “الشرق الأوسط”، وكيف أن علاقة هذا الكندى بكل دول الشرق الأوسط هى على أعلى مستوى، وأن الشرق الأوسط هذا كله بركة. فهم جلال ولم يقاطعها، بل تصنع أنه لم يفهم. مع أنه رجح أنها تريد أن تفهمه أنها فخورة بخالها المرن هذا، وليس أى شئ آخر.
قالت له ـ أيضا ـ إن خالها قد التقى بممولين ومساعدين محليين تبين أن بعضهم “معرفة قديمة”، مساعدة لطبيب كان لها دور غامض ومهم فى حياته، هذا ما قاله لها خالها، كما عرفته هذه الدكتورة بدورها على ابن أستاذها هذا الذى أصبح رجل أعمال يحاول أن يعدد أنواع نشاطه. وأنه ـ خالها ـ تأكد أن الدنيا صغيرة تماما، وأن الأحياء يلتقون دائما.
كانت الدكتورة مادلين تحكى منفعلة بالفرح؛ إذ يبدو أنه سيكون لها دور ما فى هذا المشروع، ربما ينقذها من وظيفة عاملة البقالة التى تمارسها ببكالوريوسها الذى مثل قلته. كانت وهى تحكى تذكر الأسماء تطوعا دون حاجة إلى ذلك، ربما من فرط فرحتها، أو لتؤكد له أن المسألة جد، وأن الشركاء والوسطاء بشر لهم أسماء واقعية، وبالتالى فالموضوع جد، والفرصة قائمة، فرصتها.
فوجئ جلال مفاجأة، ليست كبيرة ـ فقد كان يستمع إلى كل هذه التفاصيل دون أن يتعجب وكأنه كان يتوقعها لماذا؟. لا يعرف. فعلا دنيا صغيرة، وتزداد صغرا. هل لذلك علاقة بموت عبد المعطى؟.
غالى جوهر، أمين عبد الحكيم، الدكتورة إصلاح فاضل، أهكذا؟.
سألها بسخف وهو يعرف أنه كذلك، سخف لم يتصور أنه يسمح له بعلو صوته.
ـ هل توجد علاقة، بين موت عبد المعطى، وبين هذا الذى تحكين لى عنه. وبين الحبوب التى تجعل الإنسان يحب نفسه، فلا يموت ميتة عبد المعطى؟.
ـ أنا لا أعرف عبد المعطى هذا. ألم تقل إنه كان يكره نفسه؟. ربما هذه الشركة التى أحدثك عنها تصنع مثل هذه الحبوب، ربما كانت سوف تنفعه لو عاش. كل شئ جائز.
كيف أخذت الدكتوره مادلين تخريفه جدا، فسايرها!. هل كان يمكن أن يتعاطى عبد المعطى حبوبا تجعله يحب نفسه؟. يا سبحان الله، ربما نسمع قريبا عن شركة منافسة تنتج حبوبا تجعل الواحد يغيظ نفسه، وأخرى تجعله “يدلع” نفسه.
ـ دمك خفيف يا أستاذ، ولو أنى لا أفهم فكاهاتك بسرعة.
ضبط جلال نفسه أنه قال الجمل الأخيرة بصوت عال دون أن يلحظ، عادة فظيعه تعريه، دون إذن. حول الموضوع بسرعة.
ـ استقرالأستاذ غالى أخيرا.
ـ فرحت له، صدقنى، لقد قلت لك إنى أحبه جدا، لم أكن أفهم آراءه زمان، ولم أكن أستلطف زوجته، هو بمثابة والدى.
ـ الخال والد.
ـ صدقنى، فرحت لأنى رجحت أن إقامته سوف تطول، أو ربما تدوم.
ـ وابنه…؟ جوهر؟.
كاد يقول لها “لقدالتقيته أخيرا فى صحراء وادى النطرون، لكنه لم يكن هو”، لم ينبس بذلك، فمضت تقول:
ـ يعنى. مازال خالى يأمل ألا يكمل جوهر مراسم الرهبنة حين يعلم أن الشركة مشى حالها، ألم أقل لك إن جوهرا تخرج فى كلية الصيدلة أيضا، وأن من أسباب قراره أن يسلك طريق الرهبنة أنه اعتقد فجأة أن أغلب الأدوية التى تؤهله شهادته للتعامل بها: هى إما سامة، وإما لا لزوم لها، وأنها جميعا تخرب بيوت المرضى المخروبة بالمرض أصلا. هذا كلام يخرب بيوتنا نحن. أليس كذلك؟.
ـ أنا أميل إلى رأيه، لكننى لم أفكر فى الرهبنة.
ـ أظن أنه ليس فى الإسلام رهبان.
ـ يعنى، لى قريب ذهب يترهبن فى جرزة، وهو يعمل عكس خالك تماما، خالك يحاول منع جوهر من الرهبنة، وصديقى هذا أخذ أولاده معه يرهبنهم. من البداية.
ـ تتكلم جدا، هل فى الإسلام رهبنة؟. هذه أول مرة أسمع ذلك.
ـ ليس تماما، كله هرب والسلام.
ـ الرهبنة هرب؟. ماذا تقول؟.
ـ صديقى هذا يحرم التليفزيون على أولاده.
ـ وماذا فى هذا؟. عندنا بعض المذاهب الإنجيلية تحرم التليفزيون كذلك.
ـ هل أنت إنجيلية؟.
ـ ما هذا؟. ماذا تقول؟. أنا أرثوذكسية، أما وأبا، ما هذا الذى تقوله؟.
لم يفهم سر غضبها هكذا، فقد كان يحسب أن المسألة اختلاف آراء فى التفاصيل لا أكثر، شعر كما لو أنه قد اتهمها بالهرطقة، وبدا أنه لا بد أن يعتذر.
ـ آسف، لم أكن أعرف أن المسألة… آسف.
ـ أنت تعرف خالى، وتعرف أنه أرثوذكسى.
ـ خالك؟. أستاذنا الجليل غالى جوهر، مدى علمى أنه ترك هذه الأمور جانبا، كان يعلمنا أشياء أكثر معاصرة، لكن الدنيا تغيرت، وأصبح على الأنبياء أن يحصلوا على البطاقة الأمريكية الخضراء أولا، وأن يوضعوا تحت الاختبار حتى يتأكدوا من إخلاصهم للرب فى البيت الأبيض، قبل أن يبلغوا نشر رسالة الأمركه البهية.
بدت الدهشة على الدكتورة مادلين، دهشة عدم الفهم لا المفاجأة، فلم تنبس.
دخل زبون جديد، لكن يبدو أنها كانت متلهفة على إكمال الحوار إذ عادت سريعا، تعلن أنها لا تفهم، وأن كلامه هذا يذكرها بكلام خالها زمان، وأنه ماله هكذا متحامل على أمريكا، وأنه توجد فكرة أن تنضم الشركة الكندية، التى أعطت خالها وكالتها، إلى شركة أمريكية، وأن أمريكا بهذا الشكل الكريم الجاهز تتدخل فى كل شئ لتحل كل مشاكل العالم، وتقلل الاختلاف، وهى توحد الناس وراءها.
لم يجد عنده أية رغبة فى مناقشة حماستها هذه، ولا أن يبدى وجهة نظره، ولا أن ينقل لها وجهة نظر صديقه محمود عبد السلام وأسباب هجرته إلى جرزة، ولا وجهة نظر فاتيما ومعنى تفضيلها العيش فى مصر، بل إنه ضبط نفسه متلبسا فجأة بفكرة شاطحة تقترح أن ينضم تشومسكى لجارودى، ويعملان شركة عملاقة عابرة للديانات، مثل الشركات عابرة القارات التى يسمع عنها كل يوم. سألها فجأة:
ـ لماذا أسموك مادلين؟. آسف.. يمكن ألا تجيبينى، لكنك سمحت لى بكل هذا الوقت، وأخبرتنى بكل هذه الأخبار الخاصة. وهذا هو ما شجعنى.
ـ أبدا، ليس عندى مانع فى أن أقول لك، إن اسمى على اسم خالتى، لى خالة اسمها مادلين.
ـ آه، رأيت كيف؟… إذن.. ليس لاسمك أية علاقة بمادلين أولبرايت.
ـ من ؟ مادلين من؟.
ـ … أولبرايت؟. مادلين أولبرايت.
ـ …تقول من؟.
يا خبر أسود، هذه الدكتورة لا تعرف هذه الحيزبون مادلين أولبرايت! أحسن. (سوف يكّون رأيا أصعب فى كوندوليزارايس) (كوندوليزا) قال فى سره وهو يتعجب من نفسه:
ـ هى ضرة الحاجة وردة.
ـ من الحاجة وردة؟.
يا للمصيبة، لم يكن الكلام فى سره. عاد يفكر بصوت مسموع.
أكمل وكأنهما يتحاوران، وهو يتعجب من صبر هذه الدكتورة عليه دون الإسراع باتهامه بالجنون قال:
ـ هى امرأة، كما ينبغى.
فوجئت الدكتورة بالإجابة، وبدا أنها ساعدت نفسها على تصنع عدم الفهم هذه المرة، كما خيل إليه أيضا، وفى الأغلب هو مخطئ فى هذا التخيل، أن عينيها اتجهتا إلى النظر فى اتجاه صدرها الضامر. سارع يلم الموقف بأى شكل، فأردف بسرعة فرحا بقدرته على الكذب حتى يثير الشفقة:
ـ هى زوجة المرحوم عبد المعطى الذى حدثتك عنه حالا، وقد حزنت على فقد زوجها عبد المعطى، كما تفعل الزوجات الأصيلات؛ لبست السواد، وحرمت على نفسها كل الملذات التى كان يحبها. إخلاص ما رأيت مثله.
أنقذته الكذبة، وبدا على الدكتورة أنها فرحت، ربما لإخلاص النساء دون الرجال. فأثنت على هذه الأرملة خصوصا، وعلى الأرامل المخلصات عموما، وذكرت أن من تحب زوجها هكذا، لا ينبغى أن تتزوج بعده أبدا، وكلاما من هذا سمح له أن يستأذن معتذرا مرة أخرى، وهو يدعو الله ألا ينسحب من لسانه ثانية، لكنه انسحب.
ـ وما ثمن هذه الحبوب التى تجعل الإنسان يحب نفسه؟.
ذكرته الدكتورة أن الحبوب التى تعنيها غير موجودة بعد، وأنه توجد شركات أخرى تنتج حبوبا مماثلة، وأنها تنصحه أن يستشير طبيبا أولا.
عاود السؤال عن الثمن بالتقريب، فذكرت رقما بمئات الجنيهات للعلبة الواحدة
ـ لا، الواحد يكره نفسه أرخص.
وانصرف دون أن يسمع ضحكتها اللاذعة ذات الذيل القصير.
ـ3ـ
ـ وجهك أم القمر يا أبا الجـل!!.
ـ يعنى أنت التى تسألين؟.
ليس أسهل من الحوار مع منال، لعله أسهل وأبسط وأصرح حتى من الحوار مع زوجته ثـريا. لماذا يصر أن ينعتها بزوجته، وهى لم تعد كذلك. كلمة طليقته أفضل، لكنها كلمة ثقيلة لا يحبها. هو لم يطلقها على الرغم مما أثبته المأذون، وعلى الرغم من ورقتها التى تسلمتها منه. هو “تركها”، تركا بعضهما البعض، هل توجد كلمة اسمها “تريكته”،هذه كلمة أصدق، وأخف، قال لنفسه: هى فعلا “تريكته”..، وابتسم. أضف.. أضف يا جلال يا بن غريب إلى الأبجدية الجديدة، ما دام أحدا لا يحاسبك. ياللاااه!.
ـ أين أنت ياجدع أنت؟. وما أخبارك؟.
ـ مثلما أنا، أما أخبارك أنت يا منال، فهى عندى أولا بأول، صور فى الصحف، وأحاديث فى الإذاعة، وفى التليفزيون، تسير معك حلاوة.
ـ الشئ لزوم الشئ، وأنت سيد العارفين. لا أخفى عليك، فأخبارك عندى من أمين.
ـ يا خبر، تصورى كدت أنسى، لا تأتى سيرتك إلا مع زوجته، أما هو فلا يذكر شيئا عنك إلا نادرا، أو أبدا، ثم لعلها غلطتى، أنا لا أقابله، وهو دائما فى عجلة من أمره، دائما مشغول حتى وهو نائم يخيل إلى أنه مشغول.
- لعبت معه البلية مؤخرا، ودخل فى عدة مشاريع معا. كان يزمع المشاركة فى مصنع تجميع سيارات.
ـ آتصور ذلك، برغم اختلافه يبدو لى أن ليس له خيار لقد فرد، عرف طريق أراضى البحر الأحمر، ولعبة القروض، ومشاريع القرى السياحية، هذا غير مصنع السيارات، وأظن أنه دخل مؤخرا شريكا فى شركة أدوية.
ـ تتصورين!!؟. أنا عرفت شيئا عن بعض هذا الموضوع الأخير بالذات. هل تتصورين ممن عرفته؟. أمين عبد الحكيم لا يحدثنى عن أعماله، ولا زوجته إن كانت تعرف أصلا شيئا عن نشاطاته، هل تعرفين من أين عرفت أخبار شركة الأدوية هذه؟.
ـ من أين؟.
ـ من ابنة أخت أستاذنا القديم “غالى جوهر”.
ـ الأستاذ غالى؟. الأستاذ غالى جوهر؟. تتكلم جدا؟.
ـ طبعا.
ـ وإيش لم الشامى على المغربى؟.
حكى لها جلال الحكاية، الحكايات، مؤكدا بين الحين والحين أن الدنيا صغيرة، وانتهزها فرصة ليعابثها بعيدا عن أخبار رجال الأعمال، وعن التعجب الذى لم يعد له لزوم من تحول الأستاذ غالى جوهر إلى الرأسمالية “الشرق أوسطية”، ذكرها كيف كانوا يسمونه تروتسكى مصر، قال لها ضاحكا:
ـ المهم أنك يمكن أن تستفيدى من شركة أدوية أستاذنا هذه؛ لأنها مهتمة بمسألتك.
كادت تقذفه بالكوب الذى كانت تمسك به، وقد ظنت أنه سيلمح لصعوبتها التى تعتز بها لأسباب خاصة. بل لعلها ليست صعوبة أصلا وإنما قرار.
قرأ أفكارها فتظاهر أنه لم يقرأها، لكن على من.
ـ لا.. لا.. ليس فى هذه الناحية ، لكن الشركة تنتج حبوبا تجعل الإنسان يحب نفسه، هى باهظة الثمن، لكن يمكن أن تقدمى اقتراحا للمنظمة؛ لجعل تناول تلك الحبوب ضمن حقوق الإنسان.
قررت أن تفوتها.
ـ أنا لست فى حاجة إلى هذه الحبوب، كنت أحسبك أذكى من ذلك؟.
ـ للغباء مزايا بلا حصر. أنا أعتقد فعلا أنك تحتاجين إلى أن تحبى نفسك.
ـ يا مغفل، وهل أنا أحب إلا نفسى؟. أنا أضن بها يا حمار على أى ثور منكم، ليس فينا من زعل، أنت الذى بدأت.
ـ إلى متى نخدع آنفسنا يا منال؟.
ـ نخدع ماذا؟ نخدع من؟.
ـ أنفسنا؟.
ـ فى ماذا؟.
ـ أنت تحبيننى.
ـ وهل فى ذلك شك يا حمار؟.
ـ والله عندك حق، أنا غبى، وهذه ميزتى الخفية.
ـ ليست خفية ولا حاجة، وأنت ألا تحبنى؟.
ـ … من غبائى، ولكن قولى لى كيف لا أغار عليك مثلما أغار على من هم أبعد عنى منك.
ـ إسأل نفسك، ثم تغار على ممن وأنت تعرف البئر وغطاءه، ثم لعل هذا هو النظام الحبى العالمى الجديد.
ـ عليك نور.
ـ ضحكا، وشربا، وتصافيا. وتذاكرا، ولم يقترب أى منهما من الآخر.
قبل أن ينصرف جلال، التفت فجأة وهو يمسك بمقبض الباب. واستطاع أن يسألها بوقاحة ضاحكة معتمدا على تأثير الشراب:
ـ هل أنت متأكدة أن فاتيما تعرف علاقتك بزوجها؟.
أجابت بلا تردد، ربما أيضا تحت تأثير الشراب:
ـ تعرف، وتوافق، و تحتفظ بحقها فى المعاملة بالمثل.
تراجع جلال عن الانصراف. ترى هل ذكرت لها فاتيما شيئا عن تلك الليلة؟.
هو لم يستطع حتى الآن أن يفهم ما حصل فى تلك الليلة، هو متأكد أنه كان صدقا خالصا. لم يتكلما كثيرا، ولا قليلا، تلك السمفونية الجسدية الكونية ليس لها اسم. لم يستطع أن يسمى ما حدث بينهما بالأسماء المعروفة. لم تسعفه أبجديته الجديدة، لم يجد لفـظا مناسبا يصف به تلك الليلة، تلك العلاقة، تلك الساعات، تلك الـ… لا يعرف، الأغرب من ذلك أن أيا منهما لم يعد لذكرها أو إليها أبدا.
ما الحكاية بالضبط؟. ماذا تعرف منال من كل ذلك؟.
ـ هل ذكرت فاتيما لك شيئا يا منال؟.
ـ ماذا تقول؟. هل هذا سؤال؟. طبعا حين نلتقى نذكر لبعض كل شيء.
ـ كل شئ؟.
ـ كل شئ.
ـ هل تريدين أن تقولى لى شيئا؟.
ـ .. مالك اليوم يا جلال؟… شيئا مثل ماذا؟.
ـ لا شئ.
إذن فاتيما لم تقل لمنال شيئا، ولا هو قال لأحد شيئا. يعنى ماذا؟.
ـ غريبة فاتيما هذه يا منال، أليس كذلك؟.
ـ ولا غريبة ولا حاجة، أنا أحبها أكثر من أمين، وهى تعلم ذلك، وأحبها لأنها أنثى جدا.
ـ ألا يكون هذا هو السبب فى مشكلتك؟.
ـ عمى فى عينك يا وغد، سوف أطردك من فورى إذا لم تتلم.
ـ4ـ
كان المعرض قد انتقل إلى أسفل العمارة الجديدة فى شارع جامعة الدول العربية. العمارة أتمها أمين عبد الحكيم حديثا، وقد خصصها لشركاته المتعددة التى قفزت فجأة فى المدة الأخيرة دون تخطيط مسبق، وعلى الرغم من أن بداية دروس الأولاد قد تأجلت لتبدأ فى الإجازة، وأيضا حتى يتم التوفيق بين مواعيدها ومواعيد التزاماتهم الأخرى، فإن جلالا قرر أن يتحجج بأية حجة ليشاهد على الطبيعة بعض ما بلغه، أو ربما ليتأكد من بعض التفاصيل، ليس يدرى ما الدافع الحقيقى لكل ذلك.
لم يدعه السكرتير ينتظر طويلا برغم كثرة انشغاله. فيه الخير.
ـ مبروك، لا تؤاخذنى، لم أبارك من قبل، لم تكن ثمة فرصة.
ـ الله يبارك فيك، فعلا الانشغالات تضاعفت مائة مرة.
لم يتغير شئ فى منظر أمين عبد الحيكم، لم يزد وزنه، ولم يبرز كرشه، ولم يفقد ابتسامته، ولم يقل تحضره، مازال جلال يتصور أن الثراء فى مصر يتطلب كل هذه التغيرات، وأن الأثرياء لابد أن يكون منظرهم مثل المعلمين. مازال يذكر مقالا ليوسف إدريس ينبه فيه إلى أن أثرياء مصر لا يعملون شيئا بثرائهم إلا أن يزيدوا من تعاطى كميات الويسكى والكباب، هل هذا صحيح؟. ها هو أمين عبد الحكيم يتعملق ثراء، ولا يتغير رشاقة ودماثة وطيبة، كيف ذلك؟. لا يعرف.
ـ خيرا يا أستاذ جلال أنت تأمر، أى خدمة؟.
مرة أخرى، مثل موقفه فى صيدلية المحبة، لابد أن يبحث بسرعة عن سبب مناسب لمجيئه، يستحيل أن يذكر السبب الحقيقى، وإن كان بوده أن يفعل.
ـ لا أبدا، جئت أبارك أولا، وأسأل عن الأولاد بالمرة؛ لأن الإجازة قربت، ويستحسن أن أعرف إن كان الاتفاق مازال قائما.
ـ آه. طبعا.. طبعا، قائم.. قائم.. ثم.. أظن… أعرف أنك على اتصال بأمهم باستمرار.
ـ آه. فعلا. ليس باستمرار، ولكن الاتصال قائم. فقط أحببت أن أطمئن منك مباشرة، فأنت صاحب الرأى أولا وأخيرا.
قالها جلال وهو يكذب؛ إذ هو يعرف الرد مسبقا.
بصراحة ومباشرة، قال له أمين إنه يعرف حدوده، وإنه ليس صاحب الرأى فى شؤون الأولاد، وإنه لا ينشغل إلا بعمله، وإنه أصبح مديونا للبنوك بالشئ الفلانى، وإنه لا بد أن يسدد هذا الدين، وأن البركة فيهم.
ـ فى من؟.
ـ فى أمهم، وفيك يا أخى، ألم نصبح أصدقاء؟.
أصدقاء هكذا، خبط لصق، خير وبركة يا عم أمين.
أضاف أمين: إنه يعلم بأخباره وأخبار مشروعه من أم الأولاد، ومن منال أحيانا ، وأن فاتيما حكت له عن عشاء المطعم الصينى، وعن زيارة مزرعة الصديق الذى لا يذكر اسمه، وأنها عادت بعد زيارة جرزة ـ أليس هذا هو اسمها ـ ؟. وهى منبهرة جدا بصديقه هذا وبتجربته، وأنها ظلت تحكى عنه عدة أيام، ثم كيف أنها تذكره بين الحين والحين، بإعجاب آمل.
ـ تحكى عن من؟.
ـ عن صديقك، هذا الذى يريد أن يغسل مخ أولاده من الأمـركـة، ليس كذلك تماما، ربما أسأت التعبير، لقد تصورت أنه لو انتشرت هذه الفكرة، فيمكن أن تكون بداية لعمل محطات غسيل مخ، مثل محطات غسيل السيارات. الله يرحم والدى، كان عليه أن يكتب “خيبته الذاتية” بالتفصيل؛ حتى لا يقع أمثال صديقك هذا فى مثل هذا الهبل.
لم يجد جلال فى نفسه رغبة فى أن يناقش اعتراضات أمين، ولا أن ينبهه إلى وجه الشبه بين زوجته، وصديقه محمود، بل بينهما وبين ما سمعه عن المرحوم والده الدكتور، ثم إنه كان حريصا أكثر ـ بعد ما سمع ـ أن يعرف ا المزيد عن رأى فاتيما نحو محمود، فأعاد السؤال عن ذلك بشكل ملتو.
أكمل أمين استجابة لما استدرجه إليه جلال:
ـ تقول فاتيما إن صاحبك هذا رائع، وإن كانت قد استعملت تعبيرا غريبا، أظن قالت: “مجنون رائع”، أو “رائع مجنون” شئ كهذا.
ـ فعلا!.
ـ فعلا ماذا؟. مجنون أم رائع؟.
لم يكن أمين ينتظر ردا، والتقط جلال حركة الكرسى المتحرك إيذانا بالانصراف، فبادر بالاستئذان، واستغرب أن أمين عبد الحكيم ـ مع انشغاله ـ قام بنفسه يوصله إلى الباب.
يفاجئه هذا الرجل بكل هذه الرقة، من هو حتى يحتفى به هذا الذى على وشك أن يصبح مليارديرا، وهو فى نفس الوقت يزعم أنه صديقه دون مبرر؟. يريد أن يفهم، يوما سيفهم. انتبه إلى أمين وهو يضع يده على كتفه قرب الباب، ويقول:
ـ آه تذكرت.
وقبل أن يتكلم راح يضحك من جديد.
اضطر جلال أن يبتسم دون أن يفهم شيئا، وانتظر، وفعلا أكمل أمين:
ـ هل تذكر صاحبتنا الدكتورة التى أنقذتنى من أبى رحمة الله عليه؟.
ـ … أذكر طبعا. حكاية لا تنسى.
ـ كنت تسأل إن كانت قد تزوجت أم لا؟.
ـ ياه، مازلت تذكر أنت؟. كنت أمزح.
ـ تمزح، أو لا تمزح، قلت أخبرك بمجريات الأمور، إنها معنا فى الشركة الجديدة، ليست شريكة، لكنها معنا والسلام.
قال جلال مقاطعا، وإن كان ندم وحاول التراجع فجاء التراجع متأخرا، بعد أن قال:
ـ عرفت.
تعجب أمين.
ـ عرفت؟. من أين؟. هل تعرفها؟.
شرح له جلال تلك الظروف المعقدة التى أحيت التاريخ القديم لمعرفته بالأستاذ غالى جوهر، الذى ظهر أنه خال الدكتورة مادلين، وكيف أنه زاره مؤخرا لأسباب أيديولوجية.
ـ لأسباب ماذا يا أستاذ جلال؟.
استعبط جلال، فأكمل أمين عبد الحكيم وكأنهما ليسا واقفين قرب الباب، أكمل بإيجاز شديد، فأشار إلى ظروف إنشاء الشركة الجديدة، وتكلم عن حميمية العلاقة بين غالى جوهر والدكتورة إصلاح، وذكـر جلالا مرة ثانية بسؤاله عن زواج الدكتورة وهو يودعه على السلم بعد أول زيارة، وضحك ثانية وهو يقول لنفسه: “كل شئ جائز”!!.
لم يصدق جلال، ولم يكذب، فلا هو يعرف الدكتورة إصلاح هذه، ولا هو مهتم بها، ثم إن الأستاذ مسيحى، ومتزوج، وليس له إلا واحدة. ثم إن اسم إصلاح فاضل لا يدل على ديانتها. عاد جلال يشطح بلا روابط.
أوقف جلال نفسه فجأة بقوة غير ظاهره، وسلم، واعتذر، وانصرف مسرعا، وإن التفت وراءه عدة مرات وكأن أحدا يتبعه.
ـ5ـ
”طيب،… وبهية؟”.
”ما لها بهية؟”.
وجد نفسه وهو ينصرف يردد من جديد فى حزن عميق:
” الله يرحمك يا عبد المعطى يا ابن بهانة”.
* * *
الفصل الثانى عشر
العصلة
حين انقطعت قطعة الحبل المتهالكة التى كانت تربط فردة المجداف اليمنى من قرب منتصفه، طار المجداف من موقعه وكان أنور ابراهيم مازال يمسك به، فاندفع بظهره فجأة إلى الخلف، ولولا أن سندته يد خفية لكان الأمر تطور إلى ما لا يمكن إصلاحه. تشبث أنور أكثر بالمجداف لكن مسمارا قديما-بلا رأس- شكه فى بطن يده، فقذف بالمجداف بعيدا واستطاع أن يستعيد توازنه.
طفا المجداف الطائر فوق الماء وبدا قريبا، وكأنه من الممكن الامساك به لمعاودة السير نحو الشاطئ. تحمس أنور وراح يجدف بالفردة الباقية، فراح القارب يلف حول نفسه والمجداف الطافى لا يقترب ولا يبتعد.
-1-
جميل لبس البدو على الصغيرات السمراوات، الفتاة الأولى حول التاسعة، والثانية كذلك، تشبهان بعضهما البعض، أختان؟. الله أعلم. وراءهما بمسافة متوسطة فتاة أصغر فى السادسة مثلا، تتقدم الأولى، أو لعلها الثانية، تعرض عليه أساور وعقودا من خرز، تمسك مجموعة بيدها وتشير إلى مجموعة أخرى فى كيس تدلى من كتفها. التقاطيع رائعة، لكن الصحة ليست صحة طفلية طازجة، الابتسامة وديعة وسلسة. تتكلم البنت (الأولى أو الثانية) بلغة لا يفهمها، لكنه سرعان ما ينتبه إلى أنها عبرية (فى الأغلب)، يستعبط ويرد عليها بالإنجليزية بأنه لا يريد الآن، فترد عليه بالإنجليزية: إنها سوف تعود مرة ثانية، لم يكن يتصور أنها ستفهم وترد.
كيف ينشأ الأطفال هنا؟. كيف يتكون وعيهم؟. لابد أن اختلاطهم بهذه الأجناس المتعددة، واستعمالهم هذه اللغات الكثيرة سوف يجعلهم أكثر سماحة، أقل تعصبا، لابد أن يضع فى اعتبار مشروعه التربوى (فوت هذه) أن يزورالأطفال الذين سوف يعلمهم اللغات ليعيد تنظيم أدمغتهم، أن يزوروا هذه المناطق ليتعرى وعيهم أمام هذا التنوع البشرى الخلاق. استحضر جمهوره من كل أنحاء العالم ليعلن على الملأ أنه:
”إن من ينشأ، هنا لا يمكن أن ينشأ متعصبا”.
كان يخطب فى جمهوره كله؛ فابتسم الجميع. بعض الابتسامات فقط هى التى أمكنها أن تخفى ما وراءها من سخرية. ما علاقة هؤلاء الأطفال بذويهم المشغولين عنهم طول الوقت بهؤلاء الأغراب من كل فج عميق. هل هم أغراب حقا؟. المصريون هم الأغراب هنا يا رجل.
ماذا لو عملوا استفتاء هنا فى العصلة لتقرير مصيرها؟ هى ليست العصلة تماما، هم ينطقونها العسلة وليس العصلة. وسواء كانت العسلة أو العصلة، فلا بد أن تأخذ حذرك وأنت تركب فى صندوق العربة “الربع نقل”، وتقول له: “المصبط”، وإلا ذهب بك إلى قرية العصلة، التى ليست هى هذا المكان الجاهز لإعلان استقلاله، ليس فقط عن جمهورية مصر العربية، ولكن عن محافظة جنوب سيناء، وعن شرم الشيخ بالتحديد، وعن أمريكا بوجه خاص.
صاحب المكان الذى يجلس فيه يجدده بشكل مستفز، ربنا يستر، كلما رجع إلى “دهب” وضع يده على قلبه، خشية ألا يجد المكان، أى مكان، كما اعتاده. أحيانا يضبط نفسه وهو يدعو على أصحاب الكافتريات بالرزق المتوسط حتى لا يجددوا كافترياتهم جدا، فيشوهونها جدا. هو يفضل ألا يذهب إلى كافتريا صديقه الشاب أنور إبراهيم، على الرغم من أن أنور يحاسبه مثل الأغراب، الصداقة شئ، والحساب شئ، ثم إنه يصادق -أيضا- هؤلاء الشباب الذين يخدمونه فى المطعم الطليانى، هكذا يزعم صاحبه الذى على جبهته زبيبة الصلاة، وهو يكلم بناته بالإنجليزية أحيانا، بل كثيرا. زوجته نيوزيلندية وهو رجل طموح فى منتصف العمر، وربنا فاتحها عليه، ومتسامح، هكذا يبدو. متى وكيف عمل هذا الرجل كل هذه التوليفة؟.
للمكان قوانينه الخاصة.
كان القادم هذه المرة صبيا حول الثامنة، عرض ـ أيضا ـ عقودا مجدولة باليد، وكذا حلقات مصنوعة محليا، يمكن أن تستخدم للمفاتيح، بدأ بالرطان بهذه اللغة التى هى عبرية فى الأغلب، فى “الدش” يبدأ العد بالمحطات الإسرائيلية، وفى المصبط (العسلة) يبدأ التخاطب بالعبرية، ما الحكاية؟. الله يخرب بيوتهم. المهم لم يجد فى نفسه رغبة هذه المرة فى الاستعباط.
ـ صباح الخير يا حبيبى.
فهم الصبى دون دهشة.
ـ ماذا؟. أنت مصرى؟.
تجنب أن يسأل الصبى بدوره: وأنت؟. لم يسأله وداعبه قائلا :
ـ كما ترى.
لم يواصل الصبى عرض أشيائه؛ إذ يبدو أن المصريين ليسوا من زبائنه الواعدين، أو على الأقل ليسوا من زبائنه المريحين. كرر الصبى السؤال فأكد له جلال أنه مصرى ابن مصرى. قبل أن ينصرف الصبى بنصف ابتسامة، ونصف استهانة، التفت إلى الزجاجة والكوب الموضوعين على المائدة، وقال دون اشمئزاز:
ـ فلم تشرب هذا؟.
لا…، لم يتوقع جلال هذا السؤال بالذات، هكذا بالذات، هنا بالذات، من هذا الصبى بالذات، بعد كل هذه الخطبة العصماء التى خطبها لنفسه وفى جمهوره الخفى. كان يتصور أن الانفتاح والسماح اللذين يفرضهما الجو والتنوع فى هذا المكان سوف يجعل مثل هذه الأسئلة لا ترد أصلا على وعى مثل هذا الصبى الذى نشأ هنا وسط ممثلى الدنيا الواسعة هكذا. مالذى جعل هذا الاعتراض الحـكمى على هذا المشروب الشائع هنا كالماء يصدر من هذا الصبى؟ رد على تساؤل الصبى:
ـ وفيها ماذا؟.
ـ ….، مسلم أنت، ولا كافر.
قبل أن يتمعن فى السؤال وجد أن الأسلم هو أن يختصر الطريق، أجاب الصبى بهدوء باسم حذر؛ ربما ليختبر الصبى ويستدرجه، وربما لينهى الموقف المحرج:
ـ كافر.
انصرف الصبى دون اعتراض أو امتعاض.
تذكر مرة أخرى ما خطر بباله حتى صدقه حين رأى البدويات الصغيرات، وهن يتكلمن العبرية فالإنجليزية، فما لا يدرى من لغات، كان قد وصل إلى استنتاج خائب يقول: “إن من ينشأ هنا، لا يمكن أن ينشأ متعصبا”. جره هذا الصبى إلى الناحية الأخرى بتساؤله، من الذى علم هذا الطفل هذا التصنيف الحاسم: “مسلم – كافر” هكذا؟. أيهما يصدق؟. شطحه الأول، وهو يسقط آماله على الطفلات الثلاث أم موقف هذا الصبى هكذا؟ ربما لأن أهل المنطقة يشعرون أنهم ينتمون إلى الثقافة الأضعف، يبالغون فى محاولة حماية أطفالهم من هذه الإغارة الخوجاتية بتعميق التعصب، مثلما فعل اليهود الأقليات مع أطفالهم أربعين قرنا؛ حتى تجمعوا من جديد على حساب أصحاب الأرض، لا.. ليس الأمر كذلك، إذن ماذا؟.
هو يضبط نفسه عادة متلبسا بمثل هذا التمادى فى اتجاه ما، ثم يفاجأ بما ينبهه إلى غلوائه، وها هو صبى بدوى يقرصه من أذنه ويقول له: بطل تأويلا وتعميما. صحيح أن الصبى لم يعترض على زعم اعترافه أنه كافر، وبالتالى فهذا الصبى لا يصح التمادى فى اتهامه وأهله بالتعصب، ثم يا أخى ربما كان مجرد سؤال، ثم ماذا يمكن أن يقصد هذا الصبى بالذات بكلمة “كافر”؟. هو مجرد تصنيف لا تكفير. إن وجه الصبى لم يرفض، ولم يغضب، ولم يحتج لما سمع إجابته.
ود لو يلحق بالصبى ليسأله ماذا يعنى بالكلمة ؟.
وماذاتعنى نفس الكلمة عنده هو؟ ياه !!!
عادت إحدى البنات الثلاث، ربما الوسطى، التى هى فى سن الكبري! عادت وهى مازالت تبتسم، وتعيد عرض مجموعة أخرى، وهى تكاد تجزم أنه لن يشترى منها شيئا. يلتقط هو خاطرها فيقرر أن يفسده بأن يشترى منها عقدا من الخرز الجميل المختلفة ألوانه. وجه الطفلة يؤكد له أنه لم يكن مخطئا فيما خطر بباله باكرا عن نفى التعصب. إنه يحضر إلى هذا المكان ـ وبرغم ما قاله الصبى ـ ليتزود بجرعة من ترياق ضد التقوقع فالعزلة فإصدار الأحكام على الآخرين من بعيد.
بمجرد أن يحضر هنا يقفز إلى مقدمة جهاز إدراكه الجزء الخاص بالقدرة على “التمتع بالتنوع”، (يا اللغة الجديدة!!) من أول تنوع الخرز حتى تنوع السمك المختلف ألوانه، حتى تنويعات الزلط، أشكالا وأحجاما، مارا بالأجناس واللغات واللهجات والملابس. هذا الجهاز الخاص بالتقاط كل تشكيلات التنوع معا، هو من أهم ما يجعله ينفتح على نفسه: فيقترب منه، نعم؟. ماذا فيها هذه؟. نعم.. هو يسبح الله حتى لو كان كافرا بلغة الصبى. إنه فى القاهرة قد وظـف الطبق التليفزيونى ليقوم له بهذه المهمة، وقد أداها الطبق بكفاية إلكترونية محدودة، هناك أمام التليفزيون لا يستطيع أن يأتى له الطبق بلغتين معا. ولا بجنسين معا، أما هنا فهو يجلس وسط هذا التنوع البشرى، ليتجدد بعد أن يكون قد مر بالتحضير التمهيدى وسط التنوع الطبيعى الممتد، طول الطريق، خلال ساعات طويلة، هو لا يكف عن تحدى أن يجد جبلا مثل الآخر، أو حجرا مثل الآخر، أو نخلة مثل الأخرى. هنا أيضا: لا توجد سمكة مثل الأخرى، ولا حصوة مثل الأخرى، بل ولا موجة مثل الأخرى. لم يتعجب كيف كان يحاول أن يرصد حتى اختلاف الموجات عن بعضها، كل موجة على حدة، ليست مثل الأخرى، يراهن.
اشترى العقد، ولم يساوم فى ثمنه، فانصرفت البنت وهى لاتكاد تصدق.
هؤلاء الإسرائيليون، إسرائيليو دهب، يقصد إسرائيليى العصلة، يعنى إسرائيليى المصبط، هل هم إسرائيليو إسرائيل؟. هو لايستطيع أن يكرههم، فهل استدرجوه ـ هكذا ـ إلى التطبيع؟. هل سمحوا لهم بالحضور هنا دون تأشيرات وبالمئات هكذا، أو بالألوف، ليمرروا التطبيع إلى وعى ناسنا دون أن ندرى؟.
هؤلاء الناس الإسرائيليون عملوا عملة من أغرب ما يمكن، عملوا دولة مشكلة من كل جنس، ومن كل لون، ومن كل لغة ثم، قال ماذا؟. يجمعهم دين واحد، وهل يوجد دين واحد ـ أيا كان هذا الدين ـ يمكنه أن يجمع كل هذا الخليط؟. التناقض فى قيام هذه الدولة يزعجه جدا، هو لا يترك نفسه أبدا يستسلم لما يسمى التفكير التآمرى. هو يحترم جدا إنجازات أولاد الكلب هؤلاء، وخاصة فيما يسمونه ديمقراطية، ديمقراطيتهم ليست ديمقراطية بصحيح ولو حتى كانت مقصورة عليهم، إنها تبهره من بعيد، ماشى، ربما؛ لأنه محروم جدا من مثل ذلك. هذا التنوع فى التكوين العرقى كان المفروض أن يجعلهم أقل تعصبا وأكثر إنسانية، فلماذا ظلوا أولاد كلب هكذا؟. لا يقصد هؤلاء الجلوس حوله، ولكن أولئك الذين يوقعون فى شرم الشيخ مذكرة المذكرة التى سوف يمكن أن تكون تمهيدا لمذكرة احتمال تطبيق مذكرة مزرعة الواى يا كلاب (لم تكن خريطة الطريق قد ظهرت بعد!). لا ليس هؤلاء هم أولئك، حتى لو كانوا يحملون ذات الجنسية. هو يجزم أنه سمع طقطقة عظام ذلك الرئيس الشيخ الكهل أثناء محاولة الضغط عليه لتوقيع الاتفاقية، لا بد أنه تم لى ذراعه حتى الكسر، وأنه لم يعد يحس بالألم؛ فوقع وشفته ترتعش، فسمع جلال الطرقعة. هل وقع أم امتنع فى آخر لحظة؟. امتنع، أو لعله عجز عن التوقيع بسبب ما كسر من عظامه. أحسن؟ لا أعرف .
لماذا نشأت إسرائيل أصلا، والعالم فى سبيله إلى توحد كما يقولون؟. كيف نصفق، أو يجعلونا نصفق للنظام العالمى الجديد الذى يزعم أنه يهدف إلى توحيد العالم، ثم يبنون دولة ناتئة ناشزة على أساس النظام العهدى الأسطورى القديم؟.
نظر حوله وحاول أن يصنف وجوه الثلة الشقراء التى تتحوط مائدة أرضية مستديرة (طبلية) بالقرب منه. راح يسترق السمع لحواراتهم، ويحاول تصنيفهم. نادرا ما تجد إسرائيليين يتكلمون فيما بينهم بلغة وطنهم الأصلى الذى نزحوا منه، هم لا يتكلمون مع بعضهم إلا بالعبرية. المصريون لم تعد لهم لغة، كيف يتصور هو أن اللغة العربية هى بداية طريقنا نحونا ونحوه، فى الوقت الذى يجرى فيه كل هذا التنازل والتشويه بالجملة؟. العرب تنازلوا عن كل شئ حتى عن لغتهم العربية. طيب. نطالبهم بالرجوع إلى حدود 4 يونيو 67، هل نستطيع نحن- أيضا- أن نرجع إلى حدود 67 حتى فى اللغة، هل يمكن أن يبنى نظام أدمغة أطفال بتنمية لغتهم، فى حين أن أهلـهم قد تنازلوا عن لغتهم، هويتهم،… من أقصاها إلى أقصاها؟.
المهم. وجد نفسه مرة أخرى يصنف الجميلات والتقاطيع بتصنيفات دينية عرقية: هذا جمال مسلم، تذكر بهية، وهذا أنف يهودى، وهذا عود فارع ألمانى، وهذا غنج طليانى، وهذه فحولة نيجيرية، أى كلام….
خطر بباله أيضا أن يكون العالم ليس إلا إسرائيل الكبرى جدا. إسرائيل هى النموذج المصغر (الماكيت) الذى يجربونه ليطبقوه على المستوى الأوسع بطول الدنيا وعرضها، هذا تفسير أفضل، فيه إعلان خيبة، وتسليم نهائى بأن الانقراض حتمى لهذا الجنس الذى خاصم الطبيعة ثم خاصم نفسه. الغالب والمغلوب يسهمان فى تسارع الكارثة بالتساوى. إسرائيل هى النظام العالمى المصغر!!! تمثيلا للنظام العالمى المنقرض، توجها للنظام العدمى المجيد. إنذارا بالانقراض البشرى الغبى.
”إذن ماذا يا أبا الجل؟”.
” الحكاية كبرت على جدا”
”هارب طول الوقت”
”حقى”
”طيب بطل حكاية الانقراض هذه واعمل أبسط علاقة إن كنت شاطرا”
” وأترك الجنس البشرى لمن؟”
”لسيدنا سليمان.
”تانى ؟!”.
أين أنت يا محمود تشاركنى فى حل هذا الإشكال، و أنت يا فاتيما، ويا بسمة، لم يذكر لا ثريا، ولا ممدوح، ولا الرئيس حسنى مبارك، ولا جلالة الملك عبد الله الثانى، ولا جلالة سيدى محمد السادس، خلهم هؤلاء فى انشغالاتهم. خاف أن يذكر منال خشية أن تأخذ المسألة جد وتحضر.
حين يجد هو ومحمود وفاتيما وبسمة الإجابة الشافية سوف يبلغها لكل الملوك والرؤساء العرب، بل لكل ملوك ورؤساء العالم، لكن كيف يبلغها سوروس وهو لا يستدل على عنوانه. لا يمكن مقاضاة أحد عبر القارات حتى لو تسبب فى انقراض الجنس البشرى. لا مفر من إبلاغها للناس جميعا من وراء رؤسائهم.
”إبلاغ ماذا؟”
”لا أعرف”
”طيب”
لماذا يحضر كل هؤلاء الإسرائيليون برائحتهم هذه (ليس كلهم لهم ذات الرائحة)، وبخلقاتهم هذه؟. وبصنادلهم هذه؟. لماذا يحضرون سائحين فى دهب، مع أنهم يقولون إن إسرائيل أصبحت بنظافتها ورفاهيتها من أجمل وأنظف بلاد العالم؟!!.
ـ هنا أرخص مائة مرة.
هكذا رد “فرج” على تساؤله.
ـ يعنى يأتون ليوفروا؟.
ـ طبعا، وهم يجدوننا ـ أيضا ـ أطيب، وهم يحبوننا، يستريحون لنا أكثر.
ـ ماذا تقول يا فرج؟. إيش عرفك؟. هل هؤلاء ناس يعرفون كيف يحبون من أصله؟. هؤلاء ناس أصحاب مصالح لا يهمهم إلا متعتهم.
ـ .. يأخذون مصلحتهم ومتعتهم، ونأخذ نحن حظنا و مصلحتنا، والذى يحب أكثر، ويصبر أكثر؛ يكسب أكثر.
ـ إنهم طردونا يا فرج، وما زالوا يطردوننا، يقتلون أطفالنا، يهدمون بيوتنا ونحن فيها، أنا لا ألومك يا فرج، قل ما شئت: أكل عيش مثلا، كل عيشا كما تشاء، حلال عليك وعليهم، ولكن هؤلاء اليهود شوهوا خلقة ربنا، وشوهوا اليهود.
ـ ما أنا عارف، ولكن ليس كلهم مثل بعضهم، أنا لى أصدقاء كثيرون منهم، أصدقاء فعلا، لا زبائن فحسب.
ـ والله العظيم عارف، ولكن..
ـ طبعا ولكن.. وستون لكن أيضا.
قال فرج هذا والتفت إلى صوت يناديه، كان قد أجر جزءا من مخيمه إلى مجموعة من الألمان جعلوه ناديا للغطس، وكان عليه أن يلبى طلباتهم بحفاوة خاصة.
حينما يحضر جلال إلى هنا يتغير وعيه دون استئذان، يحتد إدراكه، يستطيع أن يفرح بكل الناس، يفرح بكثرتهم، يتعمق تنوعهم، لكن لكل هذا آثاره الجانبية ومضاعفاته؛ فهو إذ يذوب هكذا فى إحاطة الطبيعة ومباشرتها، وفى أصناف البشر وأجناسهم، يشعر أن دوره الفردى فى تغيير أى شئ يتضاءل، يتضاءل حتى يمحى، فيضطر إلى أن يتنازل عن طموحاته الكوكبية، ويكاد ييأس من أى جهد فردى، أو حتى وطنى أو قومى.
يقول فرج إن هؤلاء الناس الإسرائيليين القادمين إلى دهب، هم ناس مثل حالاتنا، على قدر حالهم، جلال يعلم ذلك، ويعرف أنه لا يأتنس إلا بهذه الطبقة التى يمكن أن يتعرف على نبض الكون من خلال اقترابه من تنوعها، كل أهل الخمسة نجوم لهم دينهم النجمى المستقل. هم ينتمون إلى دين واحد يبدأ بالمائدة المفتوحة (البوفيه) وينتهى فى صالات الملهى الليلى، أو حول مائدة الورق، مارين بحمامات الشمس لاكتساب اللون البرونزى، ولا مانع أن تجد عجوزا يستشفى أو طفلا يتأرجح هنا أو هناك. أما ناس العصلة، فالتمدد على الأرض، و السروال القصير (أو الطويل) الممزق، أو المرقع، والعقال المفكوك، ورائحة العرق المختلط بالجنس بالمخدر، أو برائحة البحر المنعشة القادمة معهم من أعماق الغطس، عصلة حاجة ثانية. الأقلية المصرية لا تكثر فتغيــر طبيعة العصلة الكوكبية إلا فى الأعياد وإجازة نصف العام.
هو لا يدرى، ولا يريد أن يفكر. هو لم يحضر هنا ليفكر، ولكن ليرى، ليشاهد، لماذا أسموها شهادة ألا إله إلا الله؟ لماذا لم يقولوا اعتقد أنه لا إله إلا الله.
يبدو أن المطلوب هو أن نشهد ذلك لا أن نعتقده.
الشهادة غير الاعتقاد، غير التفكير، الشهادة شئ آخر. ما هو هذا الشئ الآخر؟
لم يعد يستطيع أن يؤجل. أصبحت هذه القضية أكثر إلحاحا منذ حكت له ثريا عن خبرة محمود فى البوسنة، كانت تتحدث مجازا، أو بالتقريب، لكنه أخذها واقعا جادا تماما. الشهور الأخيرة كانت تجرجره سرا إلى إعادة فتح ملفات هذه القضية التى أغلقوها دونه من زمان: أغلقها والده قبل أن يولد بالنفى والإنكار الذى ملأ بهما كراساته. تبين جلال من بعضها كيف أحاط أبوه نفسه بمظلة مصنوعة من رقائق غير قابلة للاختراق من أى جانب. هو ماله هو؟ هل يمكن أن يصنع الدرع الواقى من الإيمان من صفائح السموم المعقلنة؟ ماذا لو أنشأه والده هذا وليس عمه سليمان؟ كان سيصير إما نسخة منه، وإما قاتلا جماعاتيا أشد قسوة من كل من سمع عنهم. يا خبر! لا فرق. ربنا ستر. أحاطه عمه بعباءته الدافئة وترتيله المتسحب، فلان وعيه، وتفتحت مسامه دون أن يدرى تفتحت على ماذا ولا إلى أين.
لم يستطع التسليم ،ولا هوعدل عن المحاولة.
التقطه المعقلنون الخائفون ليلقنوه الدرس بالمعكوس، ألقوا إليه بشباك الإنقاذ اللفظية الممنطقة، فحلت محل النبض الحى، لكن يبدو أن هذا النبض كان قد استقر فى أعماقه ولم يهمد. ثم إنه تصور أنه يمكن أن يتخلص من هذا وذاك مع ثلة الطلبة الذين سموا بعد ذلك بالسبعينيين. نحوا كل ذلك جانبا ليهتموا بقضايا الوطن العاجلة، فارتاح، أو خيل إليه أنه ارتاح. ثم تبين الخدعة مثل أغلب الآخرين.
حين تراجع الجميع، صدقا أو استرزاقا، وجد نفسه عاريا من جديد. ثم ها هو يفاجأ بفتح الملف دون استئذان من كل ناحية : ابن استاذه الرائد التقدمى ذهب يترهبن فى الصحراء الغربية، وشقيق زوجته راح يبحث عنه فى جرزة، وأهل أستاذه يستعيدونه تعصبا ووقاحة فى كندا، وواحدة ألمانية على غير الملة تزعم أنها لم تغير دينها، وتلبس الحجاب، جاءت تبحث عنه هنا فى مصر، وربما لاح لها وهى فى حضنه، وهو كذلك.
مات عبد المعطى، مات أو فعلها، ليس هذا هو المهم، هو اختفى والسلام.
ينشط العدم ينفخ فى وجوده ماء الحياة ليواصل التحدى.
ليس تحديا تماما، هو بحث شديد.
جلال لم ير أبوه. لعله مات، ليس يدرى. أما موت أمه أو عمه سليمان فقد بدا له أمرا طبيعيا سلسا، لم يمض بين موت أمه وعمه سليمان شهران، وكأنهما كانا متواعدين، افتقدهما لكنه لم يتعرف على الموت من خلال اختفائهما كما تعرف عليه من خلال موت عبدالمعطى الذى لم يره سوى ثلاث أو أربع مرات. لماذا؟ لا يعرف.
ما دام الموت هو اليقين فلا مفر من أن نعيش حتى يأتى اليقين.
” لا يا شيخ؟!”.
”ليس هكذا، ليس إلى هذه الدرجة تسخف أى قرار بهذه الصورة”
”تضييع وقت والمصحف”.
”إيش عرفك أنت بالمصحف ؟”
”وإيش عرفك أنت؟”
”عمى”
”جاءك عمى أسود أكثر مما أنت فيه”.
”أنا لا أوافق على موت عبد المعطى”.
” هل كنت تنتظر أن يأخذوا رأيك قبل أن يقبضوا روحه؟”
”ولا على قتل أطفال فلسطين، أو أى ظلم مظلوم ، أو أى بنى آدم؟”
”أصحابك لغوا حكم الإعدام”
”ربما اعتبروا الأحياء موتى، والقتل فى الميت حرام”
”شاطر”
”غصبا عنك”
ـ 2 ـ
منظر القوارب وألوان الشراعات الصغيرة ينتشر عبر الأفق فى تناثر غيرمنتظم، لكنه مقصود
ليواصل إعادة تشكيل شفق بشرى متحرك. كيف تعزف موسيقى الكون لحنها الخاص بهذه التنويعات البشرية الحاذقة على اللحن الأساسى؟ رياضة هذه أم ماذا؟. هو لا يعرف لها اسما بالعربية، هو يتابع المنظر الحى المتحرك، وكأنه يتجول بينهم، ممتدا إلى خط التقاء السماء بالبحر، محوطا بالجبل من كل جانب.
يقول له صاحب فندق “نسمة سينا” إنه تعاقد مع بعض نوادى هذه الرياضة طول العام، وهم يحضرون بانتظام من ألمانيا وسويسرا ليمارسوا هذه الرياضة يومين أو ثلاثة، ونادرا أسبوعا، ويسافرون بعدها من فورهم.
هل تستأهل المسألة؟. هل هذه رياضة؟. لابد أنها تستأهل. لم يجرؤ أصلا أن يتخيل أنه يمكن أن يحاولها، فضلا عن احتمال أن يتقنها، وحين يتقمص من يمارسها يكاد يسقط وهو جالس على المقعد الذى تمدد عليه، قطعة خشب بيضاوية بلا حواجز، متوازنه بالملى، وجميلة، وشراع صغير ملون. لابد أنه متين جدا، يتأمل المحاولات الأولى للقفز فوق الخشبة القارب، وقوع متكرر لازم، ثم نجاح فى عدل الشراع بكلتا اليدين فى مواجهة الهواء؛ حتى يصبح الخشب والقماش والهواء والموج والجسد البشرى، والوعى جميعا، فى اتساق متناسب، اتساق يسمح بالحركة المنسابة المطردة، فالانطلاق حتى الالتحام المتماوج مع كل “الماحول”، “المابعد”، “الما لاأدرى”. لغتنا، وربما اللغات الأخرى، ناقصة هذا التركيب النادر الاستعمال، “الما بعد”، هل هو “الغيب”.؟
”نعم هو”.
”كنت أعرف أنك ستوافقنى”.
”أنت عفريت صغير”
”كبرت ياعمى، ودخت السبع دوخات”.
”ولا يهمك”.
”ربنا يخليك لى”.
”حاضر”.
”.يرحمك فيما بعد، لكن يخليك لى الآن”.
”ربنا يفتح عليك”.
هو يعيد النظر ـ كعادته كلما حضر هنا ـ فيما آل إليه حال حوارنا مع الطبيعة، إن أول تلوث لحق بالبيئة هو نحن حين انفصلنا عن الطبيعة، ثم أهملنا الحوار معها. السبيل الوحيد للاستمرار هو التصالح، التصالح ليس استسلاما، ولا هو انتصار، التصالح يبدأ بالعثور على النغمة الصحيحة ثم يتنامى بتصعيد اللحن المشترك، ولا يتم إلا بالتقاط طول موجة البث الكونى بالفيمتوركعة، أو المينى تسبيحة، و”الميكروسجدة”.
عيب!.
”ولاعيب ولا حاجة”.
خلاص، ولا عيب ولا حاجة”.
هل هذه هى اللغة التى سيدرسها للأطفال الذين سوف يعدلون الكون”؟. لو سمعه أهلهم لأبلغوا مباحث أمن الدولة. عليك نور يا منال. هذا كلامك من البداية.
هؤلاء السابحين فى الهواء فوق الماء يحضرون من آخر الدنيا ليمضوا يوما أو يومين على هذا الشاطئ، يداعبهم الهواء المتماوج على سطح الموج المتهادى، فيمتزجون بهما بأن يشرعوا وعيهم فى حضن الكون. يمسك كل منهم بشراعه بحجم الشخص العادى أو أعلى قليلا ليصيرا واحدا قادرا على التصالح مع الطبيعة. ربما هم يعتذرون لها. يحتضن الواحد منهم قاربه ـ خشبتهـ، شراع قاربه، ليس قاربا لكنه الوصلة بين الجسد البشرى، والجسد الكونى، يحتضنه فى رفق حاذق، وهو يركب الموج الهادئ. يدفعه الهواء الحانى حتى لو اشتد، وهات يا انسياب، وهات يا رقص. وحين تشتد الريح، وتتسارع القوارب فى تناغم مع الموج والسحاب والبشر، فإنها تبدو تعيينا للحركة الثالثة من سيمفونية النبض الكونى، تتهادى فى تصعيد أكيد غير معلن.
يريد أن يوقف هذا الطوفان الذى لا يستطيع أن يلاحقه، كأنه يتكلم بلغة أخرى.
لماذا لم يعرف الطريق إلى الموسيقى الكلاسيكية طول عمره؟ لماذا لم يحاول أن يعرفها؟. لم يجتهد حتى يتعلم سماعها، ومع ذلك فهو يحذق الإنصات لموسيقى الكون كما هى هكذا هنا، وحيثما يذهب يحتضن البحر يلملمه حضن البحر، فيتفتح وعيه لصوت الكون كله دون تمييز.
هذا اللحن الطبيعى لا يمكن تصنيفه إلى كلاسيكى أو غير ذلك.
ود لو كان يقدر أن يشارك هؤلاء العازفين بالقوارب المشرعة (لا الشراعية) لحن الانسياب الممتد هذا، صلاة الغائب، صلاة القارب، لابد أن هذه العمرات السابحة فى الكون تكفر عن سيئات ذويهم الذين جعلوا الطبيعة عدوا مرة، ومقلبا لقمامتهم الذرية والبلاستيكية والرذاذية مرات. لو أن هؤلاء الذين يصلون هذه الصلاة مدوا وعيهم فى تواضع وخشوع، إذن لرأوه رأى العين.
لم يعد يحتمل أن تمتد طبقات وعيه أكثر. هو يخشى ألا يتجمع ثانية.
يخشى أن يتمادى … يتلاشى.
ـ 3 ـ
قال أنور إبراهيم لجلال وقد طال انتظاره:
ـ أهلا، قلت أنهى بعض ما بيدى لأجلس معك أطول، ما هى أخبار مصر؟.
ـ مصر أم القاهرة؟.
ـ مصر أم القاهرة! ماذا جرى لك يا جلال، تتكلم مثل الخواجات، بعض اليهود الذين اعتادوا ألا يتجاوزوا هذه المنطقة يتصورون أن القاهرة قطر آخر. عندهم حق، هم يحتاجون لتأشيرة إذا أرادوا الذهاب إلى هناك. هل أصبحت مثلهم؟ أسألك عن أخبار مصر، شبرا، شبرا ـ مصر، المطرية، سوق السلاح، يعجبك هذا؟.
ـ مصر، شبرا، المطرية، فم الخليج هى هى كما تركتها،لا شئ يتغير، ولا أحد كذلك.
ـ تصور يا جلال، كلما جئت هنا وفرحت، واشتغلت، وكسبت، أتصور أننى فى الإجازة القادمة سوف أجد مصر مختلفة.
ـ يا أنور، اسمح لى، تسأل عن القاهرة، وشبرا مصر، والمطرية، ولا تسأل أبدا عن أختك منال؟. أعرف ردك، لكننى كنت معها قريبا، وهى -أيضا- لم تطلب منى أن أبلغك سلامها، يعجبك هذا؟.
ـ كم مرة يا جلال فتحت هذا الموضوع ولم تجد جوابا لا عندى ولا عندها؟. أنا لن أجيب. لأننى لا أعرف إجابة، هذاهو كل ما فى الأمر.
ضحكا فى سماح متبادل.
العجيب أن جلالا منذ عرف كلا من أنور إبراهيم الطيب، ومنال إبراهيم الطيب، وهو يبحث عن وجه شبه فى الشكل أو فى الطباع أو فى الموقف بينهما، فلا يجد. هو لم يلح كثيرا فى معرفة أسباب طلاق أم منال قبل أن يتزوج والدها أم أنور، وإن كان قد استنتج رائحة شكوك وغيرة، وربما اتهام بالخيانة. كان ذلك فى بادئ الأمر لا يعنيه، ولا يجرؤ أن يسأل عنه. يسأل من؟. تدريجيا وجد نفسه يقارن بينهما بلا داع، راحت التساؤلات تعاوده: هل معقول ؟ لا بد أن منال بنت أمها أساسا، أو تماما؟.
مرة سألها مباشرة:
ـ قولى لى يا منال، هل تشبهين أمك كثيرا؟.
ـ أشبهها فى ماذا؟.
ـ فى الشكل طبعا.
ـ يقولون هذا، لم تسأل؟.
ـ أبدا.
لم يسأل؟ إنه فقط يتعجب من أن يجتمع أنور ومنال فى والد واحد، ثم إنه يكاد يذكر من بعيد بعض ما ورد عن والدهما هذا فى بعض كراسات أبيه، يبدو أن أباه غريب الأناضولى كان يشعر بمشاعر مختلطة نحو والدهما هذا. وصله أنه كان يحترمه، ويغضب منه، ويغار عليه، ويغار منه، ويثق فيه، ويرفض فكره، وينكر إيمانه. كيف بقى كل ذلك فى ذاكرة جلال، وهو لا يقرأ بعض تلك الكراسات إلا بالصدفة، بشكل غير منتظم؟. كانت الكراريس تقول إن إبراهيم الطيب هذا يزعم أنه نجح فى التصالح مع نفسه ، ومع ما بعده. وكلام من هذا. تيقن جلال أنه لو كان أبوه نجح فى إلحاده كما يزعم، لما كان هناك مبرر لكل هذه المعارك على الورق، وربما فى الحياة.!!!هل يمكن أن يكون جلال قد ورث عن أبيه هذا الميل الدائب للبحث عنه، ذلك البحث الذى انتهى بأبيه إلى ما انتهى إليه؟. هل البشر قد ورثوا حب الاستطلاع هذا عن أبيهم آدم تحت تأثير أمهم حواء؟.
سأل جلال أنور، وهو متردد:
ـ هل تحب اليهود؟.
فوجئ أنور بالسؤال حتى كاد يعزف عن الرد، لا حرجا، بل تعجبا.
ـ أنا أحب الناس.
ـ واليهود؟.
ـ أليسوا ناسا؟.
ـ آه صحيح!!
لم يرتح جلال لا لسؤاله الذى اعتبره غير مناسب، ولا لإجابة أنور التى اعتبرها صدا أو هربا، كاد يسأله إن كان يحب الله أم لا؟. ووجد نفسه سوف يبدو أكثر سخفا، ربما يكون الحل هو أن نحب الله قبل أن نعرفه.
”كيف”؟.
”استعباط”.
”لا تضحك على، أنت تتكلم جدا”.
”يئست من البحث عنه بآلة الفكر، قلت نجرب آلة أخرى”.
”الحب ليس له آلة”.
”أحيانا يكون الجنس خير تعبير عنه”.
”وأحيانا يكون أبشع تشويه له”.
”وما دخل ربنا فى ذلك”.
”وما ذا يخرجه من أى من ذلك”.
انتبه جلال إلى الصمت الذى ساد بينه وبين أنور، وتمنى ـ كالعادة ـ ألا يكون قد سمعه. لم يعلق أنور على سرحان جلال بسماح ، لكن جلال، استفزه فجأة سائلا:
ـ ومصر؟.
جلس أنور بعد أن كان قد هـم بالقيام، وبدا أنه يضبط بالكاد غضبا مكتوما،
ـ جلال، ماذا جرى لك اليوم؟. كأنك لا تعرفنى إلا اليوم، هل قطعت كل هذه المسافة لتحقق معى؟. هل جندوك للبحث عن جواسيس رفضوا الإحالة إلى المعاش بعد السلام المزعوم؟.
ـ تقول مزعوم؟.
ـ مزعوم ونصف.
ـ إذن فهم لم يضحكوا عليك، ويوهموك بضرورة التطبيع.
يريد أنور أن يقفل هذا الحديث القاهرى من فوره، لكنه وجد نفسه يواصل:
ـ جلال: هذه اللغة، هذه الأبجدية، هى قاهرية، مثقفية، مكتبية، لغوافندية. أنا عرفتك سنوات، ولم أرك هكذا أبدا.
ـ هكذا ماذا؟.
ـ لا أعرف.
ـ أنا أيضا لم أرنى هكذا أبدا، أشعر أننى أقرب كثيرا، أبسط كثيرا، حدث شئ ما حين فوجئت أننى بدأت العقد الخامس، حين تيقنت من عجزى عن عمل علاقة حميمة مستمرة. يبدو أن طلاقى كان من مقدمات هذا الذى حدث، منال أختك، أنت تعرف كم أحبها وأحترمها، ثم نمارس معا لعبة ممنوع الاقتراب، لا علاقة بدون لغة، ولغة البشر الكلامية، أصبحت عاجزة عن استيعاب وجودهم ووجدانهم، لهذا قررت أن أترك الصحافة لأتفرغ لتنقية اللغة بدءا…
قاطعه أنور:
ـ تنقية ماذا؟.
ـ اللغة.
ابتسم أنور وكأنه يعتذر، إما عن عدم فهمه، وإما عن تهجمه غير الأنيق.
هو يحب جلالا، ويحترم صدقه، ويسعد بصحبته. هو قد حكى له أسباب تركه الجامعة، كما حكى له عن بعض جوانب سماح والده إبراهيم الطيب الذى لم يثر على هذا الذى فعله أنور، ولم يتمسك بضرورة الشهادة الجامعية، ولم يبالغ فى النصائح والتحذير، فماذا حدث؟. جلال هو جلال، لكن أمرا خطيرا يشغله لم يستطع أنور أن يتبينه، أهى ضائقة مالية؟. أهى وحدة متزايدة؟.
قرر أنور فجأة أن يغادره متسامحا، عاذرا، صامتا، منتظرا.
قدر جلال ذلك وشكره دون أن ينبس بكلمة.
ـ4ـ
القمر ينساب فى أحضان الجبال المتقابلة، يمضى بضوئه من حضن إلى حضن، الضوء الفضى يغمر الوادى فى حركة مفعمة بحياء عذرى. عدد قليل من النخيل يقبع فى زاوية بعيدة؛ حيث اختار الماء أن يتجمع أحيانا، و عليك أن تسير أكثر من خمسين خطوة قبل أن تتبين أنه نخيل مختلف أطواله، يقف منك كأنه يحرسك من ريح المدينة، أن تفسد ما أنت فيه، يخترق وعيك بما هو حتى يعفيك من جفاف ذاكرتك اللحوح، فإذا عدت إلى مكانك الأول حول النار عاد معك، فرحت تسمع حفيف سعفه، وكأنه يهمس لك، وما كان ذلك كذلك قبل ذلك.
كان فرج يفك لفة الورق المفضض المحيطة بالأسماك التى أحضرها معه طازجة، وكأنها مازالت حية. انتزع جلال نفسه فجأة مما كان حوله، ونظر إلى السماء، فانطلقت من كل خلية من خلاياه، بل من كل أنوية خلاياه، دعوات غامضة لم يصدق أنها صادرة منه. لكنه تيقن من الاستجابة؛ فسر سرورا شديدا.
يأتى صوت غامض، لا هو عواء، ولا هو نباح.
قال له أنور إبراهيم وهو يتحوط النار: إنه صوت ضبع، فالتفت جلال إلى فرج يستوثق، فلم يؤيد فرج، ولم ينكر. أما عم عليان فقد مال بأذنه نحو الخيمة المتهالكة، واطمأن إلى ثبات عنزاته فى أماكنها، ثم قال وهو ينظر إلى وجه القمر، وكان جلال قد عرف منذ لحظات أن عم عليان أعمى:
ـ لا تخشوا شيئا، فأنتم ضيوفى.
تساءل جلال: كيف يميز الضبع بين ضيوف عم عليان الضرير، وبين الغرباء الغرباء؟. تساءل جلال -أيضا- فيما يخصه، إن كان قد حصل من ريح عم عليان على ما يتعرف به الضبع عليه شخصيا. تكرر الصوت وكأنه يقترب، ولم تتحرك العنزات. نظر كمال نعمان إلى وجه عم عليان، فوجده يعكس ضوء القمر وقد غمرته ذات الطمأنينة، فاطمأن بدوره، وإن كان ذلك لم يمنعه من أن يتلفت أحيانا، فكثيرا.
اقترح كمال نعمان أن يضيئوا ضوء السيارة، أو يطلقوا بوقها عدة مرات حتى يخيفوا الضبع، فضحك فرج فى سره، وغمز لعربى مساعده الصبى الشاب من الفيوم. اختفى الصوت فجأة، فتوارى القمر خلف سحابة رقيقة لم تذكره بحجاب فاتيما. ما كل سحابة حجابا، وما كل حجاب حاجزا.
كان أنور إبراهيم قد عرف جلالا على كمال نعمان، “عمى كمال”..، هكذا كان أنور يناديه، كما عرفه ـ أيضا ـ على مختار لطفى، “عمى مختار” أيضا، كانا ينزلان معا فى الفندق المجاور لكافتريا أنور كلما جاءا إلى دهب، وهما من أصدقاء والده القدامى، وقد أحضرا توصية منه لأنور فى أول زيارة، ثم صارت معرفة مباشرة دون حاجة إلى وسيط برغم فارق السن. فرح جلال بهذه المعرفة التى أخذ نصيبه منها مؤخرا. كان يتشوق شوقا شديدا إلى أن يقابل شخصا آخر من أفراد هذه الثلة العجيبة التى جاء ذكرها فى كراسات أبيه.
على الرغم من أنهما كانا قد تجاوزا الستين ـ على الأقل ـ إلا أنهما كانا يحتفظان بالقدرة على عدم التكرار. كمال نعمان يقضى أغلب يومه فى الصيد، وهو يقبل، بل يرحب أحيانا أن يصاحب جلال فى طلعاته وسهراته فى الوديان فى سيارة فرج “الربع نقل”، أما مختار لطفى فهو يفضل أن يقوم برحلاته الخاصة من الوضع جالسا فى شرفة الفندق الصغير، على مقعد يحركه الشراب المتنوع الذى يتجول من خلاله ليل نهار، فى كل اتجاه يقرره، وإلى أية مسافة، حسب نسبة الكحول، ونوعه، وجرعته، وسرعة تناوله. الاثنان ـ كمال نعمان، ومختار لطفى ـ لا يغطسان. وعلى الرغم من حضورهما معا عادة، فهما ليسا صديقين.
هذا ما قرره جلال وكأنه يصدر حكما قاطعا بعد دراسة حيثيات سرية.
منذ متى كان جلال يعترف بأن ثمة علاقة ممكنة بين أى أحد، وأى أحد؟
”يارب منال لا تكون قد سمعتك”.
”طيب وثريا”.
”ثريا مالها”؟ “مالها ثريا”؟!.
ـ5ـ
فى الليلة السابقة كانت ذات المجموعة قد اتجهت شمالا فى اتجاه منطقة “الثقب الأزرق”، كان ذلك فى جوف الليل أيضا، والقمر أقل سطوعا، أخذت العربة تتأرجح على الأرض غير المستوية فى أناة اضطرارية، وحين اخترقت الفجوة بين الجبل وبين الصخرة العملاقة المستقلة، أحس جلال أنهم عادوا إلى رحم الطبيعة، وتصور أن عليه أن يتعلم النطق من جديد من فور خروجه من هذا الرحم، أليس هذا هو مجموع مشروعه ومشروع محمود عبد السلام معا؟.
فى طريق العودة، كان الفتى “عربى” ـ القادم من الفيوم منذ سنوات، والذى لم يتعد السابعة عشرة، والذى يحذق العبرية أيضا- كان عربى هذا يقبع فى الصندوق الخلفى للسيارة، هو مساعد فرج، حين لاح ضوء بعيد نسبيا عن الشاطئ، انحرفت العربة إليه بناء على تعليمات فرج.
مجموعة من السائحين ـ ألمان فى الأغلب ـ هكذا أفتى عربى فأكد فرج، يستعدون للغطس بعد منتصف الليل. فهم يرتدون كامل ملابس الغطس. لم يتبين جلال نوع الشراب الذى أمامهم واستبعد أن يكون كحوليات، ما فائدة أن يتعاطوا الكحول، وهم على وشك الغطس الذى لابد أن يفعل بالوعى الأفاعيل؟. قال ذلك جلال لنفسه؟، وكأنه يعرف ما الغطس.
كان أنور إبراهيم قد فشل فى أن يغريه بأن يجرب الغطس، ولو مرة واحدة، وكان يؤكد له أنه لو جربه فلن يسلوه أبدا.
سأل جلال “عربى” عن سبب تسمية هذا الموقع “الثقب الأزرق”، فأفتى عن النفق المرجانى الذى على عمق كم من الأمتار، والذى يمتد بطول كذا، وكيف أنه لا يسع إلا شخصا واحدا، وأن نهايته تبدو ثقبا أزرق لا يكاد يصل الغاطس إليه حتى يخرج منه إلى عرض الخليج، ثم هو لا يعود من ذات النفق المرجانى، بل من حوله، وأن عددا ليس قليلا من الغاطسين قد ذهب ولم يعد، ومع ذلك فلا أحد ممن جاء خصيصا ليغامر باختراقه، يتراجع عما جاء من أجله، ولا أحد منهم بعد ذلك يخاف من تكرار المحاولة.
حكى فرج عن ذلك الألمانى المفقود من أربع سنوات، وعن زوجته التى تحضر كل عام، وهى مصرة على أنها ستلقاه هنا ولا أحد يدرى أين، ولا كيف ستلقاه بعد هذه السنين؟!. حاول جلال أن يتقمص الغاطسين المحيطين بالمائدة، يتسامرون فى خفوت يتفق مع ما يصل الجميع من همس البحر الذى بدا حزينا هذه الليلة، لا بد أن المسألة ليست مجرد مشاهدة جمال الشعب المرجانية، أو تنويعات تشكيلات الأسماك البديعة الألوان، هذه الثلة سوف تقوم بالغطس فى جوف الليل، يستعين أفرادها بالبطاريات، فهل تكفى البطاريات للإحاطة بكل جمال هذه الطبيعة فى عمق الخليج؟. إذن ماذا؟.
إيش عرفه هو؟.
عندما شاهد رياضة القوارب المشرعة إياها، وصله لحن البشر يتلاشون فى نغم الطبيعة، فى حضن السماء، فوق سطح الموج المهد. لكن هؤلاء الغاطسين الذين يختفون عن ناظريه على بعد عشرات الأمتار، ولا يتركون له إلا خيالا عاجزا، ما دوافعهم؟. وما هى متعتهم؟. هل البحر هو الرحم. وهم يجددون ولادتهم بإرادتهم؟.
هل يمكن أن يكون فعل الشهادة جاهزا حادا قادرا على اختراق حجب الغباء والعقل جميعا؟ هل هو يتجلى فى قاع القاع مثلما يتجلى فى عنان السماء؟. هل يمكن أن يكون التسبيح الجسدى لغة تنطلق بشفرتها الخاصة التى لا يمكن فك رموزها، إلا بعيدا عن سطح الأرض الذى امتلأ بالتلوث البشرى العابث؟.
فكر أن يتعلم الغطس حين أمل أن يجد فى هذه الرحلة عبر نفق الشعب المرجانية، حتى الخروج من الثقب الأزرق، ما يؤكد له بعض فروضه.
تراجع بسرعة. من يضمن له أى شئ؟.
ـ6ـ
أثناء العودة كانت المسافة قد اختزلت بين جميع أفراد المجموعة، وكان الصمت مناسبا ومساعدا على قفز الحواجز، لكن مزيدا من الاقتراب بدا مرعبا. الظلام، والصمت، والقمر، عـمـى عم عليان الكفيف الأكثر كشفا من أبصارهم الممسوحة، والضبع، والثقب الأزرق، ونفق الشعب المرجانية، ورحلات الذهاب والعودة.
إذن ماذا؟. ماذا “ماذا”؟. ماذا يقول كل هذا؟. وأين هذا كله منه إليه؟.
ـ وإيش أدخل ربنا فى هذه الخبرات والمشاعر؟.
قال ذلك أنور إبراهيم دون اعتراض، ودون تساؤل، لكن بدا وكأنه ينبه جلالا إلى ضرورة التخفيف من هذه الانشغالات الوسواسية التى لن توصل إلى شئ. هذا رأيه.
قال جلال:
ـ وإيش أخرجه منها؟.
صحيح، وإيش أخرجه منها؟.
طيب: وما فائدة أن نلصق صفة دينية أو إيمانية أو إلهية بأى جمال، وأى إبداع وأية هارمونية؟.
وماذا فى هذا؟.
هذا “ماذا”؟.
لم يكن حوارا بينه وبين أنور هذا الجزء الأخير.
كان بينه وبين نفسه كالعادة.
ـ7ـ
ـ عرفه أنور ـ بغير قصد ـ على من أسماه صديقه سمحون ليفى، وكان جالسا معه يضحك من قلبه. هذه ضحكة ليست يهودية، ولا هى غربية، ولا هى من أوروبا الشرقية، هى ضحكة مصرية قديمة، فلا بد أنه يهودى من أصل مصرى.
ـ أبدا.
ـ من أين إذن؟.
ـ من إسرائيل.
ـ أعرف، لكن أهلك، أصلك يعنى، أنت تجيد العربية أكثر منى.
أنا لا أتصور أن أى شخص يمكن أن يكون من إسرائيل، كل الناس عندكم ينتمون إلى موطنهم الأصلى، إسرائيل هذه موقع تجمع للانطلاق إلى الهلاك. لم يقل ذلك جلال، لكن سمحون هو الذى قال:
ـ أنا الذى أردت ذلك، أهلى خليط من الشرق والغرب. تصور يا جلال أننى لا أحب أن أتكلم عن أهلى، أنا هو الذى أمامك، فما لأهلى بهذا؟. ما لأهلك بما هو أنت الآن تحادثنى؟. هل أبوك يجلس معنا الآن؟.
فوجئ جلال بالسؤال، إيش أدخل أباه بالذات الآن؟. لو حضر أبوه هذا الحوار؛ إذن لأغلق القديم والجديد. هو لا يستبعد أن أباه حاضر معه دون إذنه فى كثير من الأوقات، وأنه هو الذى يعوق سعيه المتصل هذا.بل إنه أحيانا يضبط نفسه وهو يكررأسطر أبيه أثناء الحوار دون أن يدرى، وحين يدرك ذلك بالمصادفة يصمت حتى البكم.
أزاح كل ذلك جانبا ومضى يكمل مع سمحون:
ـ اسمع يا سمحون، أحسن شئ أننى لا أعرفك، وقد لا ألقاك ثانية، فهل تسمح لى بالكلام فى موضوع يمكن أن تعتبره غريبا عن كل هذا؟.
ـ أنا أعرف أنور صديقك، وأحضر هنا كثيرا، وقد نلتقى، بل ربما نلتقى دون أن نلتقى.
ـ نعم؟. نعم؟.
ـ أقصد أنه ليس من الضرورى أن نلتقى وجها لوجه. لو أننا يشغلنا ما ينبغى أن يشغل الناس، فنحن نلتقى حتما.
سر جلال، وشك بذات القدر وأكثر. ثم عاد فخاف أن يكون سمحون على وشك أن يجره إلى انشغالات السلام ومزاعم التطبيع وضرورة التعاون لبناء شرق أوسط جديد وكلام من هذا، فقرر أن يكمل المغامرة، وكأنه طفل يلقى بحجر على باب مغلق، ثم يعدو بعيدا لاهثا، ضاحكا قبل أن يفتح أحدهم الباب.
ـ أنا مشغول يا سمحون بالبحث عن أصل المسألة كلها، وليس أصلك فقط.
ضبط نفسه وهو يبلع الكلام الآخر الذى كان يعده، وكأنه عدل فجأة عن إلقاء الحجر، إذ فتح الباب أهل البيت فى ذات اللحظة.
قال سمحون وهو يبتسم دون أية سخرية، ودون مزيد من الاستفسار:
ـ وأنا كذلك.
رضى جلال بالغموض، ونظر فى وجه سمحون وقال لنفسه: ولم لا؟. أليس هو خلقة ربنا أيضا؟. ألا تتحرك خلاياه فى ذات الاتجاه؟.
قرر أن يقطع الحديث ليسمح لخياله بالشطح لما يتصور بما يريد.
قال له أنور بعد سفر سمحون ـ كان عليه أن يسافر فى ذات الليلة ـ أنه عـرفه به لأنه إنسان جيد، وأنه من الصعب عليه أن يعتبره منهم، ذلك أنهم ليسوا واحدا كما يعلم، وأن سمحون فكر أن يترك إسرائيل، ولكنه لا يعرف إلى أين يذهب، ولم يعـقب جلال، وإن كان قد أجاب نفسه “يذهب إلى حيث طردوا أهل الأرض”، لكنه عاد فابتسم حين خطر بباله أن يعزم عليه بالهجرة إلى جـرزة. لم يلاحظ أنور، وأكمل أن سمحون قد وجد أنه لو ترك إسرائيل فإنه يتخلى عن الناس لا عن بلده، فقرر أن يبقى يتحمل مسئولية هذه المصيبة من الداخل. سمحون لا يثق فى الديمقراطية الغربية ولا حتى فى حركة السلام الآن، (هذا ما أوجزه أنور بطريقته الخاصة) هو مشغول طول الوقت بأمر ما، لا يصرح به كثيرا، ولكنه يعتقد أنه لا مستقبل للبشرية إلا إذا..
ـ إلا إذا ماذا؟.
قالها جلال بلهفة جعلت أنور يتردد، ويرد، ربما اختصارا، وربما تهربا، وربما جهلا حقيقيا.
ـ والله لا أعرف، لقد عرفتك به؛ لأنه ذكرنى بك من ناحية، وأيضا حتى تخفف من غلوائك ضد الجميع.
ـ لكنه ليس إسرائيليا، سمحون صديقك هذا ليس إسرائيليا؟.
ـ كيف؟.
ـ الإسرائيلى هو الوجه القبيح، أو الوجه الصريح، للمسخ الأمريكى القبيح، أما سمحون هذا فهو بنى آدم مثلنا.
قرر أنور ألا يسترسل فى الحوار، فهو لا يتحمل شطحات جلال مهما كان صديقه، وهو لا يفهمه فى كثير من الأحيان، لكنه انتبه فجأة لنقطة تحتاج إلى تعليق:
ـ ربما لهذا رفض سمحون أن يذهب إلى أمريكا بعد أن فاز بـ ”يانصيب” الجنسية.
ـ ألم أقل لك؟.
ضحك أنور، ثم قهقهه ثم قال:
ـ ما رأيك يا جلال نعمل محمية بشرية نسميها “محمية عسلة” تسمح باللجوء السياسى لأمثالك وأمثال سمحون، ما رأيك؟.
سكت جلال وكأنه يرفض… ثم قال وكأنه يكلم نفسه، بل إنه قالها همسا فعلا فلم يسمع أنور، قال: “اللجوء الدينى وأنت الصادق”، وحين استفسر أنور عن همهمته، قال جلال:
ـ لا تذكرنى بخيبة محمود المشد فى جرزة، حدثتك عنه، أليس كذلك؟.
أطرق أنور، وانصرف إلى عمله، وهو يبدو راضيا،
لكنه لم يستطع أن يكف عن التفكير.
ـ 8ـ
ـ هل تعرف الأستاذ إبراهيم الطيب -حقيقة- يا أستاذ كمال؟. الأستاذ إبراهيم والد أنور؟. هل تعرفه يا أستاذ كمال؟.
ـ أعرفه؟. من الذى أتى بى هنا لو لم أكن أعرفه؟. أعرفه وأعرف أباك يا جلال.
قال كمال نعمان ذلك وضحك عاليا، ثم عاليا جدا، وليس يدرى جلال لماذا تصور أن الأستاذ كمال أردف يلعن أباه بعد ذكره مباشرة.
ـ هل أطمع، يعنى إذا سمح وقتك، أطمع يعنى، أن تحكى لى….
قاطعه كمال نعمان:
ـ أحكى؟. أحكى ماذا؟. هذه أيام لا تحكى، اذهب واسأل أباك وأراهن أنه سوف يقتلك إن جئت له بهذه السيرة.
ـ ألا تعلم يا أستاذ كمال أن أبى مات؟.
ـ أعلم طبعا أنه.. أنه..، هل مات حقا؟.
ـ يعنى فى عداد الأموات، اختفى دون كلمة أو إشارة، ثم إنى لم أره أصلا..
ـ أتصور شيئا من هذا، هذا هو بالضبط ما يمكن أن يأتى منه، لم أكن أعلم أنه تزوج أصلا، لم يكن يحكى عن نفسه أبدا، لم أتصور أنه يجرؤ أن يتزوج، حين حكى لى أنور أن له ابنا اسمه جلال- أنت- كدت لا أصدق. زرته مرة واحدة، كانت زيارة صعبة ومحرجة، ولكن ما لك أنت، آه، تذكرت، كان عنده يومها…، ولكن لا، لا أظن أن اسم والدتك هو صفية.
ـ لا ليس هذا اسمها، وإن كنت أعرف من والدتى أن واحدة اسمها صفية كانت تعرف والدى، وكانت أمى تدعو لهما كثيرا بالغفران والرحمة.
ـ إذن فأنت ابن والدتك؟.
ـ طبعا، وهل يوجد واحد ليس ابن والدته.
ـ أقصد، ابن والدتك، ولست ابن صفية.
لم يرد جلال لأن كمال نعمان لم يكن يوجه سؤالا بقدر ما كان يفكر بصوت مسموع. شكره جلال مكررا وهو على يقين من أنه قد يحصل من كراسات والده أكثر مما يمكن أن يحصل عليه من الأستاذ كمال هذا، ثم إنه لا يريد أن يحصل على شئ، ماذا سوف يعمل بما يمكن أن يحصل عليه وهو يبغض أباه كل هذا البغض. هذا ما يعتقده.
التفت جلال فجأة إلى الأستاذ كمال بعد أن هما بالابتعاد،
ـ والأستاذ مختار لطفى؟.
ـ ماله؟.
كاد يقول، “ولا حاجة”، لكنه تراجع خشية أن يتصور الأستاذ كمال أنه يسخر.
ـ هل يمكن أن أجد عنده بعض الأجوبة؟.
ـ أجوبة على ماذا يا جلال يا ابنى، ماذا يشغلك بالضبط؟.
- يشغلنى ما ينبغى أن يشغل كل واحد.
ـ اسمع يا بنى، تذكرنى بأبيك، بل… بل..بإبراهيم الطيب والد أنور أيضا، اسمعنى جيدا، انتبه إلى ما أنت فيه. أنت فى ماذا، أم ماذا؟. تقول أنك لم تر أباك أصلا، أحسن. ولا نحن سمعنا عنك من أبيك أيام كنا…يعنى، ثم إنى لم أعرف حتى أن أباك،.،. يعنى…، كما قلت أنت، إلا منك الآن،،. ومع ذلك فأنت حر.
ـ طيب، والأستاذ مختار؟ قصدى..
ـ مختار!!؟؟.
قالها كمال نعمان، وضحك عاليا، ولم يفهم جلال سببا لضحكه، شرح له كمال نعمان أن مختارا له ظروفه الخاصة، وأنه صحيح يأتى معه إلى هنا بحكم العادة، وعلى الرغم من أنه يلح على صحبته كلما حضر، إلا أنه يأتى هنا ومعه وعيه الخاص الممتلئ بالشراب والشطح، حتى أن كمالا حاول أن يثنيه مرة وهو يفهمه أنه إذا كانت المسألة هى شربا فى شرب، فليشرب فى حجرته فى القاهرة سوف يجد نفسه حيث شاء، وسيصل إلى حيث يريد، دون أن يتكبد مشقة السفر، لكن مختارا يصر على صحبته فى كل مرة، تقريبا فى كل مرة، وحين يحضر لا يترك الكرسى فى شرفة الفندق والكوب أمامه طول النهار وجزء من الليل.
- مختار يا جلال يا إبنى لا يصلح مصدرا للمعلومات التى تسأل عنها.
سكت كمال لحظة ثم أردف:
- ولعله لم يعد يصلح لشئ.
- لا يوجد إنسان لا يصلح لشئ، لو أنى استسلمت لمثل هذا ما رحت ولا جئت.
شرح له جلال بإيجاز الفصل الأخير فى قصته مع الصحافة، كما نفى مؤكدا أنه يريد أن يعمل تحقيقا صحفيا. هو لم يعد صحفيا، بل إنه أصبح يكره الصحافة والتحقيقات بالذات. اطمأن كمال نعمان إلى تأكيدات جلال.
لا يدرى جلال كيف صدقه الأستاذ كمال، واطمأن إليه لدرجة أنه صرح له أنه زار إسرائيل فعلا، وأن هذا لا يضيره، وأنه ليس تطبيعيا ولا هو ضد التطبيع؛ فهو فنان يبحث عن الجمال وعن الدهشة أينما كانا، وأنه مستعد أن يدفع بقية عمره فى مقابل بضع دقائق يمر خلالها بخبرة جديدة، ثم إن كمال نعمان ضحك حين انتبه ـ كما ذكر ـ إلى أن ما تبقى من عمره قد لا يكون إلا هذه الدقائق التى سوف يضحى بها فى سبيل المعرفة الجديدة. ثم ضحك من جديد.
حين وصل الأمر إلى هذه الدرجة من الثقة المتبادلة تجرأ جلال وسأله:
ـ وكيف وجدت إسرائيل؟.
قهقه كمال فعلا وهو يرد:
ـ على ما يرام.
انتبه جلال إلى سخف سؤاله مما بدا فى الإجابة من فتور أو سخرية، أراد جلال أن يعتذر، لكنه وجد أنه بذلك سيؤكد سخفه، فمضى يقول:
ـ أتصور أنك يمكن أن تحكى لى ما يفيدنى أكثر من موسوعة المسيرى، تصور يا أستاذ كمال أن ما يهمنى فى حكاية إسرائيل هذه، ليس السياسة ولا التطبيع، ولا هذا الكلام.
تساءل كمال فى دهشة:
ـ إذن ماذا يهمك؟. تقول إنك كنت صحفيا أليس كذلك؟. ماذا يهمك؟. الجنس أم المخدرات؟.
ضحك كمال ضحكة متوسطة فيها شئ من الاعتذار عن التسرع.
ـ يهمنى أن أعرف هل رب هؤلاء بضعة الملايين عبر العالم هو رب الدنيا كلها، أم هو رب خصوصى خاضع لألعابهم الاحتكارية، مثلما احتكروا البورصات ووسائل الإعلام؟. كيف استطاعوا بكل هذا العمى أن يصدقوا أنهم هم الوحيدون الذين على حق؟.
ـ الله الله، تذكرنى بأبيك وعمك إبراهيم، يا ابنى أنت بصحة جيدة، فلا تشغل بالك بما ينشغل به المجانين، ثم من أين لى أن أجيبك على ذلك، من زيارة لهم كنت أستكشف فيها شوارعهم وطريقة حياتهم وفنهم وأى جديد غير ما نقرأ فى صحفنا الخطابية عنهم؟ من أين لى أن أدخل فى ضمائرهم لأعرف ربهم وعلاقته برب الناس؟.
ـ ألم يخطر ببالك وأنت ترى كل التقدم هناك، كيف يتصورون أن دينهم هو الصحيح الأوحد؟.
ـ بصراحة لم أشغل بالى إن كان دينهم هو الأوحد أم الأقدم، ثم إن حكاية الأوحد هذه من تخصص العرب، نحن الذين عندنا الزعيم الأوحد، والحزب الأوحد، والرأى الأوحد، يا إبنى، يا إبنى كبر عقلك، نحن لا نعرف عنهم إلا ما نشيع عنهم.
ـ وهم؟.
ـ وهم ـ أيضا ـ مخدوعون، كثيرون منهم لا يعرفون ما الذى أتى بهم أو بأهلهم إلى هذه الورطة الغبية.
ـ إذن أنت تعتقد أنها ورطة غبية؟.
ـ اسمح لى يا بنى، أنا طلقت هذا الكلام بالثلاثة، ومنذ فعلت ذلك عدت إلى ريشتى وصلصالى وأحجارى، عن إذنك، وربنا معك.
لم يثقل عليه جلال وأمسك نفسه بقوة حتى لا يقول له:” أى ربنا”، ” أو أن يعـلن تساؤله: “تقصد ربنا، أم ربهم”؟.
ـ 9 ـ
ليس مصادفة كل هذا، قد يضطر أن يرجع إلى كراسات أبيه على الرغم من أن هذا يزعجه ويفسد موازينه، لا لن يفعل، هو ليس ناقصا، هو عكس أبيه، لعله أقرب إلى أمه، بل إنه يكاد يكون أقرب إلى زوجها عم سليمان. ثم خطر بباله خاطر غريب، بل إنه سماه خاطرا حقيرا. هو خاطر وأمنية فى ذات الوقت: أن تكون أمه قد أنجبته من عمه سليمان حتى وهى زوجة أبيه، يا ساتر، هل وصل به قبح الخيال إلى تشويه شرف أمه وعمه هكذا، ولكن هل فى هذا تشويه؟. ربما كانت ليلة مع عمه سليمان دون ورقة هى زواج شرعى، أكثر شرعية من الورقة التى كتبها أبوه لأمه ثم مزقها. ثم إنه على يقين أنه لا أمه ولا عمه سليمان يستطيعان أن يخفيا شيئا عن الناس، ولا عن ربنا. أما هذه الورقة السرية التى ضحك بها أبوه على أمه فهى لا تساوى المداد الذى كتبت به.
كان يفكر، أو بصراحة يحاول أن يكف عن التفكير، فى هذه الأمور السخيفة التى لا تقدم ولا تؤخر، وهو فى طريقه إلى الفندق الذى يقيم به كمال نعمان ومختار لطفى.
ما زال يذكر ضحكة كمال نعمان، وهو يذكر مختار لطفى حتى شحذ اشتياقه لمعرفته أقرب حتى لو لم يكن عنده ما يقوله أصلا.
كانت الساعة تقترب من السابعة مساء وهو الميعاد الذى اقترحه كمال نعمان؛ ليجد مختارا حاضرا قبل أن يغرق فى “عالمه الآخر”.
سأل فى الفندق عن الأستاذ مختار وهو يعلم أن صديقه كمال نعمان لا يعود من الصيد إلا بعد ذلك. كان يفضل أن يختلى به.
ـ أنا جلال غريب الأناضولى.
ـ غريب ماذا؟.
قالها مختار لطفى وهو يقهقه ويدعوه للجلوس. انتظر جلال بعد هذه القهقهة أن يذكره بوالده مثلا، أو أن يأتى بسيرته حتى، إلا أن الأستاذ مختارا لم يفعل ذلك، وبدأ فى الشراب بمجرد أن أحضره النادل، والغريب أنه لم يسأل جلالا ماذا يشرب، ولكنه صب له فى كوبه ما تيسر دون كلمة.
ـ وماذا تفعل هنا يا أستاذ جمال؟.
ـ جلال يا عمى، جلال.
ـ أحسن، حكاية “جمال” هذه بائخة، الله لا يرحمه، أليس كذلك؟. كان جبانا كذابا.
لم يدافع جلال حتى لا يجد نفسه يجرجر فى مناقشات لم يعد لها لازمة ولا معنى.
ـ قلت لى ماذا تفعل؟.
ـ لم أقل شيئا بعد.
ـ أحسن.
لم يكن ما شربه الأستاذ مختار يبرر هذا النوع من الحوار، كان يشرب ببطء شديد، رشفات لا تكاد تنقص من الكوب شيئا، لم يجد جلال عنده رغبة فى أى شئ، ولاخطر على باله أى سؤال مما كان يتصور أنه سيجد له جوابا أشفى مما وجد عند كمال نعمان، وكاد يستأذن للانصراف، ولكن فجأة وجد نفسه يقع فى المحظور كعادته هذه الأيام، وبعد أن اطمأن إلى أن كمال نعمان قد حدث الأستاذ مختارا عنه بما فيه الكفاية، وفى ذات الوقت أنه – الأستاذ مختارا ـ قد نسى أغلب ما قيل له عنه. توكل جلال وقال:
ـ أعرف أن حضرتك و الأستاذ كمال أعزبان.
ـ أعز…ماذا؟.
ياخبر أسود، ألا يعرف اللفظ، أم أنه لم يسمع جيدا؟. أم أنه يسخر؟. ما هذا؟. من هذا؟.
ـ أقصد لم تتزوجا.
ـ وأنت مالك يا بنى. عندك عروسة؟ وأنت، هل تزوجت؟.
ـ نعم، وطلقت، لم نستمر سوى بضعة أشهر.
ـ رأيت كيف!.
قالها مختار وهو فى غاية الطمأنينة.
تساءل جلال هل هذه هى “النفس المطمئنة”؟. وهل خمر الجنة سوف تكون بذات جودة هذه الخمر التى تمنح هذا الرجل كل هذا القدر من الهدوء والسلام، وتجعله يقف هذا الموقف السهل الساخر؟. وهل “هذا” الذى يراه هو من أثر الخمر وهو لم يكد يشرب شيئا؟. فجأة، قرر جلال أن يستأذن.
أذن له مختار فى الحال، ولم يبد عليه أنه ارتاح للتخلص منه.
ـ 10ـ
كانت هى التى دعته إلى حجرتها بعد أن تبادلا حوارا قصيرا على شاطئ ” نسمة سينا”; وتعجبت لإتقانه الألمانية بهذه الدرجة. هى سويسرية من القطاع الألمانى. ليس يدرى كيف تطور الأمر، ليس جنسا، وليس حبا، وليس كذبا، وليس أى شئ مما يعرفه من قبل. كان امتدادا لحوار بسيط رائق بدأ على الشاطئ ثم تمادى إلى كل المستويات، إلى كل الأعماق و كل الآفاق، موجتان التقيتا، فتلاشيتا فتبخرتا سحابا غير ملوث. لم تنشغل أى من السحابتين إلى أى سماء سيدفع الريح بها… أو على أى أرض سوف ينتشر رذاذها.
حيثما يسقط مطرهما غير الملوث فثم وجه الجمال المغيب عن وعى البشر بين ثنيات الكلام، وخلف أبواب العمى، ووراء زوايا الصفقات.
كان لابد أن تسافر هى قبل طلوع الشمس فى اليوم التالى.
وسافرت.
ـ 11ـ
جلس جلال ينتظر حافلة العاشرة مساء الذاهبة إلى القاهرة لتصل فى السادسة صباحا. راح يتساءل:
هل يأتيه النوم على المقعد وهو مازال ممتلئا بها، بكلها، وكأنها لم تغادره؟.
ورضى أن يقبل الاختبار.
لو أغفى ولو ثانية فهو لا يستأهل ماهو فيه.
حاول أن يتذكر اسمها، فانتبه إلى أنه لم يسأل عنه.
ولا هى سألته عن اسمه.
* * *
الفصل الثالث عشر
أرض الجولف
حسب المارة فى البداية أنها ألعاب نارية إعلانا عن افتتاح السوبر ماركت الجديد فى العمارة الشاهقة، كانت الرياح أقل من سرعتها فى مثل هذه الظروف، ثم اختبأ كل شئ فى سحابة من التراب لها رائحة الصدأ، ثم حدث الدوى الهائل وانهارت العمارة على من فيها، لكن أحدا لم يتبين تفاصيل حقيقة ما حدث إلا بعد أن أفاق من الذهول المعتاد.
كانت بهية عائدة من السوق بعد أن اشترت علبة سجائر مارلبورو للأستاذ غالى، فاعتقدت أن ما كانت تسمعه أحيانا وهو يتكلم مع أصدقائه فى الهاتف عن حرب النجوم، قد تحقق، قالت لنفسها: إن الأستاذ مع أمريكا فال خوف علينا. ومع ذلك فهى لم تعد، وركبت الأتوبيس المتجه إلى باب الحديد دون أدنى تردد.
-1-
تململ سائق التاكسى وجلال يذكر له العنوان، هذا سفر وليس مشوارا داخل البلد. الأمر يحتاج إلى اتفاق آخر، ليكن، وتم الاتفاق الآخر.
جلال هو الذى رفض أن يرسل له أمين عبد الحكيم سيارة لتوصله للمسكن الجديد، بعد أن انتقلوا- تقريبا فجأة- إلى هذه القرية الإلكترونية الحالمة الخاصة. كيف يسمونها قرية وهى هكذا؟. سرقوا حتى صفة قريته، ثم إن قريته الحقيقية: بلدتهم، لم تعد قرية. امتلأت بالطوب الأحمر الهش، وأشجار التسليح المترنحة نتيجة لطول ما نقعت فى أموال الخليج المختلطة بالطمع والمذلة، لكن الناس لا بد أن تعيش، تسكن سجونا تدل على حرية اختيارهم العبودية؟.
فزع جلال حين دخل ووجد الفيلات متشابهة والشوارع خالية والكلاب كثيرة. كلما نبح كلب شعر بعدم الأمان أكثر، وتساءل: كيف يشعر سكان هذه القصور بالأمان مع نباح الكلاب هكذا، فى حين هو، والناس، يشعرون بالعكس؟.
”هذا هو المطلوب تماما”.
”لماذا”؟.
”إيش فهمك أنت؟ … هذه هى قواعد المنتجع”.
” منتجع؟ ماذا تعنى؟.
”سوف تعيش حمارا وتموت حمارا”.
مراسم الاستقبال مختلفة، حجرة الاستقبال متسعة، مثل بهو الفنادق دخلت عليه بسرعة لم يتوقعها، لم تتغير، كان يتصور أنها تغيرت مع تغيير المكان، الأماكن تغير قاطنيها، على كل حال : إن لم تتغير بعد فهى سوف تتغير، لا شئ لا يتغير، لا أحد، حيت. ورحبت، وجلست، وتساءلت، وضحكت، واطمأنت، ولم يبد عليها أنها تتذكر شيئا بذاته، أو تحاول أن تنسى شيئا بذاته.
نسى كل مخاوفه وقال لنفسه: إنه سيحضر حتى لو لم تكن لحضوره أية علاقة بمشروعه، سيخترع أى سبب ويحضر، سيحافظون على العلاقة، وربما ضاقوا بالمكان مثله فعادوا إلى مصر الجديدة، وعاد هو إلى أحلامه.
ـ … ألا ترين أى تعارض بين انتقالكم إلى هنا وبين ما نخططه، أعنى ما تخططونه، أقصد ما ترجونه، يعنى ما تأملينه فى الأولاد ولهم، أقصد…، منذ قررت أن تحضرى إلى…، أن ترتبطى بـ، بمصر… مصر يعنى.
كادت تكتم ضحكة طيبة وهى تقول له مقاطعة تقريبا:
ـ رجعت إلى عادتك يا جلال، حين ترفض شيئا يبدو عليك الرفض كالكتاب المفتوح، فتتناثر كل كلمة فى ناحية.
لاتعرينى هكذا يا سيدتى، لست ناقصا، أنا ما زلت ألملم نفسى بعد أن تبخرت موجتى فى دهب، هى من بنات عمومتك، مازال رأسى يدور. أريد أن أحكى لك عنها، لا أقصد أن أثير غيرتك. غيرة ماذا؟. وكلام فارغ ماذا؟. المسائل غير المسائل. لست فاهما أى شئ، انتزع نفسه ليقول:
ـ أقصد هل نحن، يعنى أنتم الآن؟. هنا؟. أنتم يعنى، هل أنتم الآن يعنى فى هذا المكان أخيرا، هل أنت فى مصر التى حضرت إليها، أم فى أوربا التى تركتها؟.
ـ لا فى هذه ولا فى تلك، أنا لا أعرف أين نحن الآن.
ـ هذا ما لاحظته، هل أصارحك؟.
ـ طبعا.
ـ خطر لى أن هذه المدينة قد بنيت أساسا لكلاب الحراسة التى استقبلتنى دون ترحيب، وأن البشر قد أحضروا هنا خصيصا ليعطوا لهذا العدد العظيم من الكلاب المتوحشة معنى، و أن ساكنى هذه القصور معتقلون باختيارهم، وأن أطفالهم معتقلون مثل….
لم يكمل حتى لا يذكر محمودا، فيذكرها به.
ضحكت فاتيما ضحكة رائقة، ثم عالية.
ـ أنت كما أنت…، وهذا رائع.
ـ وأنت كما أنت برغم طريق الكباش.
ـ طريق ماذا؟.
ـ لا شئ، لا شئ.
كيف قال طريق الكباش؟. وماذا يعنى؟.
سأل عن الأولاد، وعن مدارسهم، وأخبرته أنها هى هى ذات المدارس، لم تتغير، وأن والدهم خصص لهم سيارة وسائقا، فلم تفرق المسألة إلا ربع ساعة فى الصباح ومثلها بعد الظهر، وأن برنامجهم اليومى يسير كما هو، وأن ما اتفقوا عليه من مواعيد لـن يتغير إلا بمقدار ربع الساعة هذا، لا أكثر. وأنها متأسفة لأنها علمت بعد أن أعطته هذا الموعد أن الأولاد كانوا قد ارتبطوا بموعد سابق ليتعرفوا على أصدقاء النادى الجديد، وأنها لم تتصل به لتخبره بذلك لأنها أرادت ـ شخصيا – أن تراه، وخافت إن عرف غياب الأولاد أن يعتذر.
ـ وأنا أيضا.
ـ أعرف.
سكت فرحا كأنما أنهى مهمته، وسكتت هى الأخرى، فقرر أن تكون بقية المقابلة رسمية. خاف من شئ مجهول هو لم يردها أكثر من هذه اللحظة، وهو لم يلغها أكثر من هذه اللحظة، اقترح أن يؤجل بداية الدروس شهرين حتى يألفوا المكان، وينظـموا حياتهم بعد الانتقال، وربما كانت فرصة مناسبة لإعادة النظر فى المشروع برمته.
ـ أنا شخصيا ليست عندى أية فكرة عن احتمال المراجعة أو التراجع.
ـ نعطى فرصة للأولاد. من حقهم التراجع.
(لم يقل: كما تراجعنا نحن. هل تراجعا؟.).
ـ وهل الأولاد بدأوا حتى يتراجعوا، إن قدراتهم والحمد لله تسمح لهم باستيعاب طموحاتنا، ثم إننى أشعر أحيانا أن الأولاد يأخذوننا على قدر عقولنا.
ـ هذا ما شعرت به أيضا، معهم حق، أليس كذلك؟.
ـ ربما؟.
ـ والأستاذ أمين؟.
ـ ماله؟.
ـ يعنى؟ رأيه يعنى؟.
راحت تشرح له كيف تغير أمين، وكيف أصبح أكثر غيابا، وأكثرصمتا، وأكثر تجهما، وأكثر كرما، وأنها كلما فاتحته فى أمرالأولاد حدثها عن التوسع الراكض الذى وجد نفسه مضطرا لمسايرته، وعن تضخم الديون، وتضخم الصفقات، والتوكيلات، وعن ضرورة الانتباه إلى خبث الشركاء، وألاعيب الخواجات، وعن علاقاته مع أعضاء مجلس الشعب الحقيقيين، والأعضاء الشبح. أضافت أنها لم تفهم ماذا يعنى أمين بالأعضاء الشبح، وهى لم تسأله، وأنه ـ بالتالى ـ ليست له دعوة بكل ما نفعل نحن والأولاد.
ـ فلماذا انتقلتم إلى هنا إذن، مادام هو قد ترك المسألة لكم؟.
ـ آه صحيح؟. لماذا؟.
ـ ألم يخطرعلى بالك هذاالسؤال؟.
ـ خطر، ولكن كثـرت النقود فكان لا بد من صرفها، ثم إن أمينا يتصور أن مجرد الإقامة هنا هى جزء من قيمته فى السوق، وهو ما يعنى أشياء مهمة بين رجال الأعمال أو التوكيلات والبنوك.
ـ والأولاد؟.
ـ ما لهم؟.
أخذ يشرح وجهة نظره بلا داع، ولا فائدة، وقارن ـ فى سره مرة أخرى ـ هذا الرحيل بما فعله محمود بأولاده هناك فى الناحية الأخرى، مصيبة سوداء.
اكتشف أن طلاقه من ثريا، أو طلاقها منه، هو الذى أعفاهما من مثل هذه التجربة، تجربة الأولاد. أحسن. تساءل عن مدى أمانته وهو لم يتحمل مسئولية الإنجاب، ومع ذلك يتصدى للعب والتجريب فى أولاد الناس، ماله هو بالأولاد ما دام لم يستطع أن يحافظ على المؤسسة التى ترعاهم؟. قفز إلى ذهنه احتمال من تلك الاحتمالات الشاذة التى لا يعرف من أين تأتى مثل زواجه من “وردة”، أو زواج الأستاذ غالى جوهر من بهية، علاقته بثريا كان يمكن أن تستمر لو أنها وضعت الأطفال فى الحسبان، ربما كانت علاقة أرقى من الانجاب، وربما كانت أعجز عن الانجاب، العلاقة لابد أن تكون علاقة بعيدا عن كل ذلك، ربما كانت كذلك، وربما لهذا انتهت، ما الذى أتى بهذا الكلام الآن؟.
انتبه إلى عينى فاتيما الزرقاوين وكأنها تتابع أفكاره وهى صامتة تأكد من أنها تقرأه حين سألته:
ـ ثم ماذا؟.
أجاب من فوره:
ـ ثم أتصل بكم قريبا إن شاء الله.
قبل أن ينصرف، سألته عن محمود، فانزعج. صحيح أنه فكر فيه معظم الوقت وهو يقارن بين هذا المكان وبين الخرابة (على حد قول زوجة محمود) التى يعتقل فيها محمود أولاده، قال لها إنه لم يره منذ مدة، وإنه لم يسمع من ثريا زوجته (لم يجرؤ أن ينطق باللفظ الجديد “تريكته”) ما يشغله عليه، كان يقول ذلك وهو يتابع لهفة فاتيما، ويحاول أن يقرأ أفكارها كما فعلت، ولا ينجح فى التخلص من هبوب ريح الغيرة اللافحة على وعيه.
فوجئ بها تحكى له أنها اتصلت به، بمحمود، مباشرة دون أن تخبره، وبتحديد أدق هو الذى اتصل بها، لا تدرى لماذا، و لم يكن السبب وجيها على كل حال، وأن محمودا سألها عن الدروس التى اقترح جلال أن يعطيها لأولادها، وأنها أخبرته أنها لا تعرف عنها أية تفاصيل، كما اقترح اقتراحا غريبا بهذا الشأن. كان الغيظ يتجمع داخل جلال فى اطراد متصاعد، بعد أن تحول الكلام إلى محمود.
ـ ماذا اقترح ان شاء الله؟.
ـ اقترح أن أساعده فى أن أقنعك أن تكون هناك دروس مشتركة، أو حتى لقاءات مشتركة.
ـ لقاءات؟. لقاءات بين من ومن؟.
ـ ماذا بك يا جلال؟. محمود يحبك، وهو يحترم موضوعك ومشروعك، تكلمنا فى ذلك كثيرا.
ـ كثيرا؟. تتكلمان فى موضوعى، هل جعلتمانى موضوعا؟. أنا لا أعرف لى موضوعا، ففيم تكلمتما؟. لكنها حجة لطيفة.
ـ حجة ماذا يا جلال؟. ماذا تقول؟.
ـ أقول إن الأولاد، أقصد..
قاطعته ضاحكة:
ـ خلاص، خلاص عرفت.
اضطر إلى أن يبدو وكأنه يضحك رغما عنه. تظاهر أنه كان يمزح ولم يجز عليها التظاهر، فأكملت أنها عرضت على الأولاد للتسخين ـ على سبيل المزاح ـ أن يتعرفوا على أولاد محمود، مادام هناك احتمال أن يضمهم درسك، وضحك الأولاد مثلما ضحكنا الآن (مع أنها ضحكت وحدها) والغريب أنهم تحمسوا لزيارة الصعيد، حين شرحت لهم أين يقع منزل محمود، حكيت لهم عن ولديه فتحى ووائل، وقد كانوا فى اشتياق إلى أن يسمعوا اللهجة الصعيدية من أهلها، وإلى أى مدى هى تشبه ما يتابعونه أحيانا فى التليفزيون.
كان جلال يتابع كل هذا وهو يترجح بين الغيظ والدهشة حتى اقترب من انفجار لم تظهر عليه أى من بوادره. كيف لم يعلم بأى من ذلك؟. قال فى هدوء يتناقض مع داخله.
ـ وذهبتم؟.
ـ وذهبنا.
ـ ورجعتم؟.
ـ هل كنا سنقيم هناك؟ ماهذا؟.
ـ ولم تخبرونى من أصله.
ـ فكرت أن أخبرك، ولكننى لم أجد داعيا، ونحن لم نبدأ بعد، كان تسخينا كما قلت.
كاد يقول: تسخين والمدرب غائب يا خونة!، لكنه تراجع وقال:
ـ لم نبدأ ماذا؟.
ـ لم نبدأ أى شئ؟.
هكذا يكون الكلام، هى لم تقل له، ولم يقل له محمود، صحيح أنه لم ير أيا منهما فى هذه المدة، لكن أيضا. ثم لماذا يقولان له؟. بأية صفة؟.
ـ حكاية لطيفة.
ـ فعلا، لطيفة، تصور أن أولاده فرحوا بأولادى جدا.
ـ طبعا، من رائحة المدينة.
ـ أعتقد أن الأولاد يتكلمون مع بعضهم البعض على طول موجات لا نعرفها.
”وأنا أعتقد أن كل البشر يخيل إليهم أنهم يتراسلون، مع أن الموجات مختلفة أصلا”.
ليس متأكدا إن كان قد قال ذلك، أم أنه أسرها فى نفسه.
استأذن، ووعد بالاتصال، وشكر، وحاول أن ينسى، أو أن يهدأ، فنسى، وهدأ، وقال: “كل شئ بأمره”.
وابتسم.
ولم يشعر بأية رائحة سخرية فى ابتسامته.
ولا هو فهم، أو قبل، أو وافق مع أن أحدا لم يطلب منه الموافقة.
ـ2ـ
تعجـب حين عـرف الطالب نفسه على الطرف الآخر من الهاتف، هو أمين عبد الحكيم شخصيا، كان صوته متغيرا، هو لم يطلبه من قبل حتى يعرف صوته، ويقرر أنه متغير أم هو هو، لكنه كان متغيرا فعلا. خلاصة المكالمة الموجزة جدا هو أنه يسأله عن رشا، يسأله بصفة ماذا؟. لا شيء؛ هو يسأل كل الناس عنها لأنه يبحث عنها. رشا غادرت المنزل منذ يوم ونصف، لم تترك رسالة، ولم تتصل بالهاتف، ولا يعرفون عنها شيئا. إن ما اعترى جلالا كان شيئا يصعب وصفه لأنه أكبر من الدهشة، وأقل من الرفض، وهو غير الانزعاج، وغير الخوف، ربما الذى جعله بهذا الغموض هو وعيه بما غمره من تلك المشاعر السافلة (هو الذى أسماها كذلك). شئ أشبه بالشماتة والفرجة والانتظار والتأجيل، وليس أى منها على حدة، لم تكن هذه المشاعر (السافلة) وحدها، بل صاحبها خليط من القلق والشهامة التى ظهرت فى استعداده لأية خدمة، قال ذلك وهو يفكر فى فاتيما لأول مرة كأم منزعجة، كان دائما يتصورها سائحة اقتنت أفراد هذه الأسرة أثناء جولاتها السياحية التى طالت فى مصر، لكنه فى هذه اللحظة، شعر بها أما مصرية ملهوفة منزعجة أشدالانزعاج وآلمه، لا أكثر، ولا أقل.
ـ لا شكرا.
هكذا رد أمين باقتضاب على عرض جلال المساعدة.
وانتهت المكالمة.
ـ3ـ
لماذا؟. لماذا؟. ويا ترى أين؟ ماذا….؟.
تسحبت الأسئلة المزعجة بشكل يتضاعف حتى صارت مرعبة. أهكذا؟. أربعة عشر عاما؟. جريمة خطف؟. اغتصاب؟..
طبعا لا.
لم لا؟.
السائق يذهب بهم، ويرجع، لا يوجد ثقب إبرة يسمح بورود مثل هذه الاحتمالات. تلك مخاطر الذين يتحركون بلا كلاب حراسة. ثورة؟. احتجاج!!؟. لم يلحظ على رشا بالذات أى معالم ثورة، بالعكس كانت تبدو أكبر من سنها، ليس فقط فيما هو أنوثة فائرة. أبدا لم تبد له رشا ثائرة رافضة أبدا. كل أولاد هذا الرجل من هذه السيدة يتصفون بالهدوء، والتفاهم، كان تعبير أمهم أنهم “يأخذوننا على قدر عقولنا” هو الأقرب إلى الصحيح. فلماذا؟.
ياه!! بدأ ينزعج، ثم ينزعج جدا، ثم يرعب من أسوأ الاحتمالات. لماذا لم يتفاعل هكذا من فور المكالمة؟.
لم يستطع أن ينام، أمسك بسماعة التليفون ووجد نفسه ينوى أن يهاتف كل من يعرف، يسألهم عنها، لم يقبل استغناء والدهم عن خدماته، راح يسأل أشخاصا لم يكونوا يعرفونها أصلا، طلب محمود عبد السلام وهو على يقين أن أمها أو أباها قد طلباه قبله، وخاصة بعد أن عرف تلك الزيارات السرية (هو اعتبرها سرية) التى قامت بها فاتيما مع الأولاد لتفرجهم على”سيرك الصعايدة” (هو أسماه كذلك). لم يرد هاتف محمود، ولا حتى جاءه صوت ينبهه أن التليفون مرفوع من الخدمة. هل طلبه أمين مثلما فعل هو الآن فلم يرد أيضا؟. محمود ضابط سابق، له معارفه، وربما مازال له باع فى مثل هذه المسائل، صحيح أن أمينا لا يعرفه، لكن فاتيما تعرفه ونصف. نظر فى الساعة فوجدها الواحدة. قال مستحيل. وقال الصباح رباح. وقال ربنا يستر.
ولم ينم.
وحين نام: حلم أحلاما مزعجة لم يتذكر منها شيئا لما استيقظ.
ـ 4 ـ
فتح عينيه بصعوبة، ثم قفز فجأة من على الأريكة، وجد نفسه بكامل ملابسه، لم ينظر فى الساعة، وإنما اندفع إلى النافذة ففتحها، وحين اطمأن إلى أن وعدا بنهار قادم قد تبدى، رجع، وجلس ووضع رأسه بين كفيه وهو ينظر إلى فردتى حذائه المتراصتين. يذهب إلى محمود من فوره لعل وعسى، أخيرا نظر فى الساعة، لا، لا يصح أن يذهب من فوره الآن هكذا، يريد أن يطمئن أنه يمكن أن يجد مواصلة، ثم وقت لشرب كوب من الشاى برغم كل شئ.
فكـر أن يكلم ثريا، لا ليسألها عن رشا، ولكن ليسألها عن نفسه. ماذا؟. يقصد ليطمئن أنها مازالت تذكره: مازالت تحتفظ له بمكان ما، فى مساحة ما من وعيها. ما أحوجه فى هذه اللحظة إلى أحد يذكره، مجرد يذكره.
رفع السماعة، ثم نظر إلى النافذة، ووضعها ثانية.
نزل بسرعة وهو ينظرفى ساعته.
ـ خيرا يا محمود، ما لهاتفك؟.
ـ ابن حلال، كنت سأحضر إليك الآن.
ـ خيرا.
ـ ليس خيرا أصلا، ….. فتحى.
ـ ما له؟.
ـ اختفى منذ أول أمس، تركنا دون كلمة، دون ورقة، مع أنه ـ كما يشهد وائل وكل الناس هنا ـ كان سعيدا بالفكرة. وكان يشاركنى فى كل شيء.فتحى تقبل الانتقال بإبداع حقيقى حتى طمأننى فعلا على خطواتى هذه. أصدقك القول، لولا أنه تحمس كل هذا الحماس، وشارك كل هذه المشاركة لحزمت أمتعتى والأولاد، ورجعت.
ـ ثم ماذا؟.
ـ اختفى.
ـ ذهب عند أمه؟.
ـ لا أعرف، ولا أظن، لو كان قد ذهب لأمه احتجاجا مثلا لأخذ وائلا معه، وائل هو الذى أعلن سخطه ورفضه منذ البداية، لم يذهب وائل. تصور! فتحى هو الذى ذهب.
سأله جلال إن كان قد أخطر أمه أو حتى سأل عنه هناك، فأقر أنه لم يفعل؛ ذلك أنه قدر أنه إن وجده هناك، فهو دليل هزيمته، ولا يستبعد شعورا بالشماتة، أو بالنصر أو بأى شئ من هذا القبيل، برغم طيبة وبؤس أمهم، وإن لم يكن قد ذهب فهو سيشغل أمه بما لا تطيق، ويكفيها ما بها، (قال يعنى).
ثم إنه لو ذهب إليها فإنها كانت سوف تخبره من فورها، فهو يعلم رقتها وطبعها.
قال جلال وقد بدت عليه بوادر راحة خفيفة:
ـ اطمئن يا محمود.
ـ كيف أطمئن؟. صحيح هو ليس صغيرا، 16 سنة، لكن أنت تعرف ظروف الشباب هذه الأيام.
بسرعة، أخبره جلال أنه إنما جاء ليسأله إن كانت رشا قد حضرت عنده أو اتصلت به، وحين سأله محمود “من رشا؟”، تعجب جلال، فقد كان يحسب أن تعلقه بأمها، أن علاقتهما، أن تعطفهم عليه بالزيارة، سوف يترك أثرا يجعلهم غير قابلين للنسيان، لا لحظة ولا دهرا، لا إسما ولا شخوصا. أكمل الخبر بعد أن ذكـره بها، فانتبه محمود خجلا منزعجا معا.
ـ طبعا طبعا رشا، ياه تلك الرائعة كأمها.
قال جلال فى سره: إظهر عليك الأمان يا أبا حنفى. ما الذى جاء بسيرة أمها الآن؟.
المهم. طمأنه جلال أن اختفاء الشابين معا فى ذات التوقيت هو أدعى إلى الطمأنينة من غير ذلك، ووضع احتمالا أن يكونا حين تعرفا على بعضهما فى الزيارة (السرية) التى حكت عنها فاتيما، وجدا ما يتفقان عليه، فقاما بهذه المغامرة الصغيرة ليقولا لكم، لنا، بها، شيئا ما.
ـ تسمى هذا كله “المغامرة الصغيرة” يا جلال؟.
لم يدخل معه جلال فى نقاش إن كانت صغيرة أم كبيرة، لكنه لاحظ أن الطمأنينة التى صاحبت وضع هذا الفرض المنطقى المحتمل سرعان ما اختفت رويدا ثم متسارعة. إذ ماذا تكون الحال لو أن اختفاءهما هذا لم يكن مقصورا عليهما، وأنهما انضما إلى ثلة من ثلل هذه الأيام، وهات يا مخدرات، وهات يا خبص، وكلام من هذا؟. ولم يعلن لمحمود عن هذه الخواطر.
تعجب جلال من نفسه وهو يطمئن ـ بهذه الصورة ـ حين يفترض أن المصيبة أصبحت أهون؛ إذ يختفى اثنان معا بدلا من واحد أو واحدة، وابتسم حتى ضحك.
ـ ماذا يضحكك بالله عليك، هل هذا وقته يا جلال؟.
ـ لعلهما تزوجا على سنة الله ورسوله.
ـ فى هذه السن؟. هذا ممنوع قانونا.
ـ قانون ماذا؟. وممنوع ماذا، وهل الشباب الآن يحتاجون إلى القانون أو إلى المأذون ليتزوجوا
ـ تعنى…
ـ لا أعنى، ولاحاجة، المهم أن تكلم أمين عبد الحكيم الآن لعله يطمئن على ازدواجية المصيبة مثلنا، ثم ينزعج على أمور أخرى، مثلنا أيضا. وضحك مرة أخرى دون أن يستطيع أن يحول دون ذلك.
كاد جلال لا يصدق، وهو يسمع محمودا يقول:
ـ ومن أمين عبد الحكيم هذا؟.
ـ ألا تعرف مـن أمين عبد الحكيم أيضا؟.
ـ لا.
ـ أبو رشا، يا سيدى، زوج فاتيما.
- يا خبر، هل هذا هو اسمه؟.
– هل نسيت؟ أنا ذكرت لك اسمه حين عرفتك على زوجته. ألم تسألها؟.
لم يقل له محمود: ولماذا يسأل؟. وهل الأمور ستختلف لو كان اسمه أمين عبد الحكيم أو أمين عبد التواب؟. وخاف جلال على محمود لو أنه كان قد وصل إلى درجة يسقط معها من وعيه أولا بأول أى أحد آخر، وقال إن هذا ليس وقته، فالمهم الآن هو أن يشتركوا جميعا فى البحث عنهما، مع أن أحدا غير متأكد أنهما معا.
ـ 5ـ
أبعد مكان كان ينتظر أن يظهرا فيه كان منزل بسمة قنديل.
لم تذكر له فاتيما أنها اصطحبتها معها فى الزيارة الثانية إلى جرزة فى صحبة الأولاد، وأن بسمة صادقت الأولاد بشكل مذهل، وطيب، وبسيط، ومباشر، وأنهم تواعدوا على التحادث واستكمال ما بدأوا من حوارات مثيرة وخطيرة (الأولاد هم الذين وصفوها هكذا).
ـ هل هذا يصح يا بسمة؟.
ـ ما هذا؟. وما هو الذى يصح أو لا يصح؟.
شرحت بسمة لجلال كيف أن الأولاد هم الذين اتصلوا بها بعد يوم طويل من التجوال، وقرب منتصف الليل، وأنها أيقنت أنها لو لم تعد بعدم إبلاغ أهلهما فلن يحضرا لها أو يبيتا عندها كما اقترحا، وأنها لم تستطع أن تخلف وعدها ـ طبعا ـ وكان لزاما عليها أن تستوعب الموقف مهما كانت آلام الأهل، “إذا كانوا يعرفون كيف يتألمون”.
ـ هل تتصورين مشاعر أم اختفت ابنتها، وعندها 14 عاما، وهى بهذا.. بهذا…
- بهذا ماذا؟.
تجاهل التساؤل وقال:
ـ أنت لا تعرفين مشاعر الأمومة يا بسمة.
ماذا قال؟. تمنى لو عاد فبلع جملته الأخيرة، كيف قالها و بسمة قد قامت بعملها الرائع هذا؟. ثم هو – بالذات – ليس من حقه أن “يعايرها” بعدم الأمومة، بعدم الإنجاب، بل ـ ضمنا ـ بعدم الزواج، هو الذى جبن أن يكون أبا، وأن تكون ثريا أما بعد أن أتيحت لهما الفرصة، ثم يأتى الآن يخطب، ويعظ، ويلوم، وربما يعاير. ما هذا؟. حاول أن يبدو طيبا وعاقلا وعونا مهذبا (ما أمكن)، ونجح إلا قليلا.
فرح أنها فوتت فلم تعقب، ولم يحاول أن ينظر فى وجهها.
ـ وهل عرفت سبب هروبهما؟.
ـ لا.
ـ لماذا؟.
ـ لأنهما لا يعرفانه.
شرحت بسمة ـ بإيجاز ـ كيف أن هذا، هو هكذا، فقط، ذلك أنه حين تقابل فتحى ورشا فى جرزة اتفقا ببساطة على أن يتهاتفا، ثم مرة فى مرة، قررا أن هذا “هكذا” لا ينفع، والتقيا دون تخطيط طويل المدى، فكان ما كان.
ـ قصة حب مراهقة.
ـ ليس تماما.
ـ بداية حب؟.
ـ اسمع يا جلال، نحن لا نعرف هذا الجيل، هم يفكرون بطريقة أخرى، ويحبون بطريقة أخرى، ويهربون بطريقة أخرى، لا تسألنى هكذا وكأنى أعرف، هل تصدقنى إذا قلت لك إنهم أعقل من أهلهم، ممن عرفت من أهلهم، من محمود قريبك، ومن فاتيما هذه.
ـ فاتيما هذه!! ألا تحبينها؟.
ـ أحبها ماذا، وهباب ماذا. هذه امرأة حالمة، طيبة “خواجاتى”، تمارس حياتها وكأنها تكتب رواية.
ـ وأنت يا بسمة تكتبين قصصك، وكأنك تمارسين حياتك.
ذهلت بسمة وكأن جلالا قد “فقع دملا” لم ينضج. سارعت بالهجوم حتى لا تعلن إعجابها برأيه أو برؤيته.
ـ وأنت يا جلال ماذا تفعل؟.
ـ أنا أعيش.
ـ لا يا شيخ؟. أنت تهرب وتحلم، وتحلم وتهرب، ثم تأتى الآن لتلعب دور الواعظ الرشيد.
ما هذا؟. هم فى ماذا أم ماذا؟. هل تركا موضوع الأولاد وراحا يتبارزان بالكلمات، عندها حق، هو لا يعرفها لمدة طويلة، ولكنه يتصور أنه يعرفها بدرجة كافية.
مازالت آثار بصمات حضورها فى المطعم الطليانى منطبعة فى وعيه، هذه امرأة جمالها فى موقفها، فى أمومتها التى لم تختبر، لا هذا ولا ذاك قلل من أنوثتها الجاهزة، ثم إنها ليست ملتهمة، ولا هى تريد أن تمتلك أحدا. لم يجد صفة دينية، ولا حتى إلهية يصف بها هذا الوعى الجميل المبدع، المتوهج. يسمة تبدو وكأنها تحمل قدرا من الأمومة تحتوى به كل الناس دون استحواذ، ليس فقط فتحى ورشا، ولكنها تحتويه هو أيضا، أمومة هى الأنوثة فى عنفوانها، تمنى لو تتبناه معهما، معهم، يا خيبته القوية، أهكذا يرتد إلى نفسه باستمرار. بسمة التى لم تنجب، تتبنى كل هؤلاء البشر؟. تذكر بعض قصصها بشكل غائم، هى تتبدى فيها هكذا تماما، وقال:
ـ والعمل الآن؟.
ـ كانا طيبين جدا، بعد يومين اثنين، وافقا على أن أكلم أهلهما بشروط.
ـ أية شروط؟.
ـ لا توجد شروط بالمعنى الحقيقى، حاولت أن أفهم شروطهما، لم أستطع، حين قالا لى معا (ربما بعد أن اتفقا)، ثم كل على حدة، : إن شرطهما الوحيد هو أن “يعيشا مثل الناس”، وافقت من فورى:
ـ .. شرطهما بسيط جدا.
ـ لا يا شيخ؟.!!.
ـ شرطهما أن يعيشا مثل الناس. ماذا فى هذا؟. هل يوجد أبسط من ذلك؟.
ـ عليك نور يا ملك الأحلام والمشاريع والهرب. وكيف يعيش الناس؟.
ـ هه؟.؟.!!.
اكتشف أنه لا يعرف فعلا كيف يعيش الناس.
ـ 6ـ
ـ تصورى يا منال؟.!!!
ـ أتصور ونصف، ولكن دعك من كل هذا، قل لى أولا ماذا تريد أنت؟. ماذا تفعل؟. من تحب؟. فاتيما، أم ثريا، أم بهية، أم بسمة، أم موجة دهب السويسرية مجهولة الاسم، أم مـن؟.
كان جلال قد حكى لها ـ على فترات ـ عن كل ما كان أو أغلبه، ماعدا ليلة المطعم الطليانى وفاتيما؛ ذلك أن صبرها وسخريتها، وحريتها، وتاريخهما معا، كل ذلك يسمح له أن يمر عليها بين الحين والحين ليقول ما يشاء، ويتبادلا الهجوم الساخر الطيب؛ فيمضى مؤتنسا وهو آمن من خلال الحفاظ على المسافة الثابتة بينهما.
ـ أحبك أنت يا منال.
ـ كملت، ما أنا عارفة، حبك لى هو آمن حب، حب مع وقف التنفيذ.
ـ يبدو أن كل حبى هو مع وقف التنفيذ، أو هو صالح للاستعمال مرة واحدة، “ديسبوزابل”، مثل حقن البلاستيك أو المناديل الورقية.
ـ يالتشبيهاتك المقرفة!!! بل يالقسوتك يا أخى:
ـ قولى ما شئت، أنا ما جئتك إلا لأنك بعيدة عن كل هذا، عن كل هؤلاء، ما رأيك؟. ماذا يمكن أن نفعل الآن لهؤلاء الأولاد؟.
ـ وأنا مالى يا جدع أنت، هل هم أولادى؟.
ـ وحقوق الإنسان؟.
ـ ماذا تقول،؟. هل تريدنى أن أكتب مذكرة للمنظمة، أو أن أجمع توقيعات المهفوفين أمثالك، نطالب فيها الست فاتيما الجولف، والأستاذ محمود الجرزاوى أن يفرجوا عن أبنائهم المعتقلين بلا محاكمة.
انتبه جلال إلى ما كان منتبها إليه : صحيح، هؤلاء الأولاد معتقلون دون محاكمة، وهو؟. ومنال؟. أليسا معتقلين أيضا؟.
لم تنقذه منال هذه المرة بمشورة يستلهمها عادة من سخريتها، ثم إنه جاءها بعد أن وجد نفسه عاجزا عن أن يقابل أيا من أطراف الحكاية، لا الأولاد، ولا أهلهم، لم يطلب أحد منه شيئا.
شعر أن مشروعه المضحك ذاك مرتبط أشد الارتباط بهذا الذى حدث. يبدو أن ما حدث إنما يكتب للمشروع برمته شهادة وفاة، قبل أن يولد، قبل أن يختبر.
ـ 7ـ
حين تشتد به المسألة يترجح من أقصاها إلى أقصاها، لم يعد يستعمل حكاية أقصى اليمين وأقصى اليسار، أصبحت الدنيا مليئة بالأقصى فى كل ناحية، مع أن أقصى الأقصى هو ذات النقطة. الأصوليون المتدينون هم هم الأصوليون العلمانيون، الهاربون إلى الجولف هم الهاربون إلى جرزا.
”نعم؟ نعم؟،عمِّمْ تسترح”.
”تعميم ماذا ونيلة ماذا، ألا ترى أن كله مثل كله؟”.
”لا طبعا، منال ـ مثلا ـ ليست مثل وردة”.
”بل منال هى أقرب واحدة إلى وردة”.
”هل تفرق معك يا كذاب؟.
”ماذاتقصد؟”.
لا شئ، أنت تعرف كل شئ”.
ـ كيف حال توحيدة يا وردة؟.
ـ مثل الفل، تقبل يديك.
ـ ألا تحتاج إلى أب؟.
ـ …. يا جلال بك، تقليب مواجع أم ماذا؟. ألا أملأ عينك، ما أنا أبوها.
ـ أنت سيدة الكل، ولكنى أسأل لأنى أخاف عليها، تحدث أشياء للأولاد هذه الأيام تشغلنى:
ـ اسم الله عليك وعلى حواليك، هذه الأيام فقط؟. طول عمر الدنيا فيها أشياء، وفيها أولاد، والأشياء تحدث للأولاد، ثم إن الأولاد يعملون أشياء، ما الجديد الذى جرى؟.
قالت ذلك وضحكت، ثم ضحكت.
سكت، أو هى انصرفت فجأة إلى زبون آخر، فاضطر أن يسكت، يا ترى ما موقف رشا الآن من والديها، هل تغيرت؟. هل تغيرا؟. ومحمود؟. ثم هو لم يجد جوابا عن سؤال لحوح عن الأسباب الحقيقية لعودة فتحى إلى والده باختياره؟.
تعجب جلال فى البداية حين بلغه أنه حين خير فتحى بين أن يعود ليعيش مع أمه (المحتجة، أو الغاضبة، أو الناشز!) فى القاهرة، أو أن يعود إلى أبيه فى جرزة، فضل أن يعود إلى جرزة. أبلغته ذلك بسمة قنديل نفسها، بل إنها هى التى خيرت فتحى: لم يشعر أنها كانت تمهد لكتابة قصة، وقد تعجبت بسمة مثلما تعجب هو لاختيار فتحى، وإن كان يعتقد أن عجبه كان أقل، أن يرجع فتحى إلى جرزة هو أمر يتماشى مع موقفه قبل الحادث، مع علاقته بأبيه، مع حلمهما الغامض.
قالت بسمة فى نفسها ـ كما قال جلال لنفسه بعد ذلك ـ إذا كان الأمر كذلك فلم ترك جرزة أصلا مع رشا؟. وهل زاد اقتناعا، بعد هروبه، بفكر والده؟. بخطوة والده؟. بمغامرة والده؟. عجيب أمر هؤلاء الأولاد، يرجعون إلى ما هربوا منه، أو هم يكررونه وهم يتصورون أنهم يغيروه، أو قد يعملون عكسه الذى يساويه.
”يا صلاة النبى على حكمة أهلك؟ وهل هذا قاصر على الأولاد؟”
”آه ،صحيح،يبدو أن كل الناس هكذا”
”وأنت أولهم”.
”فوت هذه”.
”لا”.
عادت وردة وقد بدا عليها إشراق متجدد، ورحبت به من جديد، وكأنها لم ترحب به من قبل، فخجل أن يفاتحها مرة ثانية فى أمر ابنتها، مالها هى؟.، ومع ذلك سألها:
ـ كيف يعيش الناس يا وردة؟.
دهشت ثم قهقهت، دون أن تمر بمرحلة الابتسام أو الضحك.
ـ والنبى دمك خفيف يا سعادة البيه.
ـ أنا أتكلم جدْ يا وردة.
ـ جد .. هزار، دمك شربات والمصحف.
ـ اجلسى يا وردة، سوف أحكى لك حتى لا تظنى بى كذا أو كذا.
ـ من عينى، خذ راحتك.
حكى لها ـ بإيجاز شديد ـ حكاية هرب ابن وابنة بعض معارفه (لم يقل: هرب ابن وابنة بعض أصدقائه)، وأنهما حين رجعا اشترطا أن يعيشا “كما يعيش الناس”، وقد قبل الأهل والوسطاء هذا الشرط الغريب الذى لم يستطع هو أن يحـدده، وهو يعتقد أن أحدا لا يستطيع أن يحدده: لا الهاربان، ولا الأهل، ولا الوسطاء، وأنه ما سألها إلا لأنه تصور أنها “تعيش”، بدون زوج “تعيش”. بعد موت عبد المعطى “تعيش”. بوفرة الرزق تعيش. بقلته “تعيش”.
ـ تلاقيهم ليسوا هم.
ـ من هم الذين ليسوا هم؟. الأولاد أم الأهل؟.
ـ كلهم.
ـ ماذا تعنين؟.
ـ ده دى ؟!!.
وضحكت ثانية.
لم يستدرج ـ مثل محمود ـ ليتصور أنها بهذه التلقائية تمثل الذين “يعيشون ـ فعلا ـ مثلهم مثل الناس”؛ ذلك أنه منتبه دائما، من تجارب مؤلمة مع بدو “أولاد على” فى رأس الحكمة حين كلف ببعض المهام الصحفية هناك، أن ثم فرقا هائلا بين التلقائية والبدائية، وهو فرق خطير. ضبط نفسه متلبسا بالعودة إلى التنظير، راح يتأملها وهى تذهب وتجئ وتلبى الطلبات. أخذ يرتشف الشاى الثقيل من الخمسينة. أين هذا من الشاى فى الكوب الزجاجى الكبير الناصع الشفافية – غير المزرق – “على ميه بيضاء”.
ليسوا واحدا.
وهو يفضل الشاى على “ميه بيضه”.
ـ 8 ـ
كأن صرحا كاملا كان على وشك الافتتاح، ثم انهار، لم يحدث شئ مباشر، لم يتعرض جلال أو مشروعه للرفض المتعجل أو المهين، لم يرفضه أحد صراحة، لم يجرب ويفشل، لكن الذى حدث كان مزعجا جدا، ومنذرا جدا، ودالا جدا.
نعرفهم أولا؟. أم نعلمهم أولا؟. كيف نعرفهم حتى نعرف كيف نعلمهم؟. وكيف نعلمهم ونحن لم نعرفهم بعد؟.
خيبة بليغة، والدنيا سائرة منذ قرون دون أن تطرح هذه الأسئلة أصلا، الأولاد يتعلمون ما يمكن، ويجهلون ما ليس فى المتناول، ويراجعون ويكبرون وهكذا، والدنيا سائرة بالرغم من كل شئ، فلماذا؟.
صحيح لماذا؟. هل حدث خطأ فى المسيرة؟. هل باظت لعبة التناسب التلقائى؟. نعم؟. نعم؟. قال لنفسه إنه لما وصل إليه أن “الحياة هى الحل”، قرر أن يسلم نفسه للحياة، وحين حاول أن ينفذ قراره وجد نفسه أنه لا يمكن أن يفعل ذلك وحده، وحين راح يبحث عن شريك يكتشف ما فعل دون اتفاق بينهما، نظرا إلى بعضهما البعض ونسيا الحياة.
راح يتذكر الثلاث مرات التى لم تستغرق أى منها ساعات، مرتين فى الحقيقة، ومرة فى الخيال حين تزوج وردة. كيف شعر فى تلك التجارب بأصل الإنسان الذى لم يتشوه، أو الذى نجح فى أن يتجاوز تشوهه؟.
”طيب، ومنال؟”.
”لا ياعم، هذاهو الصعب بعينه”.
”يالله يا جبان”.
”أنت الذى هو ستين جبانا”.
”جبننا يساعد بعضه بعضا”.
”ماشى”.
ـ 9 ـ
كانت بسمة قد حكت له هامشا غريبا أثناء تواجد “الأولاد” عندها.
قالت إنها عشية اليوم التالى تلقت مكالمة من شاب زعم أنه صديق رشا، وحين سألته منزعجة عمن أعطاه الرقم، ضحك منها وقال لها إنه لا يفتح المندل، ففهمت ـ بخجل ـ أن رشا هى التى أعطته الرقم، وتعجبت كيف تفعل رشا ذلك، وهى الحريصة على ألا يعرف أحد مكانها. تقول بسمة إنها قد أرادت أن تتعرف على هذا الشاب خشية أن يكون هو البديل للجوء رشا وفتحى إليها، وقدرت أنه واحد من الشباب الضائع بين المخدر والهبل، فتحايلت على رشا أن تدعوه إلى البيت إن شاءت، وألمحت إلى أنه يهمها أن تتعرف عليه من باب زيادة الثقة، وقد قالت لها رشا إنها لا تمانع، فهو من أعضاء النادى القديم، وأيضا النادى الجديد فى معتقلهم الأوسع (تقصد الجولف)، ولكنها حذرت بسمة من أنها ستجده مختلفا.
ـ مختلف؟. يختلف عن من مثلا..؟. عنى أم عنك؟.
ـ عما تتوقعين والسلام.
ـ تحبينه يا رشا؟.
قالت بسمة لجلال، دون أن يطلب منها أن تستمر، إن الشاب حضر إلى البيت بناء على دعوة رشا، احتراما لرغبة بسمة، كما يبدو أن رشا كانت قد اشتاقت إلى رؤيته، ربما.
ـ اسمى فؤاد أحمد منصور.
ـ أهلا وسهلا، أعرف اسمك الأول “فؤاد” من مكالمتك، ومن رشا، أعرفك بفتحى صديقى وصديق رشا.
كانت بسمة قد تعمدت ـ بعد إذن رشا ـ أن يحضر فتحى المقابلة، كما أنها ضغطت على كلمة “صديقي؛ و ” صديق” رشا لتبلغه رسالة ما.
ـ أهلا.
ـ أهلا.
لم تظهر أية بوادر مبارزة بين الشابين حول رشا، ضد ما توقعته بسمة، كما يبدو أن فؤادا كان يعلم برحلتهما معا بدرجة ما، قال فؤاد بجسارة لا تناسب سنه، بسمة لم تستطع أن تحدس سنه أيضا، هل تخطى العشرين؟. ربما، ربما أقل.
ـ أنا أقرأ لك.
فرحت بسمة وكأنها كاتبة مبتدئة تسمع هذا الخبر من أول قارئ لا تعرفه، وكأنها ليست صاحبة الأقدام الثابتة فى مجالها، وكأن اسمها لم يأخذ المكان الذى أخذه.
ـ ومارأيك؟.
ـ مجتهدة جدا.
أحست أنها أمام أستاذ للغة العربية يصحح لها موضوع إنشاء فدهشت، وراجعت، وابتسمت، وقالت مداعبة، أو مشجعة:
ـ يعنى يأتى منى؟.
ـ لا.
ليس إلى هذه الدرجة، من أنت يا ابن أمس؟. ونسيت بسمة رشا، والتقطت القفاز الذى ألقاه الشاب فى وجهها، وقالت له من فوق:
ـ هل لك فى الأدب؟.
ـ ولا فى قلة الأدب.
عندك حق يا رشا، عندك حق مائة فى المائة، هذا شاب مختلف، ولكن كيف تعرفت عليه يا رشا، وأنتما مختلفان تماما هكذا.
ـ إذن لك فى ماذا؟.
قال بحسم محدد إن كل هذا الذى يتسلى به المبدعون والمثقفون ودعاة الأخلاق والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتجار المخدرات الدينية، هو تعطيل للتاريخ ومضيعة للوقت، وأن الحل محسوم، ولا سبيل إلى التخلص مرة واحدة وجذريا من كل معوقات انطلاق الإنسان إلا أن تستعيد الطبقة العاملة دورها؛ لتتولى مرة واحدة وإلى الأبد مقاليد الأمور. أما التماسات الرضا، وتهويمات الخيال هذه، سواء ظهرت فى قصص أو مواعظ دينية أو أخلاق، فما هى إلا تقاسيم جديدة على اللحن المخدر القديم.
وقال كلاما كثيرا بذات الحسم، فخيل لبسمة أنها فى الأربعينيات، مع أنها لم تكن هناك آنذاك، ولم تجد ما تعلق به، ولم تستطع أن تشفق عليه، ونظرت إلى رشا فوجدتها منبهرة به، وإن لم تقع فى غرامه بعد، ثم نظرت إلى فتحى فوجدته يتأمله، لم تستطع أن تجزم: يتأمله بدهشه أم بشفقه أم بإعجاب، أم بغيرة؟.
ما كاد فؤاد ينتهى من قراءة هذا المانيفستو بكل الثقة والحماسة حتى وجهت بسمة الحديث إلى فتحى سائلة:
ـ ما رأيك؟.
قال فتحى فى غير توقع.
ـ أوحشنى أبى:
نظر إليه فؤاد وكأنه يحاول أن يمنع ذراعه أن يمتد إليه ليهدهده؛ استعلاء أو تسفيها أو نفيا، مع أن بسمة فرحت بالرد دون أن تفهمه.
التفتت بسمة إلى فؤاد تسأله:
ـ هل تتابع الأحداث؟. أقصد ما حدث فى السنوات العشر الأخيرة، على مستوى العالم، وهنا فى مصر، وفى فلسطين، وفى الأقصر.
قال فؤاد بحسم الأستاذ:
ـ كنت أتوقع هذ السؤال الاستنكارى، هو هو الذى أسمعه من كل الذين هرولوا للتراجع عدوا حين أتيحت لهم أول فرصة، لكن لا تحلل الاتحاد السوفيتى، ولا انضمام أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو، ولا حتى تذبذب سياسة السوق فى الصين يمكن أن يغير مجرى التاريخ. (سوف يضيف إلى القائمة لاحقا ما حدث فى برجى التجارة العالمى ثم أفغانستان والعراق، ومن عليه الدور…)
لم تتمالك بسـمة نفسها، لا إعجابا، ولا رفضا، كانت تحسب أن مثل هذا النوع من التفكير، قد انقرض، وأنه لم يبق أمام الشباب الآن من اختيارات إلا بين الجماعات والانحلال. سألته فجأة:
ـ أين تسكن يا فؤاد؟.
أجاب دون تردد:
ـ فى أرض الجولف، ألم تخبرك رشا؟.
قالت له بسمة إنها أخبرتها، وإنها كانت فقط تريد أن تتأكد، وإنها لا تعنى شيئا، وإنها تحترم موقفه هذا حتى لو لم تقتنع بحرف منه، فقط هى تتساءل عن الوسيلة.
ـ ثورة دموية مستمرة، لا أقل.
ـ يقوم بها من؟. (لم تقل إن شاء الله، خوفا من أن تصله سخريتها).
ـ تقوم بها الطبقة المطحونة فعلا.
ـ دموية؟.
ـ دموية.
ـ ومستمرة؟.
ـ ومستمرة.
نظرت بسمة إلى رشا، ولاحظت أن الانزعاج غلب الإعجاب فى هذه اللحظة فقط.
ثم إن بسمة حولت نظراتها إلى فتحى سائلة:
ـ هل فكرت متى نخطر والدك بمكانك وشروطك؟.
انزعجت رشا، فسارعت بسمة بالإكمال:
ـ بعد مناقشة الأمر مع رشا طبعا.
ثم انتبهت إلى فؤاد، واعتذرت، وقالت له إنها قدرت أن المناقشة انتهت، وهو لا بد يعلم كم أن أهل صديقيه (اعتبرت فتحى صديقه بالعافية) مشغولان عليهما الآن، وسألته ما رأيه هو فى كيفية إنهاء موقف صديقيه، فأوضح فؤاد أن الحلول الجزئية لا طائل وراءها، وأن على كل أن يلزم موقعه حتى يحين أوان الثورة الدموية المستمرة.
* * *
حين استأذن فؤاد لمحت بسمة فى وجهه، أو خلف وجهه، طفلا طيبا جدا، فكادت تناديه لتحتضنه حضنا طويلا، وتضع رأسه على كتفها حتى يرفعها بنفسه.
تصورت أنه إما سوف يستغرق فى نوم هادئ عميق على كتفها بعد عدة نترات فزعة. أو أنه سوف ينقض عليها ويخنقها.
* * *
الفصل الرابع عشر
العريش
كانت التهمة الموجهة لرئيس الوزراء تؤكد سوء نيته منذ قبل تكليف الرئيس له بتشكيل الوزارة. لا أحد يعرف كيف رصدت المباحث العامة تحركات “سوء النية” بهذه الدقة، ثم إنه لم يدل بأى تصريح لأى صحفى محلى أو أجنبى، ولم يكن قد مضى على تشكيل الوزارة سوى يومين بثلاث ليال. ثم صدر مرسوم الإقالة دون محاكمة، وحتى التهمة المفروض أنها سالفة الذكر لم توجه أصلا بشكل رسمى:
انتزع المصور محمد عبد المقصود من جواز سفره الورقة التى بها تأشيرة الدخول إلى دبى، ومزقها، ثم ألقى بالجواز نفسه من نافذة القطار، ثم قال :
”..ولا حتى هذا عاد ينفع”.
-1-
كان ممدوح موسى قد فوت له هذه المهمة ” لعله يعقل”. تزايدت الضائقة المالية على الرغم من الترجمة التى يقوم بها للمنظمة من خلال منال، وهو لم يشك لممدوح أصلا، لكن يبدو أن ممدوحا عنده نظر، أو بعد نظر، فجلال إن لم يكن قد جاع، فهو سيجوع. لم يكن ممدوح متأكدا من أن جلالا سيقبل، فهو يعلم من هو جلال، ويعرف شروطه للعودة إلى الصحافة، تلك الشروط التى لم يعد يقبلها أحد من رؤساء التحرير، بل ولا من القراء أنفسهم. قال جلال لنفسه مثلا خائبا أقتنع من خلاله أن يقبل المهمة، مع أنه لا يحب الاستشهاد بالأمثال. و قرر أن يقبل أى شئ حتى يجد الشئ!!.
مذبحة النخيل، سما العريش، فندق أوبروى،…
مؤتمران فى مكان واحد، والمطلوب تغطيتهما: الأول تحت رعاية مجلة خليجية، والثانى على “شرف” شركتى أدوية انضمتا حديثا. صدفة هى التى جمعت المؤتمرين معا لمجرد أن الفندق اسمه أوبروى، والبلد اسمها العريش، والشهر هو يونيو والحجرات خالية، والمؤتمرون يستحسن أن يـدلـلوا بقدر الإمكان، هذا هو النظام المؤتمراتى، الجديد. المؤتمر الأول: اسمه “المرأة والحرية والإبداع”. وحقيقة الأمر أنه يدور حول ما يسمى بـ”الأدب النسائى”، وربما هو ـ فى عمقه ـ ترويج لكاتبة شيخة، أو شاعرة بترولية، تحت رعاية “مجلة” التنوير الخليجية، بالاشتراك مع “جمعية المرأة العربية 21” (يقصدون القرن 21، فى الأغلب!!!). أما المؤتمر الثانى فهو عن “الطب البديل”. وقد تعجب جلال فى البداية كيف تنفق شركة أدوية على ما يهددها، فأفهمه ممدوح أنها مسائل معقدة، وأنه لا يعرف إن كان المؤتمر عن الطب البديل أو نفيا لهذا الطب البديل، وطمأنه على نصاحة الشركات، وأن مهمته لن تدخل فيما وراء النيات الظاهرة، وأن المطلوب هو “تغطية المؤتمر” صحفيا بمواد كافية، يصنع منها “مطبخ الممول” ما يشاء بعد ذلك، كيف شاء.
عمل ليس جديدا على جلال، لا من الناحية الحرفية، ولا من الناحية الأخلاقية، عمل ملئ بالصنعة واللاأخلاق، المعرفة الانتقائية الموجـهة، التركيز على الأجزاء الطرفية، قلة الأخلاق أصبحت مموهة تحت أسماء حركية: مثالية، ودينية، وعلمية.. حسنة الشكل، شائعة الشهرة، يسرى سمها فى اتجاه محدد ليخدم الهدف الحقيقى، و كل ما عدا ذلك وسائل إلى ذلك.
برر جلال لنفسه قبوله المهمة بنفس تبريرات زمان :” أنا مالى”، “أنا أجمع الأبجدية، وهم يكتبون ما شاؤوا بها من كلمات”. “أكل العيش واجب أخلاقى مائة فى المائة تحت كل الظروف”، “البديل هو الشحاذة” ومضاعفاتها من ذل وذهول. ها هو يعود يعبر الوحل ذا الرائحة النتنة، وهو يتصور أنه رافع ثيابه، ولن يصيبه الرذاذ.
أضاف: ما أمكن ذلك.
ثم أضاف: لايمكن ذلك.
ثم عاد سأل دون انتظار إجابة: كيف يمكن ذلك؟.
كان حين يجمع المعلومات الأساسية يتصور نفسه مثل ابن البواب الذى يرسلونه ليشترى الخضار وبعض الأدوية وسما للفئران، وهو يتصور أن الخضار للطبيخ والأدوية للمريض، والسم للفئران، ثم إذا به يفاجأ ـ فى أحيان ليست قليلة ـ أن الحكاية ليست هكذا بالضبط، فالسم للمريض، والخضار للفئران، وكذا وكيت، وهو حين انتبه إلى هذه اللعبة قال هذا يكفى وجاع، ثم حين قرر أن يعمل مدرسا، كاد أن يجن.
وها هو يعود صاغرا، ليس صاغرا جدا، لكنه صاغر فعلا.
يقبل القيام بأمثال هذه المهمة مضطرا مختارا، التحقيقات الصحفية بما فيها تغطية المؤتمرات طول عمرها عبء ثقيل على قلبه، كان دائما يتصور أنه امتحان يتحايل لتأجيله، لكن ما شجعه هذه المرة، أو قل ما قلل من خجله أمام نفسه هو أن الموضوعين شائقان بالنسبة إليه: إبداع المرأة العربية، الأدب نسائى، والمجلة خليجية، والمبدعات الفاتنات وغير الفاتنات رائحات غاديات، شئ يستأهل، والثاني: الطب البديل، وهو يحب معرفة كل البدائل، بديل للمهنة، وبديل للزواج، وبديل للمزاج، وربما بديل له شخصيا. من يدرى، ثم أضف إلى ذلك أنها مهمة عظيمة الأجر، فمن أقدر من مجلة خليجية، وشركة أدوية، تذكر الدكتورة مادلين، وغالى جوهر، وأمين عبد الحكيم والشركة الجديدة، ولم يتذكر الدكتورة إصلاح فاضل.
حين قرأ برنامج جلسات المؤتمر الطبى هذا عرف من فوره أن الأمر مرسوم ليمسحوا بأى بديل الأرض، ماشى، هو ماله؟. بتغطيته الصحفية أو بدونها سيمسحون بمن يريدون الأرض وزيادة، هل يوجد أقوى من شركات السيارات، وشركات الأدوية غير شركات السلاح؟.
”على الدولار القوى الاعتماد، فى التجارة والدعارة والفساد”، حلوة هذه، الله يرحمك يامحمد يا نجيب. سمعها من عم إدريس وهو يسخر.
”على الإله القوى الاعتماد، بالنظام والعمل والاتحاد”.
طز فى الصحافة وطز فى التدريس، وطز فى الثورة، الذين عملوها والذين سرقوها، ماذا لو أنه يعمل مؤلف أغان.
جلسات المؤتمر الأول. العناوين ظريفة: المرأة وحرية الرجل، المرأة وخدعة الإبداع البيولوجى، المرأة شاعرة الحداثة، النقد الأدبى وقهر المرأة، أين أنت يامنال؟. يا ترى هل تحضر، كلام ظريف يهمها لكنها امرأة عملية “هى لا تبدع وإنما تتجمل”، يا خسارة!! تتجمل أو لا تتجمل، يا اللااااه.
عناوين جلسات المؤتمر الثانى أكثر رصانة، وألمع علما : تقدم الطب وكفاية العقاقير، الشفافية تسمح بانتقال الدواء أسرع من انتقال المرض (حلوة هذه)، التداوى هو الحل، الوقاية بالأدوية العلاجية! “علم السعادة “. الاسترخاء بالكيمياء.
أين الطب البديل؟.
هذا هو: ندوة نقاش: الطب البديل بين الخرافة والتدجيل، الطب البديل أم طب المستقبل، الطب البديل وخدعة العودة إلى الطبيعة، “الأعشاب الخاوية والأعشاب السامة” يا حلاوة!! العودة إلى الطبيعة أصبحت تجارة منافسة يخافون منها وليست انسحابا مجنونا يامحمود يا ابن المشد.
سوف يمر اليومان على خير، كل المؤتمرات تمر على خير، ليس مطلوبا منه لإتمام التحقيق غير الأحاديث الجانبية، والصور، ثم الباقى كله على الشركات المعلنة، وما قـدر يكون.المسألة محسومة، والتوصيات مكتوبة قبل بداية أى مؤتمر.
سوف ينتهى المؤتمر الأول إلى أن المرأة مقهورة وغلبانة، وأن عليها أن تؤدب الرجل وتعرفه مركزه جزاء خنوثته وليونته التى تدل على تاريخه الملئ بالتزييف والطغيان، الأمر الذى اضطر كل النساء أن يكن رجالا.
ضحك وهو يقترح اسما آخر لمؤتمر المرأة، سماه: “المرأة العصرية : البديل لخيبة الرجل القوية” .
سوف ينتهى المؤتمر الثانى بالتوصية بخصاء كل من تسول له نفسه أن يحافظ على الأدوية الرخيصة لصالح المرضى، أو يهمس باحتمال التقليل من الاعتماد على التداوى بالعقاقير ليل نهار، طول العمر، فإذا كان المخالف امرأة فيوصى بتحويلها إلى رجل ـ بالهرمونات الخلقة الحديثة، وربما بعلاج الجينات ـ وذلك حتى يمكن خصاؤها بعد نجاح التحول.
ضحك مرة أخرى برغم أنه لاحظ سخفه وهو يتعسف اسما قبيحا لهذا المؤتمر أيضا، اسما لا يصح نطقه (لأن كلمة الخصاء الذى فيه هى أكثر كلماته حياء). آه لو سمعه أحد ممولى المؤتمر، إذن لحرم من المائدة المفتوحة، ومن الحجرة المغلقة معا. منع نفسه من الضحك بصوت عال، واكتفى بالابتسام، وحمد الله أنه أمسك نفسه ولم يعلن هذه الخواطر لممدوح وهو يعرض عليه المهمة. كان يمكن ألا يأخذ هذه الفرصة وهو فى أشد الحاجة إلى رائحة الرفاهية وملمس أوراق النقد، المشربة بحمرة مبرقشة.
يفعلون ما بدا لهم، “كل واحد يبرمج” نفسه ويستغل من يطوله من البشر، من حيث إن النقود هى الموضوعية الممتدة المفعول. لماذا يفضل العلماء والمثقفون أن تعقد هذه المؤتمرات العلمية أو الثقافية فى المصايف و المشاتى والمنتجعات؟. لماذ انتقل العلم من حول العمود (فى الأزهر) أو مدرجات الجامعات إلى قاعات المحاضرات مكيفة الهواء، لينتهى فى الفنادق ذات الخمسة نجوم، والمائدة المفتوحة، والعشاء الأخير؟. حاول أن يجد ترجمة لكلمة “جالا” التى تصف “العشاء المعتبر الذى تختتم به هذه اللقاءات فى الليلة الأخيرة أو قبل الأخيرة، عشاء “جالا” Gala Dinner فلما لم يجد ترجمة مناسبة. سماه العشاء الأخير، ليخفى الاسم الآخر الذى خطر له: عشاء الـ “جلا جلا”؟.
لو أن الذين يغيرون من نمط حياتنا يفعلونها مرة واحدة، وبصراحة غير متسحبة، إذن لأمكن اتخاذ موقف بالتسليم أو المقاومة، لكن الحاصل أنهم يغيرونها واحدة واحدة، وتحت ذات الأسماء القديمة: تتغير الأماكن، ثم الأدوات، ثم المثل العليا، ثم محكات الجزاء، وطرق التقييم، وتختفى وراء كل ذلك ألعاب الثللية والرشاوى والتخطيط الأعلى لتسخير كل هذا للمكسب، فالمكسب، فالترويج لسياسة السوق والنظام العالمى والجات، النات كوا النات. حتى العلم، عولموه فى الفنادق وليس فى الأذهان، هكذا نتحول قطعة قطعة، بالتقسيط، إلى ما لا نعرف، إلى ما لم نختر.
تفكير تآمرى؟.
تآمرى:. تآمرى: بَسّ أعيش.
قبل المهمة وهو محصن ضد كل أنواع الخدع، وهو يحذق آلياتها جميعا. مادام قد اعتبرها فرصة، فما الداعى للغنج؟. قبلها والسلام، وها هو فى العريش التى لم يزرها إلا يوما عابرا من سنوات، كان يوما واحدا لا ينساه، الآن يصحبه المصور محمد عبد المقصود الذى سوف يقوم بتغطية المهمة تصويرا بما يصلح لكل الأغراض، حجرتهما فى فندق مجاور. أرخص، فندق الحاشية . الحجرة لائقة، لكنها ليست خمسة نجوم على كل حال، أحسن.
ماذا لو أنهم صنفوا البيوت والعقول والشهادات والأديان أيضا بعدد النجوم وعلقوها على الأبواب، وعلى ياقات الحلل والقمصان مثل شارات المؤتمر؟. إذن لارتبكت الأمور وقامت المعارك بلا نهاية. هكذا أحسن. خل الطابق مستورا. ثم إنه كان يريد أن يرى العريش مرة أخرى، لم يزرها إلا مرة واحدة بعد أن غادرها أولاد الكلب ببضع سنوات. كانت آثارهم باقية، ليس فقط فى بضائعهم، ومخلفاتهم، بل فى وعى الناس وذاكرتهم، مازال يذكر دهشته فى تلك الزيارة البعيدة. المصيبة ـ التى اعتبرها كارثة ـ أن عددا لم يتوقعه من الناس كانوا يذكرونهم بخير، يذكرون أولاد الكلب هؤلاء بخير، هذا هو الاستعمار الحقيقى، الخطر الحقيقى: قد يشتمونهم أمام مذيع أو نائب فى الحزب الوطنى، لكن أمام بعضهم البعض، وأمام أمثاله إذا أمنوا: يقولون كلاما مختلفا مؤلما. يذكر أنه عند ما كان فى “دهب” آخر مرة، وراح يتجاذب الحديث مع “فرج” صاحب مخيم “الفرس الأرعن”، حكى له حادثا حين أصيب ابنه وكسرت ساقه وبانت عظامه مهشمة من خلال جرح مفتوح، حكى الإجراءات الحاسمة والعاجلة ـ الإجراءات التى اتخذها المحتلون الإسرائيليون لعلاج ابنه (ذى الخمسة سنوات)، إجراءات لم يكن فرج يتصور أنها توجد على ظهر الدنيا أصلا، تم نقل الولد إلى تل أبيب من فوره، كاد الأمر يتطلب استدعاء طائرة إسعاف مروحية إذا لزم الأمر،أسعفوا الولد بالمجان، ثم عملية فى إثر عملية، وكذا وكيت، كان فرج وهو يحكى منبهرا متحفظا معا، سأله جلال:
- إذن ماذا يا فرج؟.
قال دون تردد:
ـ يارب نفضل مع مصر، على أن يأخذ “باشواتها” بالهم منا قليلا.
ـ2ـ
لابد من ترتيب مع محمد عبد المقصود المصور، حتى يمكن أن يتما المهمة كما ينبغى، هذا مع أن المكافأة التى اتفقا عليها لم تشترط كمية معينة من المعلومات أو الصور، المهم هو “تغطية المؤتمرين”، حلوة تغطية هذه، لابد من التغطية، الإثم ما حاك فى الصدر وخشيت أن يطلع عليه الناس، هذه مهمة بها ثواب كبير ما دامت تقوم بالتغطية، ولا من شاف ولا من درى:
”هل هذا وقت الاستظراف يا بارد؟”.
”هذاعـزه غصبا عن حبة عينك، وإلا كيف أصبرحتى ينتهى كل شئ”.
” أنت أنهيت كل شئ من زمان”.
”البركة فى سعادتك”.
”إخرس يا جبان!”.
”تانى؟”.
راح يستعرض برنامج المؤتمرين حتى يختار بعض الجلسات وبعض المتحدثين وبعض المسئولين، وبعض ضيوف الشرف ليجرى معهم الأحاديث المناسبة فى المواضيع المناسبة. كان قد انقبض قليلا، أو كثيرا، حين قابل أحمد عبد الغفار بين الزملاء الصحفيين الذين سوف يسهمون فى تغطية المؤتمرين، ما أكثر الصحفيين الأصغر هنا، أغلبهم لا يعرفونه والحمد لله، لكن أحمد عبد الغفار هذا، لماذا أحمد بالذات؟. هكذا؟. هو لا يحبه ولا يكرهه، ولكنه لا يريده، ما معنى لا يريده؟. هو لا يريده والسلام، قد يتحمله، وقد يتبادل معه نكتة خارجة أو اثنتين، هو لا يحب النكت الخارجة، ولا يضحك لها، لكن الشئ لزوم الشئ، هو لا يريدأحمد هذا. مرة أخرى: ما معنى لا يريده؟. هل هو قدح من القهوة أو شئ بارد يريده أو لا يريده؟. ما ذنبه هو ما دام هذا هو التعبير الذى قفز إلى ذهنه، ولم يجد له بديلا. الأهم من اسم أحمد، انه وجد اسم بسمة قنديل بين المتحدثات فى ندوة نقاش، وليس فى تقدمة بحث أو محاضرة. قرر أن يحضر هذه الندوة بالذات، وتساءل: هل يستطيع أن يتحجج بحديث صحفى، ثم ينفرد بها ليعرف حقيقة رأيها؟. هو يعلم رأيها فى موضوع المؤتمر تقريبا، لكنه يريد أن يراها وسطهن، كما يريد أن يراها وحدها، هذه الأم الأنثى الجميلة التى تحيطك بكلها، فلا تعود تميزها: أما من أخت من زوجة من عشيقة من موجة حانية من شجرة ظليلة.
ـ هل قابلت الأستاذة بسمة قنديل؟. لمحت اسمها فى البرنامج؟.
كان أحمد عبد الغفار هو الذى يسأل جلالا هذا السؤال، وقد استوقفه فى الممر بالحضن والقبلات الوقائية. سؤال لم يتوقعه جلال من أحمد بالذات.
ـ لا، ليس بعد… تعرفها يا احمد؟.
رد أحمد عبد الغفار وهو يتلمظ:
ـ وأعرف أنك تعرفها، كانت تنتظرك عند الدكتور جميل النشرتى، و أنت لم تحضر يومها، وقد حكت لى بعد ذلك عن لقائك بها، كما أشارت إلى ظروف أخرى دون تفصيل. هى تكن لك مشاعر خاصة يا عم.
ـ معرفة قليلة، ولقاءات متباعدة، لكنها عميقة على ما أظن.
ـ إلى أية درجة من العمق وصلتما ياترى؟.
حاول جلال أن يسخفه ليوقفه.
ـ إلى أقل قليلا من تلوث الإبداع، وصفقات الكلام يا عم احمد، بطل يا أخى، ألا ترى نفسك؟.
التقط أحمد عبد الغفار بداية الدفع الهجومى، فاستأذن دون أن يلحظ أن ورقة “برنامج” المؤتمر النسائى قد وقعت منه، الأمر الذى سمح لجلال بالتقاطها، ولم يتردد فى فتحها، فوجده قد حوط كل المشتركات الخليجيات بدوائر، وكتب مقابل كل دائرة رقم حجرتها، هكذا بالجملة !. ترمى شباكك دون تمييز، يا رجل: الصيد بالسنارة أجمل وأرق.. عمل فردى فيه فن وصبر وانتقائية. حاول أن يفهم ماذا يلح على أمثال أحمد هذا حتى يواصلوا فرد شباكهم بالجملة هكذا طول الوقت. ليس الحب طبعا، إذن ماذا؟. إثبات ذات؟. شهوة لا تنطفئ؟. الألعاب النارية فى “سيرك” الحرية؟. يشربون الماء المالح فيعطشون أكثر.
”…. لاياشيخ؟. كل هذا من خيبتك البليغة.”
”خيبة ..خيبة، هذا أشرف؟.
”أشرف يا جبان؟ إيش عرفك؟”.
”لاأريد أن أعرف”.
”إن شالله ما عرفت”.
صحيح !، لماذا لا يفعل مثلهم ،ويرى؟ انتبه جلال إلى أن الفرق بينه وبين أحمد، أن أحمد يبدأ من الآخر، أما هو فهو يسمح لنفسه بالتأمل، والانبهار، والانجذاب، والتخيل فالمراجعة، وبُعد النظر، فالتردد، فالحكمة، فالاستغناء وخلاص!!.
ليس من حقه أن يلوم أحمد، ولو فى نفسه. أحمد رجل عملى يوفر وقته.
ثم أضاف: ووقتهن.
ـ3ـ
ـ ما الذى أتى بك إلى هنا يا جلال؟. تكتب باسم نسائى مستعار، أم تدعى الطب؟.
قالت بسمة ذلك وهى لا تخفى فرحتها بلقائه.
ـ تصغرين دائما يا بسمة.
ـ كلام قديم يذكرنى بسنى الحقيقية، خل هذا الكلام للمبتدئين، قل ما يليق بصدقك.
ـ فأنت تعرفين أنى لا أكذب، تصغرين فعلا مع تعاظم أمومتك المثيرة الرائعة.
ـ هذا أفضل.
ـ لا أعتقد أن أوديب كان يجهل أن “يوكستا” هى أمه.
ـ ولا هى:
ـ ولا أنا.
ـ حذار أن تتمادى فى تصنع اليـتم طلبا للتبنى:
ضحكا فى طيبة حقيقية.
هذه “امرأة خاصة جدا”، ليست مثلهن. هل كتابتها القصة هى التى حافظت عليها؟. أم أنها تكتب بكل هذه الطزاجة لأنها شخصية متجددة الطزاجة؟. عشرات يكتبن القصة على حساب أنوثتهن، بل إنسانيتهن. يتشنجن حتى تكاد الكلمات تتقاذف منهن كفرقعات الفشار الهش، كيف احتفظت بسمة بما هى هكذا؟. لازال يذكر دعوتها إلى ما أسمته عمليات “كى الخرافة” عند الدكتور جميل النشرتى، الواضع عقله على زناد فكره طول الوقت، يطلق قذائفه أولا بأول، على أى ممن ينحرف عن منهجه، وعلى من يفكر فى غير محيطه، وعلى من يرفض أن يسبح فى بركة أسماكه النتنة، يمنع أية سمكة ما زالت بها حياة من أن تقفز إلى المحيط حتى لا ترى اللامتناهى؛ فتدرك أية بـركة آسنة كان النشرتى يحبسها فيها.
يذكر جلال أن بسمة قالت له إن عمليات كى هذا الدكتور لم تعد تفيدها، وإنها حين انتبهت إلى أن البركة مسممة قفزت إلى اليابسة ثم راحت تعدو حتى امتطت صهوة القصة التى أوصلتها إلى أقرب “سبيل” نقى: وقالت بسمة أيضا: إنها بعد أن شفيت من آثار سموم الدكتور جميل، فتحت وعيها لكل ما يصله من أى مصدر، وخاصة أثناء الكتابة، فراحت تكتشفه يتمادى كلما حاولت. تعرفت على المحيط بهدوء جسور، لم تخف أنه ليست له حدود.
ـ لماذا لم تحضر ذلك اليوم يا جلال عند الدكتور النشرتى كما تواعدنا؟. قل لى الحقيقة. لم أقبل عذرك بأنك لم تتعرف، على منزله.
ـ بصراحة لم أكن متحمسا للتعرف عليه، رجعت من منتصف الطريق.
ـ هذا ما رجحته، وقد فوتـها بخاطرى:
ـ هل مازلت تذهبين إليه؟.
ـ لم يعد تأثيره يجدى: على فكرة ميعادك هذا جعلنى أتعرف على اثنتين من مريداته من الخليجيات وهما تحضران هذا المؤتمر النسائى أيضا، وقد قابلتهما للتو. تصور؟.
ـ خير وبركة، ولكنى أتساءل: لماذا لم يعد تأثير هذا الدكتور العظيم يجدى معك؟.
واصلت حديثها، وكأنها لم تسمع:
ـ وأيضا فى ذلك اليوم قابلت أحمد عبد الغفار الذى رأيته هنا هذا الصباح.
تجنب أن يقول لها شعوره نحو أحمد هذا، وهو يعلم أنها ليست المناسبة. عاد إلى موضوع الدكتور جميل النشرتى، فقالت له كيف أنها حين تخلصت جزئيا من تأثيره وسمحت للمعرفة أن تدخل لها من أى باب، وخاصة من باب كتابة القصة، أخذت تكتشف جمال وروعة ما كان يصفه بالخرافة، حتى كادت فى بعض قصصها، وهى تكتبها، كادت تراه رأى العين، تصور!!!. على الرغم من أنها قصص ليست لها علاقة لا بالدين، ولا بالإيمان، لا بإثباته ولا بنفيه.
- وهل تشغلك هذه المسألة باختيارك، أم تورطت فيها مثلى؟. أشعر أن الذى ورطنى هى خبرة وصلتنى فى طفولتى، لم أستطع أن أميزها فى حينها، خبرة عشتها فى عباءة عمى، هو أبى الحقيقى: خبرة ملأتنى طفلا دون أن أدرى، ثم عادت تفيض على بالرغم منى:
ـ تتكلم ألغازا يا عم جلال، من عمك هذا؟. وما حكاية عباءته؟.
ـ أبدا، إنها تجربة خاصة جدا، كنت أتصور أننى يمكن أن أعممها. لا عليك الآن.
ـ أية تجربة وأى تعميم؟. تعلقنى؟. فسر يا جلال. عيب كذا.
ـ هذا أمر يطول شرحه، أنا شخصيا لا أفهمه، ولا أستطيع بيانه، ماذا يمكن أن يصفه طفل فى الثالثة يشعر بما لا ينسى، وهو داخل عباءة عمه الذى هو أبوه الحقيقى، مع أنه ليس أباه.
ـ ماذا جرى لك يا جلال؟. تـكـلم نفسك؟.
ـ نعم.
سكت، فلاحظت أنه أقرب، ولاحظ هو ـ أيضا ـ أنها أقرب. وقالت له إنها ـأيضا ـ لا تعرف كيف تتكلم فى مسائل ليست وسيلتها الكلمات، وإن الإبداع عرفها الطريق بشكل تتصور أنه من الصعب أن يشاركها فيه أحد، وأن المصيبة أن أهم شئ فى الوجود، هو أبعد شئ عن الشرح، برغم أنه ليس غامضا ولا خفيا، وأنها فهمت عجزه عن الحكى: كادت تدعوه إلى أن يكتب القصة مثلها لعل وعسى، لكن هل أحد مثل أحد؟. فتراجعت، وسكتت.
ـ تقولين يا بسمة إنك تجدينه أقرب وأنت تكتشفين الكلمات فى تشكيلاتها الجديدة، ما علاقة هذا به؟.
فوجئت بسمة، فهى لا تذكر أنها قالت مثل هذا الكلام حالا.
ـ ماذا أقول لك؟. أنا لا أذكر، ثم عموما.. ماذا أقول، جرب يا جلال.. ربما، حين يطغى موج الإبداع ليتجاوز الكلمات ويحتويها ويستعملها فى آن: يحدث الشئ الذى تبحث عنه.
ـ يحدث؟. أم تجدينه؟.
ـ أقول لك يحدث.
ـ فاهم.. فاهم
ـ كيف أنت فاهم ما لا أفهم، وأنا التى تقوله؟. هذا كلام لا يفهم. هو يمارس.
حاول أن يستظرف:
ـ تريديننى أن أرد قائلا : ممارس، ممارس.
فبدا (لنفسه أولا) سخيفا أكثر مما توقع، وعرف أنها شاركته رأيه حتى تململت.
حاولت بدورها أن تخفف من الموقف، ولم تستطع، فلم ترد واستأذنت.
لم يغضب، وإن كان قد أخذ على خاطره.
ـ4ـ
هل انقلبت المسألة عليهم؟. المناقشات تمتد، والهجوم على دور شركات الدواء يتعاظم، على الرغم من أن المؤتمر تحت رعايتها وعلى نفقتها. والحوارات التى تجرى فى الطرقات وبين الجلسات أصبحت تجذب الانتباه أكثر من الجلسات؛ ذلك لأن أغلب الجلسات كانت مخصصة للهجوم على الطب البديل حسب رغبة صاحب الفرح. لم تخصص أية جلسات للدفاع عنه مباشرة، كان المراد أن تكون تمثيلية مظهرية ينهزم فيها المدافعون عنه، فإذا بصوت الهجوم على الطب التقليدى هو الذى يعلو، وتتكشف أوراق دور شركات الدواء فى غسيل المخ، واحتكار الصنف، ومضاعفة الأثمان عدة عشرات، بل مئات الأضعاف بعد الانضمام والاحتكار.
كان جلال يرجو، أو ربما ينتظر، أن يكون لشركة أمين عبد الحكيم وغالى جوهر دور فى هذا المؤتمر، لماذا؟. ليس يدرى، لكنه قال: “تبقى كملت”، وابتسم، ثم أردف: “تصبح لعبة دوارة متداخلة”، وأقسم أنها ليست صدفة، إذن ماذا هى؟. رد على نفسه أنه لا يدرى: لمح فى البرنامج اسم الدكتورة إصلاح فاضل، لم يكن يذكر اسمها جيدا، لكنه كان يعرف اسم الشركة بالتقريب، أراد لو يكلمها مباشرة؛ فقد عرف عنها ما يثير، ولا يكفى، من بنت أخت غالى جوهر الدكتورة مادلين، ومن أمين عبد الحكيم. مازال يذكر مداعبات أمين عبد الحكيم، حول دورها فى زواجه من فاتيما، وهربهما من تخطيط والده، بضربة واحدة: بلياردو.
هو يذكر ـأيضاـ تلميحات أمين عنها، وعن استاذه غالى جوهر. قال لنفسه مرة أخرى: “ليست صدفة، ثم تساءل : إذن ماذا؟.”
رتب هو ومحمد عبد المقصود معها مقابلة لحديث صحفى، باعتبارها ممثلة لإحدى الشركات الممولة للمؤتمر.
ـ …المحرر العلمى (لم يقل: بالقطعة!) لمجلة “الأنوار” الخليجية.
ـ أهلا وسهلا.
بدأ بالأسئلة التقليدية، وهو يتأملها أكثر منه يسألها، ليس يدرى لماذا. أجابت الدكتورة إصلاح فاضل- بكل اليقين- بالأصالة عن نفسها وبالنياية عن شركتها، قالت وأفاضت، وأسهبت، وأفتت: فأدانت أى علاج خارج الأدوية التقليدية المعروفة التى لا تخرج إلى التداول، إلا بعد أبحاث علمية دقيقة، بمنهج صارم مقارن، ثم اختبارات تطبيقية مؤسسية مسؤولة، تتكلف مئات الملايين، وأضافت بيقين نهائى أن كل ما عدا ذلك نصب واحتيال.
ـ والناس؟.
ـ مالهم.
ـ لماذا يفضل كثير منهم ـ أحيانا، أو كثيرا ـ النصب والاحتيال؟.
ـ لأن النصابين مهرة وأذكياء، ولأن هناك الكثير من الأمراض المستعصية والغامضة، مما يترك لهم مساحة حركة يبدأون منها، ثم يعممون هذا الخبط العشوائى على كل الأمراض، على كل الأمراض، حتى السرطان، تصور.
لم يعرف كيف يستدرجها إلى ما يريد، ولم يستطع إلا أن يتصور أنها غير مقتنعة بما تقول، وكلما زاد تشنجها وحماسها اطمأن أكثر إلى فرضه. هو لا يستطيع أن ينكر أنها لم تجذبه كامرأة، ليس يدرى لماذا؟. مع أنه يتصور أنه جاهز دون تمييز. وقدر ـ وهو يكاد يبتسم وسط الحوار الحاد ـ أن ما أنقذ أمين عبد الحكيم من أبيه هو هذا، ولم يقل لنفسه:”هذا ماذا؟.”، مع أن جسدها كان يبدو جائعا يتضور بشكل ما.
لا يعرف جلال كيف استطاع أن يستدرجها إلى الكلام عن الطب النفسى كبديل للتداوى، وهو يضمر أملا قد يؤدى إلى الحديث عن علاقتها بوالد أمين عبد الحكيم، وأنه كيف ولماذا تركت تخصصها إلى “هذا” هكذا؟. يبدو أنه نجح جزئيا فى ذلك حتى أوصلها إلى أن تجيب غاضبة، وكأنها تصيح فى الأطباء النفسيين الذين يتنكرون للدواء أو يهمشونه بأنهم يساهمون ـ بالضرورة ـ فى شيوع التفكير الخرافى حين يبالغون فى قدرتهم على تغيير الناس، وأن بعضهم يتصور نفسه نبيا، ولولا القانون لادعى النبوة.
ـ ماذا؟. آسف. لم أسمع جيدا. تقولين يدعون النبوة؟.!
ـ بل هم يتصورن أنهم آلهة يصنعون البشر.
قال بصعوبة مصطنعة، ليبدو سؤاله غير مقصود:
ـ تتكلمين عن خبرة شخصية؟.
شعرت أنها اندفعت أكثر من اللازم، فنظرت إليه لتتأكد من أنه لا يظن بها الظنون، ولم تكتشف أنه يستعبط، فقررت أن تغلق ما انفتح منها.
ـ لا يهم، المهم هو أن الطب كله باطنى ونفسى وجراحى أصبح واحدا، داء ودواء، داء ودواء، هذا كل ما فى الأمر، والعلم سيرد على كل شئ بالتحديد وبمنتهى الدقة. وكل من يخرج عن نتائج الشركات العلمية، سيلفظه التاريخ، ويرفضه العلم مثلما لفظوا الجان والعفاريت.
لم يقل لها إنه يبدو هذه الأيام أن “الجان هو الحل”. لم يكن يريد أن يفتح موضوعا هو لم يحسمه أبدا.
انتهت المقابلة، ليس على خير تماما؛ ذلك أنه راح يكتب فى خياله مقدمة التحقيق المكلف به، فجاءه كلام غير كل ما أعد لتغطية المهمة. راح يقرأ ما كتبه خياله من أن…
”تناسق الكون، الأصل فى صحة البشر، لا يتم برش مسحوق النقود الزائفة على جروح الروح”.
لو فعلها فسوف يرفعون عليه قضية لإثبات أنه مسؤول عن ثقب الأوزون، أو قد يصفونه جسديا دون محاكمة؛ باعتباره إرهابيا.
”وأنت ما لك أنت؟. أنت البعيد مالك؟. بصفة ماذا تتكلم؟”
”بصفتى المختص بتسهيل نبض خلايا الوجود نحو المطلق”!!.
”نبض الـ ”ماذا” يا روح امك؟.”
خاف ـ فجأة ـ ألا يحصل على أجره، بل إنهم قد يطالبونه بنفقات السفر والإقامة قبل أن يسلموه لمستشفى الأمراض العقلية.
ابتسم وهو يعتذر لنفسه، فهو لا يعنى ـ بالضبط ـ حكاية نبض خلايا الوجود هذه، هى جاءت هكذا، ثم إنه حل بوعيه جيدا بما يشبه الإحياء، لا التذكر، كل من: المرحوم عبد المعطى، ووردة، والرجل صبى القهوة، وعم صابر فى عزبة البكباشى، والبشر الغطاسين فى دهب كما ولدتهم أمهاتهم، والشراعيين المتوحدين بالبحر والرياح، وليلة المطعم الطليانى مع فاتيما، وليلة صلاة الموجة السويسرية سباحة فى سماوات الكون، ومنال الحقيقية، لا الخائفة ولا الباردة ولا المحقة لحقوق المرأة والإنسان، وموسيقى الجبال، وحوار الزلط والسمك المختلفة ألوانه،…
فلا هو استطاع أو حاول أن يفهم، ولا هو أراد أن ينسى، كل ما قدر عليه هو أنه رفض أن يعترف بخيبته، وطرد مشروع خجل طفيف، وتراجع محتمل، واتهم الألفاظ بالقصور. قال : من هنا ينبغى إحياء اللغة القادرة على استيعاب المطلق، وليبدأ ذلك من سن مبكرة. ابتسم وهو يقر بعجزه عن إصلاح ما فسد، ولم يشعر بالذنب.
أفاق فجأة ليجد الدكتورة إصلاح مازالت واقفة تنتظر إكمال الحديث. كيف صبرت كل هذا الوقت؟. وكم طال وقت سرحانه؟. سارع بأى كلام وهو لا يذكر أين توقفا.
ـ أقصد أن للعلم مناهج كثيرة، وأن شركات الدواء التى تروج وتدافع وتنظف أموال الطب التقليدى تتبع منهجا واحدا فقط، ربما لا يكون كافيا.
ـ تنظف ماذا؟. قلت تنظف أموال ماذا؟.
ـ لا أقصد.
قالت له إصلاح فى ضجر نصف نصف، إنه يبدو أنه محرر علمى مبتدئ، ومع ذلك فهى تفضل هذا النوع من التحقيقات الصحفية عن النوع التقليدى: أعطته بطاقتها وفيها عنوان الشركة، وليس عنوانها الخاص، وطلبت منه أن يمر “عليهم” فى القاهرة بعد انتهاء المؤتمر، وأنهم سيمدونه بالأبحاث والأوراق اللازمة التى سوف “تـفتح مخه”، وأنهم تحت أمره، وتمنت له التوفيق.
فشكر، وابتسم، وانصرف يتمتم، ولا يسمح لنفسه أن يتمادى فيما خطر له.
-5-
لا تستطيع أن تعرف العريش إلا إذا زرت السوق العامة، ثم رفح، ثم أكلت على أرض مزرعة بها نخيل قديم يناغى بعضه بعضا قرب السماء. العريش ليست سما العريش، ولا فندق أوبروى:
فى السوق تحدث جلال مع الأكبر سنا، وكان يتعجب قليلا؛ لأنه كان يعرف من قبل أن هؤلاء مصريون، ومع ذلك عاد يتعجب من اللهجة والغترة (العقال) والطباع، كلها فلسطينية، شامية. الكهول يذكرون اليهود بحذر، لم يعودوا يترحمون ـ سرا ـ على أيامهم مثلما كانوا يفعلون فى زيارته الأولى، لكنهم ينبهون إلى الفرق. شئ أشبه بحكاية فرج العسلة، وما حدث من اليهود هناك نحو ابنه المصاب الذى نقلوه إلى تل أبيب، و هم هنا ـ أيضا ـ يعلنون بعض تمنياتهم المخففة لآثار المقارنة مثل ” خل الحكومة: تأخذ بالها منا أكثر قليلا”.
العربات المرسيدس الديزل ذات الركاب السبعة هى العلامة الظاهرة التى مازالت تلح على وعى الناس من بقايا اليهود. الذين ليسوا من العريش هم مستوطنون، يسمونهم “أهل الوادى”. لم يفهم جلال ـ فى البداية ـ ماذا يقصدون بالوادى، ثم عرف أنهم يقصدون وادى النيل، وادى النيل شئ، وسيناء شئ آخر. وحمد الله فى سره، ثم جهرا، وترحم على السادات، وهو يتعجب لماذا شوه نفسه هوالآخر قبل أن يموت؟. ماذا لو كان قد تلكأ أو خاف على صورته وليس على مصر؟. إذن لظلوا جاثمين على أنفاسنا، وهم لايكفون عن تشويه وفبركة التاريخ حتى يثبتوا أن حدود مصر تنتهى عند حدود الوادى، وادى النيل، بأمارة أن أهل العريش يميزون بين العرايشية وأهل الوادي!!. وربما نجحوا فى استصدار قرار من مجلس الأمن بذلك.
المنظر فى رفح على الحدود ما زال صعبا، أسهل كثيرا من المرة السابقة، لكنه مازال صعبا، هؤلاء الكلاب، لماذا السباب؟. هل السباب هو كل ما نمتلكه لطردهم أو لتحجيمهم؟. الخوخ الـعـرايشى صغير الحجم، فائق الحلاوة، متميز الشخصية.
سوف تنقلب الصورة بعد ثلاث سنوات،حين تشتعل جهنم المواجهة، وسوف يفهم أكثر، ويتألم أكثر لكنه الآن يكتفى بالمرارة، لم يكن يعرف أن ثمة مرارة لها ثقل الرصاص الذى يكتم الأنفاس، ويحجر الدموع فى المآقى، فلا تظهر ولا تتراجع. سوف يعرف ذلك فيما بعد، وسوف يزداد مرارة ويقظة معا، سوف يشعر بطعم ورائحة الدماء الزكية، وهى تنبهه أنه لم يكن مجنونا، ولم يكن مبالغا، سوف يجمع أشلاء الشهداء حتى بعد دفنهم ليخلق منهم الوعى الجديد، والأمل الجديد، والكرامة.
-6-
بصعوبة شديدة كان جلال، ومحمد عبد المقصود يتنقلان بين المؤتمرين بشكل “مكوكى”مثل دينيس روس والمأسوف على دبلوماسيته كيسنجر (لم يكن تشينى وميتشيل وبنيت وزينى قد ظهروا بعد)، لم يستطع المحافظ أن يوفق بين حضور المؤتمرين، ونجحت المبدعات الفاتنات أن يكسبن الجولة، ويبدو أن المحافظ كله نظر.
مؤتمر الحريم مطعم بعدد كبير من الرجال المهتمين بالنساء، يعنى بقضية النساء، يعنى بالمرأة، لمن يستطيع منهم، ولا مؤاخذة. لعن أفكاره ولم يرفضها. هو مؤتمر أكثر أنوثة، على الرغم من أنه ليس أخف دما.
كثير من المبدعات مقشفات بفعل فاعل، غير الإبداع النسائى: الغريب أن هذاالمؤتمر النقيضى (هو أسماه هكذا) كان منعقدا بواسطة الأديبات الحريمى للهجوم على فكرة ما يسمى بـ الأدب النسائى: وقد سر ـ هو شخصيا ـ لذلك سرورا شديدا، وسر أكثر؛ لأنه كان يتصور عكس ما وجد. كان يتصور أنهن سيتصايحن مطالبات بحجز مساحة معينة فى دور النشر للمبدعات الفاتنات، لكن يبدو أن شرط “الفاتنات” هذا هو الذى عقلهن. هذا اقتراح مثل اقتراح حجز مقاعد خاصة للنائبات فى مجلس الشعب. وتذكر منالا. لماذا لم تحضر؟. هل هى أعقل من أن تشارك فى هذه المهرجانات؟ حقوق الإنسان لا تتجزأ، والمرأة أكثر تمتعا بحقوق الخداع اللفظى، يارب نور بصيرتهن (حلوة نون النسوة هنا) ليحررن الرجال معهن بالمرة.
عرفته بسمة قنديل على “حصة”، تلك الشاعرة الخليجية جدا، فوجدها خليجية فعلا، ما هى المحكات الواجب توافرها فى رجل أو امرأة حتى يمكن تشخيصه على أنه خليجى أو خليجية؟. لا يكفى أن تكون من بلاد الخليج حتى تصبح خليجيا، ولا بد من استثناء إيران، ليس ـ فقط ـ بسبب الثورة الإسلامية، ولكن ـ أساسا ـ بسبب تميزهم فى الإخراج السينمائى حتى الآن. ترى كيف حل أهل الخليج بكل ما لهم من إمكانات هذه المسألة التى تشغله؟. لابد أن الغنائم البترولية، والأخلاق البدوية، والثقافة المحلية، والبضائع الأمريكية، قد أغناهم كل هذا عن التفكير فى هذه المسألة من أصله.
ـ فعلا يا أستاذ جلال، كما قالت بسمة، أنت مهموم بأمر ما، ليس واضحا على ما يبدو، أرجو أن يكون أكثر وضوحا لك على الأقل، أكثر منا يعنى:
هذه ـحصةـ امرأة شاعرة جدا. شعرها أسود، وجميل، هو فاحم السواد، أفحم سوادا، هو لا يحب هذا التشبيه، لا يستطيع أن يمنع إحساسه بتسويد كفيه وهو يملس على هذا الشعر الجميل إذا وصف أنه فاحم هو يحب ذلك، شكر بسمة فى نفسه أن عـرفته بـ ”حصة” هذه قبل أن يرد، وهو يتغافل تلميحاتها:
ـ بسمة إنسانة رائعة.
لم يعرف إن كان قد آثار غيرة حصة أم حماستها.
ـ هى كذلك، وهى تكاد تراك من الداخل حتى أنها تلمس مسألتك دون تحديد، ما هى هذه المسألة؟.
ـ بسمة نفسها تقول إنها مسألة لا يصلح فيها الحديث بالكلمات.
ضحكت حصة وهى تقول:
ـ إذن يصلح بماذا؟.
لم يقل بالأجساد ولا بالقبلات ولا حتى بالصلاة وإنما قال :
ـ اسأليها.
بدا لجلال أن صدق بحثه، وعمق حيرته، يجعلانه أقرب إلى الناس “هكذا”، وتصور أنه لو وجد ناس يبحثون ويصدقون مثله، فلابد أن يلتقوا فى “نقطة ما من الزمن”، وهناك فى هذه النقطة التى يلتقى عندها كل الناس، كل الناس الذين يبحثون (أضاف بعناد: والذين لا يبحثون) سوف يجدونه فى هذه النقطة تحديدا، نقطة بلا حدود.
قالت حصة:
ـ أسألها عن ماذا؟. كأنه لغز يبحث عن اسم غير مسبوق.
ـ هو ذاك، ليس له اسم برغم كل الأسماء التى أطلقوها عليه.
ـ أى أسماء يا أستاذ جلال؟.
أفاق بسرعة، لم يعرف بم يجيب، وعاود طريقة الهرب ذاتها وهو يكرر.
ـ بسمة إنسانة رائعة.
وافقت حصة على أن تفوت هذه أيضا، وأن تدخل العطفة التى هرب إليها.
فسألته:
ـ هل تحبها يا أستاذ جلال؟.
ـ طبعا، وهل يمكن لواحد أن يعرف بسمة حقيقة دون أن يحبها.
ـ صحيح، برغم أنى، لا أخفى أننى، أغار منها، ليس من كتاباتها البديعة فحسب، ولكن منها كلها.
ـ أظن أنك تحبينها أنت أيضا.
ـ صحيح، بها ألم عميق، تستطيع أن تقترب منك بسهولة، وعمق، بشرط ألا يقترب أحد منها.
ـ أنا لا أعرف يا أستاذة حصة كيف تستطيع أن تكمل حياتها هكذا، السن تتقدم بها، فتزداد نضارة وشبابا، حتى أنى أتصور أن الكهولة ستنقض عليها فجأة، من شاهق.
ـ لماذا؟. لـم تذهب إلى هناك بعيدا هكذا؟. دعنا نعش كما نحن الآن، حتى ينقض علينا ما ينقض، لا يوجد ما يبرر ما تقول.
ـ بل يوجد.
ـ ماذا؟.
ـ لا أعرف، ربما الزمن.
ـ الزمن فى صالح من يعرف كيف يعيش.
خاف أن يسمح لنفسه بالانطلاق بكلامه الغامض المتشعب، وخاف أكثر أن تعتبره حصة كلاما فارغا لا لزوم له، (مع أنه يعرف أنه يبدو للجميع كذلك). وخاف أكثر وأكثر أن تعتبره حصة مجنونا. هو يقسم بالله العلى العظيم أنه ليس مجنونا، وأنه لو جن فإنه سيعالج بالطب البديل، وليس بأدوية الدكتورة. إصلاح أو الدكتورة مادلين.
ـ ما رأيك يا أستاذة حصة فى جيراننا هنا فى الفندق، فى موضوع المؤتمر الثانى، أنا أغطيه أيضا؟. لقد خطر ببالى أن أسأل بعض المشتركين فى كل مؤتمر أسئلة عن المؤتمر الآخر، أليست فكرة طريفة: رؤية الآخر؟. أصل حكاية الآخر هذه أصبحت بدعة حديثة. حتى يوسف شاهين أخرج فيلم اسمه “الآخر”.
ـ إيش أدخل يوسف شاهين هنا. أنا أحب أعماله
ـ حلال عليك، ليس قصدى، أنا أردت أن أبين لك أن خلط أسئلة المؤتمرين هو عمل إبداعى، وليس شطحا.
ـ فكرة طريفة، لكننى أشك أن سكرتير أو رئيس تحرير أية مجلة أو صحيفة يمكن أن يقبلها أو ينشرها، وقد يلومك أو حتى يخصم من مكافأتك.
ـ أنا قبضت مقدما، ثم بينى وبينك كثير من رؤساء التحرير قد لايميزون مثل هذا الخلط، هذا بعض ما ـجعلنى أقرر أن أترك الصحافة.، أصارحك أكثر؟. لقد تركتها فعلا.
ـ تركت الصحافة؟. فماذا تعمل الآن؟.
ـ ليس لى عمل محدد، أقوم ببعض الترجمة للمنظمة.
ـ أية منظمة؟.
ـ منظمة حقوق الإنسان.
ـ آه!! هل أنت منهم؟.
ـ هل يبدو على شئ من ذلك.
ابتسمت ولم ترد.
فرح، وكأنها وفرت عليه شرح موقفه، وكيف أنه يعرفهم، ويتعامل معهم، وأنه على الرغم من ذلك ليس منهم، وليس ضدهم، وأن أكل العيش له ظروفه القاسية، وأن المضطر أصبح يكتب الصعب لايركبه. عادت تسأله وكأنها نسيت شيئا مهما.
ـ أنت لست منهم، ولست صحفيا، ولست ولست، أنت من من؟. هل يمكن أن تقول لي: أنت من من؟.
ـ لا، هل يمكنك أنت؟.
ـ أنا ماذا؟.
ـ أن تقولى لى أنت من من؟.
سكتت طويلا، وكأنها تفاجأ بالسؤال، وكأنه لم يخطر على بالها ألف مرة. وكأنها ليست هى التى سألته أولا.
وجد جلال نفسه يلعن أباهم، لم يحدد من هم، لكنه يلعن أباهم جميعا، قال إنهم لا يتركونه فى حاله، وإنهم يريدون خصاءه، لماذا لا يدافع الرجال عن حقهم فى منع الخصاء، كما تدافع النساء عن حقهن فى منع الختان؟. أفاق على سؤال حصة.
ـ ماذا؟. ماذا؟.
ضحكت حصة، وقالت له: لولا أنها امرأة، لوصفت هذه اللقاءات الخائبة وصفا يليق. لم يكذب جلال حدسه أنها قرأت أفكاره، وهو يكاد يكون متأكدا أن لفظ الخصاء العقلى هو الذى تعنيه حصة برغم أنها لم تقل خصاء، ولا هو تلفظ به. هذا ما وصله. أكملت:
ـ نحن نحارب للتخلص من عصر الحريم، فنجد أنفسنا ندخل فى عصر الأغوات.
صاح فرحا بها حتى كاد يحضنها:
ـ رأيت كيف!! أنت التى قلت.
عاد يهدئ نفسه وهو ينفى لها أن شيئا كبيرا يحيره فى حدود علمه، وأن بسمة هى التى قلبها كبير، وتنظر أبعد من صاحب الشأن، وقال كلاما تافها حول حيرة الإنسان المعاصر، واهتزاز القيم، وتعتيم الوعى، وعن العولمة، وعن النظام العالمى الجديد، وكلاما آخر من السائد هذه الأيام. لكن يبدو أنه كان مكشوفا، كان يتكلم مثل مذيع قديم يستضيف مختصا ليست عنده فكرة أكثر من فكرة المذيع عن الأزمة التى جرت بسبب جهل رئيس سيراليون بشروط الجات الجديدة.
ما أروع أطواق النجاة التى تلقيها إليه هذه الخليجية الرائعة، سألته:
ـ ما رأيك فى الشاطئ هنا؟.
ـ شديد السوء.
ـ موافقة،وجدته كذلك.
ـ ومع ذلك، فله عشاقه ومريدوه.
ـ ماذا يكون شاطئ العريش بدون نخيل؟.
ـ تصورى أننى رأيت بعض النخيل يبكى، مثلما رأيته فى وادى فيران، هناك سمعت نشيجا مكتوما مع أنات البكاء، هنا سمعت احتجاجا غاضبا من مجموعات النخيل، كأنها على وشك ثورة لا تملك أدواتها.
ـ شعر هذا يا أستاذ جلال، هل تكتب الشعر؟.
ـ ياليت، لا الشعر ولا القصة، مع أن بسمة أوصتنى بضرورة محاولة ذلك؛ إذا كنت أريد أن أصل إلى ما أبحث عنه.
- ضرورة ماذا؟. تصل إلى ماذا؟.
كاد يقول لها، أو لنفسه (كالعادة)، “إنه يحبها”، ويكتفى بذلك، لكنه قال:
ـ بسمة تقول إنه لا يتجلى إلا إذا تجاوز حضوره الكلمات واحتواها.
ـ هذا شعر، أرجح أن هذه كلماتك أنت، ليست كلماتها.
ـ لا أقصد الكلمات، أنا أعنى الكلمات الـ… الكلمات التى هى بداخل الكلمات.
ـ ماذا تقول يا جلال، أين ذهبت؟.
ـ اسألى صاحبتك. بسمة أقدر على التعبير، هذه صنعتها، تقول إنها حين تكتب تجده، وإنها لا ترتبك إلا لو لاحقتها هذه الرؤية بعيدا عن الكتابة، وإن حلمها اللحوح هو أن تجده هو هو فى واقع وعيها الكونى، بعيدا عن الكتابة، مثلما تجده فى الكتابة.
ـ لا تزيد الأمور تعقيدا ياجلال، لا تذهب بعيدا داخل البحر المترامى هكذا، إنك تخوض المحيط بلا سفينة، كل ما نستطيعه هو جمع القواقع الفارغة من على الشاطئ، علاقتنا بالمحيط لا ينبغى أن تتعدى تلك الأصوات التى تسمعها، وأنت تقرب صدفة متوسطة الحجم من أذنيك.
تصور، وهى تصل إليه هكذا بنعومة حانية، أنها احتضنته وهمت بتقبيله، واكتشف لأول مرة أن شفتيها مكتنزتان برغم أنها سمراء. وماذا فى ذلك؟. أسرع بحسم الموقف، وهو ينظر فى ساعته، ويستأذن ليلحق بجلسة مهمة عليه أن يغطيها.
سمحت له حصة، وظلت ابتسامتها الحانية تتابعه حتى دخل القاعة.
-7-
ـ أعرف رأيك فى حكاية الأدب النسائى، وأنا فرح به، إما إبداع، وإما لا إبداع. نسائى رجالى، أزرق أحمر، لا تفرق، أليس كذلك؟.
ـ أنت لا تسألنى، أنت تطلب توقيعى:
ـ أنا أمهد لأسألك عن المؤتمر الآخر.
ـ مالى أنا وللمؤتمر الآخر، أنا ليست لى علاقة بالطب البديل، ولا بالطب الأصيل.
ـ الطب الأصيل، حلوة هذه، تصورى كدت أسميه الطب “الأصولى”.
ـ تصور يا جلال أننى بدأت أتبين أن الأصوليين موجودون فى كل المؤسسات، وبالذات المؤسسات التى تزعم التصدى للأصولية الدينية خاصة. تصور أننى اكتشفت أن الأصولية هى أخطر ما تكون فى مؤسسات البحث العلمى، والفكر الذى يقول إنه تنويرى: حتى الفلسفة، وعى التساؤل المتفرع، قلبوها علما وشهادات!!.
ـ جاءك كلامى؟. أنت تتكلمين عن المؤتمر الآخر أفضل من كل ما يدور داخل قاعاته. لاحظت يا بسمة أن المناقشات فى الأروقة والممرات أكثر جدية وصدقا مما يجرى داخل القاعات.
ـ أنا ـ أيضا ـ التقطت بعض ذلك وأنا أعبر دون التفات، خيل إلى أحيانا أنهم يكادون يتشابكون بالأيدى: كنت أشم رائحة النقود لا العقاقير، كلما اقتربت من قاعاتهم.
ـ هل تابعت الجلسة التى تحدثوا فيها عن حركة تسمى المعالجة المثلية، أصبح لها منهج بحثى مقارن، وصيدليات خاصة بها عشرات الآلاف من العقاقير؟.
ـ تقول المعالجة المثلية. أم الجنسية المثلية؟.
- نعم. نعم؟.
ـ أداعبك يا أخى، ماذا تعنى هذه البدعة الجديدة؟.
ليست بدعة على ما أظن. هم يقصدون أن جرعات شديدة الضآلة من مسببات المرض، قد يكون فيها الشفاء، شئ أشبه بـ “داونى بالتى كانت هى الداء”.
ـ حلوة هذه. لماذا تبتعد هكذا يا جلال وتختلق المواضيع التى لا تهمنا معا؟.
ـ لأننى أحبك.
ـ وبعد؟.
ـ لا شئ.
كان هذا الحديث فى حجرتها، والساعة متأخرة، والأنفاس دافئة، وكانت أمومتها الأنثوية طاغية، وكان هو ضعيفا جدا، طيبا جدا، وهى كذلك، وخيل إليه أنه يريد أن ينام على حجرها، ولعله طلب ذلك، ولعلها كانت أقرب من أن يطلب ذلك، لأنها أيضا ـ ربما ـ طلبت مثل ذلك.
وهو لم يتأكد أبدا من الحد الفاصل بين هذا الواقع الذى حدث، وبين حقيقة ما حدث.
* * *
الفصل الخامس عشر
منيل الروضة
جاء صوت المضيفة من داخل الكابينة، وليس عبر الميكروفانات الهادئة الخفية، يحذر من اقتراب الطائرة من منطقة مطبات هوائية، فى نفس الوقت الذى أضيئت فيه العلامات التى تطلب من الركاب أن يربطوا الأحزمة. المرأة التى خرجت بعد ذلك مباشرة من الكابينة لم تكن المضيفة، بل وجه شديد النضرة وقد تلفع باللاسة الفلسطينية، تأكد الركاب الرجال، الذين لم يخافوا كما كان منتظرا، من أن المرأة هى امرأة من جمال عينيها الواسعتين، وأيضا من صدرها الناهد الذى عجز الرداء الملتبس أن يخفى معالمه.
قالت رشا أمين للجالس بجوارها:
“ما جدوى أى شئ؟”.
ولم تسمع الرد، لكنها استنتجت أن جارها نهرها قائلا :
”هل هذا وقته”؟.
-1-
جلال هو الذى طلبه، رد رجل الهاتف، فالسكرتير، فالسكرتيرة، والموسيقى فى الخلفية تنتقل إلى المقدمة مع كل فترة صمت أو انتظار،”دقيقة واحدة من فضلك”، “هل تترك رقمك؟”.”لا.. ثانية واحدة، لقد طلب أمين بك ألا تترك السماعة حين عرف أنه أنت، حالا”.
تعجب جلال من كل هذا الاهتمام، هو الذى طلب، هكذا فقط، لم يكن يعرف ماذا يمكن أن يقوله له؟. هفة من هفاته التى نجحت فى أن تفـلت قبل أن يمنعها. كل الحكاية أنه لم يجرؤ على أن يطلب فاتيما، فكر أن يطلب رشا مباشرة لكنه عدل. العجيب أنه كان ينتظر أن أيا منهم يطلبه، يطلبونه بشأن ماذا؟. أين دوره بينهم؟. الوحيدة التى لا أهل لها مثله هى منال، لا يا شيخ؟. ! طيب، وبسمة؟. وثريا؟. وحتى حصة؟. يبدو أنه ليس لأحد أهل حتى لو كان يعيش وسط أهله عينى عينك. قال لنفسه رادعا: أنت مالك أنت!؟. تشطر على خيبتك.
ـ نعم، أنا يا أستاذ جلال، أنا أمين، أنا كنت أريدك.
ـ تحت أمرك (نسى جلال أنه هو الذى طلب).
ـ شكرا أنك طلبت، لقد ترددت كثيرا قبل أن أقرر أننى أريدك، أريد أن ألقاك.
أمين عبد الحكيم يريدنى، لابد أنه لم يدرك أن المشروع، سبب تعارفهما، قد انهار قبل أن يبدأ، مشغولياته أكبر من أن يفكر فى التفاصيل.
ـ طبعا سيادتك تعرف أن مسألة الدروس هذه قد انتهت، يبدو أنها كانت فكرة غير واقعية.
ـ يعنى، استنتجت هذا، وتأكدت منه بعد انقطاعك، لا لا، هى مسألة شخصية، مسألة أخرى تماما.
كاد جلال يقول له كالعادة: كل المسائل شخصية.
ـ أنا تحت أمرك، أمر عليك فى أى وقت.
ـ لا لا، ليس هنا، فى أى مكان آخر، فى أى مكان أنت تحدده.
كان صوت أمين عبد الحكيم حادا، بل دالا على الفزع، وهو يرفض اللقاء فى المكتب، لماذا يا ترى؟. تساءل جلال. أى مكان يحدده هو، جلال الذى يحدد. فى الأمر شئ، ثم إن معنى ذلك أن بيت أمين مستبعد أيضا، كان يريد أن يرى فاتيما، ويطمئن على رشا، ما هذا؟. ثم كيف يحدد هو مكان اللقاء مع واحد متعدد الملايين مثل هذا؟. صحيح أنه يعرفه قبل أن يكون هكذا، صحيح أنه مختلف عنهم، لكن أيضا…..
ـ أنا؟ تقصد ؟ أنا بيتى لا يليق، أهلا وسهلا، ولكن، ليس بيتا بالمعنى العادى:
ـ أى مكان، أى مكان تختاره، يا أستاذ جلال مكان يمكن أن أجدك أنت فيه؟.
ما الحكاية يا ناس؟. ما هذا؟. صوته غريب، هذا ليس أمين عبد الحكيم: لا صاحب معرض السيارات، ولا الملياردير المنطلق، ولا حتى زوج فاتيما ووالد رشا، ثم ما هذه اللهجة؟. “مكان أجدك أنت فيه”، ما هو طبعا سيجده فى أى مكان يلتقيان فيه، هل هناك احتمال آخر، أن يرسل له مندوبا عنه؟….. ولم يبتسم.
ـ التابعى الدمياطى:
ـ وهو كذلك. متى؟.
كيف قالها؟. وكيف اختار هذا المكان بالذات لهذا الشخص بالذات؟. وكيف وافق أمين بهذه السرعة؟. الذى حصل. شجعه ذلك على أن يتراجع، فهو يعرف ازدحام وسط البلد.
ـ خلها فلفلة، فلفلة المنيل بجوار كوبرى الجامعة، بدلا من التابعى:
- الليلة؟.
- ليكن، الليلة. نعم.
العامل المشترك فى المكانين هو الفول المدمس، ثم إنه يبدو أن جلالا قد اختار المكانين لأنه قرر أنه هو الذى سيدفع، أردف مؤكدا قبل أن تنتهى المكاملة:
ـ على أن تكون ضيفى:
ـ شكرا، شكرا، كماتشاء. أية ساعة؟.
ـ العاشرة، مناسب؟.
ـ جدا، سوف أعرف كيف أجدك، شكرا.
هو الذى طلب أمين عبد الحكيم، طلبه، وهو لا يعرف ماذا سيقول له، كان يريد أن يسأله عن رشا، وعن فاتيما. لم يسأله، وهل أعطاه أمين فرصة ليسأل؟. إن أمينا لم يستفسر أصلا عن سبب طلبه إياه، ثم فجأة يجد نفسه مضيفا لصاحب كل هذه الملايين! يعزمه على فول وطعمية وسلطة بلدى وبصارة؟. صحيح أنها فلفلة وليست عربة عم برعى على الناصية السرية المختفية فى الزقاق المتفرع من شارع محمد محمود بباب اللوق، ولكنهما فى نهاية النهاية ليسا إلا الفول والطعمية. لا، لا، لا، ليست مسألة تنازل أو تواضع أو كلام غـث من هذا، صحيح أنه أمين عبد الحكيم الذى هو، لكن الأصح أنهما مازالا ينتميان إلى فلك واحد، لم يعد هناك تصنيف ثابت، التصنيف الآن تصنيف كواكبي: هناك المجموعة الشمسية الخفية فوق الدول والناس، ثم الأقمار التابعة الدائرة فى فلكها. وبعد ذلك النيازك الساقطة، هو وأمين مازالا يدوران حول كوكب لا يعرفانه، صحيح أن المدار مختلف، لكنهما توابع والحمد لله.
بأية صفة يقابله؟. يطلب مقابلته؟. بصفته رجل أعمال؟. أم زوج فاتيما؟. أم رفيق منال؟. أم والد رشا؟. وهو ـجلالـ ما صفته فى هذه المقابلة، تحديدا؟. لقد استطاع أمين أن يحدد نوع التواجد فى المقابله، لكنه لم يحدد طبيعة الموضوع: “مكان أجدك أنت فيه”، من هو؟. يجد من؟.إذا كان هو لم يجد نفسه بعد، لم يعد صحفيا، وهو ليس مترجما ثابتا، ما هو إلا مشروع مجهض لمدرس خائب. من ذا الذى سيجده أمين عبد الحكيم؟.!!
اللهم اجعله خيرا.
ثم خطر فى باله أنه سوف يقابله كصديق من نوع آخر، ليست كلمة الصداقة التى تقال للمجاملة. هناك نوع من الصداقة السرية تنمو بين البشر، هكذا فقط، دون مبرر ودون إعلان، هل حدث هذا؟. منذ أول لحظة رآه فيها قال لنفسه: هذا ليس صاحب معرض سيارات، صحيح أنه مازال بعد كل هذه الأشهر لا يعرف كيف يصنفه، حتى بعد أن انطلق كالصاروخ فى عالم أعماله، لم يستطع أن يصنفه على أنه رجل أعمال، أو أنه ملياردير، “ملياردير” يعنى ماذا ـ باللغة البشرية ـ بعيدا عن لغة البورصة؟. لعله صديق فعلا. هل يقابله كصديق من هذا النوع المجهول المعالم.
كل صداقة هى من نوع مجهول المعالم.
-2-
تعمد جلال ألا يسبقه، يبدو أنه التقط قوله: “سوف أعرف كيف أجدك”، باعتبار أنه مفهوم ضمنا أن جلالا هو الذى سيسبق، سيهرول. لا، بعيدا عن شاربه، ليس شعورا بالنقص، ولكن لا، سوف ينتظر بعيدا على الطوار الآخر حتى يلمحه أو يلمح سيارته، هو لا يعرف سيارته، لكنه حتما سيلمحها، ثم يتركه يبحث عنه ربما دقيقة أو أقل، ثم يدخل إليه، هذا ترتيب مناسب.
فعلا ليس “هو”، ليس أمينا، أو يجوز أن يكون “هو”، وأن يكون الآخر ـ رجل الأعمال ـ هو الذى ليس “هو”، كل شئ جائز.
سأله أمين، كما هو متوقع، عن الحال، والترجمة، و لماذا يتخلى عن مشروع التدريس، وأنه يمكنه أن يواصل المحاولة بعيدا عن أولاده أو أقاربه. ثم انتقل فجأة ـ كما يبدو ـ إلى “الموضوع”:
ـ أليس محمود عبد السلام قريبك؟.
ـ كان قريبى، كنت متزوجا أخته، هو صديق عجيب، هو صديق جميل عجيب.
ـ تعرف أننى لم أره، حدثتنى عنه فاتيما.
ـ … أتذكر أنك أشرت إلى مثل ذلك.
ـ ثم حدثتنى عنه بعد ذلك أكثر كثيرا، وخاصة بعد حكاية رشا و ابنه فتحى:
ـ لم تكن لهما حكاية.
ـ دون دخول فى التفاصيل، يبدو أن ثمة علاقة ما، أو….
قاطعه جلال:
ـ بين رشا وفتحى؟.
ـ رشا وفتحى من؟. بين محمود وفاتيما، حكاية حب أو شئ من هذا القبيل.
إذن.. فجلال لم يكن متجنيا، ولا كانت مجرد غيرة حين لمح ما يعد بهذا التطور السريع منذ البداية، منذ بداية البداية.
أردف أمين عبد الحكيم:
ـ تعرف، أو لعلك تستنتج، أننى وفاتيما نتصارح بكل شيء.
كل شئ؟. حتى موضوع منال؟. ترى هل عرجت إلى تلك الليلة؟. لم يسأل جلال، ولم يصدق، ولم يكذب، وخاف.
لم يمهله أمين، واستمر يقول:
ـ هى تعرف كل شئ عن علاقاتى الخاصة.
ـ ولم ذاك؟. (لم يقل. وأنت إلى أى مدى تعرف أنت؟.)
ـ هذا ما اتفقنا عليه، حتى العلاقات العابرة التى يتصادف أن أمارسها أثناء سفرى، هى تعرف عنها ما يكفى، حتى أنها تطالبنى بتحليلات معينة عند عودتى من كل سفر، وإن كان ذلك لم تعد لنا به حاجة منذ مدة.
ـ تعنى أنكما…..، لا تؤاخذنى:
ـ هو ذاك. عندك حق.
شعر جلال أنه الشخص غير المناسب، فى المكان غير المناسب، ما له هو بكل هذا؟. صحيح أن عنده أسبابه الخاصة التى تجعله “له”، لكن أمينا لا يعرف هذه الأسباب، ثم ما دوره هو الآن؟. وما معنى هذه المقابلة؟ لم يجرؤ أن يسأل أمينا لم اختاره، ولا ماذا ينتظر أن يقوم به. لم يعتن أمين بتحديد هدفه أو مطالبه ابتداء، لكنه مضى يحكى كيف أنها استطاعت بطريقتها أن تعرف كيف تعمل عمرة مؤخرا لم تخبــر عنها أحدا، ثم إنها عادت أكثر تحجبا، وصلاة، وحرصا على العلاقة مع محمود فى ذات الوقت.
ـ وهو؟.
ـ لا أعرفه، أنت تعرف أننى لا أعرفه.
ـ ألهذا دعوتنى؟. لتعرفه عن طريقى؟. لتعرف ـ لا مؤاخذة ـ غريمك؟.
ـ غريم من؟. وأعرف من؟. المسألة أخطر من ذلك.
ـ هل هناك ما هو أخطر من ذلك؟.
ـ نعم، فاتيما مصابة بالسرطان، سرطان الدم، عرفت ذلك مؤخرا من ورائها، وهى لم تعـلم بعد، لكنها سوف تعلم حتما، هذا ما أعرفه عنها وعن أطبائهم هناك، قررنا أن تسافر دون أن أطلعها على التحاليل، أعتقد أنهم أقدر على إبلاغها، ويبدو أنها استشعرت خطورة الأمر بعد اقتراح سفرها مباشرة.
كان جلال يلاحق هذه الأخبار بما يشبه التسليم لوعى آخر، كان من فرط المفاجأة قد كف عن التعليق، وعن التمادى فى التساؤل، وعن التفسير، وعن التبرير، كان جلال كمن أصبح شريطا يملأ على السرعة السريعة دون أن يعرف بماذا يملأ، فهو لـن يستطيع أن يعرف محتواه إلا حين يأخذه فيما بعد ليعيد إذاعته على جهازه الخاص بالسرعة العادية، كل ما استطاع أن يركز عليه هو وجه أمين: ألم هذا؟. حزن؟. مراجعة؟. غيرة؟. شماتة؟. ليس أيا من هذا… إذن ماذا؟. طيبة؟. هل هذه طيبة حقيقية، طيبة من نوع آخر؟. صحيح؟. هل هذا صحيح؟. هل يمكن أن يقابل واحد كل هذه المصائب والمفاجآت شاملة السرطان والخيانة بهذه الطيبة؟. هل هى حرية السماح أم قـدر الخيبة والتسليم؟.. لا.. هى الطيبة؟. الطيبة الأخرى التى يعرفها ويفتقدها مهما كان يشك فيها ويشكك فى تزييفها، هذه التى أمامه هى الطيبة الأصلية، هذا المصرى المسمى أمين عبد الحكيم: رجل طيب، وهو قد استدعاه هو بالذات لهذه المقابلة، لأنه هو ـ أيضا ـ طيب، هو لم يستدعه، هو طلب لقاءه أثناء مكالمة هاتفية، جلال هو الذى هاتفه، وحتى هذه اللحظة لم يسأله أمين لم طلبه؟. لكن المقلب الحقيقى أنه ـ جلال ـ عاجز تماما أمام كل هذا، فلماذا هذا اللقاء؟. هل هو ناقص؟. هل مطلوب منه أن يفتى فى مسألة علاجها، أم يعرض عليها التوبة النصوح؟. ما هذا هكذا؟. لماذا هو بالذات، وهو به ما به؟. ومع ذلك فقد تصور أنه المسؤول الأول، عن ماذا؟. ليس يدرى:
استمر أمين:
ـ ليس سرطانا بمعنى ورم وكلام من هذا، هو سرطان الدم، يسمونه “ليمفوما”.
ـ ليمــ …. ماذا؟.
ـ… اسم طبى والسلام، لكننى فهمت أنه متى ذكر هذا الاسم، مع اسم فرعى يشير إلى نوع معين منه لا أعرفه، فإن سيلا من التفاؤل يسرى بين الأطباء حتى يكادوا يباركون لبعضهم البعض وكأنه تم الشفاء، ومع ذلك يظل الاسم هو الاسم: سرطان.
ـ وهل فعلوا ذلك بالنسبة إلى مرض السيدة فاتيما؟.
ـ حصل.
أمسك جلال بالقشة، وانتظر الفرج.
ـ وهل علمت هى بذلك؟.
ـ قلت لك إنها لم تعلم أصلا أن عندها هذا المرض، فكيف تعلم نوعه أو احتمال شفائه؟.
العجيب أن جلالا صدق من فوره، أنها ستشفى تماما. ألم يبارك الأطباء لبعضهم البعض؟. لكن فى ذات الوقت قفزت إليه حكاية علاقتها بمحمود، كان قد تلقى الخبرين معا، فأزاح خبر السرطان خبر العلاقة، لكن ما إن أزيحت، حكاية السرطان. بتباشير التفاؤل حتى قفزت إلى الواجهة حكاية محمود، طيب ماذا يقول له، لأمين، وماذا لا يقول؟. وهو هنا لماذا؟. ما علاقة هذا بذاك؟.
ـ تحديدا، لا أعرف، كان يمكن أن أذهب إلى طبيب نفسى أستشيره فى موقفى وموقفها، لكن أنت تعلم علاقتى بهذه المهنة، “أبى”. ثم ماذا يمكن أن يقوله لى مثل هؤلاء الأطباء؟. أنا أنام وأصحو وأعمل و.. و.. وما ترى، إيش عرف هؤلاء الأطباء بما ترى؟.
حاول جلال أن يكون أكثر اقترابا، وأن يتحسس بدقة أكثر هذا الذى يتصور أمين أنه يراه، لكنه لم يضف إلى ما هو فيه أية تفصيلات يمكن أن تعين.
ـ هل ما زلتم تسكنون فى هذا الـ.. المكان، المدينة الأخرى، المدينة السياحية يعنى:.
ـ سياحية ماذا، هل نحن سائحون؟.
ـ آسف، قد يبدو السؤال فى غير موضعه، ولكننى لم أرتح أبدا لنقلتكم هذه من مصر الجديدة إلى ملعب الجولف هذا، أعنى المنتجع يعنى، ليس لى الحق، ولكننى أكلمك كصديق.
خرجت منه كلمة صديق هكذا دون استئذان، ولم يشعر أن به رغبة للتراجع.
ـ تصور أن حكاية الصداقة هذه خطرت لى وتحرجت أن أسميها كذلك، لا بد من أن هناك اسما آخر أكثر دقة، و.. وربما أكثر عمقا.. أو أكثر.. لست أدرى ماذا؟.
لم يرد جلال ـ قصدا ـ حتى لا يتمادى فى النقاش حول مثل هذه التنظيرات التى تمسخ كل شئ حقيقى، نعم هناك بين البشر ما يستحسن أن يظل بغير اسم.
نظر جلال إلى وجه أمين طويلا، ليتأكد من شئ لا يعرفه، ليست الطيبة، ولا الألم، ولا الحيرة، شئ أعمق كثيرا، فقرر أن يتراجع، لكن كان الأوان قد فات.
ـ أقول منذ زيارتى لكم، فى البيت الجديد، أعنى فى قصركم، أو ماشئتم من تسميات، وأنا غير مرتاح، شئ أقرب إلى التشاؤم. قلت فى نفسى: هذا بيت شؤم.ـ كان لزاما أن ننتقل إلى هناك، كل الناس أمثالى ينتقلون.
ـ لا أعتقد أن هناك كثيرين أمثالك، هذا ليس مدحا، وليس ذما، لا أحد مثل أحد.
ـ فاهم، فاهم…
يحاول جلال أن يبتعد عن التركيز على دوره الذى لا يعرف له أولا من آخر، يريد أن يكون قدر الموقف، لا يريد أن يلح فى سؤاله عن دوره فى كل هذا، وفى ذات الوقت هو ـ فعلا ـ لا يعرف له أى دور، ومع ذلك يتصور أنه يمكن أن يعرف موقفه، هو ذاك، فليتكلم عن موقفه حتى يظهر له دور.. يجوز
أمين هو الذى تكلم:
ـ أظن أننى أراجع كل أوراقى، هذا هو موقفى إن شئت الصراحة، لكننى لا أخفى عليك، هى مراجعة خائبة على ما يبدو؛ لأننى أعود دائما إلى ذات النقطة، وهذا عكس فاتيما، هى عادة تصل بالأمور إلى نهايتها حتى لو كانت تجرب.. لكن..
أحس جلال أنه ربما كان يشير إلى تجربتها مع محمود، ثم تبين ـ من نفسه ـ أن فاتيما هى هكذا، منذ البداية، وهل زواجها من أمين إلا هكذا: التجربة إلى نهايتها، ثم إنها تبدو من الذين يعلمون أنه لا نهاية إلا لبداية، ياه… !!
قرر جلال أن يقولها، ويحدث ما يحدث، لكنه تراجع بعد أن خطف نظرة إلى وجه أمين الملئ بكل شئ، وقال:
ـ هل هناك شئ عاجل؟. شئ أستطيع أن أقوم به؟.
ـ نعم.
غمرت جلال فرحة هادئة، فهاهو يتقدم نحو أمر محدد.
ـ أنا تحت أمرك.
ـ تتصل بى أحيانا، أعنى كثيرا، أنا أخجل أن أتصل بك فى هذه…
توقف أمين فجأة فى اللحظة المناسبة، فبادر جلال:
ـ سوف أفعل، دون وعود محددة، فقط أريد أن تعيننى ـ إذا أمكن ـ أن أتعرف على ما يمكن أن أقوم به؛ لأكون مفيدا بأية درجة.
لم يشكره أمين وهو ينصرف، لكن وجهه كان ممتنا، وجميلا، ونبيلا، ومتألما.
ترك أمين جلالا وهو غير فاهم أى شئ، مع أنه بدا فاهما ما لا يعرف.
ما علاقة كل هذا بكل ذاك؟.
أين الترابط بين علاقة فاتيما بمحمود والسرطان، والعجز، ومشروع الصداقة، وخيبته البليغة؟. كاد جلال أن يبكى: ولم يسمح لنفسه بذلك. لماذا قال له أمين، ما قاله له؟. لماذا هو؟. هنا؟. هكذا؟.
إنه يشعر أنه قريب منه جدا، ربما أقرب واحد. لكنه عاجز تماما.
- 3 -
لم يكن جلال قد زار محمودا منذ مدة، منذ عملة فتحى ورشا. محمود- أيضا -لم يتصل به، وحين علم جلال بحكاية محمود مع فاتيما، قرر أكثر أن يتمادى فى تجنبه، ليس نفورا أو حكما أخلاقيا يتصورأنه تخطاه، لكنها حيرة وسماحة أكثر من أى شئ. هكذا حاول أن يقنع نفسه.
فجأة، وجد نفسه مشغولا على وائل (أكثر من فتحى، كالعادة). منذ الزيارة الأخيرة التى عرف محمودا فيها بفاتيما وبسمة، تطورت الأمور وحدثت الاتصالات وتعرف الأولاد على بعضهم البعض، وكان جلال كلما بلغته أخبار محمود الزراعية الجرزاوية التربوية، ازداد بعدا عنه وتصور أنه قد أصبح مستغنيا عن القاهرة وسيرتها وكل من فيها، وهو ـ جلالـ أولهم. ومع ذلك، فجلال لم يستطع، بعد مقابلة أمين، أن يقاوم الدافع لزيارته.
لم يقل له محمود ـ مثل الناس، ومثل العادة ـ “أين أنت يا رجل؟. “، ولا هو قال “أهلا وسهلا”، ولا هو بدا رافضا زيارته، بل كان منظره كأنه ينتظر هذه الزيارة تماما، هكذا، فى هذا الوقت بالذات.
ـ كنت أعلم أنك ستزورنى هذا الأسبوع، هذين اليومين تحديدا، إما السبت وإما الأحد. وحين مر السبت قلت ـإذنـ هو الغد، حتى أذن الظهر اليوم فكدت أشك فى حدسى، لكننى وأنا راجع من المسجد، تصورت أنى سأجدك، هل تصدقنى يا جلال؟.
ـ أصدق مثل هذا الكلام يا محمود ولكننى لا أستسلم له.
ـ لست عارفا كيف رتب الله سبحانه أدمغتنا، هل لابد أن نصدق قبل أن نستسلم، أم يمكن أن نستسلم، ثم نصدق على مهلنا؟.
ـ هل مازلت تلعب ذات الألعاب يا محمود؟.
ـ المسألة ليست لعبا يا جلال. تصور أن الصلاة هنا، بعيداعن هناك، لها طعم آخر.
ـ ما حكاية هنا وهناك هذه؟ لا أريد أن ترجعنا إلى حوار قديم آليت على نفسى ألا أفتحه. كنت قد وصلت إلى أن الله لا يحتاج منا هذه الحركات. الذى عرفه لم يعد يحتاج أن يصلى له، والذى لم يعرفه لن يعرفه بهذه الصلاة.
ـ هو لا يحتاج منا لا صلاة ولا حتى معرفة خائبة، نحن الذين نحتاج أن نصلى كى نلم بعضنا إلى بعض. لا أقصد الناس إلى بعضها، ولكن بعضى إلى بعضى:
ـ … يا أخى “.. يا أخى” هل استقلت وهجرت أهلك لتضم بعضك إلى بعضك، ما هذا الكلام؟
ـ أصبر على، دعك من سوء تعبيرى، كيف أفهمـك وأنت هكذا.
ـ هكذا ماذا؟
ـ إسمع يا جلال، المسألة هى أنه يبدو أننا نعرفه بالحواس مباشرة، لا بالتفكير ولا بالإثبات، نعرفه بالمشاهدة التى تفتح طبقاتنا على بعضها البعض، وهذا يحتاج إلى شحذ حواسنا بانتظام حتى لا تصدأ أو تنغلق. حواسنا التى نعرفها والتى لا نعرفها. مرة يا جلال وأنا أصلى الفجر وحدى بجوار حظيرة عم اسماعيل، شعرت وكأنى أسلك “فونية” إحساسى مثلما كانت أمى تسلك “فونية” الوابور. هذا التسليك المنتظم لا بديل عنه حتى تظل الحواس متفتحة قادرة على التواصل والتلقى:
ـ عليك نور يا كابتن، هذا هو آخر المطاف، هجرت سموم البوتاجاز والسحابة السوداء إلى “فونية”الحواس وخلطة بعوضك. أخشى يا محمود أن تنفتح مسامك من كثرة التسليك حتى ينكشف عنك الحجاب. يا محمود، أنت رجل مثقف ولا يصح أن تترك نفسك تتمادى فى مثل هذا الكلام، صل يا أخى كما تشاء ما دمت قد تعودت ذلك، وخلاص.
ـ خلاص ماذا، وتعودت ماذا يا شيخ؟.
مرة أخرى حاول جلال أن يتهرب من التمادى فغير المسار:
ـ وكيف حال وائل؟.
ـ ذهب إلى أمه، ألم تخبرك ثريا؟.
ـ أنا لا أرى ثريا.
ـ آه صحيح، لماذا لا تراها؟. هل لابد أن ترجعا إلى بعضكما، تتزوجا من جديد، حتى تراها؟.
لم يقل له جلال : ولماذا لا ترى أنت أم الأولاد، وأنتما ما زلتما زوجين، ولم يقل له ما انتهى إليه من رؤى جديدة فى العلاقات البشرية، حيث يبدو أنه وصل إلى قناعة أن الناس تبتعد عن بعضها البعض، بالطلاق، أو الفراق، أو اللازواج حتى يروا بعضهم البعض، وحين يضمنون المسافة الأمان التى تسمح أن يتفاهموا بكل الطرق المؤدية إلى مالا نعرف.
حمد الله أنه استطاع ألا يقول حرفا من ذلك.
حتى الآن هو مصر على أن يتجنب أى تلميح أو تصريح بشأن موضوع فاتيما، برغم أنه بدأ يقترب أكثر فأكثر. مزيد من المضى فى الاتجاه الآخر:
ـ وفتحى؟.
ـ لا لا، فتحى شئ آخر. فتحى صديق، هو الآن يقفز فوق السنوات، ينمو بسرعة حتى يكاد يسبقنى، بعد أن اختار العودة إلى جرزة بمحض إرادته، بدا لى أنه انطلق إلى ما وعد به من قبل.
ثم راح محمود يحكى له كيف أنه حين عاد فتحى إلى جرزة بعد تجربة هربه، تأكد هو من سلامة موقفه بقدر ما تأكد فتحى من اختياره، فطاح يعمل كل شئ، كان محمود يحلم به دون أية إشارة منه (من محمود)،
ـ فتحى، يا جلال، يحفظ القرآن، ويتفوق فى المدرسة، ويعزق الأرض، ويقرأ كثيرا، ويغنى كثيرا. ثم ذكر له كيف أن فتحى يذهب ـأحياناـ إلى الموالد القريبة ويشارك فى الذكر، و”يفقر”، ويعرق، وينشد، ويذهب ـأحياناـ إلى الكنيسة فى بنى سويف مع صديقه مينا ابن عم اسحق، ويعود وهو فى حال من الوجد لا تسمح بسؤاله عن أى من ذلك.
يبدو أن محمود قد ازداد يقينا ـ من خلال ازدهار فتحى هكذا ـ أنه على حق. ثم إنه راح يتابع تجربة ابنه ويحافظ عليها بالموافقة الصامتة دون تدخل، وهو يزداد يوما بعد يوم من اليقين بصحة اختيار ابنه: من واقع هذه الممارسة الناجحة بكل المقاييس، فرح جلال – بالرغم منه – بكل هذا مع أن شكوكا كثيرة ساورته.
ـ ألا يسأل فتحى عن أمه وأخيه وأخته؟.
ـ يسأل، ويزورهما، ويرجع فرحا، وهم ـ أيضا ـ بدآ يفرحون بزيارته. قل انشغالهم عليه، وكفت أمه عن محاولة إقناعه بالبقاء معها، تبدو يا جلال مشغولا عليه أكثر منها.
ـ صحيح أنا مشغول، لست أعرف إلى أين سوف يذهب هؤلاء الأولاد. كل الأولاد.
ـ يا سيدى، ربنا موجود.
ـ صحيح ؟.
خرجت منه هكذا. ليس هذا وقته، ولا هى المناسبة، ولا هو يقصدها. خجل، وتعجب من هدوء محمود، كما خشى أن يرجعا إلى المناقشات اياها، رد محمود ببساطة:
ـ صحيح و نصف.
لم يقل له “يا بختك”
كان جلال قد لاحظ أن المنزل الصغير قد تمت العناية به بطريقة جميلة، وأيضا كان مليئا بأثاث طبيعى وبسيط، لكن يبدو أنه ليس أثاثا رخيصا، فهو يعلم أن لعبة البساطة والعودة إلى البدائى هذه أصبحت مجالا لاستغلال الأثرياء المدعين، حتى أصبح هذا النوع من الأثاث والملابس أغلى من الملابس والأثاث الحديث، ولم يستبعد لمسات فاتيما فى هذه المسألة، لن يسأله طبعا، تلفت حوله وقال:
ـ يبدو أن المزرعة مشى حالها.
ابتسم محمود ابتسامة غريبة وقال:
ـ فعلا، مشى حالها، وحالى أيضا، أعنى حالنا والحمد الله، الناس هنا غير ماكنت أتصور، غير الانطباع الأول، ناس “جدعان”.
كان فى لهجته شئ مختلف، شم فيه جلال رائحة وظيفته الرسمية القديمة بشكل أو بآخر، يا ترى ماذا يجرى؟.
التفت إليه محمود دون مقدمات، وقال:
ـ طبعا تعرف ماذا أصاب فاتيما، السيدة فاتيما أمين؟.
صمت جلال بغير قصد، فهو لم يكن يستطيع أن يجيب إلا بعد أن يتأكد إلى ماذا يشير محمود بـ”ما جرى” هل هو المرض، أم الرفق، أم السفر القريب؟. أم ماذا؟.
أكمل محمود:
ـ تصور أنها تخفى على زوجها حقيقة مرضها، لقد اعترضت على ذلك بكل وضوح، وقلت لها إننى لو قابلته، لو كانت لى فرصة مقابلته، لأخبرته بصريح العبارة، هذه المسائل لا ينبغى أن نلتف حولها كالأطفال.
كان جلال مازال مشدوها من بساطة حديث محمود، ووضوحه هكذا، توقف عقله عن الفهم، لم يصرح بحرف واحد عن مقابلة أمين الخصوصية الغريبة فى “فلفلة” المنيل، ولا عن تصور أمين أنه هو الذى يعرف دونها، وقد فهم من بعض التفاصيل التى ذكرت لاحقا أنهم بعد أن أخفوا عنها نتيجة التحاليل الأولى، وبعد أن التقطت هى غير ذلك من نظراتهم، ذهبت بنفسها إلى معمل آخر، واشترطت معرفة النتيجة شخصيا. قالت لهم إنها تعرف أن المرض خطير، وأنه سرطان، وأنها ـ فقط ـ تريد المتابعة مع أكثر من معمل، وأنها عرفت الحقيقة، ولم تقل لأحد، إلا لمحمود.
لم يقل له جلال، ولماذا أنت بالذات؟. أو ” بصفة ماذا؟. “، لكنه تساءل:
ـ ولماذا تخبرنى أنت الآن هكذا ببساطة سرا هى ائتمنتك عليه؟.
ـ لم أعدها بكتمانه، وهى لم تطلب ذلك، فقط هى اطمأنت إلى أننى لا أعرف زوجها، وأنا أعرف أنك تعرفه.
ـ تريد منى أن أخبره؟. ما هذا؟.
سكت محمود، وأجاب “بالنفى”، ولولا أن العصر أذن فى هذه اللحظة لطال الحوار.
ـ عن إذنك أنا ذاهب للصلاة.
ـ ماذا، ألم تكن هناك؟. ألم تقل إنك راجع من المسجد.
ضحك محمود دون سخرية.
ـ الظهر غير العصر يا جلال.
ـ هل تصلى كل الأوقات فى المسجد؟.
ـ نعم. هل تأتى معى، أم ليس بعد.
قال جلال فى غيظ:
ـ كيف عرفت أنه “ليس بعد”؟ لماذا أنت واثق هكذا؟.
ـ أنت حر، لكننى أتابع بحثك الجاد، وهذا يكفينى لأكون واثقا.
استقبل جلال هذا الكلام الصعب بمثابة دعوة أخرى للصلاة.
استعبط، وكأنه لم يسمع هذه الفذلكة. واعتذر برقة مصطنعة.
- 4 -
راح جلال يجول بناظريه فى الحجرة، وهو يتذكر معظم الأشياء اختلفت معالمها، أهكذا بسرعة؟. أين الرف الذى كانت عليه الكتب؟. حلت محله مكتبة صغيرة، جميلة، ذات الطراز، البسيط الباهظ الثمن، من أين لمحمود كل هذا؟. باب المكتبة من الزجاج لكنه مغلق بالمفتاح، راح يحاول أن يقرأ أسماء الكتب من خلف الزجاج، لم يتمكن إلا من كتاب أو اثنين لم يحققا له ما أراد، يبدو أنه كان يريد أن يقارن الكتب التى وجدها فى المرة السابقة بمقتنيات محمود الجديدة التى سمحت له أن يقول كل هذا الكلام الصعب، أين يا ترى يتوجه فكره الآن؟. فكر ماذا يا عم، ليس هذا محمودا، لا هو الذى تزوج أخته، ولا هو الضابط الذى استقال وجاء إلى هنا، وربما-أيضا- ليس هو الذى عاد من البوسنة. إن المطلوب الآن هو معرفة أشياء أخري: وكيف وفق بينها: العلاقة مع فاتيما، مع الصلاة فى المسجد كل وقت، مظاهر الثراء هذه مع ضيق ذات الأرض !!، وائل مع أمه وفتحى بجواره؟. أين محمود فى كل هذا؟. وكيف فعلها؟. هل فعلها؟
عاد محمود من الصلاة فوجد جلالا قد تمدد على أريكة، ونام، أو هو كان على وشك ذلك، فـرد محمود عليه ملاءة خفيفة، فردها برقة أم تخشى أن تقلق رضيعها، وعاد من حيث أتى: لم يكن جلال قد استغرق فى النوم تماما، لكنه تمادى ورأى حركات محمود، وتعجب وصدق، هو شقيق ثريا فعلا. تذكر يوم عيد ميلاده حين وجدها بالمنزل، لم يكن ينوى أن يترك نفسه، ويستغرق فى النوم.
الذى حدث هو أن النوم هو الذى احتواه، فنام.
- 5 -
لا يحب جلال، مثل كثير من الناس، أن ينام والدنيا نهار، ثم يستيقظ ليجد الظلام قد حل هكذا، ساعتها يشعر أن أحدا سرق منه يوما، بل عمرا. كيف نام كل هذا الوقت فى هذا المكان الذى ليس هو مكانه، ولن يكون. هذه الغرفة، وهذه الأريكة، أين محمود؟. يصلى المغرب فى المسجد، لا، نحن بعد المغرب بكثير، قبل أن يضئ النور (كان محمود قد أدخل الكهرباء، ربما بفضل اتصالاته بصفته الرسمية السابقة) جلس فى الظلام الذى لم يكتمل تماما، من أين لك هذا ؟ أنا مالى !.
ثم ما لزوم أى شئ؟ وفيم تنفع أى إجابة .
وقال إن حيرته هذه هى قـدره، وأن تبسيط المسائل هو نفى للحياة كما خلقت، وأن كل ما عليه هو أن يمضى فى طريقه (الذى لا يعرفه).
فكر أن يستسلم ـ كما ألمح محمود ـ ثم لتأتى المعرفة أو اليقين أو الإنكار، أو أى شئ. بعد ذلك. لم تنقذه الأغنية التى راحت تتكرر لتملأ وعيه حتى لا يفكر، “عندما يأتى المساء، ونجوم الليل تظهر”، الذى أنقذه من سريان ما لا يود الإطالة فيه هو دخول فتحى، وهو يصفر بأغنية حديثة (ليست شبابية) لا يعرف جلال كلماتها، أضاء فتحى النور، ولم يكن يعرف أن أحدا بالحجرة، فوجئ قليلا عندما رأى عمه جلالا جالسا، فاعتذر، وحياه وهو فرح تماما، فرح به؟. فرح بنفسه؟. فرح بالمكان؟. فرح بالأغنية؟. فرح بكل هذا؟. فرح والسلام.
سرت العدوى إلى جلال فغمرته فرحة طازجة هو الآخر، فرحة كان قد نسيها طويلا.
ـ كيف حالك يا فتحى؟.
ـ كما ترى يا عمى، أين أنت من زمان؟.
(لم يقلها أبوه).
ـ أنا هنا.
ـ سألت عنك أبى كثيرا، وكانت إجاباته غامضة، لماذا يا عمى أبى إجاباته غامضة؟. ليس دائما، لكن كثيرا.
ـ تسألنى أنا؟. أم أنا الذى أسألك؟.
ـ سألت نفسى، ولم أسأله، كلما سألته ازداد غموضا، فتوقفت عن السؤال.
ـ وأنت؟. لو سألتك أنا؟. فهل تزداد وضوحا أم أنك ورثت الغموض عن أبيك؟.
ـ لا أعرف، جرب.
ـ لا، لن أجرب يكفينى وضوحك البادى هذا، لن أغامر.
ـ أحسن، عن إذنك لابد أن والدى سيحضر حالا، عندى موعد مع فريق كرة القدم فى الكفر المجاور، ثم المذاكرة، ثم…، هل تعرف ياعمى: الدنيا مليئة بكل شئ.
لم ينتظر فتحى حتى يسمع جلالا، وهو يقول له أو لنفسه “طبعا”. مع أنها كانت “طبعا” مليئة بالغيظ، والحب، والفخر، والتعجب.
قال جلال لنفسه أيضا: يبدو أن حلم محمود قد أسقطه بالكامل على فتحى، أو يبدو أن فتحى قد صدق حلم أبيه أكثر من أبيه. إذن ماذا؟.
هو ـ جلال ـ فى أشد الحاجة إلى من ينتشله من كل هذا المتساوى الأضلاع، المفتوح النهاية.
حين عاد محمود لم يعتذر عن الغياب، قال “صح النوم” بطيبة نفس الأم التى غطته، فسأله جلال بعد أن كان قد قرر ألا يسأل:
ـ هل صليت ـ أيضا ـ فى المسجد؟..
ـ الحمد لله.
صمت محمود ثم قرر أن يكمل دون أى أمل فى أى شئ.
راح محمود يعيد الحديث عن معنى الصلاة مضيفا إليه معنى الجماعة…، راجيا من جلال أن يصدقه. عاد إلى جلال يقينه بأن الصمت هو أفضل رد، ولم يقل: أصدقك فى ماذا أو ماذا؟. واستأذن وهو يسمع من بعيد :
ـ خـلنا نراك يا جلال.
- 6 -
هو فى أشد الحاجة إلى كلام، مجردكلام، كلام يحل محل التفكير والمعانى والحيرة وكل شئ، الكلام الذى هو مجرد كلام خير نفى لما يمكن أن تحمله الألفاظ من معان خطرة، حتى لو كانت تحمله على سبيل المصادفة.
هو يريد كلاما مثل قلته.
كانت منال تصنف الكلام كما تصنف الرجال وهى تدافع عن موقفها الرافض الزواج، زوج مثل قلته، وزوج أحسن من قلته، وزوج قلته أحسن، وكانت تقول إن كل ذلك لا يساوى المغامرة بهذا السجن الغبى: هو يريد كلاما مثله مثل قلته. سوف يذهب إليهم، وما يكون يكون، لا، ليست ندوة الرجل الكبير، هذا الرجل النادر المثال يحترم أى كلام وكل الكلام، فيفاجأ الجميع أن الكلام الذى مثل قلته أصبح له معنى، وهدف، ودلالة، حتى لو كان صاحبه لا يقصد أيا من ذلك. جلال حدد ما يريده اليوم. يريد أن تصله أصوات البشر بلا فحوى، يريد أن يغرق فى رنين لا يعلم من أين يأتى ولا إلى أين يذهب.
- 7 -
لم تبد عليهم فرحة خاصة لقدومه على الرغم من طول غيبته. كما أنهم لم يرفضوه، وهذا هو المهم. ود لو أمكنه أن يتواجد معهم دون أن يخبرهم بوجوده، بشارة واكيم كان مصريا خالصا من شبرا، تصور!!!؟ طاقية الاخفا، وجد ضالته، أوكاد :
”التطبيع، قلته، الخونة، البلهاء خارج التاريخ، الوزير المرتشى، الوزير الذى، والوزير الذى هو ليس الذى، والوزير المستقيل، والوزير المستقال. مستحيل أن يستقيل وزير إلا إذا اشترط قبل دخوله الوزارة أن تظل العصمة فى يده،
أمران قد حمى الله أهل الكنانة منهما: الانتحار، والاستقالة.
الاستهانة بعقول الناس خير من المهانة اختيارا، المصيبة أنهم يعملون دعاية لمن يحدد قائمة الممنوعات دون النظر فى القائمة،
الاحتياط واجب.
لكل فعل رد فعل إلا فى مصر، فإنه لكل رد فعل تبرير فى التاريخ يدل على عراقة انتهى عمرها الافتراضى:
كله تمام والإنجازات معجزة، والمعجزة فى الإنجازات، حيث توشكى ستؤجر مفروشة بالشئ الفلانى: لابد أن نصدق البيانات دون الواقع، البيانات هى الأصل، هى المنبع والمصب. وهى التى تبقى: البقية فى حياتك، إنهم يذكرون الناس بأن ديمقراطيتنا حاجة ثانية دون إشارة محددة إلى الحاجة الأولانية” هذا هو ما جاء من أجله. سمعه كما لو كان يدير شريطا قديما.
أظرف الظرف أنهم لا يملون سماعة، وأيضا فإن الطلاقة لا تنقصهم دون حاجة إلى بانجو أوحشيش.
نكشه أشرف مختار لما لاحظ إسهامه بأقل القليل، نكشه بدعوة مشبوهة.
ـ ماذا تفعل الآن يا مولانا الفيلسوف الحائر؟.
قرر ألا يحاور أو يناور، واستحضر كل قدراته السابقة التى كانت تطيح فى كل المسائل، وكل الناس، فى مثل هذه اللقاءات دون تردد
ـ ماذا يا عم أشرف، هل عندك خبر جديد؟.
ـ طبعا.
ـ خبر يخفف من حيرتى ويعالج فلسفتى بإذن الحزب الوطنى:
ـ هو ذاك بالملى:
ـ هاته يا ابن بنت الجمهورية الثالثة.
عادت إليه بسرعة لغته القديمة، والتى لا تظهر إلا معهم، أو حين يزودها حبتين.
ـ سوف تكون صناديق الانتخاب من الزجاج الإنجليزى المصنفر؛ حتى يضمنوا الشفافية المعدلة.
ـ والمصحف لو عرضت عليك وزارة الثقافة فسوف تقبلها.
ـ أنا، وزيرا للثقافة؟.
ـ أيوه، أنت بالذات.
ـ على شرط أن آخذك سكرتيرى الخاص.
لم يستطع جلال أن يتمادى، ود لو يستأذن من فوره. يكفيه هذا هكذا الآن، أخذ حقه وزيادة.
انتهز فرصة قدوم ذلك الناقد الحزين مدحت نعمان (جلال هو الذى يسميه هكذا: الناقد الحزين) وقرر أن ينحرف بالحديث إلى ما يشغله حتى لو مات بين أيديهم ضربا بالقباقيب.
ـ ما رأيك يا أستاذ مدحت فى كتاب جورج طرابيشى عن “الله فى مسيرة نجيب محفوظ الرمزية”؟.
ـ كتاب جيد جدا، لم يأخذ حقه. لكن القضية تجاوزته، ولم تتجاوز نجيب محفوظ.
ـ هل يمكن أن تكون عائلة السحار اشتقت اسمها من أن جدهم كان يمارس السحر؟.
ـ طيب والأستاذ نجيب ماله، وكيف يفك السحر؟.
قال مدحت نعمان فى غضب:
- هذا كلام لا يليق. ثم إن نجيب محفوظ ليس بعيدا عن أى منكم، وهو على الرغم من صعوباته، معروف أين يذهب يوميا، ومن يريد أن يسأل عن ذلك، فليذهب ويسأله مباشرة، وأراهنكم أن الرجل سيرد من فوره ـ خلها على الله.
ـ ما هى على الله. إن لم تكن كذلك فعلى من تكون. هل الكلام بنقود!
ـ لا.. لا تزودها هكذا.
ـ هذه أمور متشابهات، تستعمل فى مناقصات المقاولات وميزانيات التسليح.
ضج الجميع بالضحك ما عدا مدحت نعمان وجلال غريب،
لم يستطع جلال أن يمنع نفسه على الرغم من يقينه من المخاطر والتسفيه. قال وسط كل هذا الهرج:
ـ هل يمكن أن أقول لكم أن هذه المسألة ليست من اختراعنا، وإننا نولد بها، وماعلينا إلا أن نتعرف عليها.وأنه ليس المطلوب إثباتها كما لا يمكن نفيها، كل ما علينا هو البحث عن الطريقة، عن الوسيلة، هذا هو غاية المتاح.
قال أكثر من صوت، بعد صمت ليس بريئا ما محصلته: أنهم غير فاهمين، ولا يريدون أن يفهموا، وأنه يقول “أى كلام” وأنهم سوف ينتظرونه حتى يعقل ويعرف رأسه من قدميه، فهو قبل كل شئ، وبعد كل شئ، ابن حلال.
من أين جاءهم هذا اليقين ؟
فشلت المحاولة، حتى الكلام الذى “مثل قلته”، ثبت أن “قلته أحسن”.
كتم جلال فى صدره نشيج الوحدة، وانصرف دون أن يسخط على أحد.
ـ 8 ـ
- أنا مشغول على محمود يا ثريا.
كان جلال قد اتصل بثريا يستأذنها أن يزورها فى مدرستها بالبدرشين لكنها فضلت أن تقابله فى مكان آخر، ليس بيتها ولا بيته، هى التى اشترطت ذلك دون إبداء الأسباب، هو مازال يحبها، فاختار ذات المكان الذى قابل فيه أمين عبد الحكيم، “فلفلة المنيل” فمن ناحية عرف أسعاره بعد التعديل، ومن ناحية أخرى، تذكر كيف أنه كان لقاء طيبا غامضا على ذات موجة العلاقة بينه وبين ثريا، الغموض يعطى للعلاقات معنى، خاصة إذا غاب الهدف الحقيقى: نهر نفسه عن التمادى:
بادر جلال ثريا بذكر مخاوفه بالنسبة إلى التغير الذى لاحظه على محمود فى الزيارة الأخيرة، وسألها إن كان يمكن أن يعملا له شيئا معا.
ـ لا أظن.
ـ وفتحى؟.
ـ أنا لست مشغولة عليه، إنه يحقق ما عجز عنه أبوه، إنه يحقق ما تسمح به التجربة فى كل اتجاه. هذا هو ما سوف يعيده إلى موقعه المناسب، فى الوقت المناسب.
سألها جلال إن كانت متأكدة، فطمأنته، وتمادت فى شرح صعوبة العلاقات، وضرورة البحث، وروعة الاستمرار.
قال لنفسه: إذا كان الأمر كذلك، وكانت هى هكذا، فلماذا طلقها؟. ولماذا طلقته؟.
قالت لنفسها: إنها مازالت تحبه، وإنه جبان، وإنها ستتزوج زميلها فى المدرسة الذى تقدم لها مؤخرا، ربما لهذا رفضت أن يكون لقاؤهما فى المدرسة، ثم قالت لنفسها أيضا: أنها لن تتزوج أبدا إلا إذا عدلوا نظام الزواج.
قال لنفسه: لا لن يغامر، ويفسد حياتها ثانية، حتى لو قبلت.
قالت لنفسها: إنه طفل عظيم، وهى لا تستطيع أن تعمل أكثر مما عملت.
ـ لاحظت يا ثريا أن محمودا قد جدد أثاث بيته هناك، فى هذه القرية بما يدل على ثراء ليس عاديا، هل تعلمين شيئا عن حالته المادية؟.
ـ ماذا تريد أن تقول يا جلال؟. هو حر! ما أوافقك عليه هو أننى لاحظت أنه قد تغير فعلا، لم يعد يشبه أى محمود عرفته أو حتى تصورته، لكنه أخى على كل حال، دمنا واحد وهو الصلة الأعمق التى ما زالت باقية.
ـ أنا مشغول والسلام.
ـ ربنايستر.
-9-
أخذ يتذكر كيف واكب من خلال صندوق الدنيا هذا أنباء الزلزال فى تركيا، وقذارات ميلشيا تيمور الشرقية، وآثار عدوان ميلوسوفتش والناتو معا، ولم تكن المجازر الجماعية قد حدثت فى فلسطين أو العراق أو أفغانستان بهذه البشاعة، ولم يكن زلزال إيران قد هز يقين الكثيرين بمعنى حكمته ودلائل عدله، لكنه سوف يتذكر كل تلك الأحداث حين تحدث، وسيثق فى المستقبل برغمهاجميعا، ليس يدرى كيف.
قال لنفسه ـ إنه لا يوجد قانون واحد ولا إله حقيقى يمكن أن يسمح بكل هذا، أو يوافق على كل هذا، أو يفسر كل هذا. لكن لابد أنه موجود برغم كل هذا. طيب. كيف؟. سوف يعرف، ربما.
ضغط على زر آخر، الدنيا تضرب تقلب، كأس العالم، كل أربع سنوات يقيمون هذا المهرجان الذى يحمل أكثرمن دلالة، كانت إعادة، لكنه تذكر بوضوح كامل يوم المباراة الافتتاحية، الدولة المضيفة مع حاملة الكأس، يا خبر، بهذه السرعة جاء هذا الهدف المبكر، يذكر كيف قفز من مقعده حتى كاد يوقع المائدة أمامه، صوت المذيع يجلجل وكأنه يكبر. شعر ساعتها أن ألف مليون بنى آدم يشاركون بعضهم البعض فى هذه اللحظة، ثم تذكر سؤال حصة “أنت من من” لو كانت معه الآن لأجابها، أنا واحد من هؤلاء الألف مليون الذين شعروا بذات الشعور؟. فى ذات اللحظة.
-10-
بمجرد أن فتح عينيه فى الصباح تذكر بسمة، فأغمضهما ثانية.
لماذا لم يتصل بها بعد مؤتمر العريش؟. لماذا لم تتصل هى به؟. هل ندمت؟. ربما. يستحيل. لماذا يستحيل؟. هل يشعر بالذنب؟. إطلاقا، إذن ماذا؟.
رد هاتفها من أول رنة وكأنها كانت تنتظره:
ـ أنا جلال.
ـ وأنا بسمة.
ضحكا معا كل على سماعته.
ـ ألا تفكرين فى أن نلتقى؟.
ـ لابد من مؤتمر آخر، وصوت البحر، تحت رعاية نخيل عجوز حان.
ـ أحبك يا بسمة؟.
ـ طيب.
ـ ألاتقولين شيئا
ـ أنت تعرف، دعنا لا نختلف حول الألفاظ.
ـ ما هى أخبار صديقك البوذى؟.
ـ رددت عليه حالا بالبريد إياه، بلغت كتاباتنا ما يمكن أن تصلح به كتابا للنشر.
ـ هل شاهدت مباراة أمس فى كأس العالم؟.
ـ نعم كان الهدف المبكر رائعا، قفزت له من على المقعد.
ـ وهل رأيتنى آنذاك؟. وصاحبك الهولندى ماذا فعل ساعتها؟.
ـ صاحبى مصمم على أن يعود الكأس إلى أوروبا.
ـ هو ليس بوذيا بعد.
ـ هل لكى يكون بوذيا لا بد أن يتمنى أن تذهب الكأس إلى جنوب شرق آسيا؟.
ـ أتصور أنه لكى يكون بوذيا عليه أن يساهم أن تعود الكأس إلى أصحابها.
ـ ومن أصحابها ؟
ـ أنا وأنت.
ـ والمسلمون
ـ وكل من له نبى يصلى عليه.
ـ أهو أنت
ـ طيب
ـ مع السلامة
ـ الله يسلمك.
-11-
بمجرد أن وضع سماعة التليفون، دق الجرس من جديد، ما هذا؟. أى صباح؟. نادرا ما تتلاحق المكالمات هكذا.
ـ أهلا أنور، تتكلم من القاهرة أم من دهب؟. ما لصوتك؟.
ـ أبدا، ألا تعرف؟.
ـ أعرف ماذا، مالك؟.
ـ والدى، تعيش أنت.
ـ يا خبر، آسف، والله العظيم آسف، أنت تعرف علاقتى بالصحف الآن، وبالذات هذه الصفحات السوداء، بعد أن امتلأت ببراويز الإعلانات لماذا لم تخبرنى؟ ولا منال، يا خبر! لم أرها منذ زمن.
لم يطل العتاب ولا افتعل الأسى، وقال له أنور إنه فى القاهرة وإنه سوف يسافر غدا صباحا إذا شاء أن يصحبه.
ـ لا.. شكرا، الظروف ليست مناسبة.
ـ أنا كنت محتاجا صحبتك هذه المرة، عندى ما لابد أن أحكيه لك طول الرحلة، لابد أنك عملت عملا جديدا يشغلك، مبروك. على أية حال كنت مشغولا عليك.
ـ لا.. لم أعمل بعد.
ـ لابد أن أراك. قبل السفر
ـ ياليت.
أصبح هذا المكان ملتقى الطيبين، الفول المدمس والطعمية هو المشترك الباقى بين الفقراء والأغنياء نصف نصف، برغم ذلك تأخر أنور عن الموعد قليلا فأتاح فرصة لجلال أن يرى النيل مثلما يراه سائح من جنوب شرق آسيا.
ـ أهلا أنور تأخرت.
حكى أنور كيف استدعته أخته منال التى نادرا ما تتصل به، أن يحضر من فوره، وكيف فهم، فحضر قبل أن يلفظ أبوه أنفاسه الأخيرة، وكيف أنه بكى كثيرا على صدر منال دون صدر أمه التى كانت فى حال، وأنه أحب منالا جدا جدا فى تلك اللحظة أكثر من أى وقت مضى، لكن كل ذلك ليس هو ما كان يريد أن يحكيه.
عاتبه جلال أنه لم يخبره ليقف بجانبه، وليقوم بواجب العزاء له ولمنال، ثم وجد نفسه يتجاوز الموقف كله فجأة ليقول لأنور وكأنه يخفف عنه:
ـ فكرت مرة أن تخصص فى الصحف صفحة تسمى صفحة الأحياء، أو صفحة البعث مثلا، ليس سجلا للمواليد الجدد، ولكن إعلانا يسجل أسماء كل من قرر أن يعيش.
استسخف جلال نفسه فى هذا الموقف بالذات، لكن يبدو أن أنور أخذ المسألة جدا
ـ ألم تقل لى مرة يا جلال إن”الحياة هى الحل”، أم أننى سمعت ذلك من شخص آخر؟.
ـ ربما حصل، ولو أننى لا أعرف تفسيرا لهذا الكلام. إياك أن تسألنى:
ـ أنا فاهم، لكننى أتعجب، ألا تهمد يا جلال من هذ الدوران المستمر؟.
ـ أليس أفضل من الزيف المستقر؟.
ـ صحيح.
قال أنور إنه حين حضر احتضار والده، بفضل حرص أخته منال فوجئ بما لم يتوقعه، وإن كان فى حدود ما يعرفه عن طبع أبيه
ـ كنت أحسب أنه سيوصينى بأختى، برغم أنها أكبر منى، فهو لم ينقطع عن الانشغال بأحوالها والترحم على أمها والدعاء لهما، ثم تصورت أنه سيوصينى بأمى بشكل روتينى، أو أنه سيترك لى مهمة سداد دين أو يصرح لى بموضع سر نقود مخفية، أو شئ مما يخطر ببال طفل يحضر احتضار أبيه، لكننى فوجئت به يوصينى بالذهاب إلى صديق له لم أره فى حياتى إلا مرة واحدة، واحد اسمه عبد السميع الأشرم، دعاه أبى مرة أو اثنتين بالشيخ الأشرم، وأعطانى عنوانه، وقال إن على أن أحسن الإنصات إليه، وأن أفعل ما يكلفنى به صديقه هذا، ثم… ثم إنه لم يكمل، وفاضت روحه.
ـ ألم يقل لك ما موضوع اتصالك به؟. قلت ما اسمه؟.
ـ عبد السميع الأشرم.
ـ هل هذا اسم؟. ومع ذلك يبدو لى أنه ليس غريبا على، ما علينا.
ـ هذا بالضبط ما أريد معونتك فيه.
لم يقل جلال لأنور ما خطر بباله لأول وهلة، وأنه هو “ماله هو”، لكنه تساءل فعلا عما يمكن أن يجذب الآخرين إليه هكذا، ثم شئ فيه يجعله كذلك، فيجعلهم هكذا. ربما كان هو ذات الشئ الذى جعل أمين عبد الحكيم يلجأ إليه، ويحكى له بطلاقة مفككة كل ما حكى، ثم ها هو أنور يدعوه ليقول له ذات الكلام الغامض، ثم يكلفه بما لا يعرف. سوف يقول لأنور: أنا مالى، دعنى فيما أنا فيه، بل قد يقول له ملعون أبوك حتى لو كان قد مات، وملعون أبو الأشرم، لكنه قال فى تململ لم يستطع أن يخفيه، قال ما بدا له أسخف وأكذب وأكثر برودا:
ـ وما المطلوب منى بالضبط؟.
أخرج أنور ورقة من جيبه، وناولها لجلال دون تردد، قائلا:
ـ هذا عنوانه، وقد عرفت الوصية، أنت تعرف ظروفى، سوف أسافر الليلة، وأنا مطمئن وأنا أعهد إليك بوصية أبى: أنا آسف.
بلعها جلال بصعوبة، لم يعد يعرف دوره بالضبط، بدلا من أن يتقدم فى عمله الأصلي؛ فيحقق ما حققه زملاؤه؛ وحتى تلاميذه فى الصحافة. وبدلا من أن ينجح فى مشروعه البديل؛ فيعلم الأولاد اللغة والحب والقرآن، أصبح ملاذا لمن يعرف ومن لا يعرف، للقيام بمهمات لا علاقة له بها.
وشعر أنه يكذب.
-12-
ـ البقية فى حياتك يا منال.
ـ شكرا،، حياتك الباقية، لا أعرف معنى لهذا، “بقية” نعمل بها ماذا؟.
ـ لماذا لم تخبرينى كما أخبرت أنور؟.
ـ أنور أخى، ابنه.
ـ وأنا؟.
ـ إسأل نفسك.
ـ آه صحيح، من أنا بالنسبة لك؟.
ـ تعرف يا جلال، تذكرتك أول ما فاضت روح المرحوم، تذكرتك أكثر من أنور ومن أى واحد، وعجبت هل أعتبرك أبا رغم كل طفولتك التى لا يعرفها أحد أكثر منى:
ـ أنت أمى أيضا يا منال.
ـ لاأريد أن أكون أمك.
ـ ولا أنا أريد أن أكون أباك.
* * *
الفصل السادس عشر
حارة السكر والليمون
حدث ذلك للمرة التى لا يدرى كم عددها، يرفع السنارة وهو متأكد من غمز القشة على سطح ماء المصرف الآسن، يشدها فرحا وهى تتثاقل فيلمح سمكة غير مرئية تخرج له لسانها وتقفز إلى الماء وهى تتراقص فى الهواء. يستحيل اعتبار أن ما تبقى فى قاع المصرف المهجور يمكن أن يطلق عليه لفظ ماء، حتى بالتقادم.
أما هذه المرة فكانت المقاومة حقيقية، لكن الغنيمة لم تتعد كومة من الأعشاب مختلطة بكل أنواع قاذورات التاريخ السرى للمصرف القبيح.
خلع نعليه وشمر طرف جلبابه وقررأن ينزل بنفسه إلى القاع ليمسك السمك الذى يناوره بهذا التحدى المذل، ما كاد يهبط ثلاث خطوات متعثرة، حتى تذكر أنه ظل فى موقعه الفاشل هذا منذ شروق الشمس، وأنه ما زال على لحم بطنه، فقدر أن الأفضل أن يشرب الشاى أولا.
قال له عبد السميع الأشرم وهو يقدم له الشاى فى سماحة حقيقية وكرم متوسط :” لوأن الأمور كانت مثل زمان، لما كان هناك داع لأى شئ، ولا فائدة من أى شئ، بالرغم من زعمهم بأن كل شئ كان أفضل، هذا ما يكرره كبار السن، وأيضا يصدقه بعض صغار السن. مع أن الشئ الوحيد الذى يمكن تحسينه وتطويره، أو حتى الحوار معه” هو “الآن”.
لم يصدقه الصياد ولم يكذبه، وأخذ يرتشف الشاى بمتعة لا تدل على الإحباط الذى عاناه طول النهار، وكان قد عدل عن قبول التحدى، لكن ذلك لم يصل إلى وعيه أبدا، فلم يصرح به حتى لنفسه.
-1-
لم يجد جلال مكانا أفضل من المكان الذى سبق أن قابلها فيه، نفس المطعم الصينى، وكان قد قبض بقية أتعابه عن تغطيته مؤتمرى العريش. وشعر براحة أنه سوف يرد لها الدعوة ولو بعد حين.
ـ أكاد أعرف لماذا دعوتنى هنا الآن.
ـ توفرين بذلك جهدا ووقتا.
ـ تحجج بما يتراءى لك، لست فى عجلة، أريد أن أجلس معك أطول مدة.
تعجب أن مشاعره تجاهها لم تتغير، هل تعادلت غيرته من محمود مع تعاطفه لحالتها الصحية؟. لا هذا ولا ذاك. هذه المرأة تشع حالة إنسانية خاصة تفرضها عليك فتعاملها بقوانين أخرى، الآن فقط تذكر تلك الليلة. وهل نسيها أبدا؟.
ـ محمود هو الذى أخبرك أنه قال لى:
ـ ليس تماما، لكننى علمت بزيارتك له.
جلال لا يريد أن يخفى شيئا عنها، ولا يستطيع حتى إذا أراد، لكنه أبدا لا يقدر أن يفاتحها فى موضوع علاقتها بمحمود.
ـ فهو أمين، هل تصارحتما؟.
ـ لا، لكنه لم يخف على مقابلته لك على أى حال.
ـ أريد أن أطمئن على صحتك أنت أولا.
استفسر منها عن معلومة أن مرضها لم يعد من قبيل ما يسمى سرطانا أصلا باعتبار أنه يمكن أن يشفى مائة فى المائة، وأن النجاح فى علاجه يعتبر فاتحة للانتصار على التحدى الذى يمثله خبث هذا الغول القبيح.
ظلت هى تسمع له باهتمام صبور، وهى تبتسم ابتسامة غامضة.
ـ ما هذا الطب كله؟. هل أطلعك أمين على نتائج الأبحاث، هل عرفت نوع الخلايا، هل هو الذى قال لك كل هذه المعلومات بهذا التفصيل؟.
ـ … ومن غيره؟.
ـ ومحمود؟.
ـ محمود قال لى إنك تعرفين، ربما تعرفين أكثر، وهو الذى نبهنى إلى أنك وأمينا تخفيان الأمر عن بعضكما البعض.
ـ أليست هذه مسخرة بالله عليك؟.
ـ طبعا، هى حكاية غريبة بالقياس بعلاقة المصارحة الرائعة التى تعيشانها منذ زواجكما.
فجأة توقف جلال عن الحوار، بدا وكأنه يخاطب واحدة أخرى، فى تمام الصحة والعافية، وأنهما يتحدثان بشأن مريضة أخرى مصابة بسرطان الدم هذا، السرطان هو السرطان، لكن هذا الوجه، وهذه الإشراقه، وهذا الجمال، وهذه الأنوثة، وهذه الحياة هى كلها ضد السرطان، التشخيص خطأ مائة فى المائة، مجرد شحوب بسيط فى الوجه زادها جمالا، مهما قالوا.
ـ هل أنت متأكدة؟.
ـ مم؟.
ـ من التشخيص؟.
ضحكت فى دعة غامضة.
هذا كثير، لم يعد يفهم شيئا، لابد أن يشك، لا ينفع أن يتهمها بالتبلد، ليس الأمر كذلك، مهما كان؟. ماذا تعنى، هل فهم خطأ من محمود؟. طلب منها أن يؤجلا الحديث عن المرض.
ـ وهل نستطيع؟.
ـ لا.
سكت طويلا وهو ينظر إليها، ولم يعرف كيف اغرورقت عيناه، تبعتة دون إنذار، ودون توقع، وبغير صوت.
طال الصمت. هم جلال أن يمد يده ليمسح دمعها، ولم يفعل، ولا جفف دمعه هو.
كان ملمس الدموع وهى تنساب فى صمت على صفحة وجه كل منهما يقول ما يريد لهما، وبينهما، وعبرهما. لم يكن جلال يعلم أنه يحبها إلى هذه الدرجة، بهذه الصورة، لم يكن يمكن للصمت أن يطول أكثر من ذلك، كانت هى الأشجع. قالت:
ـ أظن أنك دعوتنى من أجل أمين، أليس كذلك؟.
ـ بصراحة، نعم، لجأ الرجل إلى لست أدرى لماذا، ولم يطلب منى شيئا، هل مازلتما تخفيان الأمر عن بعضكما البعض.
ـ ليس تماما، لم يكن يمكن لهذا الوضع أن يستمر.
ـ أنا مرتبك، بم تصارحتما؟. علاج أم لا علاج؟. شفاء أم لا شفاء؟.
ـ أقول لك الصراحة، هناك احتمال بسيط جدا أنه من النوع الذى يعالج، لن يتم التأكد منه إلا بعد بذل النخاع. ولن أفعل ذلك إلا هناك، سأسافر قريبا.
ـ وستخطريننى:
ابتسمت وأرادت أن تداعبه، ربما لتخفف عنه، أو تغيظه، قالت ومازالت الدموع تبلل خديها:
ـ بصفة ماذا؟.
لم يفاجأ، وتذكر منال وهو يعزيها، يبدو أنه بلا صفة فعلا عند أى أحد . هو موجود فى وعى كثيرين، يلجأون إليه، يأتنسون به على ما يبدو، لكن، بصفة ماذا؟. بصفة ماذا فعلا؟. أمين له صفة بالنسبة إليها، محمود له، ربما، أما هو؟. أين يقع هو منها، أو من أى أحد؟.
ـ بأية صفة تقررين أن تعينينى فيها؟.
ـ أفضل صفة “مدرس الأولاد”. موافق؟.
ابتسم حتى كاد ينشج مكتوما،. وأردف:
ـ كما ترين، مادمت تعلمين أنها صفة لم تعد موجودة.
أردف بسرعة قبل أن يسحبهما الكلام ثانية:
ـ هل يمكن عمل شئ لأمين؟.
تعجب لنفسه، أيهما الأولى أن يعمل له شئ، المريضة بالسرطان أم الزوج المخدوع، لا ليس مخدوعا، الزوج المهجور، ولا مهجور، صحيح. ما صفة أمين فى هذه المسألة؟. الزوج الـ “ماذا”؟. مازال يكلم نفسه، وإن كان غيرمتأكدا أنه لا يصدر صوتا، فجأه علا صوته وكأنه يصيح فعلا:
ـ حدث خطأ فى العلاقات البشرية.
أجابت من فورها بانزعاج يقينى:
ـ صحيح.
ولم يفتحا موضوع المرض، ولا العلاقات البشرية بعد ذلك.
أكملا العشاء فى صمت تتخلله بعض التعليقات الخفيفة على نوع الطعام، وجودة الطهى، ثم إنها شاركته الشراب هذه المرة، وهى تحبك الحجاب على رأسها.
رفض أن توصله.
وافقت.
-2-
حارة السكر والليمون، مصر القديمة، بلوك (8) الدور الثانى أول باب على اليمين، اللافتة موجودة، عبد السميع الأشرم، الله يسامحك يا أنور، ما له هو ولهذا كله؟ لم يفتح أحد، أعاد رن الجرس ونظر فى الساعة: الخامسة والنصف مساء. لم يفتح أحد. أخذ يدق الباب بيده من باب الحيطة، مع أنه كان قد سمع صوت الجرس واضحا.
فتحت الجارة الباب المقابل، وأخبرته بخجل شديد أن الشيخ ليس موجودا، وأنها لا تعرف متى يعود، وأنهم أخذوه، لكنه سرعان ما سيعود، ويبدأ من جديد، وأنه ـ جلالا ـ يمكن أن يترك له ما يشاء تحت عقب الباب، وأنه يمكن أن يتفضل ويستريح عندها، وأنه مع السلامة، وربنا يسلم له طريقه.
الله يسامحك يا أنور يا ابن الطيب.
-3-
وجد رسالة على تلك البدعة، المسماة “ماكينة الرد” من واحدة اسمها نجوى شعبان، وقد تركت له رقم تليفونها، هذا الرقم ليس غريبا عليه، هو رقم أنور إبراهيم نفسه، طلبها، أم أنور ، نعم، صوت رخيم، ليس حزينا، صوت واثق بغير غرور، دعته لمقابلتها أوتحضر هى إليه، فضل أن يذهب إليها مع إشارة محدودة إلى علاقته بأنور، دون التركيز على منال.
ـ… فأنت ابن غريب الأناضولى:
ـ المفروض.
ـ لم يخبر أحدا منا أن له ابنا.
ـ يبدو أنه شخصيا لم يخبر نفسه أن له ابنا، بل إنه لم يخبرنى أنا شخصيا.
ضحكت السيدة برغم كل شئ حتى أن الضحك تخلل ردها وهى تقول:
ـ هل كنت تريد أن يستأذنك قبل قدومك؟.
ـ أحيانا أشعر أننى أريد أن أتخلص من خلاياى التى يقبع هو داخلها دون موافقتى:
ـ هل عرفته يا جلال يا إبنى إلى هذه الدرجة، لقد عاش وحيدا ومات وحيدا
ـ يستأهل.
ـ ربما، لكن المرحوم ، عمك المرحوم إبراهيم كان له رأى آخر. أنا شخصيا ..
قال مقاطعا وكأنه يريد أن يقطع الحديث، ولايريد…
ـ فأنت تعرفين أبى:
ـ أبوك لم يكن يسمح لأحد أن يعرفه.
ـ تعرفينه عن طريق المرحوم عمى إبراهيم.
ـ ليس تماما، كلنا كنا نحاول أن نعرف بعضنا البعض، يعنى:
رجحت كفة أنه “لا يريد” فسألها عن سبب المقابلة، وأنه تحت أمرها.
قالت له نجوى شعبان إن الحكاية طويلة، وإن المسألة كلها – الآن – تتعلق بالمهمة التى تصور أنور أنها وصية، ولا هى وصية ولا حاجة، وإنها إنما استدعته لتعفيه من هذه المشقة التى لا لزوم لها ولا معنى فيها.
ـ إذن لماذا شغل المرحوم أنور ابنه بمثل هذا الأمر، إذا كان لا يستأهل هكذا؟.
ـ لا أدرى، هو عموما كان يحمل هم الناس جميعا. أو هذا ما كان يحب أن يعلنه دائما، أو على الأقل يقنع به نفسه.
وعدها ألا يأخذ المسألة جدا أكثر من اللازم، ثم إنه تجنب حتى أن يذكر لها أنه بدأ فى تنفيذ الوصية دون انتظار إذنها.
وشعر جلال أن فى الأمر شيئا.
-4 -
لأول مرة يذهب إلى هناك بالطائرة، هذا الاختراع السخيف الذى تساوى فيه السماء بين الأمكنة بسماجة منقطعة النظير، قاوم شعورا غامضا أن يقفز من الطائرة وهم فوق جبال سيناء العظيمة، كل المطارات الصغيرة مثل بعضها وكل المطارات الكبيرة مثل بعضها أيضا، وكل الفنادق التى لها ذات النجوم هى أيضا مثل بعضها.
كان أنور فى استقباله بعربته الصغيرة ذات القفا العريض فى مطار شرم الشيخ. كان قد خاطبه فى الهاتف ليشرح له اعتذاره عن موقف والدته الذى علم بعضه بطريقة بدت عابرة، وفى ذات الوقت كان جلال قد حضر هذه المرة لأمر مختلف.
وادى كونكش، اسمه كذلك، ليس له اسم عربى آخر، صحيح أن ترجمته هى وادى “الربط” أو”الترابط” أو “التواصل”، لكن لايصح أن نترجم ما لا ينبغى ترجمته أصلا، مع أنه مشدود إلى كل ذلك. هو واد يختلف عن وادى جنى كما يختلف كل واد عن الآخر، وكل جبل عن الآخر، وكل حجر عن الآخر، ملعون أبو الطائرات وربط الأحزمة.
المكان متسع، والجبال بعيدة، والنخيل قليل. عرض على صاحب المخيم أن يدفع له ثمن مبيت أربع خيمات (ثمانية أفراد) مقابل ألا يشغل ماكينة الكهرباء هذه الليلة، لم يكن هناك أحد إلا نرويجيان (نرويجى ونرويجية)، فاستأذنهما الشاب صاحب المخيم، ورحبا بدورهما فقد كانت ليلة قمرية ولو أن القمر ليس بدرا بعد، ولم يقبل صاحب المخيم ـ من كفرالشيخ ـ أية زيادة عن أجر فرد واحد فى خيمة واحدة.
ـ متى أحضر لآخذك؟.
ـ أريد أن آخذ راحتى يا أنور، لا تربطنى بموعد محدد، هذه المرة ليست ككل مرة، تعبت من البحث هناك، فربما وجدت ضالتى هنا، من يدرى:
ماذا تفعل الأمكنة بالناس؟. الناس فى الأودية ليسوا ناس العسلة، مع أنهما الاثنين فى دهب، ومع ذلك فإن دهبا تصبغ كل من يعيش فيها بروح مشتركة مهما كان موطنه الأصلى”عربى” صبى”فرج” من الفيوم. والرجل بائع الطعمية بجوار فرع البنك الصغير بجوار محطة الأتوبيس، هذا الرجل من المنوفية، ومع ذلك، فهو حين اشترى منه فى المرة السابقة بجنيه طعمية وبآخر فولا، كان قد أكل ثلاث طعميات أثناء القلى، ولم يرض الرجل أن يحاسبه عليها، مع أنه كان الزبون الوحيد، ثم إنه أعطاه رغيفا دون مقابل حيث أن الفرن بعيد وهو غريب. يخاف جلال أن يفسد هؤلاء الناس فى دهب كما فسد ناس رأس الحكمة بعد ما كان.
يفسد الناس بفساد الأمكنة، وتفسد الأمكنة بفساد الناس..!
رجل المخيم فى وادى كونكشن، من كفر الشيخ، لكنك لا يمكن أن تفصله عن العراء، والخلاء، والجبال، والنخل القليل. ولا عن السكون والهمس الشجى: لليل جلاله العظيم، وللظلام همسه السارى، وللسكون حنينه المحيط، وللرمال هسهستها المحاورة المتسحبة المفيقة.
أخذ يناجى كل ما يمكن ومن يمكن. رق قلبه، فبكى فى سكون. حاول أن يظل بكاؤه صامتا لكن الصمت انقلب إلى ما يشبه الكتمة. قرر ألايعمل حساب شئ أو أحد، علا نشيجه. وجد نفسه داخل ظلام العباءة التى تضيؤها الآيات التى لا يفهمها متفرقة لكنه يستشعرها كلها على بعضها، حتى الآية التى فيها “تلين القلوب”، أبى عمه أن يشرحها له، وها هو الآن فقط يعرف معنى “كيف تلين القلوب”. فأحب أمه أكثر. تحضره آية “أن ليس للإنسان إلا ما سعى”، رفض أن يشرح عمه ما وصله من صيغة الاستثناء هذه ، ليس …إلا، اطمأن حتى ابتسم، “وأن سعيه سوف يرى”.
”هل رأيت كيف أن الرؤية مبنية للمجول”.
” يعنى ماذا”.
”يعنى هذا”.
” لا بجد: يعنى ماذا”.
يعنى الباب مفتوح لكل من يرى، أو من يحاول أن يرى.
اتسعت ابتسامته جدا وزاد اطمئنانه بما لا يقاس.
فجأة، أحب أباه أيضا. أول مره خلال حياته كلها يستطيع فيها أن يحب أباه.
قام فتوضأ وصلى، هو لا يعرف القبلة ولا ماذا صلي: المغرب أم العشاء؟. كان يسمع عن الجمع والقصر. حتى الصلاة لها تقاسيم على الـلحن الأساسى: هذا مكان غير مسجد جرزة يا محمود، هل تتغير الصلاة بتغير الأماكن أيضا؟.
تمدد وأحس بالدفء يسرى فى كل ما حوله، كلمات منغمة تملأ وعيه، متقطعة، لا هى آيات، ولا هى ليست آيات، كان عمه قد نهاه أن يقرأ أجزاء من الآيات دون أن يكملها. هو ليس له ذنب، هى التى تأتيه، هو لا يستطيع أن يوقفها. هى لا تأتيه بصوت عمه بل بصوته هو طفلا: “لا يبغيان” “..فأووا إلى الكهف”، “أم تأمرهم أحلامهم” “.. قطعا من الليل مظلما”،. لبثنا يوما أو بعض يوم”. وغرتكم الأمانى”…ثم تلين جلودهم”، “… شعوبا وقبائل لتعارفوا”، “… فادخلى فى عبادى” “..
امتلأ قلبه رعبا وخاف أن يجن ، لكنه رعب لم يطرد الطمأنينة.
لا رابط، ولا داع، ولا قصد، ولا شئ.
نادى عمه بأعلى صوته فلم يرد عليه إلا صدى غامضا لم يستطع أن يميز بينه وبين صوت الضبع الذى سمعه فى وادى جنى عند عم عليان. فرح أن صاحب المخيم كان قد استغرق فى النوم فلم يسمعه وهو ينادى، ولم يسأله، ولم يحكم عليه بالجنون.
-5-
ألقت بسمة قنديل الصحيفة التى كانت بيدها بعيدا، أبعد ما يمكن، ثم قامت إليها، وأمسكت بها ثانية، وفردتها أمامها، ثم جمعتها إلى بعضها بعصبية أكبر، ثم مزقتها، لكنها عادت فالتقطت جزءا كبيرا من بقاياها، الجزء الذى به صورة الجانى أو المتهم أو المشتبه فيه، وأخذت تتأملها وهى تردد: غير معقول!!، غير معقول، “ليس هكذا، غير معقول، لا”. هى تريد أن تصرخ، أن يكون معها أحد، أن تختفى، أن تثور، أن تكف عن كل شئ. الجريمة بشعة، غير مفهومة. يا ليتها كانت جريمة قتل، هى جريمة ألعن. ثم أن الجريمة بهذه الصورة تفتح أبوابا للقيل والقال، والشماتة والتشفى، والكذب والحقارة بلا حدود. ياليته مات، كان أرحم.
الذى حدث أن الدكتور جميل النشرتى اعتدوا عليه اعتداء مجرما كاد يودى بحياته، ويا ليته مات فعلا؛ فقد تمكن الجانى ـ أو الجانية ـ من بتر ما يميزه رجلا، كيف؟. من؟. متى؟. لاتوجد تفاصيل، ولا حتى أية إشارة لاتهامات معينة، كل ما أمكن عمله هو الإمساك بهذا الشاب صاحب الصورة المنشورة وهو يحاول القفز من النافذة، بعد سماع صراخ الدكتور. تجمع الناس على الباب حتى كسروه. قال شهود عيان إن امرأة شوهدت، وهى تنزل مهرولة على السلم، ثم اختفت، ولم يلحقها أحد، وقيل إنها رجل منقب، أما صاحب هذا الوجه القبيح المنشور.. ياه بسمة تتذكر الآن، هو ذات وجه الشاب الذى دخل يومها، وانتظر فى الصالة، ثم انصرف دون إذن، هو هو، فى الأغلب هو، بل هو – فى الأغلب.
لا يمكن أن تكون الجريمة من فعل الجماعات، فهى جريمة لم نعتدها من الجماعات. هى جريمة تبدو أنها تتعلق بالسلوك الشخصى للأستاذ الدكتور المرحوم، انتقام امرأة؟. ثأر زوج؟. تنافس غريم؟. قيل إنها جريمة ترتبط بآراء المجنى عليه وكتبه. وقيل إنها تتعلق بتجاوزات سلوكه، وإلحاح جوعه للقيام بدور بطولة ما. وقيل إنها لا تتعلق بأى من هذا، وأن الجانى مجنون. مهما كانت الأسباب والمبررات، فالجريمة تعلن مدى تدهور الحس الإنسانى:
المجنون لا يمكن أن يرتكب مثل هذه الجريمة.
اتصلت بسمة بحصة فلم تجدها. اتصلت بجلال وهى تعرف أنه لم يعد صحفيا، وبالتالى لم تعد عنده أنباء خاصة أو سرية، لكنها وجدته. طلبت أن تقابله من فورها، ولم تذكر السبب لكن كان باديا على صوتها أن أمرا جللا قد حدث. لم يكتشف جلال أنه لم يقابلها منذ مؤتمر العريش، حضر إليها بأسرع ما أمكنه.
ـ مالك يا بسمة؟. لم كل هذا الأسى، عمرى ما رأيتك هكذا؟.
ـ ألا تقرأ الصحف يا جلال؟.
ـ يعنى، أقرأها طبعا، هذا عملى، كان عملى، يموت الزمار وإصبعه يلعب.
ـ أين أنت من الجريمة المنشورة أمس؟.
ـ الجرائم كثيرة، تقصدين المدمن قاتل أمه أم الرجل الذى قتل أولاده الأربعة؛ قبل أن يموتوا جوعا، ثم رص رؤوسهم على طبلية فى أطباق؟.
ـ لا هذا ولا ذاك.
بدأ صبره ينفذ فأراد أن يرد لها غيظه قال:
ـ الجريمة الكبرى أننا ما زلنا أحياء، أليس هذا هو ما يردده البهوات المثقفون، وهم يتجشأون الحياة؟.
ـ كفى، ليس هذا وقته أنا ما لجأت إليك إلا بعد أن..، كدت..لست أعرف كدت ماذا؟.
ـ أفصحى:
ـ جريمة الاعتداء على الدكتور جميل النشرتى:
ـ آه.
ـ آه ماذا؟. كيف زحزحتها إلى أسفل القائمة هكذا مادامت قد بلغتـك.
ـ بصراحة لا أعرف. على أية حال هى ليست أصعب مما ذكرت من جرائم.
ـ ربما، لكنها الأبشع والأغرب.
ـ اسمعى يا بسمة، أنا لا أحتمل أن يـجرح إصبع طفل أثناء تقليم أظافره، وهذه الجريمة.. هذا الاعتداء على هذا الدكتور من أخبث وأدنأ الجرائم، لكنها ليست أبشعها، ولا هى أقساها كما تقولين. أنا مقدر موقفك; ربما لأنك عرفت الرجل شخصيا، أنا لم أره حتى يوم واعدتنى أن تعرفينى به، لم يحصل لى الشرف، وإلا ربما تغير موقفى عما أنا عليه الآن، ومع ذلك أنا رأيي….
ـ مع ذلك، ماذا يا جلال؟. ماذا تقول؟. رأيك؟. هل هى مسألة آراء؟. لا أريد أن أغير رأيى فيك، ومع ذلك ماذا يا أخى؟. ماذا تقول؟. هل فيها “مع ذلك” ؟.
ـ لولا أنك بسمة قنديل لمصمصت شفتيى معك، ولعنـت الجماعات والدين بالمرة، يا بسمة أنا أتألم لجرائم دعارة الأطفال بما لا تتصورين، لماذا ننساها ونتوقف عند اسم مشهور، أو رئيس مهفوف إذا ما أصيب بمكروه؟.
- مكروه !! هل تسمى كل هذه الجريمة البشعة مكروها؟. أنا آسفة، يبدو أنى اخترت الشخص غير المناسب.
ـ تريدينى أن أكذب عليك؟. الرجل مجروح، مهان، ولا أريد أن أقول رأيى فيه الآن، فى ما كتب، وفيما يمثله؟.ليس هذا من الشهامة فى شئ، الحادث بشع بكل مقياس، لكن ليس معنى ذلك أنه يستحق ماحدث. أشعر أننى يمكن أن أنتقم له شخصيا لو تمكنت، لكن لا ينبغى أن ينسينا بريق اسمه بقية الجرائم، بما فى ذلك الجرائم التى ارتكبها هو شخصيا دون مطواة قرن غزال، أنت التى حكيت لى كيف كان، وما زال، يقوم بكى العقول.
ـ أنا لم أقل كى العقول، لكنى قلت كى الزوائد التخريفية التى فى عقولنا بالرغم منا.
ـ ليكن، وهل ثبت أنها زوائد تخريفية أم أن هذا رأيه ومخاوفه؟. وهل ما يظهر لك وأنت تكتبين قصصك زوائد تخريفية؟.
ـ هو لم يهجم على أحد فى بيته ليزيل منه زوائد فكره، نحن الذين كنا نذهب إليه بأنفسنا، ونسمع منه ونقرأ له، مثلما يذهب المريض للجراح ليزيل ورما أو يفتح له خراجا.
ـ إن كان ذلك ينطبق على كل الن
اس فأنت أعلم بأن ما يصلك أثناء إبداعك ليس ورما يحتاج استئصالا، ولا زائدة تحتاج البتر.
ـ لم يكن الدكتور يغصبنى لأصدقه، وحين فشلت أدواته معى لم يحاول أن يمنعنى من المضى فى طريقي.
ـ و ماذا عن الذين لا يملكون أدواتك وصلابتك؟.
هل تحاول يا جلال أن تبرر ما حدث!؟. أنا أكرهك. قسوة هذه أم تشف، يا ساتر!! من أنت يا جلال؟ قل لى من أنت؟ يا ليتنى ما دعوتك.
لم يعتذر، ولم يحاول أن يخفى بشاعته كما وصلتها. راح يشرح لها وجهة نظره بإصرار عنيد غير عابئ بحساسية ما يقوله، راح يذكرها أنها ليست بالضرورة جريمة فكر، وأن علاقات الدكتور النشرتى النسائية ليست فوق مستوى الشبهات، بل إن هناك كلاما فى هذه المنطقة لا يجوز إعادته طالما الدكتور ما زال فى هذه الحال، وأن تحويل هذه الجريمة الشخصية الخبيثة إلى جريمة رأى يضر بكل الأطراف، وأن علينا أن ننتبه إلى خصاء العقول والوجدان وكل أدوات المعرفة التى خلقنا بها، بذات القدر الذى نهتم فيه بمثل هذه الجرائم، وأنه على يقين أن الحكومة والمؤسسات وأمريكا والإعلانات وبعض الأزهر وحزب شاس وبعض الانجيلين الأصولين الأمريكيين يقومون بعمليات خصاء جماعية لخصوبة البشر الإبداعية، كاد يضيف، والإيمانية لكنه لم يقلها. الخصاء الجماعى جار على أذنه للرجال والنساء والأطفال والجميع. أضاف: إنه حين فكر فى مشروع تعليم اللغات لتنظيم الدماغ، تلك الحكاية الخائبة إياها، كان يتصور أن العودة إلى نبض اللغة الأصلى، وإحياء موسيقى الحروف، يمكن أن ينظم العالم ويحمى الأدمغة من أمواس الخصاء الكاوية بأنواعها.
نظرت إليه طويلا، ثم نظــرت إليه ثانية. وقالت فى نفسها، “هذا الرجل لا يـهمد”، برغم أنه لم يصل أبدا إلى ما يريد. بل إنه حتى لم يبدأ بعد، فمن أين له بهذا الإصرار؟.
عادت فتقززت منه حين تصورت أنها يمكن أن تزور الأستاذ الدكتور جميل النشرتي. لتقول له: حمدا لله على السلامة، واكتشفت ـ وكلها خجل ـ أن ذلك مستحيل، إذ كيف تتجنب أن تذهب نظراتها إلى حيث لا ينبغى؟.
-6-
بسمة لم تحب الدكتور جميل النشرتى أبدا، ولا هى حتى أعجبت بآرائه، هى كانت معجبة بإصراره. هو لم يحاول معها، لم يكن نذلا صريحا ولا متعجلا، سمعت عنه أشياء كثيرة ليست طيبة، لكن مهما فعل، ومهما كان فهو لا يستحق هذا، ليس هكذا، ليس هكذا.
قالت حصة لبسمة:
ـ طبعا ليس هكذا، ولا غير هكذا، ولكن لماذا أنت منفعلة بهذه الصورة يا بسمة وأنت لا تعرفينـه مثلنا؟.
ـ المسألة ليست مسألة شخصية، المسألة مسألة فكر. والفكر لا يصارع إلا بالفكر.
ـ الحمد لله أنك لم تعرفيه مثلنا، وإلا لكنت تصورت احتمالات أخرى غير حكاية الفكر هذه.
ـ ماذا تعنين؟. هل تشككين فى الفاعل مثل جلال؟.
ـ من جلال؟. آه.. الصحفى بعض الوقت الذى قابلناه فى العريش.
ـ هو ذاك، لقد كان موقفه غريبا، لولا أننى أعرفه من داخل الداخل لاعتبرته…..
قاطعتها حصة:
ـ أنت تحبينه يا بسمة؟.
ـ هل هذا وقته، أحبه يا ستى، وأحبك أنت أيضا.
ـ لابد أن تقبلى الاختلاف، ثم إن معلوماتك عن الجريمة هى من الصحف فقط.
استفسرت بسمة بتردد عما ليس فى الصحف، حكت لها حصة عما سمعته من بعض المقربين، وأن المسألة ليست لها علاقة بأية خلافات فكرية، وأنه قد وجدت ورقة لفت بها الأداة التى تمت بها الجريمة، وكذا جسم الجريمة، مكتوب فيها ما يفيد انتقاما نسائيا بشعا مثل الذى نسمعه حتى من زوجات يقترفن ذات الجريمة مع أزواجهن، أو من أزواج يثأرون، وأن أحمد عبد الغفار قد استدعى إلى الشهادة فى التحقيق، مع أنه ليست له دعوة، وأن المسألة ليست بالبساطة التى تتصورها بسمة.
هدأت بسمة قليلا، ثم قالت:
ـ أما كان على الصحافة أن تتريث فى نشر الخبر، أو حتى لا تنشره إطلاقا؟.
قالت حصة، وهى تشعر أنها استطاعت أن توضح الموقف ولو بالتقريب:
ـ الصحافة هى الصحافة، اسألى جلالا لم تركها، ثم جاوبى على سؤالك.
ـ ترى هل يستطيع الدكتور أن يكتب بعد الآن؟.
ـ قد يمضى فى عناده، وقد يتعلم، وقد ينسحب، وقد ينتحر.
ـ لكنه لن..، لن يؤمن؟.
ـ لن ماذا يا بسمة؟.
ـ لن يؤمن.
ـ حين تؤمنين أنت أولا.
ـ وهل تشكين فى يا حصة؟. ألم أقل لك يا حصة عن خبراتى أثناء الكتابة؟. ألم يصلك كيف أنى لا أملك حينذاك للإيمان دفعا؟.
ـ لا تضحكى على نفسك يا بسمة، الإيمان ليس طاقة نتزود بها بعض الوقت لزوم الدفع الإبداعي.
ـ وأنت يا حصة؟.
ـ أنت مالك.
-7-
عــلـم أن فاتيما سافرت تكمل تحليلات لبذل النخاع واحتمال العلاج. فكان لزاما أن يطلب أمينا وخاصة أنه لم يتصل به طول هذه المدة، على الرغم من أن هذا كان هو ما طلبه أمين منه فى المقابلة اياها.
لم يبدأ جلال بالسؤال عن فاتيما، بل عن الأولاد، وعن هدى بالتحديد (وليس رشا على الرغم من أنه لم يقصد ذلك)، ثم سأل عن فاتيما فأخبره أمين أنهما تصارحا حول المرض قبل أن تسافر، وأنه علم بمسألة التحليلات الخاصة التى عملتها دون علمه، وأنه على يقين من أن ما بلغه شخصيا هو الأقرب إلى العلم الحديث، وأن التفاؤل ما زال غالبا، بل مؤكدا من جانب كل أصدقائه الأطباء وزملائهم، وأنه استشار أيضا بعض زملاء والده من كبار الأطباء الذين كان يعرفهم صغيرا، وأنهم طمأنوه.
لم يصدق جلال، ولم يكذب، ووجد نفسه ينتقل بغير مناسبة إلى التدخل السخيف:
ـ وهل ما زلتم تسكنون فى الملاعب؟.
ـ ملاعب ماذا يا جلال؟
- ملاعب الجولف
- اسمها أرض الجولف، أنت كما أنت يا جلال، لا تتغير أبدا.
ـ ألا تفكر فى أن تعود إلى مسكنكم القديم، أو إلى أى مسكن وسط الناس؟.
ـ بصراحة أفكر، أنا لست مرتاحا، أزداد وحدة واستغراقا فى النجاح كما تعرف، لكننى أخجل أن أتراجع، ماذا يقول شركائى وزبائنى؟. ثم إن الناس فى أرض الجولف هم ناس أيضا، والأولاد بدأوا يتعودون على المكان، وعلى الجو العام هناك.
ـ وهذه هى المصيبة.
ـ أية مصيبة؟.
- لا شئ.
سأله جلال ـ ليتيح له، ولنفسه، فرصة الهرب ـ عن أحوال الشركات، والقرى السياحية، ومصانع السيارات، فضحك أمين وقال له: وكأنك تتابع كل نشاطاتى، لكن جلالا استدرك بسرعة قائلا:
ـ أريد أن أسألك عن شركة الأدوية بالذات.
ـ الشركة بالذات تسير كالقطار، لست أدرى لماذا؟.
ـ ببركة صديق أبيك الأستاذ غالى أم ببركة مساعدتـه القديمة، الدكتورة إصلاح؟.
ـ يبدو أنك تعرف كل شئ الا قليلا، أو إلا كثيرا، أصحح لك إذن؟. الدكتورة إصلاح تركتنا، أخذت نصيبها ولم يكن قليلا، وقررت أن تفتح عيادة من جديد.
ـ نكسة متأخرة، لم تستطع أن تتخلص من تأثير والدك بعد كل هذه السنين؟.
ـ يا ليت الأمر كذلك،. أنا غير مصدق، الاسم أنها تمارس ذات التخصص، لكن ما أسمعه غير ذلك.
ـ بصراحة أنا لست مهتما بأخبارها، قابلتها فى مؤتمر العريش الذى حدثتك عنه، ولم أرتح لها، لكننى ظللت مشغولا بها طول الوقت، لست أدرى لماذا؟
- هى ليست موضوعا صحفيا على أى حال.
ـ أنسيت أنى لم أعد صحفيا.
ـ بصراحة، أمرها يقلقنى، لقد حكيت لك عن دورها فى زواجى، وعن كيف كان ذلك بمثابة الهروب معا من تأثير أبى؟.
ـ وها هى تعود كما كانت فتمارس ذات التخصص الذى رفضته.
ـ قلت لك لم تعد، بل هى راحت أبعد حتى من مسألة شركات الأدوية.
ـ لا أفهم.
ـ سمعت أنها تمارس فى عيادتها ما تسميه علاجا، يعنى ..
ـ بصراحة لا أريدك أن تـكمل، عذرا، هذا كلام لا يستأهل مجرد حكايته.
خجل جلال من صده لأمين هكذا مباشرة، كما رفض تماما أن يكمل هذا الحديث عن واحدة لا يعرفها، لم يستطع أن يصدق ولا اهتم أن يكذب. كان وهو صحفى يسمع أشياء كهذه باستمرار. هذا أمرمألوف فى الخارج، فما أهمية أن يقوله أمين هكذا؟. هاج الرفض أكثر.لكنه وجد نفسه يعتذر عن ما لا يعرف:
ـ أنا آسف.
قال أمين متراجعا:
ـ أنا أفهم أخلاقيا مغزى اعتراضك، لكن المسألة ليست ترويج إشاعة، المسألة هى أننى فعلا جزعت من هذا الاحتمال، لقد ظللت أحترم حماستها لأبى، ثم صراعها ضده بانتمائها إلى الفريق الآخر، ثم حماستها لتجارة الدواء، لكن ذهابها إلى هذا المدى، إن صح، هو شئ لا يصدق، إن ما سمعتـه لا يقال، وهو قد لا يمثل الحقيقة، أنا لا أعرف لماذا اعتبرته ضمن جرائم أبى، أو مسئوليته؟. يبدو أننى ما زلت أحتاج مزيدا من الأدلة ضده، ضد أبي. أنا لا أعرف حتى لم أحكى لك ذلك؟ شفقة عليها؟ أم اتهاما لأبى؟. أشعر أننى أحتاج من يكذبنى، أنا شخصيا لا أريد أن أصدق.
ـ إلى متى سوف تظل تحمل أباك ما أنت فيه، ما أنتما فيه؟. ألم تلاحظ أى شبه بين ما تزعم أن الدكتورة تمارسه، وما تقوم به أنت؟.
فزع أمين فزعا شديدا، وفوجئ بهذا التشبيه، وخاصة أنه كان يحكى عن الدكتورة إصلاح من على مسافة، من فوق، كان قد نجح أن يخرج نفسه بعيدا بعيدا، وإذا بجلال، بهذه العفوية، يفسد كل ذلك، قال أمين:
ـ هل ترى حقيقة يا جلال أننى انتهيت إلى ما انتهت إليه الدكتورة إصلاح؟.
كاد جلال يقول له: “وألعن”. لم يكن يعلم ما انتهت إليه الدكتوره، فاكتفى بأن قال:
ـ نعم.
ـ صحيح؟.
ـ صحيح.
سكت أمين، ونظر فى الأرض، ثم نظر إلى النيل طويلا، وطال الصمت.
ـ أين ذهبت يا أمين؟.
ـ مع ذبذبات سطح النيل، غصبا عني. أفكر فى كلامك. لا أرفضه، ولا أقبله؟. جعلتنى مثل إصلاح، بعدما جرى لها، بعدما ما آلت إليه، بعْد ما تورطت فيه، أو حتى بعد ما اضطرت إليه. كله واحد. ماذا تنتظر مني؟… ماذا تقصد بالضبط يا جلال؟.
- أنت تهرب منك إلى إصلاح، دعها فى حالها، لا يوجد مبرر لتركيزك على ما تتصور أنها آلت إليه، لمجرد أنكما هربتما معا. دعنا نواجه الدعارة الحقيقية، والخصاء العمومى، والمخدرات الرسمية.
ـ اسمع يا جلال، أنا لا أعرفك جيدا، هذا الكلام يمكن أن يقوله، واحد مثالى، أو شاب طفل، أو سياسى أحمر، أو موتور مجنون. أما أنت، فاسمحلي.
ـ أظن أنك فهمتنى خطأ، أنا لا أتكلم لا فى السياسة، ولا فى الاقتصاد. أنا أكلمك من خبرتى الصعبة التى لم تنته، هناك شئ فى بؤرة الوجود قتلناه بنمط حياتنا هذه، سمه إيمانا، سمه ربنا، سمه إبداعا، سمه ما تشاء، أنا لا أريد أن أشغلك بالحكى عن بحثى الذى لا يتوقف، ولا عن إحباطى فيمن يدعى معرفته. إنه القاسم المشترك الأعظم فى كل شئ، كل شئ. علينا أن نجده، أن نكتشفه حتى دون أن نبحث عنه، نفعل ذلك بأمانة، بدلا من أن ننصب المحاكمات لبعضنا البعض.
ـ يا جلال اسمح لى أن أقول لك إنك أكثر هربا ممن تتهمهم بالهرب، لا أنكر أنه يلوح لى من بعيد أحيانا شئ مثل هذا، لكننى أنجح دائما فى أن أصرفه، وفورا، لم لا تفعل مثلى وتريح نفسك.
- وهل فى مقدورنا أن ندفن طبيعتنا.
ـ تقول ندفن ماذا؟ طبيعتنا؟ كيف؟.
ـ نعم، طبيعتنا. أنت لا تفعل شيئا إلا أن تهيل عليها التراب، كلما خيل إليك أنها ستبعث من جديد. كل شركة جديدة، هى كوم جديد من التراب تهيله على المرحومة، أنت تخاف حتى أن تفكر فيها، تصور، ولا تؤاخدنى، إن فاتيما بكل طفولتها وأخطائها وأصلها الخواجاتى وسلوكها تواصل بحثها بأمانة أصعب، بألم أصدق.
عاد أمين إلى صمته دون أن يتوقف عند تلميحات جلال، وتمنى لو انتهى اللقاء، بل كاد يستأذن، وقاوم كثيرا أن ينظر فى ساعته; ذلك أنه أحس بشئ جديد يقتحمه، كما شعر بتعاطف غامض مع الدكتورة إصلاح التى كان يدمغها منذ قليل، قال:
ـ جلال.
أطرق جلال ولم يحاول النظر فى عينيه، فأكمل أمين:
ـ أنا خائف… خائف… أنا خائف جدا يا جلال.
تردد جلال، لم يطل صمته فأكمل، وكأنه يزيح حاجزا آخر.
ـ لا أريد أن أعتذر.
عاودت أمينا فكرة أن يعرض على جلال عملا فى إحدى شركاته، ليس من باب المساعدة هذه المرة، ولكن كان يغلف هذه الرغبة شعور بأنه يريد أن يورطه حتى يغوص بأقدامه فى الطين، ليتخلص من هذا التحليق الذى يـرعبه، ولا بد أنه يرعب المحيطين به، بل لعله يرعب كل الناس. عدل فى آخر لحظة مثلما عدل فى مرة سابقة لا يذكر تفاصيلها، وكاد يقول له لا تتصل بى ثانية، لكنه قال العكس.
ـ أريد أن أسمع منك قريبا.
قال جلال بصراحة:
ـ أليس رقم تليفونى عندك؟.
خجل أمين، وحاول أن يتذكر رقم تليفون جلال وهو متأكد أنه موجود عنده، وكاد يعرق حين قفزت بدلا من رقم التليفون أرقام كثيرة تتزاحم، ليست أرقام تليفونات أخرى، ولكنها أرقام أسعار العملة هذا الصباح.
-8-
الشيخ عبد السميع الأشرم هو الذى فتح بنفسه، ما هذا؟. من هذا؟. رجل طاعن فى السن، يبدو أكبرمن سنه الحقيقية مهما كانت سنه الحقيقية كذلك يبدو أصغر، يبدو طفلا جميلا، كله أبيض فى أبيض بما فى ذلك لحيته وشعر رأسه الكث.
ـ أنا جلال غريب، من طرف أنور إبراهيم الطيب.
رحب به عبد السميع الأشرم ترحيبا متواضعا، ودعاه إلى الدخول دون أن يسأله عن سبب مجيئه.
ـ كان المفروض أن أنور هو الذى يحضر لفضيلتك، لكن كما تعلم هو فى آخر الدنيا، فكلفنى أن أقوم عنه بهذه المهمة.
ـ اسمع يا ابنى، ليست لى فضيلة، دع عنك حكاية فضيلتك هذه، ماذا قال لكم المرحوم ابراهيم، أعنى ابنه أنور.
أخبره جلال باختصار مقصود كيف أن أنور طلب منه أن يبلغه وصية أبيه نيابة عنه، وأنه لا يعرف محتواها، وأنه يأسف أن أنور لم يبلغه بنفسه، فقد يعرف أكثر.
ـ رحم الله إبراهيم، كان صاحب فضل دائما.
ـ أنا لا أعرف أية تفاصيل، أريد أن أطمئن إلى أننى قمت بالمهمة.
ـ قل لابن الطيب لا يشغل باله، وأن عمه عبد السميع سوف يقوم بالواجب نحو كل من كان والده يحرص على رعايته، وأننى لو احتجت شيئا فسوف أتصل به، طمئنه وقل له إننى أدعو له بالتوفيق، ولوالده بالرحمة.
تنهد جلال بعمق، وكأن عبئا انزاح من على كاهله، لكن لم تمض دقيقة أو بعض ذلك، حتى ثارت فى نفسه مسائل أخرى كثيرة غير التى جاء من أجلها، ود لو يفاتح هذا الرجل الغريب فيها، ضد كل حساباته وهواجسه.
بسرعة تعجب لها جلال، أحس بألفة محيطة، وكأنه يعرف الرجل من سنين، حتى أن الرجل رد على تساؤلات جلال التى وجد نفسه يطرحها بتلقائية لايعرف مصدرها، لعل سماح وجه مضيفه هو الذى استدعاها، كانت ردوده سهلة وواضحة.
قال له الأشرم إنه لا يعيش وحيدا، بل يعيش مع الناس طول الوقت، حتى لو لم يقيموا معه بعد أن امتحنه ربه بفقد زوجته التى كان الفضل فى زواجه منها للمرحوم إبراهيم الطيب، وأنها لم تنجب، يقصد أنه هو الذى لم ينجب لحكمة لا يعلمها، فتوجه ذلك إلى مساعدة الأطفال بما يشبه الدروس لتنقية اللسان وشحذ الحس باللغة ذات المعنى، وبالقرآن. هؤلاء أطفاله الأحلى من الذين كان سينجبهم، قال ذلك وضحك. ثم أضاء وجهه بما هو أجمل من الضحك، فتصور جلال أنه التقى مخبولا طيبا يطمئنه على نوع جنونه، وتصور أيضا أنه لو كان مشروعه قد نجح ولو نجاحا أقل، لأمكنه أن يضحك هكذا، وابتسم، لكنه، بعد بحث سريع مقارن بين مشروعه ومشروع هذا الشيخ الطيب قرر أن يتمادي.
ـ كانت لدى أفكار مشابهة، لكن الظروف حالت دون تحقيقها.
رد الأشرم بيقين:
ـ لا شئ يحول دون تحقيق الخير. إبحث عن طريق آخر، وسوف تجد ألف سبيل.
اكتفى الأشرم بالابتسام، وبدا أنه ينتظر أن يكمل جلال، ولما زاد الصمت بينهما، عاد يؤكد لجلال أن غباء الناس له ما يبرره، أما غباء الحكومة، فهو الأدعى إلى الدهشة.
ـ هل تعرف أبى حقيقة يا عمى؟. كل من قابلتهم كانوا يذكرونه، ولا يعرفونه.
ـ أعرفه؟. أعرفه ونصف. كان رجلا جميلا.
أول مرة يسمع من أحد يعرف أباه أن أباه كان جميلا.
ـ أنا لم أره أصلا; لأعرف إن كان جميلا أم غير ذلك.
ـ أنا أقول لك إنه كان جميلا بائسا مجتهدا، وعمك المرحوم إبراهيم لو كان حيا لصدق على كلامي.
لم يتمالك جلال نفسه، قال بصوت مرتفع لا لزوم لارتفاعه:
ـ إن كل ما أعرفه عن أبى هو دعوات أمى له بالرحمة، وعشرات الكراريس التى ليس فيها أدنى جمال. تصور يا عمى أننى لم أحب أبى إلا فجأة، وبدون أى مناسبة، هناك فى وادى الكونكشن (يبدو أنه قال الجملة الأخيرة فى سره).
ـ اسمع يا إبني، دعنى أصارحك، لست صغيرا، لولا أن أباك كان كما أقول لك جميلا بائسا مجتهدا، لما هيأ الله له الفرصة أن يعرف عمك إبراهيم الطيب، الذى ظل يرعى بنتا له من امرأة مسكينة حتى رحل. جاءت البنت صدفة، كانت أمها الفاضلة، أظن اسمها صفية، قد أخفتها فى أحشائها حتى أذن الله فى أمرهما ما أراد، ولولا أن أباك كان طيبا ما سخرنى أن أكمل رسالة عمك ابراهيم هذه التى أوصى بها ابنه أنور، لقد فكرت فى البداية ألا أخبرك حتى لا تزداد حقدا عليه، أو بعدا عنه، لكنى مطمئن الآن بعد أن أخبرتنى أنك صالحته.
- أنا ؟ صالحته؟.
- ألم تقل لى أنك أحببته هناك فى مكان لم أستطع أن أفسر اسمه جيدا؟
- ليس تماما كانت لحظات عابرة؟.
- إيش عرفك؟.
- ثم إن أبى كان عكسك تماما يا عمى، أبى مات ملحدا تماما.
- إيش عرفك ؟.
- كراريسه؟.
- وهل هو كراريسه يا بنى، الله يحاسبنا نحن لا يحاسب الكراريس، يكفيه اجتهاده حتى يغفر الله له. دعك من كل ذلك وثق فى عدله ورحمته،الآن وليس بعد.
- ماذاتعني؟.
- لا شئ. أكمل طريقك وأنت تعرف. إسمع يا بنى، آن الأوان أن تشاركنى وصية عمك إبراهيم. إن لك أختا لا تعرفها، لكن لأمها ظروفا خاصة، رحمها الله.
ـ أختى أنا؟. هل أنت متأكد؟.
ساد الصمت بينهما وكان مفعما بكل الكلام.
لم يحاول جلال أن يتخلص من المفاجأة. كما لم يحاول أن يتمادى فى الاستفسار. فكر أن يستأذن و ينسى كل ما حدث. هو ليس ناقصا. بدا كأنه ليس هنا.
راح الشيخ يشرح له كيف أن وصية المرحوم إبراهيم الطيب، كانت تتعلق بأن يقوم هو – الأشرم – بالاتصال بأخته هذه التى كان يرعاها المرحوم ابراهيم شخصيا وفاء لصديقه غريب.
قال جلال وهو لا يكاد يصدق:
ـ فلماذا كادت تثنينى أم أنور عن مجرد زيارتك؟. هل كانت تعرف الوصية؟.
ـ هذه قصة أخرى، ليس عيبا أن أقول لك إنها كانت تتصور أن أختك هذه هى بنت إبراهيم، وليست بنت أبيك.
زاد الأمر تعقيدا، وتمنى جلال أن يمضى دون أن ينبس بكلمة.
ـ وأين هى؟.
ـ من؟.
ـ أختى كما تقول.
ـ دعها يا بنى فى حالها; فهى فى أحسن حال، ربتها خالتها فى الأزاريطة فى الإسكندرية، وزوجتها لرجل طيب من أولاد على فى رأس الحكمة، وإن كان فى سن أبيها، وقد أنجبت منه ثلاث بنات من أطيب وأجمل البنات، وزوجها يكرمها أشد الكرم وأبلغه. انتبه جلال فجأة على سؤال لم يتوقعه:
-.. ألا قل لى يا بنى دون حرج، هل عندكم أخبار نهائية عن…. عن والدك؟.
تذكر جلال أنه حتى هذه اللحظة لا يعرف إن كان أبوه قد مات أم أين ذهب؟. فأجاب بالنفى، واستأذن.
ثلاث بنات جميلات، لو قابلهن لقلن له: يا خالي. كذا يا والدى؟. كذا؟. كذا يا غريب يا أناضولى، تنجب أختى بعد ظلم أمها كل ذلك الظلم، ولا تقل لأحد، وتنجبنى ثم تطرد أمى، ثم تختفي. كيف يقول عنك هذا الرجل الأبيض إنك جميل حتى لو كنت بائسا؟. كيف سمحت لنفسى أن أحبك غصبا عنى فى واد بعيد وسط الجبال، وكيف ظهرت لى وأنا أبحث عنه فى الخلاء هناك؟.
راح جلال يختبئ أكثر فى عباءة يعرفها وهو يرتجف، وأحس بيد تهدهده. التفت وحاول أن يقبـلها فابتلت اليد ببعض دموعه.
-9-
ـ غير معقول.
ـ الذى حصل.
تزوجت يا وردة دون أن تشورينى، وطلقت دون أن آخذ خبرا.
ضحكت وردة بملء أنوثتها، وقالت له إنه هو المخطئ، وأنه تأخرعليها كثيرا، وهو يعرف كم تعزه (لم يكن متأكدا كم تعزه)، وأنه لو كان قد مر عليها لكانت استشارته، وأنها متأكدة أنه لم يكن ليوافق، وأنها كانت ستأخذ برأيه، لكنها تصورت أنه ظـل رجل قد يحميها ويحمى ابنتها من نظرات الرجال ولعابهم السائل.
ـ الرجال كالكلاب الضالة يا سعادة البك.
ـ أنت يا وردة قدهم وزيادة.
ـ طبعا، لكن الستر شئ آخر.
ـ ولم طـلقت هكذا سريعا يا حاجة.
ـ الله!!!!. لم يكن رجلا يا سعادة البك.
ـ جرى ماذا؟. ماذا تعنين؟.
ـ لا، لا يذهب فكرك كذا أو كذا، من هذه الناحية كان مثل الطلوقة، لكن المرأة منا تريد رجلا، لا تريد ثورا ولا مؤاخذة.
ـ تعرفين أنى مطلق يا وردة، فأريد أن أفهم ماذا تعنين بأن المرأة تريد رجلا؟.
ـ اسم الله على مقامك، أعرف من أين أن سعادتك مطلق،؟.
ـ آه.. صحيح تعرفين من أين؟. منى؟. هأنذا أقول لك.
ـ خلاص، الصلح خير.
قالت ذلك وضحكت فشجعته أن يقول لها:
ـ اسم الله على شطارتك.
ثم حكى لها أنه اكتشف أن له أختا فى رأس الحكمة، وأنه لم يرها فى حياته، وأنهم يقولون إنها مرتاحة، برغم أن عمر زوجها ضعف عمرها، وأخته هذه لا تعرف أنه أخوها، وأنه لم يجد أحدا يأخذ رأيه فى هذه المسألة إلا هي.
ـ بصفة ماذا؟. أنا عيناى لك، لكن بصفة ماذا إن شاء الله؟.
ـ بصراحة، بصفة أنك وردة، وأنك ست الكل وتعرفين كل شئ.
ـ لا تلخبطنى، ما هذا الذى تقوله يا جلال بيه؟. إن كنت تريد رأيى، يبقى اترك أختك هذه فى حالها، وادع لها.
شكرها، وضحك معها، وشرب الشاى الثقيل، وذهبت وهى تقسم أن ينتظر قليلا، ثم عادت وقد أحضرت كوز أذرة مشوى بِقِشْرِهِ من الولد الذى كان يشوى بجوار المزلقان.
شعر بذات الشعور النبيل الرائق الممتد الذى شعر به فى وادى كونِّكشن فى دهب، لكن هذا الشعور هنا مع وردة أعمق وأجمل.
عاد يحب أباه من جديد بالرغم من أى شئ.
غير معقول.
كان الشعور هناك مليئا بالوجد والكون والنبض والجذب، لم يكن به ناس قريبون هكذا من لحم ودم.
مع وردة، وبهذه البساطة، وجده هو هو ذات الشعور مليئا بالناس، شعر وكأنه رأى أخته التى لا يعرفها وهى تقبل رأس وردة شاكرة. هز رأسه فاختفت أخته وهى تدعو لأبيها بالرحمة. حسب أن أخته خجلت أن تواجه وردة، أو هى أرادت ألا تحرجه.
لما اقتربت وردة، وانحنت ترفع الصينية، حول جلال رأسه بعيدا حتى لا يطيل النظر فيما بين ثدييها.
خاف، وفرح، وقرر، وابتسم، وظلت عيناه تلمعان بحزن جميل.
* * *
الفصل السابع عشر
أبو سمبل
…..ثم مرت نجمة بسرعة فائقة من طرف السماء إلى منتصفها واختفت.
لم تكن هناك أية بقايا من السحابات الداكنة التى ظلت تملأ الأفق طوال نهار أمس، والتى أغرقت الشوارع بزخات المطر المنهمر على الرغم من أنه كان متقطعا، لكن كل شئ لم يعد يصلح لأى شئ.
إلا أن نبدأ من جديد، وباستمرار.
قالت وردة:
” يا خبر…!!!.
حتى أنا، لم أكن أعلم أن الحكاية هكذا”.
-1-
ـ.. فرحت بمكالمتك فجئت عدوا.
ـ أنا التى تأخرت عليك بعد المقابلة الأخيرة.
ـ ما زلت آخذة على خاطرك منى يا بسمة.
ـ بالعكس، لم أتصل بك لكننى لم أنس كلامك، وضعتنى فى مأزق مع نفسى:
ـ أنا لا أستبعد مغالاتى وشطحى كما تعلمين.
ـ وصلنى ذلك. هذا ما طمأننى:
ـ تصورى أننى مؤتنس بهذا التعارف على هذه الموجة الجديدة، بقدر ما احترمت اختلافنا من قبل.
ـ وأنا أيضا، هل أقول لك سرا؟.
ـ كما تشائين.
ـ بدأت فى كتابة رواية طويلة لأول مرة فى حياتى، لم أكن أكتب إلا القصة القصيرة.
ـ لا أعرف هل أهنئك أم أشجعك أم أشفق عليك؟.
ـ بل إنها تهمك أنت بالذات.
ـ أنا لست ناقدا. لا تنسى أن الرواية غير القصة القصيرة، نقل خيرى شلبى عن يوسف إدريس أنه كان يقول عن ذلك إن القصة القصيرة تأتى “هكذا”، ويطرقع إصبعه الوسطى مع الإبهام.
ـ هل تظن أننى لا أعرف ذلك، ألم أقل لك يوم زرنا محمود قريبك أول مرة إن كاتب القصة القصيرة أحيانا يجمع آلاف المعلومات ليصوغها فى عبارة واحدة، أو فقرة واحدة من قصته الـ “هكذا” (قالت ذلك وطرقعت إصبعيها الوسطى مع الإبهام).
سكت جلال فجأة، ونظر فى الأرض وتغير وجهه حتى جزعت بسمة.
ـ ماذا بك يا جلال؟. ماذا حدث؟. هل قلت ما يضيرك؟. لست آسفة. أنا لم أقل شيئا. ماذا بك؟. قل لى:
رفع جلال رأسه ببطء شديد، كان حزينا، وحكى لها الأخبار التى جاءها ليحكيها.
ذلك أن محمودا قد حكم عليه بسجن طويل، لم يشأ أن يعرف كم سنة على وجه التحديد، وذلك بعد أن ضبط يزرع ثلاثة أفدنة من ستة كلها بانجو، هكذا مرة واحدة، وكأنه أخذ تصريحا من وزارة المخدرات، لم يفعل مثلما يفعل الناس الأوعى: لم يزرعه سرا بين زراعات أخرى: لا أحد يدرى لم فعل ذلك؟.!.. “على عينك يا تاجر”، حتى خيل للناس هناك أن زراعة البانجو أصبحت من المحاصيل المسموح بها قانونا، ضابط كبير، ما زال بعضهم يناديه يا كابتن، والباقون بــ ”يا باشا” وثلاثة أفدنة من خمسة، لا من خمسمائة، وتجار ذاهبون عائدون، كان لابد أن ينتهى الأمر إلى ذلك.
كانت بسمة تسمع وهى مذهولة، قالت مرة أو عدة مرات أثناء حكى جلال “محمود؟.!!”. “غير معقول.. محمود؟.!!”ثم : “غير معقول”؟. محمود؟. هذا غير معقول. وجلال يرد عليها أنه “الذى حصل”.
ـ وأولاده؟.
ـ وائل تأثر كثيرا، لكنه سرعان ما نسى:
ـ وفتحى؟.
ـ هذه هى مصيبة أخرى، فتحى وقف موقفا لم ينقذه منه إلا ذكاء القاضى وإنسانيته و أبوته. ذهب فتحى إلى المحكمة وطلب الشهادة، فأذن له القاضى باعتباره شاهد نفى قد يقدم بعض ما يثبت بطلان الإجراءات كما علمه المحامى، أو أى شئ يساعد على تخفيف الحكم، كان القاضى متعاطفا تماما. ليس لأن محمودا كان ضابطا، كان قاضيا إنسانا، وإذا بفتحى ينبرى أمام المحكمة يتكلم عن المخدرات التى تذاع من الأقمار الصناعية، وأن الكونجرس الأمريكى يتعاطى ويوزع على العالم أخطر أنواع المخدرات، وأن البانجو أخفها، وقد اعتبر القاضى أن كل كلامه انفعالات من أثر حزنه على موقف أبيه، ولم يحاول حتى أن يحيله إلى الكشف العقلى خوفا من أن تنتهى محاولة إعفائه من مسئولية أقواله إلى أن يلقى به وراء الشمس -للعلاج – بلا رجعة.
- لا أملك إلا احترام هذا القاضى:
ـ تصورى أن فتحى برغم كل هذا الدفاع لم يذق البانجو أصلا. هو حتى لا يدخن. هو يقول إنه ليس فى حاجة إلى أى من هذا أو ذاك، لم يفهم أحد فى المحكمة سر موقفه، ولا حديثه عن تغير الوعى بالجمال، والعبادة، ومخدرات السلطة بالإعلام والأموال.
- هذا الولد!!. هذاالشاب!! هل تعتقد يا جلال أنه يستطيع أن يستمر هكذا. ألا يرجع الفضل فيما هو هكذا إلى أبيه أيضا؟.
ـ لست حَكَما، لا أقرأ الغيب، لا أعرف.لا أظن، يجوز!!.
ـ هذا الشاب ابن أبيه أم صوت أبيه؟.
ـ ماذا تعنين؟!!.
ـ لا شئ. أنت تعرف.
ـ لا أظن. أنا مشغول على فتحى أكثر من انشغالى على أبيه.
ـ عندك حق، سوف يظلون وراءه، إذا تركه المشايخ سيتلحق به رئاسة المباحث، فإن أفلت فلن يدعه مجلس الأمن. ربنا يستر ولا يلتقطه من يعلمه كيف يكفر الناس، ليقتلهم وهو يبتسم فى طمأنينة اليقين.
ـ مستحيل.
ـ لا شئ مستحيل، وحتى إذا أفلت من كل هؤلاء فسوف يجن.
ـ أحسن.
ـ لا أظن، حتى المجانين لم يعودوا يمثلون اختراقا، البركة فى الأطباء وشركات القمع المنظم.
ـ لا تذهب بعيدا.
ـ يبدو أن المسألة أصعب مما نتصور.
-2-
ـ …………….
ـ ليس تماما، كانت التجربة صعبة.
ـ يا سيدتى، لقد تعلمت من أمين وسط الحياة، أكثر مما تعلمت من محمود وهو منسحب.
ـ يا جلال أنا تعلمت الحياة من مواجهة الموت.
عادت فاتيما أكثر إشراقا وأقل شحوبا، عادت دون أن تتغير، هى هى: حكت لجلال تجربتها منذ عرفت طبيعة مرضها، وكيف أنها جزعت مثلما ينبغى أن يجزع أى إنسان حين يبلغه توقيت نهايته. قالت له إنها فى محاولتها جرد الحساب لما يمكن أن يسمى حياة فيما قضته من أيام، اكتشفت أننا نخطئ الحسابات أكثر من أى كائن آخر. وأن علاقتنا بالزمن ضعيفة جدا، وأنه لا مفر من أن تمتلئ كل لحظة بما هى أوْلى به.
ـ ما هذا؟ هل يمكن أن يعرف الإنسان أى يوم كان مليئا وأية ساعة كانت خالية؟. إن الزمن يعمل بنا ما يعمل ونحن نتلقى محصلته بين الحين والحين، لا أكثر. كيف فصصت الزمن هكذا؟. وما هو أولى بماذا؟.
ـ نعم، المسألة صعبة تماما لكن مواجهة الموت شئ آخر.
ـ و أمين؟.
لم تفاجأ فاتيما.
ـ ماله؟.
انحرف بالكلام وهو يجاهد ليطرد صورة محمود التى اقتحمت وعيه مؤقتا دون استئذان، وقال:
ـ هل تحبين أمينا؟.
ـ طبعا.
ـ أمين يحتاجك يا فاتيما، هو يحتاجنى أيضا. هكذا واجهنى، أنا لا أعرف ماذا أصنع له، تصورت أنه يفكر أن يتراجع، أن يهدئ قليلا مما يفعل، يخيل إلى أنه من الصعب عليه أن يفعلها وسط هذه الأكوام من المشاغل، والمشاريع، والمكاسب، والديون، وأسعار العملات، ومضاربات البورصة. أنا لا أعرف ماذا أصنع له؟.
صدحت فى رأسه أغنية قديمة كان يرددها طفلا لم يحاول أن يطردها برغم تحويرها. “فاتيما يا فاتيما، يا مرضعة نبينا”. لم يلاحظ كيف حل اسم فاتيما محل اسم حليمة إلا بعد قليل. نجحت الأغنية فى أن تمنع كلاما كاد يقفز منه عن محمود، وعن مسألته. كلاما كان. حمد الله أنه أمسك نفسه حتى انصرف بعد أن قالت له إنها لن تكون فى القاهرة لمدة أسبوع، فهى حين قررت أن تعيش أسبوعا بأسبوع، يوما بيوم، ساعة بساعة، اكتشفت أن هناك أشياء كثيرة لم تمتلئ بها كما تستحق.
ـ تصور بعد أكثر من سبعة عشر عاما فى مصر لم أزر “أبو سمبل”. سمعت أن الشمس ستتعامد على وجه رمسيس هذا الأسبوع. سوف أذهب قبل أن يفوت الأوان.
ـ سوف تعرفين عظمة الهندسة الفلكية عند قدماء المصريين.
ـ هندسة ماذا؟.وفلكية ماذا؟.إنى ذاهبة لمشاهدة معنى علاقة الإنسان بالكون، حتى لو كان ذلك ممثلا فى ملك مثل رمسيس، رمسيس كان يعرف أنه سيموت، أرجح أنه أراد أن يذكرنا تمثاله هذا فى تعامده مع الشمس عن حتمية علاقتنا بالزمن أو بالكون.
ـ هل تعرفين يا فاتيما، كنت قد وصلت إلى يقين أن “الحياة هى الحل” لكننى الآن يخيل إلى أن “الموت هو الحل”، أعنى الوعى بالموت.
ـ الوعى بالموت هو الحياة يا جلال.
ـ تغريننى أن أصاب بما لا أستطيع معه أن أنسى:
ـ لا لا لا، بعيد الشر عنك. حافظ على نفسك يا جلال، لا تذهب بعيدا، فضل العمى يا جلال ليس له حدود.
-3-
أمين هو الذى اتصل به هذه المرة، وهو الذى حدد له المكان، واشترط أن يكون هو المضيف، فندق هيلتون رمسيس. جلال لا يطيقه بما يحويه من خليجيين، وتجاوزات، وإهانات، وكذب. صوت أمين مختلف. ليس هو. هناك شئ.
كان أمين يبدو متسرعا وكأنه يريد أن ينصرف قبل أن يحضر.
ـ آسف يا جلال كان ينبغى أن أبلغك هذه الرسالة.
ـ مالك يا أستاذ أمين، مالك اليوم؟. ولماذا ـ هنا ـ بالذات؟.
ـ أنا تعمدت تغيير المكان كما لاحظت، هناك على النيل لا أستطيع أن أقول لك ما سوف أقوله لك هنا، لكل مكان كلماته.
ـ على أن أتوقع كلاما مختلفا، بدأت أتخوف؟.
ـ سيحصل، لن أطيل عليك.
ـ لا تقلقنى أكثر.
ـ باختصار: تبينت فجأة يا جلال، تقريبا فجأة، أنك على حق، صدقتك رغما عنى:
ـ أنا على حق؟. فى ماذا؟. أنا الذى تبينت أنك على حق. حساباتك دائما أدق وأصوب.
ـ أنت على حق يا جلال، أنت الذى على حق. صدقنى:
ـ حق ماذا؟. وأنا أكاد أشحذ بحثا عن لقمة العيش، أنا أفعل يا أمين كل ما أكره، الترجمة للمنظمة تكاد تخنقنى، حق ماذا؟. وهباب ماذا؟.
ـ …. تبينت فجأة يا جلال، تقريبا فجأة، أن الفائدة الحقيقية، وربما الوحيدة التى يمكن أن تعود عليك من الثراء الذى يتنامى وحده، هو أن تتمكن من أن يكون عندك وقت تتحرك فيه لك. وأن حياتك تتوقف على ما تملأ به هذا الوقت بعد كل شئ، بحساباتى التى تصر أنت على ذكر كفاءتى فيها، ثبت لى أننى أكثر الناس فقرا. كلما كسبت أكثر، تقلص حجم الوقت الذى أمتلكه حتى صار الوقت هو الذى يمتلكنى مائة فى المائة، ماذا يتبقى لى آخر النهار؟ لا شئ. وحتى حين أكتشف أن هناك خمس دقائق خالية، والمفروض أنها لى بعيدا عن كل شئ، أرعب ولا أعرف كيف أتصرف فيها وكأنى عامل عملة. لقد حسمتها يا جلال. لقد حسمتها.
ـ حسمت ماذا؟ يا عم أمين، هل هذا كلام؟. طول عمرك تحسم الأمور صح، منذ لم تستسلم لأوهام أبيك حسب ما ذكرت لى، وها أنت أنجح منه مائة مرة. دع مثل هذا الكلام للشحاذين أمثالى: ربنا يبارك لك يا رجل. هل تبادلنى؟.
ضحك جلال بالعافية. ولم يضحك أمين بل تحرك بالكرسى وطلب الحساب.
فزع جلال وراح يعيد.
ـ ألهذا طلبت هذا اللقاء؟. كنت حريصا جدا، لقاء عاجل جدا، جئت إليك مهرولا لتقول لى إننى على حق، وأن ثراءك سرق منك حقك أن يكون عندك وقت تملأه بالهم الذى نحن فيه؟. تصدق بماذا أننى شخصيا كنت أفكر أن أحضر إليك لأعلن لك تنازلى عن موقفى، وعن آرائى ومشاريعى، لأعلن لك أنك أنت الذى على حق، وما منعنى من ذلك إلا أننى اكتشفت أننى بلا موقف أتنازل عنه، ثم تأتى أنت تقول إننى على حق؟. حق ماذا؟. وهباب ماذا؟. أنا مشغول عليك يا رجل.
نظر أمين فى ساعته، وبدا سخيفا وكأنه يطرده مع أنه يعتبره ضيفه، فتحمل جلال وقدر الموقف، وراح يبحث عن شئ يقوله. هل يحدثه عن مقابلته فاتيما، وعن أنها مازالت تحبه مثلما كانت حين تزوجته؟. هل يحدثه عن فكرة الوعى بالموت، وأن هذا يمكن أن يكون بداية حياة فى ذاته؟. أن يكون مفتاح أشياء كثيرة؟. هل يحادثه فى حكاية القبض على محمود وما قاله فتحى ابنه فى المحكمة؟. لابد أنه عرف على الأقل أنباء القبض على محمود. هل يحدثه عن خيبته البليغة؟.
كان النادل قد أحضر الحساب فدفعه واقفا، وتعجب جلال إذ ترك له ورقة بمائة دولار، مقابل قدحين من القهوة السادة. وطلب من النادل أن يحتفظ بالباقى:
كاد جلال أن يقوم فيحتضن أمينا ويدعه وهو يبكى على صدره.
لم يفعل.
-4-
بعد يومين تحديدا، أمسك جلال “بالأهرام” ووجد نفسه يذهب إلى الصفحات قبل الأخيرة على غير عادته. فعلها قصدا، وقلبه تتزايد دقاته، وكأنه يقوده إلى ما يخشى، قبل أن يقرأ الأسماء واحدا واحدا عاد إلى الصفحة الأولى بسرعة، ووجد ما كان يبحث عنه فيها، فجزع وكره نفسه حين وجد ما أكد حدسه. اسم رجل الأعمال أمين عبد الحكيم نورالدين، وكيف مات إثر حادث أليم، وأنه لما كانت أعماله تسير بطريقة حديثة وعلمية وجماعية، فإن هذا لن يؤثر على شركاته، أو على البورصة، فى قليل أو كثير كما يتوقع الخبراء.
-5-
ـ هل ما زلت يا بسمة مصممة على كتابة الرواية الطويلة التى أشرت إليها؟.
ـ لقد بدأتها فعلا، أنت صاحب الفضل فيها وقد أهديها لك.
ـ اعملى معروفا أنا لست ناقصا سخرية.
ـ ما لك؟. ماذا بك؟. أنت متغير، أهو موت المرحوم أمين؟.
ـ ليس هذا تماما، كلنا سنموت، هناك تعبير تعلمته من وردة لم أجد أرقى منه فى هذه الظروف، لم أفهم أبدا تعبير “البقية فى حياتك”، وكأن حياتنا حساب فى بنك له بقية، قالت وردة بعد موت عبد المعطى “إنها وديعة استردها صاحبها”، هى فعلا وديعة يا بسمة وديعة. الذى ما زال يحز فى نفسى هو مقابلته الأخيرة لى قبل الحادث.
ـ هل عرفت طبيعة الحادث؟.
ـ أبدا.
ـ ولا أنا، فاتيما تؤكد أنه ليس انتحارا، وأنه قال لها إنه سمع منك عن جنوب سيناء، وإنه قرر أن يذهب للاستجمام لمدة أسبوع مع أنه لم يذهب إلى هناك من قبل، وأنه قرر ألا يصحبها وتحجج بارتباطها بجلسات الإشعاع، أصر على أن يسافر بالعربة القديمة، وأن يقودها بنفسه مع أن عنده فريقا من السائقين، ومع ذلك هى واثقة أنه لم يفعلها، ليس هو الذى يفعل ذلك …
ـ من أين لها كل هذا الحسم ؟.
ـ هى قالت ذلك، وأنا صدقتها، فضلت أن أصدقها، هى أيضا فضلت أن تصدق نفسها.
ـ لكنه كان معى قبلها بيومين، وهو الذى طلب المقابلة .
ـ وماذا؟. لماذا كانت المقابلة؟.
ـ لست أدرى، كل ما قاله لى هو أننى على حق، أى حق؟. ومن أنا؟… لم يزد. أشعر بمسئولية مرعبة، لا أريد أن أتمادى فى معرفة مزيد من التفاصيل.
ـ وما ذنبك أنت فى هذا؟. هل ينبغى أن تكون على باطل حتى لا تشعر بالذنب؟.
ـ لا أعرف.
ـ أنا قلت لك ـ أيضا ـ بعد حديثنا عن حادث الدكتور جميل النشرتى أنك على حق، لست أنت شخصيا، ولكن…أنت فاهم…، وقد استلهمت من هذا الحق روايتى التى أكتبها. يبدو أننى أكتب حتى لا أنتحر.
انتهزها فرصة ليحول مجرى الحديث، لكنه وجد نفسه وسط المجرى ذاته.
ـ احذرى يا بسمة، هذه منطقة خطرة، لا ينبغى أن تقتربى منها مهما كان الإغراء، ألا يكفى ما جرى لنجيب محفوظ، أراد أن يبسط الأمر للناس حتى يقرب إليهم تاريخ البشرية الملحمى الذى قادته مسيرة الأديان الرائعة، أراد أن ينظروا حولهم ليروا الله حتى لا يحشروه فى أدمغتهم حشرا كما يرسمه لهم الكهنة والمؤرخون، أو يضطرون لأخذ تأشيرة من السفارة السعودية حتى يلقوه، أراد أن يفسر لهم حبل الوريد الممتد عبر كل الأزمنة، فماذا كانت النتيجة؟ اتعظى يا بسمة ودعى هذا الأمر لأصحابه.
ـ مَنْ أصحابه؟.
ـ آه صحيح. مَنْ أصحابه؟.
ـ لا تقفـلها علينا، ماذا بقى لنا من أدوات نوصل بها رؤيتنا أو كشفنا حتى لو أخطأنا؟. إن من يراها ويكتمها لا يستأهلها. صدقنى:
أخذ يشرح لها كيف أنها تتقدم بخطى رائعة على مسار القصة القصيرة، وأنها يمكن أن تتجاوز المخزنجى، بل يوسف إدريس، وأن القصة القصيرة أكثر أمانا، وأن الإرهابيين والمتشنجين والسلطات ليسوا من الذكاء بحيث يلتقطون ما يكفرون به الناس ويقتلونهم من صفحة واحدة، أو بضع صفحات. وأن فرصتهم أكبر للتكفير والتقتيل فى الرواية الطويلة من خلال أى حوار عابر.
صمت جلال فجأة، وود لو يشك فى كل ما رأى، فى كل ما ادعى أمين ـ رحمه الله ـ أنه على حق فيه، أهكذا؟.!!، هل ذهب أمين فعلا ؟. لا لم يكن مثلهم، صعد نجمه مثلهم فى مجالهم، لكنه لم يكن مثلهم، شاركهم فى كل شئ، لكنه لم يكن مثلهم، مـن أول لحظة رآه فيها فى معرض السيارات، قال: هذا إنسان مختلف.
ليته لم يكن مختلفا عنهم،…. ليته لم يكن مختلفا.
ليته كان مختلفا أكثر فأكثر. مختلفا أكثر مما فعل.
-6-
ذهب إلى هناك مثل كل زنقة، ما ذنبها هى؟. لا تراه إلا حائرا أو خائبا، أحسن شئ أنها لا تدقق، لغتها خاصة، وحضورها أقوى من كلماتها.
ـ أهلا، لم تطل غيبتك هذه المرة يا سعادة البك.
ـ اشتقت لكم أسرع.
ـ من القلب للقلب رسول، لكن مالك؟.
ـ يعنى:
ـ والنبى لأنت قائل.
ـ كل مرة آتيك بشكل؟.
ـ يا ألف مرحب.
ـ مات أمين عبد الحكيم.
ـ البقية فى حياتك، كلنا لها، لكل أجل كتاب، ما هو عبد المعطى مات، وأبو البنت مات، وكلنا أموات يا سعادة الباشا. قريبك هو؟.
ـ يعنى، معرفة.
ـ معرفة وتعمل عليه هكذا؟.
ـ هكذاماذا؟. هل ظاهر على؟.
ـ طبعا ظاهر ونصف، لا بد أنك كنت تعزه جدا.
ـ كان صديقا، كان يبدو صديقا، كان يمكن …
قاطعته:
ـ خلاص خلاص، لا والنبى الله يستر عرضك، ربنا يصبرك ويعوض عليك.
ـ هو الميت يتعوض، كيف يعوضنا الله، هل هى شركة تأمين يا وردة؟. هل عوضنا عن عبد المعطى؟.
ـ أستغفر الله العظيم، من كل ذنب عظيم، والله ما انا عارفة، صحيح.. لو كان يعوض كان قد عوض فى أبى البنت، “عليه العوض ومنه العوض”، أهو كلام.
ـ طيب ألاتريدين شيئا لك؟. للبنت؟.
ـ ومستعجل على ماذا يا سعادة البك، ربنا لا يحرمنا منك ومن أفضالك، مستورة والحمد لله، أنت لم تعد غريبا.
-7-
لا يعرف كيف سيقابلها.
سأل عنها المرة تلو المرة حتى يعزيها، بعد أن عجز عن الاتصال بها فى الأيام الأولى من الحادث. هو لم يسأل عن مكان سقوط السيارة، خاف أن يعرفه فيخاصم الجبال التى تخلت عن صديقه. كان أمين صديقه جدا، كان على الجبال أن تحول دون أن تنقلب سيارة صديقه هذا هكذا، هو لم يخطرها بما كان بينهما بسيطا عميقا، لكنه كان ينتظر منها أن تعرف وحدها، هو لا يعلم أى جبل هو الذى تخلى عن أمين، كلهم أصدقاؤه لماذا خانوا صديقه ألم يعرفوا أنه منا، أنه معنا، لماذا تركوه يهوى حتى لو كان قد قرر ذلك؟ أى واد هو الذى ناداه، أى منحدر نذل جذبه إليه عنوة، يتذكر منظر السيارات التى رآها فى المنحنى الخطر نزولا إلى نويبع من سانت كاترين، منحنى خطر، منحنى شديد الخطورة، لا تطفئ المحرك، لا تتخط السيارة التى أمامك. ماذا فعلت يا أمين؟. كنت أرجوه أن يكون النداء إلى حضن الجبال وليس إلى هوة الوادى، للجبال عباءة حانية، الوادى نذل بلا قرار، كل ما أرجوه أن تكون احتوتك الجبال وأنت تتهادى وسطها بقرار حرمنا منك كما حرمك منك تماما.
فى الوديان السحيقة نداء صامت كم استمعت إليه وأنا أتبادل القيادة أحيانا مع أنور فى عربته الصغيرة ذات القفا العريض لأريحه بعض الوقت، هناك نداء لحوح للأرض يعرفه كل من يخاف أو يحب بحق. حين تنادينا الأرض بهذا الإلحاح لا ينقذنا إلا أن نحسن الإنصات إلى من يحبنا أكثر. أرجو أن تكون الجبال قد لحقتك حتى لا تهوى فى غدر الوديان النذل يا أمين؟ يارب تكون قد فعلت.
ـ أهلا جلال.
ـ آسف لما حدث، ثم آسف لتأخرى عن واجب العزاء.
لم ترد فاتيما على أسفه، ولا على عزائه؛ ربما قصدا، لكن وجهها السمح، كما كان دائما رد بسماحة أكبر. أين الحزن؟. هذه المرأة عجيبة الشأن، تبلد هذا أم سلام؟ مازال يذكر لقاءه معها فى المطعم الصينى للمرة الثانية، وهى فى عز أزمة المرض، وهى متماسكة كل التماسك حتى دمعت عيناهما فى صمت جميل لم يخل من تسبيح مجهول، كٌّل بلغته. الحزن شئ عظيم، الفقد أمر آخر، الجزع من المرض أو بسبب المرض أو من الموت شئ، والحزن على فقد شخص مثل أمين شئ.
راح يعيد لنفسه: لماذا لم يكن أمين مثل أصحاب معارض السيارات، ولا أصحاب مصانع السيارات ولا أصحاب القرى السياحية ولا مثل أصحاب المجمعات السكنية، ولا مثل أصحاب شركات الدواء.
توقف جلال فجأة، لأنه لم يستطع أن يفكر فى أمين بلفظ “كان” فى الماضى، وأيضا لأنه لا يعرف كيف هم كل هؤلاء حتى يقول إن أمينا كان مثلهم أو لم يكن مثلهم.
ـ لقد انتهزت فرصة تباعد جلسات الأشعة، وسافرت إلى أبى سمبل كما قلت لك.
ـ حمدا لله على السلامة.
ـ وقد وجدتها كما تصورت، وأروع.
ـ وكيف حال الأولاد؟.
ـ بخير، تقبلوا الأمر بجزع، ثم قامت الأيام بالواجب، رشا ما زالت تعانى أكثر، لم أكن أعرف أنها كانت تحبه كل هذا الحب.
ـ أنا كنت أعرف.
ـ من أين عرفت؟.
ـ حين عرفت أمينا (لم يقل المرحوم، لم يستطع أن يقولها) فى ظروف أخرى غير محل عمله وغير مشروع التدريس، وغير بلاد الشمال الباردة؛ حيث رحلتم، حين عرفته وجها لوجه، تيقنت أن رشا تحبه حبا شديدا.
ـ هو الذى قال لك هذا؟.
ـ وهل هذا كلام يقال؟.
كاد يقول لها لماذا لم تحبيه بالقدرالكافى يا فاتيما؟. لكنه خشى أن تعديها نغمة اللوم فتسأله ذات السؤال عن ثريا، فعدل من فوره.
ـ هل تعرفين يا فاتيما أنه كان رجلا طيبا؟.
ـ جدا.
ـ وهل تعرفين أنه كان صديقى سرا؟.
ـ لست…
سكتت فاتيما فجأة فقد أجهش جلال بالبكاء.
حاول أن يحول دون ذلك، كان بكاء بصوت، هذه المرة، كان نشيجا أفحمه وملأه خجلا، يريد أن يعدو، أن يختبئ، كان قد قرر ألا يفعلها ثانية أمام أحد. لم يكن بينه وبين أمين ما يستدعى أيا من هذا، مقابلتان .. ثلاث .. سبع، وبعض المجاملات، وانشغالات دائمة، وتمنيات طيبة، كل ذلك على مسافة، تقل كلما افترقا وتتضح عند كل لقاء أو مكالمة.
ـ هل كنت ..، أقصد كنتما..، آسفة…..
تمالك جلال نفسه بسرعة مناسبة، حتى بدا أن دموعه أيضا تجف بذات السرعة.
ـ أنا آسف، المفروض أننى حضرت لأواسيك لا لتواسينى، أنا آسف جدا، وخجلان أيضا، يا ليته ما قابلنى قبلها، لقد قال لى:… ولكن لا معنى لأى شئ الآن.
قالت فاتيما بعد تردد:
ـ إن كان هذا يريحك، يريحنا، قله فالموقف لا يحتمل مثل هذا التحفظ.
ـ قال لى إنه صدقنى، وإننى على حق، على الرغم من أننى لم أصدق نفسى حتى الآن، كيف أكون على حق وأنا مازلت هكذا؟.
ـ هكذا ماذا يا جلال؟. أنت صاحب قضية.
ـ أنا؟. أية قضية؟.
ـ قضية ليس لها اسم، هى التى وراء كل شئ، أنت تعرف. ما لزوم الكلام!
ـ صحيح ما لزوم الكلام.
ساد الصمت بناء على ذلك، وطال حتى أخرجت فاتيما من جيبها صورة وقدمتها لجلال؛ يبدو لتقطع الصمت، كانت تبدو فيها مثلما رآها أول مرة، سحابة ترق لتظهر أجمل ما وراءها، رفع رأسه إليها فإذا هى هى التى فى الصورة، كيف نسى انبهاره المتصل بهذا الجمال شديد التميز بين الشمال والجنوب؟. ما هذا؟. هل هذا وقته؟.
ـ لكن من هذا الذى تحملينه بين يديك؟.
لاحظ أنها تضم إلى صدرها فى الصورة طفلا أسمر شديد السمرة حتى السواد، يكاد يكون عاريا. التناقض بين بياضها الذى استعاد حمرته بعد العلاجات الأخيرة، وبين سواد الرضيع العارى أظهر الملامح الأجمل لكليهما، و لما تريد فاتيما أن تقوله.
حكت له فاتيما كيف أنها اتصلت بعد وصولها بصديق قديم لزوجها، كانت له علاقة وثيقة به؛ لأسباب لا تتعلق بالعمل، لم تسأل عن أصل العلاقة، على الرغم من أن أمينا ألمح إلى أنها علاقة قديمة أعمق من أن تكون عائلية. قالت لجلال إنها سألت عليه فى قهوة البوسطة بعد وصولها أسوان، وإنه عزمها فى منزله، وعرفها بزوجته النوبية. كان تأثر هذا الصديق النوبى الجميل، وتأثر زوجته بموت أمين أكثر مما تتصور. أمين لم يحك عنهما أبدا إلا حين أخبرته أنها ذاهبة إلى “أبو سمبل” فأعطاها عنوانه الذى لم يكن يعرف إلا أنه “قهوة البوسطة”. تعجبت فى البداية كيف يكون عنوان شخص هو “مقهى عام”، ثم تذكرت أنها فى مصر، وبلغ من كرم هذا الصديق النوبى وعائلته، أن أصرت زوجته على أن تصحبها شخصيا دون دليل إلى “أبو سمبل” فهى تحفظ كل ما تريد فاتيما أن تعرفه، وتستطيع أن تحكيه بطريقتها الخاصة، هذا على الرغم من أنها كانت فى شهرها التاسع وعلى وشك الوضع، ثم إنها جاءها المخاض فى “أبو سمبل”، ولم تحتج إلا لمساعدة بسيطة جدا من صديقة عجوز كانت تنتظرهما هناك.
ـ تصور يا جلال، على الرغم من كل الأسى والفقد والمرض والأحزان، لم أكن أتصور أن الأطفال مازالوا يولدون، وأنهم مازالوا بكل هذا الجمال.
أخذ جلال يتأمل شدة سواد المولود وشدة بياض حاملته، وهو يبلع ريقه، وكأنه يتذوق الحياة من جديد، حتى استطاعا أن يضحكا معا فى صمت مفعم بالألم.
-8-
ـ أقول لك شيئا؟.
ـ قولى يا وردة.
ـ أنت لا تسمع كلامى:
ـ يا وردة، يا وردة، أنا لم أصرح لك إلا لأنك صديقة.
ـ صديقة يعنى ماذا؟.
ـ يعنى وردة، أحضر لك كلما.. كلما….، أنت تعرفين.
ـ أعرف، ولكن ما فائدة أن أعرف، وأنت لا تسمع الكلام.
ـ يعنى أنت التى تسمعين الكلام؟.
ـ وهل أنت قلت لى شيئا ولم أسمعه؟.
ـ وهل أعطيتنى فرصة؟. قبل أن أسمع أنك تزوجت، كنت قد طلقت.
ـ قلت لك لم يكن رجلا، كان ثورا.
ـ أما هى، فهى شئ آخر.
ـ أنت …. إيش عرفك بها؟.
ـ أنت تحبها وهى تحبك.
ـ أنا أحب ناسا كثيرة، نساء ورجالا وأطفالا، هل أتزوجهم كلهم؟.
ـ وهى؟. ألا تحب الناس مثلك؟.
ـ هى أيضا تقول أنها تحب الناس، وأنت يا وردة.
ـ أنا أحب النبى:
قالت ذلك، وضحكت ضحكة أخرى عالية، لكنها ليست بذات الاتساع.
-9-
ـ هه، يا منال.
ـ هه يا جلال.
ـ إذن ماذا؟.
ـ إذن هذا؟.
ـ الله يخيبك! .
ـ الله يخرب بيتك.
ـ نعملها؟.
ـ لا طبعا.
ـ نبقى هكذا؟.
ـ لا .. طبعا.
ـ يعنى؟؟.
ـ يعنى موافقة.
ـ على ماذا؟.
ـ على الممكن المستحيل.!!!.
_ والله ما هى نافعة!!.
ـ أحسن.
ـ فلماذا نستمر نحاول؟.
ـ هل عندك بديل ؟.
[تمت]
دهب: 7 / 2 / 2004