الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / عودة إلى ملف الإدمان (1)

عودة إلى ملف الإدمان (1)

“يوميا” الإنسان والتطور

   2-3-2008

   العدد: 184

               عودة إلى ملف الإدمان (1)

الإدمان، ومنظومة القيم

لا أعرف مدى أحقيتى فى هذ التنقل السريع بين ما يحضرنى لهذه النشرة من موضوعات ومسائل ومشاكل، هذه البدايات التى لا تكتمل أبدا، هل هىَ فرضت نفسها على هذه النشرة فأصبحت مما يميزها (أو يعيبها)؟ لو أننى ألزمت نفسى بإكمال أى موضوع مما بدأت، إذن لوجدت نفسى أكتب كتابا وليس نشرة يومية، خذ مثلا موضوع “بعض وصف مصر” وهو الذى ظهر بعد أسبوعين من بداية النشرة (15- 9 – 2007) ولخمس حلقات، (بعض وصف مصر “1”)، (بعض وصف مصر “2”)، (بعض وصف مصر “3”)، (من ملف القيم والأخلاق فى مصر الآن “1”)، (من ملف القيم والأخلاق فى مصر بحث علمى شعبى “2”)، أعتقد أنه يحتاج الف صفحة ليكتمل بعضه، ثم خذ آخر ما نشرت هنا عن العلاج عامة والعلاج النفسى خاصة تمهيد للدخول تفصيلا إلى علاج المواجهة المواكبة  المسئولية مثلا وقد شغل حوالى نصف نشرات الشهر الماضى.

ما العمل؟

ظُهْر هذا اليوم (1/3) كنت أسجل فى الفضائية المصرية على الهواء عن إشكالة الإدمان (برنامج “سيدتى” موجود على الموقع حاليا)، وموقف الأم من ابنها أو زوجها المدمن، ودار حوار وقلت كلاما ورددت على مداخلات هاتفية عادية ساذجة، ثم أثناء عودتى خيل إلىّ أن ما قلته يستأهل أن يكون مادة للنشرة التى أعدها لتصدر غدا، وطلبت من سكرتاريتى تفريغ الحلقة، لكننى راجعت نفسى حيث أن الحلقة تنزل فى نفس الوقت بالصوت والصورة فى الموقع، فلماذا أقلبها كتابة أيضا؟ أننى كنت بدأت فتح ملف الإدمان فى نشرتىْ (س&ج عن الإدمان)، (الأسرة والثقافة والطب النفسى والإدمان)، وأن هذه البداية شملت كثيرا مما قلته فى حلقة اليوم.

دفعنى هذا كله إلا أن أعود إلى ملف الإدمان هكذا، وللأيام القادمة

 الجزء الثانى من الأسئلة الشائعة وإجاباتها المحدودة:

س، ج عن الإدمان (2)

س: هل لمنظومة القيم السائدة، علاقة بانتشار ظاهرة الإدمان هكذا؟

ج: طبعا.

ولكن عندك، نلاحظ أن الإدمان أصبح – وربما كان هكذا عبر التاريخ – عالمىّ الانتشار لا يفرق بين مكان وآخر، ولا يفرق بين مستوى اجتماعى أو مادى وآخر، ولا يفرق بين نظام قيمى وآخر، الإدمان قد ينتج من فرط الحرية، كما أنه قد ينتج من فقر الحرية، الإدمان قد يرتبط بوفرة المال، كما قد يرتبط بالفقر “الدكر”، ولكل موادُّه وسمومه، فإذا نحن نبهنا إلى قيمة بذاتها، وربطنا بينها وبين الإدمان فعلينا أن ننتبه إلى ألا يكون هذا الربط خطيا مسطحا، وأيضا أن نتجنب التعميم أو الثبات.

س: مثل ماذا فى مصر على وجه المثال؟

ج: خذ مثلا قيمة الاسْتسْهال والمباشرة والرشاوى الكلامية، إننا‏ ‏نروج‏ – ‏ربما‏ ‏بحسن‏ ‏نية‏ -‏لقيم‏ ‏ومفاهيم‏ ‏لا‏ ‏تتفق‏ ‏مع‏ ‏مرحلة‏ ‏تحضرنا‏ ‏المأمول، ‏ولا‏ ‏هى ‏تناسب‏ ‏إمكانياتنا‏ ‏المادية‏، ‏ثم‏ ‏هى ‏تمثل‏ ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏نظرى ‏بعض‏ ‏الأرضية‏ ‏التى ‏تترعرع‏ ‏فيها‏ ‏ظاهرة‏ ‏الإدمان‏.‏

 كثير‏ ‏من‏ ‏تجليات هاتين القيمتين‏ ‏يقع‏ ‏فى أكثر من مجال، بعضها فى ‏مجال‏ ‏التربية‏، ‏وبعضها‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏السياسة‏، ‏ومنها‏ ‏ما‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الطب،‏ ‏وأحيانا‏ ‏الاقتصاد‏ ‏أو‏ ‏القانون‏ .‏

 ففى‏ ‏مجال‏ ‏التربية‏نحن‏ ‏نروج‏ ‏لهاتين‏ ‏القيمتين‏ ‏الأساسيتين الاستسهال والمباشرة:

 أما‏ ‏عن‏ ‏الاستسهال‏، ‏فمثلا‏: ‏

 ‏ ‏لقد‏ ‏عوّدنا‏ ‏أبناءنا‏ وبناتنا- ‏فتعودنا‏ ‏معهم‏- ‏أن‏ ‏الامتحانات‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏سهلة‏، ‏حتى ‏يصبح‏ ‏تقدير‏ 100% ‏هو‏ ‏من‏ ‏حق‏ ‏الطالب‏ ‏النجيب‏ (‏وغير‏ ‏النجيب‏ ‏إذا‏ ‏أمكن‏ !!!)، ‏وهذا‏ ‏مبدأ‏ ‏خاطئ‏ ‏تربويا‏ ‏من‏ ‏أساسه‏، ‏فحتى ‏أنبغ‏ ‏النبغاء‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يتعلم‏ ‏ماهو‏ ‏الممكن‏، ‏وما‏ ‏هى ‏نسبة‏ ‏الخطأ‏ ‏الضرورية‏ ‏فى ‏أى ‏أداء‏ ‏مهما‏ ‏بلغت‏ ‏درجته‏، ‏وما‏ ‏هو‏ ‏الخطأ‏ ‏المحتمل‏، ‏وما‏ ‏هو‏ ‏الخطأ‏ ‏بالصدفة‏، ‏وما هو‏ ‏الخطأ‏ ‏بالإهمال‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏من‏ ‏قوانين‏ ‏الحياة‏ ‏الطبيعية‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏من‏ ‏مبادئ‏ ‏التربية‏ ‏السليمة‏.‏

 هذا‏ ‏هو‏ ‏الواقع‏، ‏أما‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏ ‏فهو‏ ‏دعوة‏ ‏ضمنية‏ ‏لتنشئة‏ ‏أولادنا‏ ‏على ‏استحالة‏ ‏الخطأ‏، ‏وعلى ‏تقديس‏ ‏الحلم‏، ‏وعلى ‏لوم‏ ‏الآخرين‏، ‏وفى ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏استسهال‏ ‏ظاهر‏ ‏

 وأما‏ ‏عن‏ ‏المباشرة‏: ‏

 فقد‏ ‏دأبنا‏ ‏على ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الامتحان‏ ‏لقياس‏ ‏كــم‏ ‏المعلومات‏ ‏المحشورة‏ ‏فى ‏مخزن‏ ‏الذاكرة‏، ‏وليس‏ ‏لقياس‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏التصرف‏ ‏إزاء‏ ‏المشكلات‏، ‏يحدث‏ ‏ذلك‏ ‏حتى ‏فى ‏امتحان‏ ‏اللغات‏، ‏فأصبحت‏ ‏الرواية‏ ‏المقررة‏- ‏فى ‏الثانوية‏ ‏العامة‏ ‏مثلا‏- ‏هى ‏بمثابة‏ ‏النصوص‏، ‏تحفظ‏ ‏وتسكب‏ ‏على ‏الورق‏، ‏ولم‏ ‏تعد‏ ‏رواية‏ ‏تقرأ‏ ‏قراءة‏ ‏نقدية‏، ‏تسمح‏ ‏بالتلقى ‏المتجدد‏، ‏وإعادة‏ ‏الصياغة‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الحوار‏,‏

 فلماذا‏ ‏هى ‏رواية‏ ‏وليست‏ ‏تاريخا‏ ‏يستعاد‏، ‏أو‏ ‏نصا‏ ‏يحفظ‏ ‏إذن؟

 وحتى ‏مواضيع‏ ‏الإنشاء‏ ‏أصبحت بعضها – إن لم يكن أغلبها -‏ ‏تحفظ‏ ‏عن‏ ‏ظهر‏ ‏قلب‏، ‏وكم‏ ‏كنت‏ ‏أعجب‏ ‏لبعض‏ ‏الطلبة‏ ‏الذين‏ ‏التحقوا‏ ‏بكلية‏ ‏الطب‏ ‏وهم‏ ‏لا‏ ‏يعرفون‏ ‏نطق‏ ‏جملة‏ ‏واحدة‏ ‏باللغة العربية الفصحى، ناهيك عن‏ ‏الإنجليزية‏، وهم‏ ‏يخبرونى ‏أنهم‏ ‏حصلوا‏ ‏على 40 ‏على 40 ‏فى ‏الانجليزى!!‏ تقدير‏ ‏أشك‏ ‏أن‏ ‏مسز تاتشر‏ ‏شخصيا‏ ‏يمكنها‏ ‏أن‏ ‏تحصل‏ ‏عليه‏.

س: ولكن‏ ‏ما‏ ‏علاقة‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏بتعاطى ‏المخدرات؟

 ج:‏ ‏إذا‏ ‏نظرنا‏ ‏فى ‏الأمر‏ ‏بأمانة‏ ‏متأنية‏ ‏فلابد أن نلاحظ‏ ‏أن‏ ‏تعاطى ‏المخدرات‏ ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏الصورة‏ ‏المبالغة‏ ‏والخطيرة‏ ‏لهاتين‏ ‏القيمتين‏ ‏الاستسهال‏، ‏والمباشرة

 ‏ ‏فما‏ ‏أسهل‏ ‏الحصول‏ ‏على ‏اللذة‏ ‏الحسية‏ ‏من‏ ‏تغييب‏ ‏الوعى ‏بالكيمياء‏.‏

 ‏ ‏كما‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏طريق‏ ‏أكثر‏ ‏مباشرة‏ ‏للتخلص‏ ‏من‏ ‏الألم‏ ‏والوحدة‏ ‏مثل‏ ‏طريق‏ ‏تعتيم‏ ‏الوعى ‏وتنويم‏ ‏مراكز‏ ‏المواجهة‏ ‏واليقظة‏.‏

 إذن‏ ‏فتعاطى ‏المخدرات‏ ‏ليس‏ ‏ظاهرة‏ ‏من‏ ‏فراغ‏، ‏وهوليس‏ ‏مجرد‏ ‏سوء‏ ‏خلق‏، ‏أو‏ ‏وفرة‏ ‏مادة‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏تجسيد‏ ‏مرضى ‏لقيم‏ ‏سائدة‏ ‏نغذيها‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏ندرى.

 س: فكيف تتجلى هذه القيم نفسها فى مجالات أخرى، كالسياسة مثلا؟

ج: عندك حق، هى تتجلى فى السياسة عندنا وجه خاص، ثم إنها تصبح خطرا أكبر إذا صدرت عن مسئولين أضيفت إليها – وهو ما يحدث عادة-، قيمتا: المبالغة والتعميم،

 فى ‏السياسة‏، ‏عودنا‏ ‏الحكم‏ ‏الشمولى، ‏كما‏ ‏أضافت‏ ‏الأخلاق‏ ‏القـَبـَلية‏، ‏أن‏ ‏نعلى ‏من‏ ‏قيمة‏ ‏الإجماع‏، ‏وأن‏ ‏نحترم‏ ‏النسب‏ ‏الشديدة‏ ‏الارتفاع‏ ‏فى ‏نجاح‏ ‏المرشح‏ ‏الفائز‏ ‏فى ‏أى ‏من‏ ‏الانتخابات‏، ‏وهذا‏ ‏يمثل‏ ‏قيمة‏ ‏المبالغة‏، مع‏ ‏أن‏ ‏السياسى ‏الحصيف‏ ‏فى ‏البلد‏ ‏الديمقراطى ‏العريق‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يخجل‏ ‏إذا‏ ‏حصل‏ ‏هو‏ ‏أو‏ ‏حزبه‏ ‏على ‏نسبة‏ ‏تفوق‏ ‏الستين‏ ‏فى ‏المائة‏ (‏مثلا‏)‏

 ويرتبط‏ ‏بهذه‏ ‏المبالغة والميل إلى الإجماع والفرحة به‏ ‏قيمة‏ ‏التعميم‏، ‏فنحن‏ ‏لا‏ ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نتحمل‏ ‏منظر‏ ‏الكسور العشرية‏، ‏أو‏ ‏موضوعية‏ ‏النسبية‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏ نحن نميل إلى التعامل بقيمة “‏الكل‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏شئ‏”، التى تضطرنا عادة إلى “الاستقطاب“.

س: ولكن ما علاقة ذلك بالإدمان؟

ج: علاقة‏ ‏تعاطى ‏المخدرات‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏واضحة‏، ‏فتعاطى ‏المخدرات‏ ‏يؤكد‏ ‏أن‏ ‏وعينا‏ ‏قد‏ ‏تعود‏ – ‏صغارا‏ ‏وكبارا‏ – ‏على ‏هذه‏ ‏الصورة‏ ‏المطلقة‏ ‏من‏ ‏التأكيد‏ ‏المطلق‏، ‏والحسم‏ ‏النهائى، ‏تعود‏ ‏على ‏منطق‏: ‏”إما‏ …‏أو”، ‏على ‏رؤية‏ ‏الأسود‏ ‏أو‏ ‏الأبيض‏، ‏بلا‏ ‏ظلال‏ ‏وسطى، ‏ولاتداخل،‏ فوقع‏ ‏وعينا‏ ‏فى ‏مأزق‏، ‏فإمـا‏ ‏إفاقة‏ ‏مؤلمة‏ ‏ورؤية‏ شديدة‏ ‏الوضوح ‏لمعظم‏ ‏الأمور‏ – أو كلها ‏- (‏وهو‏ ‏أمر‏ ‏مستحيل‏ ‏للوعى ‏البشرى ‏اليقظ‏)، ‏وإلا‏ ‏فالنوم‏ ‏الزؤام‏ والانسحاب التمام. (= ‏غيبوبة‏ ‏التخدير‏).‏

 الشاب‏ ‏(أو غيره) يجد‏ ‏نفسه‏ -‏ خاصة‏ ‏عند‏ ‏الضيق‏ ‏غير المفُسّر‏- ‏‏أمام‏ ‏وسيلة‏ ‏كيميائية‏ ‏تحقق‏ ‏له‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏اليقين‏ ‏على ‏أحد‏ ‏الجانبين‏، ‏فتعاطى ‏مخدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏إلا‏ ‏وسيلة‏ ‏سريعة‏ ‏ومطلقة‏ ‏أحيانا‏ ‏للقضاء‏ ‏على ‏اختلافات‏ ‏الغموض‏ ‏أو‏ ‏ألم‏ ‏المواجهة‏، ‏وليترتب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏ما‏ ‏يترتب‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏..‏

س: ولكن الأطباء يتعاملون بمثل ذلك حين يروجون للسعادة ضد أى اكتئاب وللراحة والرفاهية ضد أى قلق، لماذا إذن ذلك وهم الذين يعالجون الإدمان؟

‏ ج:  شكرا أنك قلت بعضهم، (مع أن هذا صار ينطبق على أغلبنا)، هذا يدعونى إلى الحديث عن قيمتين مساعدتين فى هذا المجال، هما ‏قيمتا‏: ‏الميكنة‏ ‏والتسكين فى ‏مجال‏ ‏الطب‏، ‏والطب‏ ‏النفسى ‏خاصة‏، ‏دعونا‏ ‏ننظر‏ ‏ماذا يجرى‏:

 فقد‏ ‏حل‏ ‏الطب‏ ‏الآلاتى (‏والتكنولوجى‏) ‏والتسكينى، ‏محل‏ ‏فن‏ ‏التعصيب‏ ‏وفن‏ ‏التطبيب‏ ‏وفن‏ ‏اللأم ‏عامة‏، ‏وأصبح‏ ‏المريض‏ ‏يأتى ‏إلى ‏الطبيب‏ ‏ليرتاح أساسا‏، ‏لا‏ ‏ليـعـالج‏، ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏طلبت‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏مرضاى ‏اللذين‏ ‏يصرون‏ ‏على ‏أن‏ ‏يعلمونى ‏مهنتى، ‏حين‏ ‏يوجهون‏ ‏إلىّ ‏اللوم‏ ‏والتقريع‏ ‏قائلين‏: ‏إنت‏ ‏مفروض‏ ‏تريحنا‏ ‏يادكتور‏، ‏كثيراما‏ ‏أطلب‏ ‏منهم‏ ‏أن‏ ‏يعيدوا‏ ‏قراءة‏ ‏اللافتة‏ ‏على ‏الباب‏ ‏أو‏ ‏على ‏الروشتة‏ ‏ليتأكدوا‏ ‏أن‏ ‏اللقب‏ ‏الذى ‏يسبق‏ ‏إسمى ‏هو الدكتور ‏(‏الطبيب‏) ‏فلان‏ ‏وليس‏ “‏المريّحاتى‏” فلان، ‏وبالتالى ‏فإن‏ ‏وظيفتى ‏هى ‏العلاج‏ ‏وليس‏ ‏الترييح‏ ‏فحسب‏.‏

 ‏ ‏الأطباء‏ ‏عامة‏، ‏وخاصة‏ ‏فى ‏العالم‏ ‏المتقدم‏ ‏حيث‏ ‏القانون‏ ‏يلاحقهم،‏ والشركات تبرمجهم، ‏يقعون‏ ‏فريسة‏ ‏عملية‏ ‏غسيل‏ ‏مخ‏ ‏منتظم‏ ‏بفضل‏ ‏الدعاية‏ ‏المفرطة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏والخوف‏ ‏من‏ ‏الخطأ‏ ‏من ناحية‏ ‏أخرى. ‏ينتهى ‏الحال‏ ‏فى ‏التطبيب‏ ‏النفسى، ‏مثلا‏: ‏إلى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏غاية‏ ‏المراد‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏تطل‏ ‏تلك‏ ‏الابتسامة المسطحة‏ ‏الغامضة‏ (‏الأقرب‏ ‏للبلاهة‏) ‏على‏ ‏وجه‏ ‏المريض‏، ‏مثلما‏ ‏بدت‏ ‏على ‏وجه‏ ‏الحسناء‏ ‏التى ‏تعاطت‏ ‏هذا‏ ‏الدواء‏ ‏أو ذاك،‏ ‏تلك الحسناء المرسومة‏ ‏على ‏غلاف‏ ‏إحدى ‏المجلات‏ ‏العلمية‏ العالمية مع اسم الدواء اللذيذ!!.‏

 بناء على ‏ذلك‏ ‏أصبحت من أولويات ممارسة‏ ‏الطب‏ هناك – فى البلاد المتقدمة -‏ ‏هى ‏أن‏ ‏يحمى ‏الطبيب‏ ‏نفسه‏ ‏بعمل‏ ‏أكبر‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏الاحتياطات، وتسجيل كتابات دفاعية ‏لا‏ ‏لزوم‏ ‏لها‏، ‏ثم‏ ‏إعطاء‏ ‏أكبر‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏السعادة‏ ‏الكيميائية‏ ‏حتى ‏يحقق‏ ‏الابتسام‏ ‏بعد‏ ‏العبوس‏ ‏و‏يتمتع هو أيضا بنوم عميق ‏.‏

 ‏ ‏نعم‏ ‏علمونا‏ ‏وعلموا‏ ‏مرضانا‏ (‏وغير‏ ‏مرضانا‏) ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الوجه‏ ‏الباسم‏ ‏هو‏ ‏غاية‏ ‏المراد‏ ‏من‏ ‏رب‏ ‏العباد‏، ‏وعلى ‏ذلك‏ ‏فالغرض‏ ‏من‏ ‏التداوى ‏لا‏ ‏بد‏ ‏وأن‏ ‏يكون‏ ‏هو‏ ‏الحصول‏ ‏على ‏موفور‏ ‏الصحة الباسمة‏ ‏بأن‏ ‏نحقق‏ ‏للمريض‏ “‏نوما‏ ‏فى ‏العسل‏”، ‏وعسل‏ ‏العصر‏ ‏الحديث‏ ‏هو‏ ‏حبوب‏ ‏كذا‏، ‏وكيمياء‏ ‏كيت

 فينقلب‏ ‏مفهوم‏ ‏الإنسان‏ ‏بفضل‏ هذا ‏الطب‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏ماكينة‏ ‏ينقصها‏ ‏زيت‏ ‏كذا‏، ‏وشحم‏ ‏كيت‏، ‏وبالتالى هى تحتاج للتلميع‏ ‏بالطريقة‏ ‏الفلانية‏، ‏والتسكين‏ ‏بالعقار‏ ‏العلانى، ‏وكلها‏ ‏كيمياء‏ ‏فى ‏كيمياء‏.‏

س: ولكن ما‏ ‏علاقة‏ ‏ذلك‏ ‏بظاهرة‏ ‏الإدمان؟

 ج:‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الصورة‏ ‏للطب‏ ‏التسكينى، ‏الميـكنى، ‏ليست‏ ‏سوى ‏الوجه‏ ‏الطبى ‏لظاهرة‏ ‏الكيماويات‏ الإدمانية، ‏حتى ‏أن‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏الأبحاث‏ ‏الأمينة‏ ‏أظهرت‏ ‏أن‏ ‏نسبة‏ ‏من‏ ‏المتعاطين‏ ‏للمخدرات‏ ‏إنما‏ ‏يفعلون‏ ‏ذلك‏ ‏كوسيلة‏ ‏من‏ ‏وسائل‏ ‏العلاج‏ ‏الذاتى، ‏حتى ‏أن‏ ‏انتقاء‏ ‏المتعاطى ‏لنوع‏ ‏بذاته‏ ‏من‏ ‏المخدر‏ ‏قد‏ ‏يرتبط‏ ‏بنوع‏ ‏الاضطراب‏ ‏النفسى ‏الذى ‏يعانيه‏ المريض/المدمن ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ( ‏إشمعنى ‏الطبيب‏، ‏وهل‏ ‏يفعل‏ ‏الطبيب‏ ‏غير‏ ‏ذلك؟‏ ‏واسأل‏ ‏مجرب‏ ..‏إلخ‏).‏

‏ س: لكن مجتمعات غير مجتمعنا لها قيم مختلفة، هى تعانى من نفس الظاهرة؟

ج: هذه حقيقة وقد أشرنا إليها فى ردّ سابق، فالمسألة ليس فى هذه المقيمة أو تلك، ولكن فى طبيعة الربط بين السبب والنتيجة، فالمجتمع‏ ‏الغربى ‏الشمالى ‏عامة‏ (‏بشقه‏ ‏السوفييتى ‏وتوابعه‏ ‏قديما‏ ‏وحديثا‏، ‏أو بنموذجه‏ ‏اليابانى الحديث ‏وما‏ ‏أشبه‏) ‏لا‏ ‏يعانى ‏من‏ ‏الاستسهال‏، ‏بل‏ ‏يستغرق‏ ‏الواحد‏ ‏منهم‏ ‏فى ‏عمله‏ ‏وواجبه‏ ‏كما‏ ‏ينبغى ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏وهو‏ ‏مجتمع‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏المباشرة‏ ‏بالمعنى ‏السطحى ‏السهل الذى أشرنا إليه  بالنسبة لمجتمعنا‏، ‏فكل‏ ‏شئ‏ ‏بالحساب‏ ‏الممتد‏ ‏وحساب‏ ‏الجدوى، ‏وهو‏ ‏أيضا‏ ‏مجتمع‏ ‏تعلم‏ ‏كيف‏ ‏يتحمل‏ ‏الغموض‏، ‏ولا‏ ‏يسير‏ ‏على ‏مبدأ‏: ‏الكل‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏شئ‏ ‏كما‏ ‏تدعى ‏أننا‏ ‏نفعل‏ يعنى عكس ما عندنا، كذلك هو‏ ‏يعتبرالفائز‏ ‏فى ‏الانتخابات‏ ‏عندهم‏ ‏بسبع‏ ‏وخمسين‏ ‏فى ‏المائة‏ (‏مثلا‏) ‏قد‏ ‏انتصر‏ ‏انتصارا‏ ‏ساحقا‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ أيضا ‏خلاف‏ ‏ما‏ ‏ذكرت‏ ‏عندنا‏، ‏صحيح‏ ‏أننا‏ ‏نتبعهم‏ ‏فى ‏تقديس‏ ‏قيم‏ ‏صدروها‏ ‏إلينا‏ ‏مثل‏ “‏مجتمع‏ ‏الرفاهية‏” ‏وارتباطه‏ ‏واضح‏ ‏بقيمتى ‏التسكين‏ ‏والميكنة، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الاختلافات‏ ‏الواسعة‏ ‏السالفة‏ ‏الذكر‏ ‏فى ‏القيم‏ ‏الأربع‏ ‏الأولى‏: ‏الاستسهال‏، ‏والمباشرة‏، ‏والمبالغة‏، ‏والتعميم‏، ‏تحتاج‏ ‏منا‏ ‏إلى ‏تساؤل‏ ‏عن‏ ‏القيم‏ ‏التى ‏تسود‏ ‏عندهم‏ فتغذى ‏ظاهرة‏ ‏الإدمان‏ ‏بشكل‏ ‏مختلف‏، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏النتيجة‏ ‏واحدة

إن هذا يجعلنا نكرر أن ‏تواتر‏ ‏الظاهرة‏ ‏بنفس‏ ‏النسبة‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏بالضرورة‏ ‏وحدة‏ ‏الأسباب‏، ‏ولا‏ ‏وحدة‏ ‏المسار‏، ‏ولا‏ ‏تشابه‏ ‏المضاعفات‏. ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يجعلنا‏ ‏نحذر‏ ‏ونحن‏ ‏نستورد‏ ‏التفسيرات‏ ‏مناهج‏ ‏البحث‏ منهم كما هى حرفيا.

 فإذا‏ ‏كنا‏ ‏نتفق‏ ‏معهم‏ ‏فى ‏الخضوع‏ ‏للقيم‏ ‏الجديدة‏ ‏مثل‏ ‏التسكين‏، ‏والميكنة‏، ‏وإذا‏ ‏كنا‏ ‏نتفق‏ ‏معهم‏ ‏فى ‏الخضوع‏ ‏لتأثير‏ ‏المافيا‏، ‏والتعرض‏ ‏لتلويث‏ ‏الوعى ‏بوسائل‏ ‏الإعلان‏ ‏والاغتراب‏، ‏فإن‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏قد‏ ‏يفسر‏ ‏جانبا‏ ‏واحدا‏ ‏من‏ ‏الاتفاق‏ ‏معهم‏ ‏فى ‏تواتر‏ ‏حدوث‏ ‏ظاهرة‏ ‏الإدمان‏، ‏ثم‏ ‏يبقى ‏علينا‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏قيم‏ ‏سلبية‏ ‏أخرى ‏عندهم‏ ‏مقابل‏ ‏القيم‏ ‏السلبية‏ ‏التى ‏عندنا‏، مع التحذير ألا يكون البحث فيما‏‏عندهم‏ ‏من‏ ‏سلبيات‏ مختلفة، مبرراً لتصور أن سلبيتنا أقل، أو دمها أخف، علينا أن نركز‏ ‏بالضرورة‏ ‏على ‏رصد وعلاج مصيبتنا‏ ‏الخاصة‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فسوف‏ ‏أشير إلى‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏عندهم‏ ‏بالمقابل‏ – ‏مجرد‏ ‏إشارة‏ ‏لإظهار‏ ‏اختلاف‏ ‏المنبع‏ ‏رغم‏ ‏توحد‏ ‏المصب‏، خذ عندك مثلا:

فى ‏مقابل‏ ‏الاستسهال‏، ‏والمباشرة‏ ‏عندنا‏ ‏نجد‏ ‏قيمة‏ ‏الغرور‏ ‏البشرى ‏عندهم‏ ‏قد‏ ‏وصلت‏ ‏إلى ‏تقديس‏ ‏الإنسان‏ ‏دون‏ ‏سواه‏، ‏فالإنسان‏ ‏لديهم‏ ‏ملك‏ ‏نفسه‏، ‏قادر‏ ‏على ‏كل‏ ‏شئ‏، ‏له‏ ‏الحق‏ ‏فى ‏إنهاء‏ ‏حياته‏ (‏بالانتحار مثلا‏) ‏أو‏ ‏تشويهها‏ (‏بالغيبوبة‏ الإدمان). ‏وليس‏ ‏عندنا‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الفخر‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏الدمار‏.‏

فى ‏مقابل‏ ‏المبالغة‏ ‏والتعميم‏ ‏عندنا‏، ‏نرى ‏الواحد‏ ‏منهم‏ ‏يفرط‏ ‏فى ‏حساب‏ ‏كل‏ ‏شئ‏، ‏حتى تكاد‏ ‏تختفى ‏الصدفة‏ ‏من‏ ‏حياته‏، بل أنه قد يضطرب توازنه قليلا أو كثيرا‏ ‏إذا‏ ‏فلتت‏ ‏منه‏ ‏حسبة‏ ‏ما‏، ‏إذ‏ ‏لا‏ ‏يسعفه‏ ‏إيمان‏ ‏بغيب‏ ‏أو‏ ‏تسليم‏ ‏لقدر‏، ‏وبما‏ ‏أن‏ ‏حسابات‏ ‏البشر‏ ‏هى ‏حسابات‏ ‏البشر‏، ‏وكم‏ ‏تفلت‏ ‏بلا‏ ‏مبرر‏ ( ‏كارثة‏ ‏مفاعل‏ ‏نووى ‏أوزلزال‏ ‏أوعصارإ‏)، ‏من خلال ذلك ومثله قد تحتد حاجته،‏ ‏إلى‏ ما‏ ‏يثلم‏ ‏به‏ ‏وعيه‏ ‏خشية‏ ‏المفاجأة‏، ‏وهات‏ ‏يا‏ ‏تخدير‏.‏

إنه‏ ‏ينبغى ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نعلن‏ ‏من‏ ‏موقع‏ ‏مسئوليتنا‏ ‏أننا‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏حرب‏ ‏الإدمان‏ ‏هذه‏، ‏قد‏ ‏نشترك‏ ‏معهم‏ ‏فى ‏ميادين‏ ‏بذاتها‏ (‏مثل‏ ‏محاربة‏ ‏المافيا‏، ‏ومنع‏ ‏التهريب‏)، ‏ولكننا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نختلف‏ ‏معهم‏ ‏تماما‏ ‏‏ ‏فى ‏ميادين‏ ‏أخرى.‏

 فإذا‏ ‏قيل‏ ‏مثلا‏ ‏أنه‏ ‏بالإخلاص‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نتغلب‏ ‏على ‏الإدمان‏، ‏وقفنا‏ ‏عند‏ ‏مفهوم‏ ‏الإخلاص‏ ‏عندهم‏ ‏ومفهومه‏ ‏عندنا فقد‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏الإخلاص‏ ‏عندنا‏ ‏أن‏ ‏نسهل‏ ‏مهمة‏ ‏المتعاطى ‏ونتستر‏ ‏عليه‏ (‏مثلما‏ ‏أصبحت‏ ‏الشهامة‏ ‏أن‏ ‏نسهل‏ ‏الغش‏ ‏لأبنائنا‏ ‏فى ‏الامتحانات‏/ ‏من‏ ‏باب‏ ‏الجدعنة‏) ‏

 و‏‏إذا‏ ‏قيل‏ ‏عندنا‏ ‏أنه‏ ‏بالعودة‏ ‏للدين‏ ‏والإيمان‏ ‏قد‏ ‏يستغنى ‏المدمن‏ ‏‏عن‏ ‏حاجته‏ ‏إلى ‏تغييب‏ ‏الوعى بالمواد إياها، ‏فإنه‏ ‏ينبغى ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نعرف أين موقع‏ ‏الإيمان‏ ‏عند‏ ‏الغالبية‏ ‏لديهم‏، ‏حيث‏ ‏كثير منهم يستغنى عن الانشغال بهذه المسألة الغامضة أصلا، أو هو يكتفى بممارسات خفيفة كنوع من‏ ‏نشاط‏ ‏نهاية‏ ‏الأسبوعى ‏(ويك‏ ‏إند‏) ‏ودعوات‏ ‏قبل‏ ‏الأكل،‏ ‏أو تسكين‏ ‏اعترافى ‏طيب‏.

 ‏ ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏العودة‏ ‏إلى ‏الدين‏ ‏والإيمان‏ ‏عندنا‏ ‏قد‏ ‏تتراوح‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏الترويج‏ ‏للنفس‏ ‏المطمئنة‏ ‏بالمعنى ‏السكونى ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏تعميق‏ ‏التسليم‏ ‏دون‏ ‏جهاد‏ ‏ذاتى ‏متصل‏ ‏حملا‏ ‏للأمانة‏، ‏و‏ما‏ ‏بين‏ ‏الكدح‏ ‏إلى ‏وجه‏ ‏الله‏، ‏وتعميق‏ ‏الإيمان‏ ‏بالغيب‏ ‏المبدع‏ ‏الخلاق‏، وكلاهما له فاعلية مختلفة،

 الأولى تحقق غيبوبة التسليم، والأخرى تتناغم مع هارمونية الكدح، وكلا الوظيفتين أبعد عن وظيفة الدين لديهم، وهذا لا يعيبهم فى ذاته، لكنه توضيح للفروق. ‏

س: إذن ما‏‏ هى ‏الجهود‏ ‏التى ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏تبذل‏ ‏لمكافحة‏ ‏الإدمان‏؟

 ج: هى ‏الحرب‏ ‏والله‏ ‏العظيم‏ ‏ثلاثا‏، ‏الحرب‏ ‏بكل‏ ‏معنى ‏الكمة‏، ‏ليست‏ ‏جهودا‏، ‏ولامقالات‏، ‏ولا‏ ‏ندوات‏، ‏ولا‏ ‏أفلام‏، ‏بل‏ ‏أتمادى ‏فأقول‏: ‏ولا‏ ‏أبحاث‏، ‏ولا‏ ‏حتى ‏قوانين‏، ‏فأثناء‏ ‏الحرب‏ ‏تعلن‏ ‏الطوارئ‏ ‏وتتوقف‏ ‏بعض‏ ‏القوانين‏ ‏التى ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏إجراءاتها‏ ‏فيها‏ ‏شبهة‏ ‏تعريض‏ ‏المحارب‏ ‏للهزيمة‏، ‏من فرط متابعتى لخطاب تحصيل الحاصل الذى نتناول به إشكالة الإدمان، خطر لى يوما أن أوصى بإيقاف‏ ‏كل‏ ‏البرامج‏ ‏والأفلام‏، (‏بما فى ذلك هذا‏ ‏الحديث‏ ‏الذى ‏أرد‏ ‏على اسئلته الآن، أو البرنامج الذى شاركت فيه ظهر أمس!‏‏) ‏لنوقف كل ذلك أو أغلبه ‏ولننزل‏ ‏إلى ‏الميدان‏ ‏بالوعى ‏والحجارة‏ ‏والعرق‏ ‏والفأس‏ ‏لنحارب‏، ‏الآن‏ ‏وحالا‏ ‏ودائما.

 خطة‏ ‏هذه‏ ‏الحرب‏ ‏هى ‏مثل‏ ‏خطط‏ ‏كل‏ ‏الحروب‏: ‏تحديد‏ ‏العدو‏، ‏ومعرفة‏ ‏أسراره‏، ‏واختيارميدان‏ ‏لقائه‏، ‏ودراسة‏ ‏نقط‏ ‏ضعفه‏، ‏ثم‏ ‏موجات‏ ‏الهجوم‏ ‏تلو‏ ‏الهجوم‏ ‏حتى ‏الإبادة‏، والعدو‏ ‏هنا‏ ‏هو‏:‏

 ‏1- ‏كل‏ ‏من‏ ‏أدخل‏، ‏إلى ‏بلدنا‏ ‏سما‏ ‏يسمى ‏مخدرا‏، ‏هو‏ ‏ومن‏ ‏عاونه‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏مسهلا‏!! ‏أو‏ ‏مروّجا‏..‏

 ‏2-‏ وكل‏ ‏من‏ ‏استسهل‏ ‏وتعاطى ‏هذا‏ ‏السم‏ ‏تحت‏ ‏أى ‏ظرف‏ ‏من‏ ‏الظروف‏، ‏

 ‏3-‏ وكل‏ ‏من‏ ‏دعى ‏وادعى ‏أن‏ ‏غايتنا‏ – ‏والعياذ‏ ‏بالله‏ – ‏هى ‏مجتمع‏ ‏الرفاهية‏ ‏وحياة‏ ‏السكينة

علينا أن نتسلح بذكاء المواجهة، ‏مواجهة‏ ‏بضاعة ثقافة الإدمان ‏ببضاعة‏ ‏أنقى ‏وأنفع‏:‏ ‏ ‏فالذى ‏يروج‏ ‏للطمأنينة‏ ‏الساكنة‏ ‏ظنا منه‏ ‏أنها‏ ‏المثل‏ ‏الأعلى ‏للإيمان‏ ‏الكامل‏، ‏نذكرة‏ ‏بالكدح‏ ‏إلى ‏وجه‏ ‏الله‏، ‏كما‏ ‏نذكره‏ ‏بثقل‏ ‏الأمانة‏ ‏التى ‏نحملها‏ ‏ونحن‏ ‏نعى ‏ما‏ ‏حولنا‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏نطيق‏، ‏الأمانة‏ ‏التى ‏حملناها‏ ‏وأشفقت‏ ‏منها‏ ‏الجبال‏ ‏والأرض‏، لكن لحملها لذة الفخر أننا بشرُ أكرمنا الله، وهى لذة تفُلّ لذة الانسحاب والغيبوبة.

 والذى ‏يروج‏ ‏أن‏ ‏ندع‏ ‏القلق‏ ‏ونبدأ‏ ‏الحياة‏، ‏ننتبه إلى مواجهته بأن مجتمعنا بالذات قد يدع القلق‏ ‏ولا‏ ‏يبدأ‏ الحياة‏ ‏ولا‏ ‏يحزنون‏، علينا أن نواجهه ونحن ‏نذكّره‏ ‏بشرف‏ ‏التقشف‏ ‏النفسى، ‏وكرامة‏ ‏الحزن‏، ‏ومسئولية‏ ‏الألم‏ ‏الجماعى‏. ‏وهكذا‏ ‏وهكذا‏ ‏

س: ألا ترى فيما تقول نبرة خطابية أنت تنهى عنها عادة؟

 ‏ ج: عندك حق، حتى أننى مرة تصورت أنه لابد ‏أن ‏تكون‏ ‏الجهة‏ ‏المنوط‏ ‏بها‏ ‏هذه‏ ‏المهمة‏ مهمة حرب الإدمان، ‏هى ‏وزارة‏ ‏الحربية‏!!!!!!، ‏لا‏ ‏وزارة‏ ‏التعليم‏، ‏ولا‏ ‏الصحة‏، ‏ولا‏ ‏الأوقاف‏، ‏ولا‏ ‏الإعلام‏….‏إلخ،‏

 ‏ ‏س: ماهى ‏انعكاسات‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏على ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏والعصبية؟

 ج: السؤال‏ ‏غير‏ ‏واضح‏.‏

 فإن‏ ‏كان‏ ‏المقصود‏ ‏هل‏ ‏تسبب‏ ‏هذ‏ ‏الظاهرة‏ ‏أمراضا‏ ‏نفسية‏، ‏فالجواب‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏ظاهرة‏ ‏الإدمان‏ ‏فى ‏حد‏ ‏ذاتها‏ ‏هى ‏مرض‏ ‏نفسى، ‏بل‏ ‏“طاعون‏ ‏نفسى”، وهى أيضا سبب فى أمراض نفسية متعددة، ‏إن‏ ‏أفضل‏ ‏تسمية‏ ‏لظاهرة الإدمان‏ ‏هى‏ ‏أنها‏ “‏سرطان‏ ‏الوعى، ‏وكما‏ ‏أن‏ ‏السرطان‏ ‏ينتشر‏ ‏فتأكل‏ ‏خلاياه‏ ‏الخبيثة‏ ‏الخلايا‏ ‏الصحيحة‏، ‏فإن‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏تُغِيُر‏ ‏على ‏الوعى ‏حتى ‏يتشوه‏، ‏فيتحول‏ ‏الإنسان‏ ‏إلى ‏خرقة منتهكة‏ ‏من‏ ‏اللحم‏‏، ‏بلا‏ ‏غاية‏، ‏ولا‏ ‏كرامة‏، ‏ولا‏ ‏كيان‏.‏

س: تحديدا: هل‏ ‏ينتج‏ ‏الإدمان‏ ‏عن‏ ‏مرض‏ ‏نفسى‏؟ وأية أمراض مثلا؟

 ‏نعم‏.‏

 ‏ ‏إن‏ ‏مايسمى ‏بالاكتئاب‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يدفع‏ ‏صاحبه‏ ‏إلى ‏الهرب‏ ‏من‏ ‏ألم‏ ‏المواجهة‏، ‏وفرط‏ ‏الرؤية‏، ‏فيلجأ‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏المغيبات‏ ‏للوعى، ‏بهذا‏ ‏القصد‏ ‏العلاجى ‏الذاتى ‏أولا‏، ‏ثم‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يقع‏ ‏فريسة‏ ‏الهرب‏ ‏المتكرر‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏زال‏ ‏الاكتئاب‏.

 ‏ ‏كذلك‏ ‏الحال‏- ‏إلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ – ‏فيما‏ ‏يسمى ‏القلق‏ ‏الناجم‏ ‏عن‏ ‏فرط‏ ‏الوعى،

 ‏ ‏أما‏ ‏فى ‏حالات‏ ‏الذهان‏ ‏الأخرى ‏فإن‏ ‏‏مفهوم‏ ‏العلاج‏ ‏الكيميائى ‏المنشتر‏ ‏حديثا‏، ‏مهما‏ ‏قيل‏ ‏عن‏ ‏عقاقيره‏ ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏مخدرة‏، ‏فأغلبها لحد ‏كذلك‏ ‏بدرجة‏ ‏أو‏ ‏بأخرى، ‏بمعنى ‏أنها‏ ‏مغيرات‏ ‏صناعية‏ ‏للوعى. ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏العقاقير‏ (‏الطبية‏!!!) ‏وبين‏ ‏المخدرات‏ ‏هى ‏أن‏ ‏المخدرات‏، ‏تغيم‏ ‏أو‏ ‏تعتم‏ ‏الوعى، ‏أما‏ ‏العقاقير‏ ‏الأخرى ‏فإنها‏ ‏تضيق‏ ‏أو تقلص‏ ‏الوعى، ‏فالأمر يكاد يكون‏ ‏واحداً‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏الإدمان‏، ‏فبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هم‏ ‏الطب‏ ‏هو‏ ‏توجيه‏ ‏الوعى، ‏أو تثوير‏ ‏الوعى، ‏أو‏ ‏السعى إلى تكامل‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى ‏مع‏ ‏الواقع‏ ‏والإبداع‏، ‏فإن‏ ‏هم‏ معظم ‏الأطباء‏ ‏انحسر‏ ‏فى ‏التهميد‏ ‏والتسكين‏ ‏والإطفاء‏.‏

 وأخيرا‏ ‏فإن‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏باضطراب‏ ‏الشخصية‏ ‏هو‏ ‏الأساس‏ ‏المرضى ‏الخطير‏ ‏للإدمان‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏الحالات‏. ‏علما‏ ‏بأن‏ ‏اضطراب‏ ‏الشخصية‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحوال‏ ‏لايعتبر‏ ‏مرضا‏ ‏مثل‏ ‏الاكتئاب‏ ‏أو‏ ‏القلق‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يعتبرسمة‏، ‏أو‏ ‏نمطا‏ ‏سلوكيا‏ ‏شاملا‏ ‏وممتدا‏، ‏مما‏ ‏يجعلنا‏ ‏أقل‏ ‏حماسا‏ ‏فى ‏اعتباره‏ ‏مرضا‏ ‏وراء‏ ‏الإدمان‏.‏

 س: لكن هل يعتبر الإدمان مرضا فى ذاته؟ أو نتيجة لمرض آخر؟

ج: لا أريد أن أقول أن هذه مسألة ثانوية، فسواء كان مرضا أو نتيجة لمرض، فنحن لا نريد أن نصور للناس وللمدمن وللأهل أن كلمة مرض يمكن أن تكون تبريرا لما حدث ويحدث،‏ ‏المريض‏ -حتى ‏المجنون‏، ‏فيما‏ ‏عدا‏ ‏الحالات‏ ‏العضوية‏ ‏القح‏- ‏هو مشارك‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ ‏فى ‏حدوث‏ ‏مرضه‏.‏

 ذلك‏ ‏أننى ‏أنتمى ‏لمدرسة‏ ‏تعتبر‏ ‏أغلب‏ ‏المرض‏ ‏النفسى، ‏بل‏ ‏والعقلى، ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الاختيار‏ ‏العميق‏، ‏فصاحبه‏ – ‏بشكل‏ ‏ما‏ – ‏مسئول‏ ‏عن‏ ‏إحداثه‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏النهاية، ‏ليس‏ ‏معنى ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏يتصنع‏، ‏ولكنه‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الانتقاء‏ ‏الوجودى الأعمى ‏تحت‏ ‏ظروف‏ ‏أتاحته‏ ‏وسمحت‏ ‏به‏ ‏وهيأت‏ ‏له‏، ‏وبالتالى ‏فإن‏ ‏ما بنى ‏على ‏اختيار‏ ‏فهو‏ ‏اختيار‏، ‏فالمريض‏ ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏تصله‏ ‏رسالة‏ ‏العلاج‏ ‏يصبح‏ ‏مسئولا‏ ‏عن‏ ‏مصيره‏ ‏مع‏ ‏الطبيب‏، ‏والمدمن‏ – ‏من‏ ‏باب‏ ‏أولى – ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏كذلك‏ ‏حتى ‏لو كان‏ ‏إدمانه‏ ‏ناتجا‏ ‏عن‏ ‏مرض آخر،‏ ‏كل‏ ‏الحكاية‏ ‏أن‏ ‏المسئولية‏ ‏ستتوزع‏ ‏على ‏مرحلتين‏.

س: ‏ما‏ ‏تأثير‏ ‏تفشى ظاهرة الإدمان على المجتمع؟

ج:‏ ‏إن‏ ‏المسألة‏ ‏لا‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏الشرح‏ ‏والإيضاح‏، إذا اختل تماسك المجتمع تحت أى تخريب للوعى، بما فى ذلك الإدمان الكيميائى، ف‏هو‏ ‏مجتمع‏ ‏بلا‏ ‏كيان‏، ‏وبلا‏ ‏إنتاج‏، ‏وبلا‏ ‏إبداع‏،‏ ‏بل‏ ‏إننى ‏أرى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ لو تمادت أكثر فأكثر ‏قد‏ ‏تصبح‏ ‏علامة‏ ‏من‏ ‏علامات‏ ‏التهديد‏ ‏بانقراض‏ ‏الجنس‏ ‏البشرى ‏الذى ‏أصبح‏ ‏الآن‏ ‏تحت‏ ‏رحمة‏ ‏إغارتين‏ ‏غير‏ ‏مسبوقتين‏ ‏تاريخا‏: ‏

 الأولى: ‏تلوث‏ ‏البيئة‏ ‏بالرذاذ‏، ‏وفضلات‏ ‏البلاستييك‏ ‏والإشعاع الذرى ‏والكيميائى، والمافيا، وإجرام الحكومات والشركات الداعمة لها …‏إلخ‏، ‏

 والثانى‏: ‏تلوث‏ ‏الوعى: ‏بالمخدرات‏، ‏والإفراط‏ ‏فى ‏العقاقيرالنفسية‏.‏

وكأننا نتنافس فى القضاء على الجنس البشرى

ومع ذلك لا أريد أن أبدو من فرط تحذيرى هذا متشائما أو يائسا، فهذه الكلمات ليست فى معجمى أصلاً، إننى أرى أنه بالرغم من كل ذلك فإن مواصلة النقد والمراجعة، فالثورة والتصحيح، فالإبداع والمثابرة “معا جدا” طول الوقت جدير بأن ينقذ الجنس البشرى من الانقراص.

أليس كذلك؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *