نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 13-8-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3999
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
(من الإبداع الخاص: “ملحمة الرحيل والعوْد”)
المقدمة:
لم يبق للإنتهاء من هذه الورطة الرائعة إلا خمسة فصول تنتهى بعد أسبوعين، فأتوقف عن الاعتذار المكرر تبريرا للاستمرار المحرج!
الفصل الحالى ينقلنا إلى جنوب سيناء وهو يجمع بين ممثلى الجيل الثانى وبعض أفراد الجيل الأول، وينقلنا نقلة تكاد تكون مستقلة عن ما سبق وما سيأتى،
ربنا يسهل؟ (1)
الحمد لله.
وهذا هو الفصل الثانى عشر
العصلة “دهب”
ـ1ـ
جميل لبس البدو على الصغيرات السمراوات، الفتاة الأولى حول التاسعة، والثانية كذلك، تشبهان بعضهما البعض، أختان؟ الله أعلم. وراءهما بمسافة متوسطة فتاة أصغر فى السادسة مثلا، تتقدم الأولى، أو لعلها الثانية، تعرض عليه أساور وعقودا من خرز، تمسك مجموعة بيدها وتشير إلى مجموعة أخرى فى كيس تدلى من كتفها. التقاطيع رائعة، لكن الصحة ليست صحة طفلية طازجة، الابتسامة وديعة وسلسة. تتكلم البنت (الأولى أو الثانية) بلغة لا يفهمها، لكنه سرعان ما ينتبه إلى أنها عبرية (فى الأغلب)، يستعبط ويرد عليها بالإنجليزية بأنه لا يريد الآن، فترد عليه بالإنجليزية: إنها سوف تعود مرة ثانية، لم يكن يتصور أنها ستفهم وترد.
كيف ينشأ الأطفال هنا؟ كيف يتكون وعيهم؟ لابد أن اختلاطهم بهذه الأجناس المتعددة، واستعمالهم هذه اللغات الكثيرة سوف يجعلهم أكثر سماحة، وأقل تعصبا، لابد أن يضع فى اعتبار مشروعه التربوى (فوِّت هذه) أن يزورالأطفال الذين سوف يعلمهم اللغات ليعيد تنظيم أدمغتهم، أن يزوروا هذه المناطق ليتعرى وعيهم أمام هذا التنوع البشرى الخلاق، استحضر جمهوره من كل أنحاء العالم ليعلن على الملأ أنه:
”إن من ينشأ، هنا لا يمكن أن ينشأ متعصبا”.
كان يخطب فى جمهوره كله؛ فابتسم الجميع، بعض الابتسامات فقط هى التى أمكنها أن تخفى ما وراءها من سخرية، ما علاقة هؤلاء الأطفال هنا بذويهم المشغولين عنهم طول الوقت، بهؤلاء الأغراب من كل فج عميق، هل هم أغراب حقا؟ المصريون هم الأغراب هنا يا رجل.
ماذا لو عملوا استفتاء هنا فى العصلة لتقرير مصيرها؟ هى ليست العصلة تماما، هم ينطقونها العسلة وليس العصلة، وسواء كانت العسلة أو العصلة، فلا بد أن تأخذ حذرك وأنت تركب فى صندوق العربة “الربع نقل”، وتقول له: “المصبط”، وإلا ذهب بك إلى قرية العصلة، التى ليست هى هذا المكان الجاهز لإعلان استقلاله، ليس فقط عن جمهورية مصر العربية، ولكن عن محافظة جنوب سيناء نفسها، وعن شرم الشيخ بالتحديد، وعن أمريكا بوجه خاص.
صاحب المكان الذى يجلس فيه يجدده بشكل مستفز، ربنا يستر، كلما رجع إلى “دهب” وضع يده على قلبه، خشية ألا يجد المكان، أى مكان، كما اعتاده، أحيانا يضبط نفسه وهو يدعو على أصحاب الكافتريات بالرزق المتوسط حتى لا يجددوا كافترياتهم جدا، فيشوهونها جدا، هو يفضل ألا يذهب إلى كافتريا صديقه الشاب أنور إبراهيم الطيب، على الرغم من أن أنور يحاسبه مثل الأغراب، الصداقة شئ، والحساب شئ، ثم إنه يصادق -أيضا- هؤلاء الشباب الذين يخدمونه فى هذا المطعم الطليانى، صاحب هذا المطعَـم على جبهته زبيبة الصلاة، وهو يكلم بناته بالإنجليزية أحيانا، بل كثيرا، زوجته نيوزيلندية وهو رجل طموح فى منتصف العمر، وربنا فاتحها عليه، ومتسامح، هكذا يبدو، متى وكيف عمل هذا الرجل كل هذه التوليفة؟
للمكان قوانينه الخاصة.
كان القادم هذه المرة صبيا حول الثامنة، عرض ـ أيضا ـ عقودا مجْدُولة باليد، وكذا حلقات مصنوعة محليا، يمكن أن تستخدم للمفاتيح، بدأ بالرطان بهذه اللغة التى هى عبرية فى الأغلب، فى “الـِّدش” يبدأ العد بالمحطات الإسرائيلية، وفى المصبط (العسلة) يبدأ التخاطب بالعبرية، ما الحكاية؟ الله يخرب بيوتهم، المهم لم يجد فى نفسه رغبة هذه المرة فى الاستعباط.
ـ صباح الخير يا حبيبى.
فهم الصبى دون دهشة.
ـ ماذا؟ أنت مصرى؟
تجنب أن يسأل الصبى بدوره: وأنت؟ لم يسأله وداعبه قائلا :
ـ كما ترى.
لم يواصل الصبى عرض أشيائه؛ إذ يبدو أن المصريين ليسوا من زبائنه الواعدين، أو على الأقل ليسوا من زبائنه المريحين، كرر الصبى السؤال فأكد له جلال أنه مصرى ابن مصرى. قبل أن ينصرف الصبى بنصف ابتسامة، ونصف استهانة، التفت إلى الزجاجة والكوب الموضوعين على المائدة، وقال دون اشمئزاز:
ـ فلم تشرب هذا؟
لا…، لم يتوقع جلال هذا السؤال بالذات، هكذا بالذات، هنا بالذات، من هذا الصبى بالذات، بعد كل هذه الخطبة العصماء التى خطبها لنفسه وفى جمهوره الخفى، كان يتصور أن الانفتاح والسماح اللذين يفرضهما الجو والتنوع فى هذا المكان سوف يجعل مثل هذه الأسئلة لا تـَرِدُ أصلا على وعى مثل هذا الصبى الذى نشأ هنا وسط ممثلى الدنيا الواسعة هكذا. مالذى جعل هذا الاعتراض الحـُكـْمى على هذا المشروب الشائع هنا كالماء يصدر من هذا الصبى؟ رد على تساؤل الصبى:
ـ وفيها ماذا؟
ـ ….، مسلم أنت، ولا كافر.
قبل أن يتمعن فى السؤال وجد أن الأسلم هو أن يختصر الطريق، أجاب الصبى بهدوء باسم حذر؛ ربما ليختبر الصبى ويستدرجه، وربما لينهى الموقف المحرج:
ـ كافر.
انصرف الصبى دون اعتراض أو امتعاض.
تذكر مرة أخرى ما خطر بباله حتى صدّقه حين رأى البدويات الصغيرات، وهن يتكلمن العبرية فالإنجليزية، فما لا يدرى من لغات، كان قد وصل إلى استنتاج خائب يقول: “إن من ينشأ هنا، لا يمكن أن ينشأ متعصبا”. جره هذا الصبى إلى الناحية الأخرى بتساؤله، من الذى علم هذا الطفل هذا التصنيف الحاسم: “مسلم – كافر” هكذا؟ أيهما يصدق؟ شطحه الأول، وهو يسقط آماله على الطفلات الثلاث أم موقف هذا الصبى هكذا؟ لكن موقف الصبى التالى لم يحمل اعتراضا على إجابته، هل يا ترى أهل المنطقة يشعرون أنهم ينتمون إلى الثقافة الأضعف، مثلما فعل اليهود الأقليات مع أطفالهم أربعين قرنا؛ حتى تجمعوا من جديد على حساب أصحاب الأرض، لا.. ليس الأمر كذلك، إذن ماذا؟
هو يضبط نفسه عادة متلبسا بمثل هذا التمادى فى اتجاهٍ ما، ثم يفاجأ بما ينبهه إلى غلوائه، وها هو صبى بدوى يقرصه من أذنه ويقول له: بطل تأويلا وتعميما، صحيح أن الصبى سأله هذا السؤال الذى لم يتوقعه، لكنه لم يعترض على زعم اعترافه أنه كافر، ربما كان مجرد سؤال، ثم ماذا يمكن أن يقصد هذا الصبى بالذات بكلمة “كافر”؟ هو مجرد تصنيف لا تكفير، إن وجه الصبى لم يرفض، ولم يغضب، ولم يـَـحـْـتـَـجّ لما سمع إجابته.
ودّ لو يلحق بالصبى ليسأله ماذا يعنى بالكلمة “كافر”! ؟
وماذاتعنى نفس الكلمة عنده هو؟ ياه !!!
عادت إحدى البنات الثلاث، ربما الوسطى، التى هى فى سن الأولى! عادت وهى مازالت تبتسم، وتعيد عرض مجموعة أخرى، وهى تكاد تجزم أنه لن يشترى منها شيئا، يلتقط هو خاطرها فيقرر أن يفسده بأن يشترى منها عقدا من الخرز الجميل المختلفة ألوانه، وجه الطفلة يؤكد له أنه لم يكن مخطئا فيما خطر بباله باكرا عن نفى التعصب، إنه يحضر إلى هذا المكان ـ وبرغم سؤال الصبى ـ ليتزود بجرعة من ترياق ضد التقوقع فالعزلة فإصدار الأحكام على الآخرين من بعيد.
بمجرد أن يحضر هنا يقفز إلى مقدمة جهاز إدراكه الجزء الخاص بالقدرة على “التمتع بالتنوع”، من أول تنوع الخرز حتى تنوع السمك المختلف ألوانه، حتى تنويعات الزلط، أشكالا وأحجاما، مارا بالأجناس واللغات واللهجات والملابس. هذا الجهاز الخاص بالتقاط كل تشكيلات التنوع معا، هو من أهم ما يجعله ينفتح على نفسه: فيقترب منه، نعم؟ ماذا فيها هذه؟ نعم.. هو يسبح الله حتى لو كان كافرا بلغة الصبى. إنه فى القاهرة قد وظـف الطبق التليفزيونى ليقوم له بهذه المهمة، وقد أداها الطبق بكفاية إلكترونية محدودة، هناك أمام التليفزيون لا يستطيع أن يأتى له الطبق بلغتين معا، ولا بجنسين معا، أما هنا فهو يجلس وسط هذا التنوع البشرى، ليتجدد بعد أن يكون قد مر بالتحضير التمهيدى وسط التنوع الطبيعى الممتد، طول الطريق، خلال ساعات طويلة، هو لا يكف عن تحدى أن يجد جبلا مثل الآخر، أو حجرا مثل الآخر، أو نخلة مثل الأخرى، هنا أيضا: لا توجد سمكة مثل الأخرى، ولا حصوة مثل الأخرى، بل ولا موجة مثل الأخرى، لم يتعجب كيف كان يحاول أن يرصد حتى اختلاف الموجات عن بعضها، كل موجة على حدة، ليست مثل الأخرى، يراهن.
اشترى العقد، ولم يساوم فى ثمنه، فانصرفت البنت وهى لاتكاد تصدق.
هؤلاء الإسرائيليون، إسرائيليو دهب، يقصد إسرائيليى العصلة، يعنى إسرائيليى المـَـصـْـبط، هل هم إسرائيليو إسرائيل؟ هو لايستطيع أن يكرههم، فهل استدرجوه ـ هكذا ـ إلى التطبيع؟ هل سمحوا لهم بالحضور هنا دون تأشيرات وبالمئات هكذا، أو بالألوف، ليمرروا التطبيع إلى وعى ناسنا دون أن ندرى؟
هؤلاء الناس الإسرائيليون عملوا عملة من أغرب ما يمكن، عملوا دولة مشكـَّـلة من كل جنس، ومن كل لون، ومن كل لغة ثم، قال ماذا؟ يجمعهم دين واحد، وهل يوجد دين واحد ـ أيا كان هذا الدين ـ يمكنه أن يجمع كل هذا الخليط؟ التناقض فى قيام هذه الدولة يزعجه جدا، هو لا يترك نفسه أبدا يستسلم لما يسمى التفكير التآمرى، هو يحترم جدا إنجازات أولاد الكلب هؤلاء، ديمقراطيتهم ليست ديمقراطية بصحيح ولو حتى كانت مقصورة عليهم، إنها تبهره من بعيد، ماشى، ربما؛ لأنه محروم جدا من مثل ذلك، هذا التنوع فى التكوين العرقى كان المفروض أن يجعلهم أقل تعصبا وأكثر إنسانية، فلماذا ظلوا أولاد كلب هكذا؟ لا يقصد هؤلاء الجلوس حوله، ولكن أولئك الذين يوقعون فى شرم الشيخ مذكرة المذكرة التى سوف يمكن أن تكون تمهيدا لمذكرة احتمال تطبيق مذكرة مزرعة الواى يا كلاب (لم تكن خريطة الطريق قد ظهرت بعد!). لا ليس هؤلاء هم أولئك، حتى لو كانوا يحملون ذات الجنسية، هو يجزم أنه سمع طقطقة عظام ذلك الرئيس الشيخ الكهل أثناء محاولة الضغط عليه لتوقيع الاتفاقية، لا بد أنه تم لى ذراعه حتى الكسر، وأنه لم يعد يحس بالألم؛ فوقع وشفته ترتعش، فسمع جلال الطرقعة، هل وقع أم امتنع فى آخر لحظة؟ امتنع، أو لعله عجز عن التوقيع بسبب ما كسر من عظامه. أحسن؟ لا أعرف .
لماذا نشأت إسرائيل أصلا، والعالم فى سبيله إلى توحد كما يقولون؟ كيف نصفق، أو يجعلونا نصفق للنظام العالمى الجديد الذى يزعم أنه يهدف إلى توحيد العالم، ثم يبنون دولة ناتئة ناشزة على أساس النظام العهدى الأسطورى القديم؟
نظر حوله وحاول أن يصنف وجوه الثلة الشقراء التى تتحوط مائدة أرضية مستديرة (طبلية) بالقرب منه، راح يسترق السمع لحواراتهم، ويحاول تصنيفهم. نادرا ما تجد إسرائيليين يتكلمون فيما بينهم بلغة وطنهم الأصلى الذى نزحوا منه، هم لا يتكلمون مع بعضهم إلا بالعبرية، المصريون لم تعد لهم لغة، كيف يتصور هو أن اللغة العربية هى بداية طريقنا نحونا ونحوه، فى الوقت الذى يجرى فيه كل هذا التنازل والتشويه بالجملة؟ العرب تنازلوا عن كل شئ حتى عن لغتهم العربية. طيب، نطالبهم بالرجوع إلى حدود 4 يونيو 67، هل نستطيع نحن- أيضا- أن نرجع إلى حدود 67 حتى فى اللغة، هل يمكن أن يبنى نظام أدمغة أطفال بتنمية لغتهم، فى حين أن أهلـهم قد تنازلوا عن لغتهم، هويتهم،… من أقصاها إلى أقصاها؟
المهم، وجد نفسه مرة أخرى يصنف الجميلات والتقاطيع بتصنيفات دينية عرقية: هذا جمال مسلم، تذكر بهية (دون الأستاذ غالى)، وهذا أنف يهودى، وهذا عود فارع ألمانى، وهذا دلال طليانى، وهذه فحولة نيجيرية، أى كلام….
خطر بباله أيضا أن يكون العالم ليس إلا إسرائيل الكبرى جدا، إسرائيل هى النموذج المصغر (الماكيت) الذى يجربونه ليطبقوه على المستوى الأوسع بطول الدنيا وعرضها، هذا تفسير أفضل، فيه إعلان خيبة، وتسليم نهائى بأن الانقراض حتمى لهذا الجنس الذى خاصم الطبيعة ثم خاصم نفسه. الغالب والمغلوب يـُـسـْهمان فى تسارع الكارثة بالتساوى، إسرائيل هى ”النظام العالمى المصغر”!!! تمثيلا “للنظام العالمى المنقرض”، توجها “للنظام العدمى المجيد”، إنذارا “بالانقراض البشرى الأكيد”.
= ”إذن ماذا يا أبا الجل؟”.
= ” الحكاية كبرت علىّ جدا”
= ”هارب طول الوقت”
= ”حقى”
= ”طيب بطل حكاية الانقراض هذه واعمل أبسط علاقة إن كنت شاطرا”
= ” وأترك الجنس البشرى لمن؟”
أين أنت يا محمود تشاركنى فى حل هذا الإشكال، و أنت يا فاتيما، ويا بسمة، لم يذكر لا ثريا، ولا ممدوح، ولا الرئيس حسنى مبارك، ولا جلالة الملك عبد الله الثانى، ولا جلالة سيدى محمد السادس، خلهم هؤلاء فى انشغالاتهم، خاف أن يذكر ”منال” خشية أن تأخذ المسألة جدا وتحضر.
حين يجد هو ومحمود وفاتيما وبسمة الإجابة الشافية سوف يبلغها لكل الملوك والرؤساء العرب، بل لكل ملوك ورؤساء العالم، لكن كيف يبلغها سوروس وهو لا يستدل على عنوانه. لا يمكن مقاضاة أحد عبر القارات حتى لو تسبب فى انقراض الجنس البشرى. لا مفر من إبلاغها للناس جميعا من وراء رؤسائهم.
= ”إبلاغ ماذا؟”
= ”لا أعرف”
= ”طيب”
لماذا يحضر كل هؤلاء الإسرائيليون برائحتهم هذه (ليس كلهم لهم ذات الرائحة)، وبخلقاتهم هذه؟ وبصنادلهم هذه؟ لماذا يحضرون سائحين فى دهب، مع أنهم يقولون إن إسرائيل أصبحت بنظافتها ورفاهيتها من أجمل وأنظف بلاد العالم؟!!.
ـ هنا أرخص مائة مرة.
هكذا رد “فرج” على تساؤله.
ـ يعنى يأتون ليوفروا؟
ـ طبعا، وهم يجدوننا ـ أيضا ـ أطيب، وهم يحبوننا، يستريحون لنا أكثر.
ـ ماذا تقول يا فرج؟ إيش عرفك؟ هل هؤلاء ناس يعرفون كيف يحبون من أصله؟ هؤلاء ناس أصحاب مصالح لا يهمهم إلا متعتهم.
ـ .. يأخذون مصلحتهم ومتعتهم، ونأخذ نحن حظنا و مصلحتنا، والذى يحب أكثر، ويصبر أكثر؛ يكسب أكثر.
ـ إنهم طردونا يا فرج، وما زالوا يطردوننا، يقتلون أطفالنا، يهدمون بيوتنا ونحن فيها، أنا لا ألومك يا فرج، قل ما شئت: أكل عيش مثلا، كل عيشا كما تشاء، حلال عليك وعليهم، ولكن هؤلاء اليهود شوهوا خلقة ربنا، وشوهوا اليهود أيضاً، وقبلاً.
ـ ما أنا عارف، ولكن ليس كلهم مثل بعضهم، أنا لى أصدقاء كثيرون منهم، أصدقاء فعلا، لا زبائن فحسب.
ـ والله العظيم عارف، ولكن..
ـ طبعا ولكن.. وستون لكن أيضا.
قال فرج هذا والتفت إلى صوت يناديه، كان قد أجـَّـر جزءا من مخيمه إلى مجموعة من الألمان جعلوه ناديا للغطس، وكان عليه أن يلبى طلباتهم بحفاوة خاصة.
حينما يحضر جلال إلى هنا يتغير وعيه دون استئذان، يحتد إدراكه، يستطيع أن يفرح بكل الناس، يفرح بكثرتهم، يتعمق تنوعهم، لكن لكل هذا آثاره الجانبية ومضاعفاته؛ فهو إذ يذوب هكذا فى إحاطة الطبيعة ومباشرتها، وفى أصناف البشر وأجناسهم، يشعر أن دوره الفردى فى تغيير أى شئ يتضاءل، يتضاءل حتى يكاد يمحى، فيضطر إلى أن يتنازل عن طموحاته الكوكبية، ويكاد ييأس من أى جهد فردى، أو حتى وطنى أو قومى.
يقول فرج إن هؤلاء الناس الإسرائيليين القادمين إلى دهب، هم ناس مثل حالاتنا، على قدر حالهم، جلال يعلم ذلك، ويعرف أنه لا يأتنس إلا بهذه الطبقة التى يمكن أن يتعرف على نبض الكون من خلال اقترابه من تنوعها، كل أهل الخمسة نجوم لهم دينهم النجمى المستقل. هم ينتمون إلى دين واحد يبدأ بالمائدة المفتوحة (الأوبن بوفيه) وينتهى فى صالات الملهى الليلى، أو حول مائدة الورق، مارين بحمامات الشمس لاكتساب اللون البرونزى، ولا مانع أن تجد عجوزا يستشفى أو طفلا يتأرجح هنا أو هناك، أما روّاد العصلة، فالتمدد على الأرض، والسروال القصير (أو الطويل) الممزق، أو المرقع، والعقال المفكوك، ورائحة العرق المختلط بالجنس بالمخدر، أو برائحة البحر المنعشة القادمة معهم من أعماق الغطس، عصلة حاجة ثانية، الأقلية المصرية لا تكثر فتغيــر طبيعة العصلة الكوكبية إلا فى الأعياد وإجازة نصف العام.
هو لا يدرى، ولا يريد أن يفكر، هو لم يحضر هنا ليفكر، ولكن ليرى، ليشاهد، لماذا هى: شهادة ألا إله إلا الله؟ لماذا لم يقولوا اعتقاد أنه لا إله إلا الله.
يبدو أن المطلوب هو أن نشهد ذلك لا أن نعتقده.
الشهادة غير الاعتقاد، غير التفكير، الشهادة شئ آخر. ما هو هذا الشئ الآخر؟
لم يعد يستطيع أن يؤجل، أصبحت هذه القضية أكثر إلحاحا منذ حكت له ثريا عن خبرة محمود فى البوسنة، كانت تتحدث مجازا، أو بالتقريب، لكنه أخذها واقعا جادا تماما، الشهور الأخيرة كانت تجرجره سرا إلى إعادة فتح ملفات هذه القضية التى أغلقوها دونه من زمان: أغلقها والده قبل أن يولد بالنفى والإنكار الذى ملأ بهما كراساته، تبين جلال من بعضها كيف أحاط أبوه نفسه بمظلة مصنوعة من رقائق غير قابلة للاختراق من أى جانب، هل يمكن أن يصنع الدرع الواقى من الإيمان من صفائح السموم المعقلنة؟ ماذا لو أنشأه والده هذا وليس عمه سليمان؟ كان سيصير إما نسخة منه، وإما قاتلا جماعاتيا أشد قسوة من كل من سمع عنهم. يا خبر! لا فرق. ربنا ستر. أحاطه عمه سليمان بعباءته الدافئة وترتيله المتسحب، فلان وعيه، وتفتحت مسامه دون أن يدرى تفتحت على ماذا ولا إلى أين؟!
لم يستطع التسليم، ولا هوعـَـدَل عن المحاولة.
التقطه المعقلنون الخائفون ليلقنوه الدرس بالمعكوس، ألقوا إليه بشباك الإنقاذ اللفظية الممنطقة، فحلت محل النبض الحى، لكن يبدو أن هذا النبض كان قد استقر فى أعماقه ولم يهمد، ثم إنه تصور أنه يمكن أن يتخلص من هذا وذاك مع ثلة الطلبة الذين سـُـمـُّوا بعد ذلك بالسبعينيين، نـَـحـُّوا كل ذلك جانبا ليهتموا بقضايا الوطن العاجلة، فارتاح، أو خيل إليه أنه ارتاح، ثم تبين الخدعة مثل أغلب الآخرين.
حين تراجع الجميع، صدقا أو استرزاقا، وجد نفسه عاريا من جديد، ثم ها هو يفاجأ بفتح الملف دون استئذان من كل ناحية : ابن استاذه الرائد التقدمى غالى جوهر ذهب يترهبن فى الصحراء الغربية، ومحمود شقيق زوجته راح يبحث عنه فى جرزة، وأهل أستاذه يستعيدونه تعصبا ووقاحة فى كندا، وواحدة ألمانية على غير الملة تزعم أنها لم تغير دينها، وتلبس الحجاب، جاءت تبحث عنه هنا فى مصر، وربما لاح لها وهى فى حضنه، وهو كذلك.
مات عبد المعطى، مات أو فعلها، ليس هذا هو المهم، هو اختفى والسلام.
ينشط العدم ينفخ فى وجوده ماء الحياة ليواصل التحدى.
ليس تحديا تماما، هو بحث شديد.
جلال لم ير أبوه. لعله مات، ليس يدرى. أما موت أمه أو عمه سليمان فقد بدا له أمرا طبيعيا سلسا، لم يمض بين موت أمه وعمه سليمان شهران، وكأنهما كانا متواعدين، افتقدهما لكنه لم يتعرف على الموت من خلال اختفائهما كما تعرف عليه من خلال موت عبدالمعطى الذى لم يره سوى ثلاث أو أربع مرات. لماذا؟ لا يعرف.
ما دام الموت هو اليقين فلا مفر من أن نعيش حتى يأتى اليقين.
= ” لا يا شيخ؟!”.
= ”ليس هكذا، ليس إلى هذه الدرجة تسخف أى قرار بهذه الصورة”
= ”تضييع وقت والمصحف”.
= ”إيش عرَّفك أنت بالمصحف ؟”
=”وإيش عرفك أنت؟”
=”عمى”
= ”جاءك عمى أسود أكثر مما أنت فيه”.
= ”أنا لا أوافق على موت عبد المعطى”.
= ” هل كنت تنتظر أن يأخذوا رأيك قبل أن يقبضوا روحه؟”
= ”ولا على قتل أطفال فلسطين أو أى بنى آدم؟”
= ”أصحابك لغوا حكم الإعدام”
= ”ربما اعتبروا الأحياء موتى، والقتل فى الميت حرام”
= ”شاطر”
= “غصبا عنك”.
ـ 2 ـ
منظر القوارب وألوان الشراعات الصغيرة ينتشر عبر الأفق فى تناثر غيرمنتظم، لكن يبدو أنه مقصود ليواصل إعادة تشكيل شفق بشرى متحرك. كيف تعزف موسيقى الكون لحنها الخاص بهذه التنويعات البشرية الحاذقة على اللحن الأساسى؟ رياضة هذه أم ماذا؟ هو لا يعرف لها اسما بالعربية، هو يتابع المنظر الحى المتحرك، وكأنه يتجول بينهم، ممتدا إلى خط التقاء السماء بالبحر، محوطا بالجبل من كل جانب.
يقول له صاحب فندق “نسمة سينا” إنه تعاقد مع بعض نوادى هذه الرياضة طول العام، وهم يحضرون بانتظام من ألمانيا وسويسرا ليمارسوا هذه الرياضة يومين أو ثلاثة، ونادرا أسبوعا، ويسافرون بعدها من فورهم.
هل تستأهل المسألة؟ هل هذه رياضة؟ لابد أنها تستأهل، لم يجرؤ أصلا أن يتخيل أنه يمكن أن يحاولها، فضلا عن احتمال أن يتقنها، وحين يتقمص من يمارسها يكاد يسقط وهو جالس على المقعد الذى تمدد عليه. قطعة خشب بيضاوية بلا حواجز، تنساب متوازنه بالملى، رشيقةً وجميلة، وشراع صغير ملون، لابد أنه متين جدا، يتأمل المحاولات الأولى للقفز فوق الخشبة القارب، وقوع متكرر لازم، ثم نجاح فى عدل الشراع بكلتا اليدين فى مواجهة الهواء؛ حتى يصبح الخشب والقماش والهواء والموج والجسد البشرى، والوعى جميعا، فى اتساق متناسب، اتساق يسمح بالحركة المنسابة المطرِّدة، فالانطلاق حتى الالتحام المتماوج مع كل “الماحول”، “المابعد”، “الما لاأدرى”. لغتنا، وربما اللغات الأخرى، ناقصة هذا التركيب النادر الاستعمال، “الما بعد”، هل هو “الغيب”.؟
= “نعم هو”.
= ”كنت أعرف أنك ستوافقنى”.
= ”أنت عفريت صغير”
= ”كبرت ياعمى، ودخت السبع دوخات”.
= ”ولا يهمك”.
= ”ربنا يخليك لى”.
= ”حاضر”.
= ”.يرحمك فيما بعد، لكن يخليك لى الآن”.
= ”ربنا يفتح عليك”.
هو يعيد النظر ـ كعادته كلما حضر هنا ـ فيما آل إليه حال حوارنا مع الطبيعة، إن أول تلوث لحق بالبيئة هو نحن حين انفصلنا عن الطبيعة، ثم أهملنا الحوار معها. السبيل الوحيد للاستمرار هو التصالح، التصالح ليس استسلاما، ولا هو انتصار، التصالح يبدأ بالعثور على النغمة الصحيحة ثم يتنامى بتصعيد اللحن المشترك، ولا يتم إلا بالتقاط طول موجة البث الكونى بالفيمتوركعة، أو المينى تسبيحة، و”الميكروسجدة”.
= عيب!.
= “ولاعيب ولا حاجة”.
= خلاص، ولا عيب ولا حاجة”.
هل هذه هى اللغة التى سيدرسها للأطفال الذين سوف يعدلون الكون”؟ لو سمعه أهلهم لأبلغوا مباحث أمن الدولة، عليك نور يا منال، هذا كلامك من البداية.
هؤلاء السابحون فى الهواء فوق الماء يحضرون من آخر الدنيا ليمضوا يومين أو بضعة أيام على هذا الشاطئ، يداعبهم الهواء المتماوج على سطح الموج المتهادى، فيمتزجون بهما بأن يشرعوا وعيهم فى حضن الكون، يمسك كل منهم بشراعه بحجم الشخص العادى أو أعلى قليلا ليصيرا واحدا قادرا على التصالح مع الطبيعة، ربما هم يعتذرون لها، يحتضن الواحد منهم قاربه ـ خشبتهـ، شراع قاربه، ليس قاربا لكنه الوصلة بين الجسد البشرى، والجسد الكونى، يحتضنه فى رفق حاذق، وهو يركب الموج الهادئ. يدفعه الهواء الحانى حتى لو اشتد، وهات يا انسياب، وهات يا رقص، وحين تشتد الريح، وتتسارع القوارب فى تناغم مع الموج والسحاب والبشر، فإنها تبدو تعيينا للحركة الثالثة من سيمفونية النبض الكونى، تتهادى فى تصعيد أكيد غير معلن.
يريد أن يوقف هذا الطوفان الذى لا يستطيع أن يلاحقه، كأنه يتكلم بلغة أخرى.
لماذا لم يعرف الطريق إلى الموسيقى الكلاسيكية طول عمره؟ لماذا لم يحاول أن يطرق بابها؟ لم يجتهد حتى يتعلم سماعها، ومع ذلك فهو يحذق الإنصات لموسيقى الكون كما هى هكذا هنا، وحيثما يذهب يحتضن البحر يلملمه حضن البحر، فيتفتح وعيه لصوت الكون كله دون تمييز.
هذا اللحن الطبيعى لا يمكن تصنيفه إلى كلاسيكى أو غير ذلك.
ود لو كان يقدر أن يشارك هؤلاء العازفين بالقوارب المشرعة (لا الشراعية) لحن الانسياب الممتد هذا، صلاة الغائب، صلاة القارب، لابد أن هذه العمرات السابحة فى الكون تكفر عن سيئات ذويهم الذين جعلوا الطبيعة عدوا مَرَّة، ومقلبا لقمامتهم الذرية والبلاستيكية والرذاذية مرات، لو أن هؤلاء الذين يصلون صلاة القارب هذه مدوا وعيهم فى تواضع وخشوع، إذن لرأوه رأى العين.
لم يعد يحتمل أن تمتد طبقات وعيه أكثر. هو يخشى ألا يتجمع ثانية.
يخشى أن يتمادى … يتلاشى.
ـ 3 ـ
قال أنور إبراهيم لجلال وقد طال انتظاره:
ـ أهلا، قلت أنهى بعض ما بيدى لأجلس معك أطول، ما هى أخبار مصر؟
ـ مصر أم القاهرة؟
ـ مصر أم القاهرة! ماذا جرى لك يا جلال، تتكلم مثل الخواجات، بعض اليهود الذين اعتادوا ألا يتجاوزوا هذه المنطقة يتصورون أن القاهرة قطر آخر، عندهم حق، هم يحتاجون لتأشيرة إذا أرادوا الذهاب إلى هناك، هل أصبحت مثلهم؟ أسألك عن أخبار مصر، شبرا، شبرا ـ مصر، المطرية، سوق السلاح، يعجبك هذا؟
ـ مصر، شبرا، المطرية، فم الخليج هى هى كما تركتها، “بحطة يدك!”، لا شئ يتغير، ولا أحد كذلك.
ـ تصور يا جلال، كلما جئت هنا وفرحت، واشتغلت، وكسبت، أتصور أننى فى الإجازة القادمة سوف أجد مصر مختلفة.
ـ يا أنور، اسمح لى، تسأل عن القاهرة، وشبرا مصر، والمطرية، ولا تسأل أبدا عن أختك منال؟ أعرف ردك، لكننى كنت معها قريبا، وهى -أيضا- لم تطلب منى أن أبلغك سلامها، يعجبك هذا؟
ـ كم مرة يا جلال فتحت هذا الموضوع ولم تجد جوابا لا عندى ولا عندها؟ أنا لن أجيب. لأننى لا أعرف إجابة، هذاهو كل ما فى الأمر.
ضحكا فى سماح متبادل.
العجيب أن جلالا منذ عرف كلا من أنور إبراهيم الطيب، ومنال إبراهيم الطيب، وهو يبحث عن وجه شبه فى الشكل أو فى الطباع أو فى الموقف بينهما، فلا يجد. هو لم يلح كثيرا فى معرفة أسباب طلاق أم منال قبل أن يتزوج والدها أم أنور، وإن كان قد استنتج رائحة شكوك وغيرة، وربما اتهام بالخيانة. كان ذلك فى بادئ الأمر لا يعنيه، ولا يجرؤ أن يسأل عنه. يسأل من؟ تدريجيا وجد نفسه يقارن بينهما بلا داع، راحت التساؤلات تعاوده: هل معقول ؟ لا بد أن منال بنت أمها أساسا، أو تماما؟
مرة سألها مباشرة:
ـ قولى لى يا منال، هل تشبهين أمك كثيرا؟
ـ أشبهها فى ماذا؟
ـ فى الشكل طبعا.
ـ يقولون هذا، لم تسأل؟
ـ أبدا.
لـِمَ يسأل؟ إنه فقط يتعجب من أن يجتمع أنور ومنال فى والد واحد، ثم إنه يكاد يذكر من بعيد بعض ما ورد عن والدهما هذا فى بعض كراسات أبيه، يبدو أن أباه غريب الأناضولى كان يشعر بمشاعر مختلطة نحو والدهما هذا، وصله أنه كان يحترمه، ويغضب منه، ويغار عليه، ويغار منه، ويثق فيه، ويرفض فكره، وينكر إيمانه، كيف بقى كل ذلك فى ذاكرة جلال، وهو لا يقرأ بعض تلك الكراسات إلا بالصدفة، بشكل غير منتظم؟ كانت الكراريس تقول إن إبراهيم الطيب هذا يزعم أنه نجح فى التصالح مع نفسه ، ومع ما بعده، وكلام من هذا، تيقن جلال أنه لو كان غريب أبوه نجح فى إلحاده كما يزعم، لما كان هناك مبرر لكل هذه المعارك على الورق، وربما فى الحياة.!!!هل يمكن أن يكون جلال قد ورث عن أبيه هذا الميل الدائب للبحث عنه، ذلك البحث الذى انتهى بأبيه إلى ما انتهى إليه؟ هل البشر قد ورثوا حب الاستطلاع هذا عن أبيهم آدم تحت تأثير أمهم حواء؟
سأل جلال أنور، وهو متردد:
ـ هل تحب اليهود؟
فوجئ أنور بالسؤال حتى كاد يعزف عن الرد، لا حرجا، بل تعجبا.
ـ أنا أحب الناس.
ـ واليهود؟
ـ أليسوا ناسا؟
ـ آه صحيح!!
لم يرتح جلال لا لسؤاله الذى اعتبره غير مناسب، ولا لإجابة أنور التى اعتبرها صدا أو هربا، كاد يسأله إن كان يحب الله أم لا؟ ووجد نفسه سوف يبدو أكثر سخفا، ربما يكون الحل هو أن نحب الله قبل أن نعرفه.
= “كيف”؟.
= ”استعباط”.
= ”لا تضحك على، أنت تتكلم جدا”.
= ”يئست من البحث عنه بآلة الفكر، قلت نجرب آلة أخرى”.
= ”الحب ليس له آلة”.
= ”أحيانا يكون الجنس خير تعبير عنه”.
= ”وأحيانا يكون أبشع تشويه له”.
= ”وما دخل ربنا فى ذلك”.
= ”وما ذا يخرجه من أى من ذلك”.
انتبه جلال إلى الصمت الذى ساد بينه وبين أنور، وتمنى ـ كالعادة ـ ألا يكون قد سمع حديثه الداخلى، لم يعلق أنور على سرحان جلال بسماح ، لكن جلال، استفزه فجأة سائلا:
ـ ومصر؟
جلس أنور بعد أن كان قد هـم بالقيام، وبدا أنه يضبط بالكاد غضبا مكتوما،
ـ جلال، ماذا جرى لك اليوم؟ كأنك لا تعرفنى إلا اليوم، هل قطعت كل هذه المسافة لتحقق معى؟ هل جندوك للبحث عن جواسيس رفضوا الإحالة إلى المعاش بعد السلام المزعوم؟
ـ تقول مزعوم؟
ـ مزعوم ونصف.
ـ إذن فهم لم يضحكوا عليك، ويوهموك بضرورة التطبيع.
يريد أنور أن يقفل هذا الحديث القاهرى من فوره، لكنه وجد نفسه يواصل:
ـ جلال: هذه اللغة، هذه الأبجدية، هى قاهرية، مثقفية، مكتبية، لغوافندية. أنا عرفتك سنوات، ولم أرك هكذا أبدا.
ـ هكذا ماذا؟
ـ لا أعرف.
ـ أنا أيضا لم أرنى هكذا أبدا، أشعر أننى أقرب كثيرا، أبسط كثيرا، حدث شئ ما حين فوجئت أننى بدأت العقد الخامس، حين تيقنت من عجزى عن عمل علاقة حميمة مستمرة. يبدو أن طلاقى كان من مقدمات هذا الذى حدث، منال أختك، أنت تعرف كم أحبها وأحترمها، ثم نمارس معا لعبة ممنوع الاقتراب، لا علاقة بدون لغة، ولغة البشر الكلامية، أصبحت عاجزة عن استيعاب وجودهم ووجدانهم، لهذا قررت أن أترك الصحافة لأتفرغ لتنقية اللغة بدءا…
قاطعه أنور:
ـ تنقية ماذا؟
ـ اللغة.
ابتسم أنور وكأنه يعتذر، إما عن عدم فهمه، وإما عن تهجمه غير الأنيق.
هو يحب جلالا، ويحترم صدقه، ويسعد بصحبته، هو قد حكى له أسباب تركه الجامعة، كما حكى له عن بعض جوانب سماح والده إبراهيم الطيب الذى لم يثر على هذا الذى فعله أنور، ولم يتمسك بضرورة الشهادة الجامعية، ولم يبالغ فى النصائح والتحذير، فماذا حدث؟ جلال هو جلال، لكن أمرا خطيرا يشغله لم يستطع أنور أن يتبينه، أهى ضائقة مالية؟ أهى وحدة متزايدة؟
قرر أنور فجأة أن يغادره متسامحا، عاذرا، صامتا، منتظرا.
قدر جلال ذلك وشكره دون أن ينبس بكلمة.
ـ4ـ
القمر ينساب فى أحضان الجبال المتقابلة، يمضى بضوئه من حضن إلى حضن، الضوء الفضى يغمر الوادى فى حركة مفعمة بحياء عذرى. عدد قليل من النخيل يقبع فى زاوية بعيدة؛ حيث اختار الماء أن يتجمع أحيانا، الذى لا يذكر اسمه وعليك أن تسير أكثر من خمسين خطوة قبل أن تتبين أنه نخيل مختلف أطواله، يقف منك كأنه يحرسك من ريح المدينة، أن تفسد ما أنت فيه، يخترق وعيك بما هو حتى يعفيك من جفاف ذاكرتك اللحوح، فإذا عدت إلى مكانك الأول حول النار عاد معك، فرحت تسمع حفيف سعفه، وكأنه يهمس لك، وما كان ذلك كذلك قبل ذلك.
كان فرج يفك لفة الورق المفضض المحيطة بالأسماك التى أحضرها معه طازجة، وكأنها مازالت حية. انتزع جلال نفسه فجأة مما كان حوله، ونظر إلى السماء، فانطلقت من كل خلية من خلاياه، بل من كل أنوية خلاياه، دعوات غامضة لم يصدق أنها صادرة منه، لكنه تيقن من الاستجابة؛ فسر سرورا شديدا.
يأتى صوت غامض، لا هو عواء، ولا هو نباح.
قال له أنور إبراهيم وهو يتحوط النار: إنه صوت ضبع، فالتفت جلال إلى فرج يستوثق، فلم يؤيد فرج، ولم ينكر، أما عم عليان فقد مال بأذنه نحو الخيمة المتهالكة، واطمأن إلى ثبات عنزاته فى أماكنها، ثم قال وهو ينظر إلى وجه القمر، وكان جلال قد عرف منذ لحظات أن عم عليان أعمى:
ـ لا تخشوا شيئا، فأنتم ضيوفى.
تساءل جلال: كيف يميز الضبع بين ضيوف عم عليان الضرير، وبين الغرباء الغرباء؟ تساءل جلال -أيضا- فيما يخصه، إن كان قد حصل من ريح عم عليان على ما يتعرف به الضبع عليه شخصيا. تكرر الصوت وكأنه يقترب، ولم تتحرك العنزات، نظر كمال نعمان إلى وجه عم عليان، فوجده يعكس ضوء القمر وقد غمرته ذات الطمأنينة، فاطمأن بدوره، وإن كان ذلك لم يمنعه من أن يتلفت أحيانا، فكثيرا.
اقترح كمال نعمان أن يضيئوا ضوء السيارة، أو يطلقوا بوقها عدة مرات حتى يخيفوا الضبع، فضحك فرج فى سره، وغمز لعربى مساعده الصبى الشاب من الفيوم، اختفى الصوت فجأة، فتوارى القمر خلف سحابة رقيقة لم تذكره بحجاب فاتيما. ما كل سحابة حجابا، وما كل حجاب حاجزا.
كان أنور إبراهيم قد عرف جلالا على كمال نعمان، “عمى كمال”..، هكذا كان أنور يناديه، كما عرفه ـ أيضا ـ على مختار لطفى، “عمى مختار” أيضا، كانا ينزلان معا فى الفندق المجاور لكافتريا أنور كلما جاءا إلى دهب، وهما من أصدقاء والده القدامى، وقد أحضرا توصية منه لأنور فى أول زيارة، ثم صارت معرفة مباشرة دون حاجة إلى وسيط برغم فارق السن. فرح جلال بهذه المعرفة التى أخذ نصيبه منها مؤخرا، كان يتشوق شوقا شديدا إلى أن يقابل شخصا آخر من أفراد هذه الثلة العجيبة التى جاء ذكرها فى كراسات أبيه.
على الرغم من أنهما كانا قد تجاوزا الستين ـ على الأقل ـ إلا أنهما كانا يحتفظان بالقدرة على عدم التكرار. كمال نعمان يقضى أغلب يومه فى الصيد، وهو يقبل، بل يرحب أحيانا أن يصاحب جلال فى طلعاته وسهراته فى الوديان فى سيارة فرج “الربع نقل”، أما مختار لطفى فهو يفضل أن يقوم برحلاته الخاصة من الوضع جالسا فى شرفة الفندق الصغير، على مقعد يحركه الشراب المتنوع الذى يتجول من خلاله ليل نهار، فى كل اتجاه يقرره، وإلى أية مسافة، حسب نسبة الكحول، ونوعه، وجرعته، وسرعة تناوله. الاثنان ـ كمال نعمان، ومختار لطفى ـ لا يغطسان. وعلى الرغم من حضورهما معا عادة، فهما ليسا صديقين.
هذا ما قرره جلال وكأنه يصدر حكما قاطعا بعد دراسة حيثيات سرية.
منذ متى كان جلال يعترف بأن ثمة علاقة ممكنة بين أى أحد، وأى أحد؟
”يارب منال لا تكون قد سمعتك”.
”طيب وثريا”.
”ثريا مالها”؟ “مالها ثريا”؟!.
ـ5ـ
فى الليلة السابقة كانت ذات المجموعة قد اتجهت شمالا فى اتجاه منطقة “الثقب الأزرق”، كان ذلك فى جوف الليل أيضا، والقمر أقل سطوعا، أخذت العربة تتأرجح على الأرض غير المستوية فى أناة اضطرارية، وحين اخترقت الفجوة بين الجبل وبين الصخرة العملاقة المستقلة، أحس جلال أنهم عادوا إلى رحم الطبيعة، وتصور أن عليه أن يتعلم النطق من جديد فور خروجه من هذا الرحم، أليس هذا هو مجموع مشروعه ومشروع محمود عبد السلام معا؟
فى طريق العودة، كان الفتى “عربى” ـ القادم من الفيوم منذ سنوات، والذى لم يتعد السابعة عشرة غالباً، والذى يحذق العبرية أيضا- كان عربى هذا يقبع فى الصندوق الخلفى للسيارة، هو مساعد فرج، حين لاح ضوء بعيد نسبيا عن الشاطئ، انحرفت العربة إليه بناء على تعليمات فرج.
مجموعة من السائحين ـ ألمان فى الأغلب ـ هكذا أفتى عربى فأكد فرج، يستعدون للغطس بعد منتصف الليل. فهم يرتدون كامل ملابس الغطس. لم يتبين جلال نوع الشراب الذى أمامهم واستبعد أن يكون كحوليات، ما فائدة أن يتعاطوا الكحول، وهم على وشك الغطس الذى لابد أن يفعل بالوعى الأفاعيل؟ قال ذلك جلال لنفسه؟، وكأنه يعرف ما الغطس.
كان أنور إبراهيم قد فشل فى أن يغريه بأن يجرب الغطس، ولو مرة واحدة، وكان يؤكد له أنه لو جربه فلن يسلوه أبدا.
سأل جلال “عربى” عن سبب تسمية هذا الموقع “الثقب الأزرق”، فأفتى عن النفق المرجانى الذى على عمق كم من الأمتار، والذى يمتد بطول كذا، وكيف أنه لا يسع إلا شخصا واحدا، وأن نهايته تبدو ثقبا أزرق لا يكاد يصل الغاطس إليه حتى يخرج منه إلى عرض الخليج، ثم هو لا يعود من ذات النفق المرجانى، بل من حوله، وأن عددا ليس قليلا من الغاطسين قد ذهب ولم يعد، ومع ذلك فلا أحد ممن جاء خصيصا ليغامر باختراقه، يتراجع عما جاء من أجله، ولا أحد منهم بعد ذلك يخاف من تكرار المحاولة.
حكى فرج عن ذلك الألمانى المفقود من أربع سنوات، وعن زوجته التى تحضر كل عام، وهى مصرة على أنها ستلقاه هنا ولا أحد يدرى أين، ولا كيف ستلقاه بعد هذه السنين؟!. حاول جلال أن يتقمص الغاطسين المحيطين بالمائدة، يتسامرون فى خفوت يتفق مع ما يصل الجميع من همس البحر الذى بدا حزينا هذه الليلة، لا بد أن المسألة ليست مجرد مشاهدة جمال الشعب المرجانية، أو تنويعات تشكيلات الأسماك البديعة الألوان، هذه الثلة سوف تقوم بالغطس فى جوف الليل، يستعين أفرادها بالبطاريات، فهل تكفى البطاريات للإحاطة بكل جمال هذه الطبيعة فى عمق الخليج؟ إذن ماذا؟
إيش عرفه هو؟
عندما شاهد رياضة القوارب الشراعية إياها، وصله لحن البشر يتلاشون فى نغم الطبيعة، فى حضن السماء، فوق سطح الموج المهد. لكن هؤلاء الغاطسين الذين يختفون عن ناظريه على بعد عشرات الأمتار، ولا يتركون له إلا خيالا عاجزا، ما دوافعهم؟ وما هى متعتهم؟ هل البحر هو الرحم. وهم يجددون ولادتهم بإرادتهم؟
هل يمكن أن يكون فعل الشهادة جاهزا حادا قادرا على اختراق حجب الغباء والعقل جميعا؟ هل هو يتجلى فى قاع القاع مثلما يتجلى فى عنان السماء؟ هل يمكن أن يكون التسبيح الجسدى لغة تنطلق بشفرتها الخاصة التى لا يمكن فك رموزها، إلا بعيدا عن سطح الأرض الذى امتلأ بالتلوث البشرى العابث؟
فكر أن يتعلم الغطس حين أمل أن يجد فى هذه الرحلة عبر نفق الشعب المرجانية، حتى الخروج من الثقب الأزرق، ما يؤكد له بعض فروضه.
تراجع بسرعة. من يضمن له أى شئ؟
ـ6ـ
أثناء العودة كانت المسافة قد اختزلت بين جميع أفراد المجموعة، وكان الصمت مناسبا ومساعدا على قفز الحواجز، لكن مزيدا من الاقتراب بدا مرعبا. الظلام، والصمت، والقمر، عـمـى عم عليان الكفيف الأكثر كشفا من أبصارهم الممسوحة، والضبع، والثقب الأزرق، ونفق الشعب المرجانية، ورحلات الذهاب والعودة.
إذن ماذا؟ ماذا “ماذا”؟ ماذا يقول كل هذا؟ وأين هذا كله منه إليه؟
ـ وإيش أدخل ربنا فى هذه الخبرات والمشاعر؟
قال ذلك أنور إبراهيم دون اعتراض، ودون تساؤل، لكن بدا وكأنه ينبه جلالا إلى ضرورة التخفيف من هذه الانشغالات الوسواسية التى لن توصل إلى شئ. هذا رأيه.
ردّ جلال على تساؤل أنور:
ـ وإيش أخرجه منها؟
صحيح، وإيش أخرجه منها؟
طيب: وما فائدة أن نلصق صفة دينية أو إيمانية أو إلهية بأى جمال، وأى إبداع وأية هارمونية؟
= وماذا فى هذا؟
= هذا “ماذا”؟
لم يكن حوارا بينه وبين أنور هذا الجزء الأخير.
كان بينه وبين نفسه كالعادة.
ـ7ـ
ـ عـرَّفه أنور ـ بغير قصد ـ على من أسماه صديقه سمحون ليفى، وكان جالسا معه يضحك من قلبه. هذه ضحكة ليست يهودية، ولا هى غربية، ولا هى من أوروبا الشرقية، هى ضحكة مصرية قديمة، فلا بد أنه يهودى من أصل مصرى.
ـ أبدا.
ـ من أين إذن؟
ـ من إسرائيل.
ـ أعرف، لكن أهلك، أصلك يعنى، أنت تجيد العربية أكثر منى.
أنا لا أتصور أن أى شخص يمكن أن يكون من إسرائيل، كل الناس عندكم ينتمون إلى موطنهم الأصلى، إسرائيل هذه موقع تجمع للانطلاق إلى الهلاك، لم يقل ذلك جلال، لكن سمحون هو الذى قال:
ـ أنا الذى أردت ذلك، أهلى خليط من الشرق والغرب. تصور يا جلال أننى لا أحب أن أتكلم عن أهلى، أنا هو الذى أمامك، فما لأهلى بهذا؟ ما لأهلك بما هو أنت الآن تحادثنى؟ هل أبوك يجلس معنا الآن؟
فوجئ جلال بالسؤال، إيش أدخل أباه بالذات الآن؟ لو حضر أبوه هذا الحوار؛ إذن لأغلق القديم والجديد. هو لا يستبعد أن أباه حاضر معه دون إذنه فى كثير من الأوقات، وأنه هو الذى يعوق سعيه المتصل هذا، بل إنه أحيانا يضبط نفسه وهو يكررأسطر أبيه أثناء الحوار دون أن يدرى، وحين يدرك ذلك بالمصادفة يصمت حتى البكم.
أزاح كل ذلك جانبا ومضى يكمل مع سمحون:
ـ اسمع يا سمحون، أحسن شئ أننى لا أعرفك، وقد لا ألقاك ثانية، فهل تسمح لى بالكلام فى موضوع يمكن أن تعتبره غريبا عن كل هذا؟
ـ أنا أعرف أنور صديقك، وأحضر هنا كثيرا، وقد نلتقى، بل ربما نلتقى دون أن نلتقى.
ـ نعم؟ نعم؟
ـ أقصد أنه ليس من الضرورى أن نلتقى وجها لوجه. لو أننا يشغلنا ما ينبغى أن يشغل الناس، فنحن نلتقى حتما.
سر جلال، وشك بذات القدر وأكثر، ثم عاد فخاف أن يكون سمحون على وشك أن يجره إلى انشغالات السلام ومزاعم التطبيع وضرورة التعاون لبناء شرق أوسط جديد وكلام من هذا، فقرر أن يكمل المغامرة، وكأنه طفل يلقى بحجر على باب مغلق، ثم يعدو بعيدا لاهثا، ضاحكا قبل أن يفتح أحدهم الباب.
ـ أنا مشغول يا سمحون بالبحث عن أصل المسألة كلها، وليس أصلك فقط.
ضبط نفسه وهو يبلع الكلام الآخر الذى كان يعدّه، وكأنه عدل فجأة عن إلقاء الحجر، إذ فتح الباب أهل البيت فى ذات اللحظة.
قال سمحون وهو يبتسم دون أية سخرية، ودون مزيد من الاستفسار:
ـ وأنا كذلك.
رضى جلال بالغموض، ونظر فى وجه سمحون وقال لنفسه: ولم لا؟ أليس هو خلقة ربنا أيضا؟ ألا تتحرك خلاياه فى ذات الاتجاه؟
قرر أن يقطع الحديث ليسمح لخياله بالشطح لما يتصور بما يريد.
قال له أنور بعد سفر سمحون ـ كان عليه أن يسافر فى ذات الليلة ـ أنه عـرفه به لأنه إنسان جيد، وأنه من الصعب عليه أن يعتبره منهم، ذلك أنهم ليسوا واحدا كما يعلم، وأن سمحون فكر أن يترك إسرائيل، ولكنه لا يعرف إلى أين يذهب، ولم يعـقب جلال، وإن كان قد أجاب نفسه “يذهب إلى حيث ذهب أهل الأرض الأصليين”، لكنه عاد فابتسم حين خطر بباله أن يعزم عليه بالهجرة إلى جـِـْرزة، مع محمود، لم يلاحظ أنور، وأكمل أن سمحون قد وجد أنه لو ترك إسرائيل فإنه يتخلى عن الناس لا عن بلده، فقرر أن يبقى يتحمل مسئولية هذه المصيبة من الداخل. سمحون لا يثق فى الديمقراطية الغربية ولا حتى فى حركة السلام الآن، (هذا ما أوجزه أنور بطريقته الخاصة) هو مشغول طول الوقت بأمر ما، لا يصرح به كثيرا، ولكنه يعتقد أنه لا مستقبل للبشرية إلا إذا..
ـ إلا إذا ماذا؟
قالها جلال بلهفة جعلت أنور يتردد، ويرد، ربما اختصارا، وربما تهربا، وربما جهلا حقيقيا.
ـ والله لا أعرف، لقد عرفتك به؛ لأنه ذكرنى بك من ناحية، وأيضا حتى تخفف من غلوائك ضد الجميع.
ـ لكنه ليس إسرائيليا، سمحون صديقك هذا ليس إسرائيليا؟
ـ كيف؟
ـ الإسرائيلى هو الوجه القبيح، أو الوجه الصريح، للمسخ الأمريكى القبيح، أما سمحون هذا فهو بنى آدم مثلنا.
قرر أنور ألا يسترسل فى الحوار، فهو لا يتحمل شطحات جلال مهما كان صديقه، وهو لا يفهمه فى كثير من الأحيان، لكنه انتبه فجأة لنقطة تحتاج إلى تعليق:
ـ ربما لهذا رفض سمحون أن يذهب إلى أمريكا بعد أن فاز بـ ”يانصيب” الجنسية.
ـ ألم أقل لك؟
ضحك أنور، ثم قهقهه ثم قال:
ـ ما رأيك يا جلال نعمل محمية بشرية نسميها “محمية عصلة” تسمح باللجوء السياسى لأمثالك وأمثال سمحون، ما رأيك؟
سكت جلال وكأنه يرفض… ثم قال وكأنه يكلم نفسه، بل إنه قالها همسا فعلا فلم يسمع أنور، قال: “اللجوء الدينى وأنت الصادق”، وحين استفسر أنور عن همهمته، قال جلال:
ـ لا تذكرنى بخيبة محمود المشد فى جرزة، حدثتك عنه، أليس كذلك؟
أطرق أنور، وانصرف إلى عمله، وهو يبدو راضيا،
لكنه لم يستطع أن يكف عن التفكير.
ـ 8ـ
ـ هل تعرف الأستاذ إبراهيم الطيب -حقيقة- يا أستاذ كمال؟ الأستاذ إبراهيم والد أنور؟ هل تعرفه يا أستاذ كمال؟
ـ أعرفه؟ من الذى أتى بى هنا لو لم أكن أعرفه؟ أعرفه وأعرف أباك يا جلال.
قال كمال نعمان ذلك وضحك عاليا، ثم عاليا جدا، وليس يدرى جلال لماذا تصور أن الأستاذ كمال أردف يلعن أباه بعد ذكره مباشرة.
ـ هل أطمع، يعنى إذا سمح وقتك، أطمع يعنى، أن تحكى لى….
قاطعه كمال نعمان:
ـ أحكى؟ أحكى ماذا؟ هذه أيام لا تـُـحكى، اذهب واسأل أباك وأراهن أنه سوف يقتلك إن جئت له بهذه السيرة.
ـ ألا تعلم يا أستاذ كمال أن أبى مات؟
ـ أعلم طبعا أنه.. أنه..، هل مات حقا؟
ـ يعنى فى عداد الأموات، اختفى دون كلمة أو إشارة، ثم إنى لم أره أصلا..
ـ أتصور شيئا من هذا، هذا هو بالضبط ما يمكن أن يأتى منه، لم أكن أعلم أنه تزوج أصلا، لم يكن يحكى عن نفسه أبدا، لم أتصور أنه يجرؤ أن يتزوج، حين حكى لى أنور أن له ابنا اسمه جلال- أنت- كدت لا أصدق. زرته مرة واحدة، كانت زيارة صعبة ومحرجة، ولكن ما لك أنت، آه، تذكرت، كان عنده يومها…، ولكن لا، لا أظن أن اسم والدتك هو صفية.
ـ لا ليس هذا اسمها، وإن كنت أعرف من والدتى أن واحدة اسمها صفية كانت تعرف والدى، وكانت أمى تدعو لهما كثيرا بالغفران والرحمة.
ـ إذن فأنت ابن والدتك؟
ـ طبعا، وهل يوجد واحد ليس ابن والدته.
ـ أقصد، ابن والدتك، ولست ابن صفية.
لم يرد جلال لأن كمال نعمان لم يكن يوجه سؤالا بقدر ما كان يفكر بصوت مسموع. شكره جلال مكررا وهو على يقين من أنه قد يحصل من كراسات والده أكثر مما يمكن أن يحصل عليه من الأستاذ كمال هذا، ثم إنه لا يريد أن يحصل على شئ، ماذا سوف يعمل بما يمكن أن يحصل عليه وهو يبغض أباه كل هذا البغض. هذا ما يعتقده.
التفت جلال فجأة إلى الأستاذ كمال بعد أن هما بالابتعاد،
ـ والأستاذ مختار لطفى؟
ـ ماله؟
كاد يقول، “ولا حاجة”، لكنه تراجع خشية أن يتصور الأستاذ كمال أنه يسخر.
ـ هل يمكن أن أجد عنده بعض الأجوبة؟
ـ أجوبة على ماذا يا جلال يا ابنى، ماذا يشغلك بالضبط؟
- يشغلنى ما ينبغى أن يشغل كل واحد.
ـ اسمع يا بنى، تذكرنى بأبيك، بل… بل..بإبراهيم الطيب والد أنور أيضا، اسمعنى جيدا، انتبه إلى ما أنت فيه. أنت فى ماذا، أم ماذا؟ تقول أنك لم تر أباك أصلا، أحسن. ولا نحن سمعنا عنك من أبيك أيام كنا…يعنى، ثم إنى لم أعرف حتى أن أباك،.،. يعنى…، كما قلت أنت، إلا منك الآن، ومع ذلك فأنت حر.
ـ طيب، والأستاذ مختار؟ قصدى..
ـ مختار!!؟؟
قالها كمال نعمان، وضحك عاليا، ولم يفهم جلال سببا لضحكه، شرح له كمال نعمان أن مختارا له ظروفه الخاصة، وأنه صحيح يأتى معه إلى هنا بحكم العادة، وعلى الرغم من أنه يلح على صحبته كلما حضر، إلا أنه يأتى هنا ومعه وعيه الخاص الممتلئ بالشراب والشطح، حتى أن كمالا حاول أن يثنيه مرة وهو يفهمه أنه إذا كانت المسألة هى شربا فى شرب، فليشرب فى حجرته فى القاهرة سوف يجد نفسه حيث شاء، وسيصل إلى حيث يريد، دون أن يتكبد مشقة السفر، لكن مختارا يصر على صحبته فى كل مرة، تقريبا فى كل مرة، وحين يحضر لا يترك الكرسى فى شرفة الفندق والكوب أمامه طول النهار وجزء من الليل.
- مختار يا جلال يا إبنى لا يصلح مصدرا للمعلومات التى تسأل عنها.
سكت كمال لحظة ثم أردف:
- ولعله لم يعد يصلح لشئ.
- لا يوجد إنسان لا يصلح لشئ، لو أنى استسلمت لمثل هذا ما رحت ولا جئت.
شرح له جلال بإيجاز الفصل الأخير فى قصته مع الصحافة، كما نفى مؤكدا أنه يريد أن يعمل تحقيقا صحفيا، هو لم يعد صحفيا، بل إنه أصبح يكره الصحافة والتحقيقات بالذات. اطمأن كمال نعمان إلى تأكيدات جلال.
لا يدرى جلال كيف صدقه الأستاذ كمال، واطمأن إليه لدرجة أنه صرح له أنه زار إسرائيل فعلا، وأن هذا لا يضيره، وأنه ليس تطبيعيا ولا هو ضد التطبيع؛ فهو فنان يبحث عن الجمال وعن الدهشة أينما كانا، وأنه مستعد أن يدفع بقية عمره فى مقابل بضع دقائق يمر خلالها بخبرة جديدة، ثم إن كمال نعمان ضحك حين انتبه ـ كما ذكر ـ إلى أن ما تبقى من عمره قد لا يكون إلا هذه الدقائق التى سوف يضحى بها فى سبيل المعرفة الجديدة، ثم ضحك من جديد.
حين وصل الأمر إلى هذه الدرجة من الثقة المتبادلة تجرأ جلال وسأله:
ـ وكيف وجدتَ إسرائيل؟
قهقه كمال فعلا وهو يرد:
ـ على ما يرام.
انتبه جلال إلى سخف سؤاله مما بدا فى الإجابة من فتور أو سخرية، أراد جلال أن يعتذر، لكنه وجد أنه بذلك سيؤكد سخفه، فمضى يقول:
ـ أتصور أنك يمكن أن تحكى لى ما يفيدنى أكثر من موسوعة المسيرى، تصور يا أستاذ كمال أن ما يهمنى فى حكاية إسرائيل هذه، ليس السياسة ولا التطبيع، ولا هذا الكلام.
تساءل كمال فى دهشة:
ـ إذن ماذا يهمك؟ تقول إنك كنت صحفيا أليس كذلك؟ ماذا يهمك؟ الجنس أم المخدرات؟
ضحك كمال ضحكة متوسطة فيها شئ من الاعتذار عن التسرع.
ـ يهمنى أن أعرف هل رب هؤلاء البضعة الملايين عبر العالم هو رب الدنيا كلها، أم هو رب خصوصى خاضع لألعابهم الاحتكارية، مثلما احتكروا البورصات ووسائل الإعلام؟ كيف استطاعوا بكل هذا العمى أن يصدقوا أنهم هم الوحيدون الذين على حق؟
ـ الله الله، تذكرنى بأبيك وعمك إبراهيم، يا ابنى أنت بصحة جيدة، فلا تشغل بالك بما ينشغل به المجانين، ثم من أين لى أن أجيبك على ذلك، من زيارة لهم كنت أستكشف فيها شوارعهم وطريقة حياتهم وفنهم وأى جديد غير ما نقرأ فى صحفنا الخطابية عنهم؟ من أين لى أن أدخل فى ضمائرهم لأعرف ربهم وعلاقته برب الناس؟
ـ ألم يخطر ببالك وأنت ترى كل التقدم هناك، كيف يتصورون أن دينهم هو الدين الصحيح الأوحد؟
ـ بصراحة لم أشغل بالى إن كان دينهم هو الأوحد أم الأقدم، ثم إن حكاية الأوحد هذه من تخصص العرب، نحن الذين عندنا الزعيم الأوحد، والحزب الأوحد، والرأى الأوحد، يا إبنى، يا إبنى كبـّـر عقلك، نحن لا نعرف عنهم إلا ما نشيع عنهم.
ـ وهم؟
ـ وهم ـ أيضا ـ مخدوعون، كثيرون منهم لا يعرفون ما الذى أتى بهم أو بأهلهم إلى هذه الورطة الغبية.
ـ إذن أنت تعتقد أنها ورطة غبية؟
ـ اسمح لى يا بنى، أنا طلقت هذا الكلام بالثلاثة، ومنذ فعلت ذلك عدت إلى ريشتى وصلصالى وأحجارى، عن إذنك، وربنا معك.
لم يثقل عليه جلال وأمسك نفسه بقوة حتى لا يسأله:” أىُّ ربنا”؟ أو أن يعـلن تساؤله: “تقصد ربنا، أم ربهم”؟
ـ 9 ـ
ليس مصادفة كل هذا، قد يضطر أن يرجع إلى كراسات أبيه على الرغم من أن هذا يزعجه ويفسد موازينه، لا لن يفعل، هو ليس ناقصا، هو عكس أبيه، لعله أقرب إلى أمه، بل إنه يكاد يكون أقرب إلى زوجها عم سليمان. ثم خطر بباله خاطر غريب، بل إنه سماه خاطرا حقيرا، هو خاطر وأمنية فى ذات الوقت: أن تكون أمه قد أنجبته من عمه سليمان حتى وهى زوجة أبيه، يا ساتر، هل وصل به قبح الخيال إلى تشويه شرف أمه وعمه هكذا، ولكن هل فى هذا تشويه؟ ربما كانت ليلة مع عمه سليمان دون ورقة هى زواج شرعى، أكثر شرعية من الورقة التى كتبها أبوه لأمه ثم مزقها. ثم إنه على يقين أنه لا أمه ولا عمه سليمان يستطيعان أن يخفيا شيئا عن الناس، ولا عن ربنا. أما هذه الورقة السرية التى ضحك بها أبوه على أمه فهى لا تساوى المداد الذى كتبت به.
كان يفكر، أو بصراحة يحاول أن يكف عن التفكير، فى هذه الأمور السخيفة التى لا تقدم ولا تؤخر، وهو فى طريقه إلى الفندق الذى يقيم به كمال نعمان ومختار لطفى.
ما زال يذكر ضحكة كمال نعمان، وهو يذكر مختار لطفى حتى شحذ اشتياقه لمعرفته أقرب حتى لو لم يكن عنده ما يقوله أصلا.
كانت الساعة تقترب من السابعة مساء وهو الميعاد الذى اقترحه كمال نعمان؛ ليجد مختارا حاضرا قبل أن يغرق فى “عالمه الآخر”.
سأل فى الفندق عن الأستاذ مختار وهو يعلم أن صديقه كمال نعمان لا يعود من الصيد إلا بعد ذلك. كان يفضل أن يختلى به.
ـ أنا جلال غريب الأناضولى.
ـ غريب ماذا؟
قالها مختار لطفى وهو يقهقه ويدعوه للجلوس. انتظر جلال بعد هذه القهقهة أن يذكره بوالده مثلا، أو أن يأتى بسيرته حتى، إلا أن الأستاذ مختارا لم يفعل ذلك، وبدأ فى الشراب بمجرد أن أحضره النادل، والغريب أنه لم يسأل جلالا ماذا يشرب، ولكنه صب له فى كوبه ما تيسر دون كلمة.
ـ وماذا تفعل هنا يا أستاذ جمال؟
ـ جلال يا عمى، جلال.
ـ أحسن، حكاية “جمال” هذه بائخة، الله لا يرحمه، أليس كذلك؟ كان جبانا كذابا.
لم يدافع جلال حتى لا يجد نفسه يجرجر فى مناقشات لم يعد لها لازمة ولا معنى.
ـ قلت لى ماذا تفعل؟
ـ لم أقل شيئا بعد.
ـ أحسن.
لم يكن ما شربه الأستاذ مختار يبرر هذا النوع من الحوار، كان يشرب ببطء شديد، رشفات لا تكاد تنقص من الكوب شيئا، لم يجد جلال عنده رغبة فى أى شئ، ولاخطر على باله أى سؤال مما كان يتصور أنه سيجد له جوابا أشفى مما وجد عند الأستاذ كمال نعمان، وكاد يستأذن للانصراف، ولكن فجأة وجد نفسه يقع فى المحظور كعادته هذه الأيام، وبعد أن اطمأن إلى أن الأستاذ كمال قد حدث الأستاذ مختارا عنه بما فيه الكفاية، وفى ذات الوقت أنه – الأستاذ مختارا ـ قد نسى أغلب ما قيل له عنه. توكل جلال وقال:
ـ أعرف أن حضرتك و الأستاذ كمال أعزبان.
ـ أعز…ماذا؟
ياخبر أسود، ألا يعرف اللفظ، أم أنه لم يسمع جيدا؟ أم أنه يسخر؟ ما هذا؟ من هذا؟
ـ أقصد لم تتزوجا.
ـ وأنت مالك يا بنى. عندك عروسة؟ وأنت، هل تزوجت؟
ـ نعم، وطلقت، لم نستمر سوى بضعة أشهر.
ـ رأيت كيف!.
قالها مختار وهو فى غاية الطمأنينة.
تساءل جلال هل هذه هى “النفس المطمئنة”؟ وهل خمر الجنة سوف تكون بذات جودة هذه الخمر التى تمنح هذا الرجل كل هذا القدر من الهدوء والسلام، وتجعله يقف هذا الموقف السهل الساخر؟ وهل هذا الموقف هو سهل ساخر؟ وهل “هذا” الذى يراه هو من أثر الخمر وهو لم يكد يشرب شيئا؟ فجأة، قرر جلال أن يستأذن.
أذن له مختار فى الحال، ولم يبد عليه أنه ارتاح للتخلص منه.
ـ 10 ـ
كانت هى التى دعته إلى حجرتها بعد أن تبادلا حوارا قصيرا على شاطئ ” نسمة سينا”; وتعجبت لإتقانه الألمانية بهذه الدرجة، هى سويسرية من القطاع الألمانى، ليس يدرى كيف تطور الأمر، ليس جنسا، وليس حبا، وليس كذبا، وليس أى شئ مما يعرفه من قبل. كان امتدادا لحوار بسيط رائق بدأ على الشاطئ ثم تمادى إلى كل المستويات، إلى كل الأعماق و كل الآفاق، موجتان التقيتا، فتلاشيتا فتبخرتا سحابا غير ملوث. لم تنشغل أى من السحابتين إلى أى سماء سيدفع الريح بها… أو على أى أرض سوف ينتشر رذاذها.
حيثما يسقط مطرهما غير الملوث فثم وجه الجمال المغيب عن وعى البشر بين ثنيات الكلام، وخلف أبواب العمى، ووراء زوايا الصفقات.
كان لابد أن تسافر هى قبل طلوع الشمس فى اليوم التالى.
وسافرت.
ـ 11 ـ
جلس جلال ينتظر حافلة العاشرة مساء الذاهبة إلى القاهرة لتصل فى السادسة صباحا. راح يتساءل:
هل يأتيه النوم على المقعد وهو مازال ممتلئا بها، بكلها، وكأنها لم تغادره؟
ورضى أن يقبل الاختبار.
لو أغفى ولو ثانية فهو لا يستأهل ماهو فيه.
حاول أن يتذكر اسمها، فانتبه إلى أنه لم يسأل عنه، ولا هى سألته عن اسمه.
****
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من ثلاثية “المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007، الطبعة الثانية 2017)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net .