“يوميا” الإنسان والتطور
3-3-2008
العدد: 185
فتح ملف الإدمان (2)
ظاهرة الإدمان: خلفيّة وتساؤلات!
احترت كيف أواصل تقديم ظاهرة الادمان فى هذه النشرة اليومية، نفس حيرتى وأنا أتساءل، ونحن فى الشهر السابع لصدور النشرة وهذا هو العدد 185، أتساءل عن هذه النشرة بعد هذه المدة: أهى للزائر/ القارئ العادى؟ أهى للأطباء والمعالجين؟ أهى للمثقفين وطالبى المعرفة الجادة؟ أهى للمرضى وأهلهم؟ وعادة لا أنتهى إلى الإجابة التى تسمح لى بالاستمرار، لكنها تستمر.
كتبت فى نشرات سابقة عن الإدمان: قدمت حالة (بعض حالة) (“أدمغة” المدمن ومستويات الوعى) كما مهدت لفتح الملف كاملا بأسئلة مباشرة أجبت عنها (س، جـ (1) عن الإدمان) ثم أكملتها أمس (الإدمان، ومنظومة القيم “س، جـ 2”)، كانت فى الأصل إجابات عن بعض أسئلة شباب الاعلام.
اليوم، وربما لأيام تالية متلاحقة سوف يكون الخطاب أكثر دعوة لإعادة النظر فى “معنى الإدمان ودلالاته”.
تعلمت وأتعلم من المدمنين مثلما تعلمت وأتعلم من المرضى.
وهل الادمان إلا مرض بشكل أو بآخر؟.
ألمحت كثيراً إلى ما أسميه ثقافة الإدمان “هنا والآن”، فى مصر أساسا، وافترضت أنها يمكن أن تهدينا إلى التعرف على بعض جوانب المرحلة التى يعيشها مجتمعنا هذه الأيام.
بعد فحص ودراسة حوالى مائة من حالات الإدمان دراسة مستعرضة وتاريخية، وبعد تتبع بعضها ممن فشل أو نجح فى العلاج تتبعا تفصيلا، وصلتنى رؤى مزعجة رائعة، تلزمنا بمراجعة كل أو أغلب، ما نعتقده عن هذه الظاهرة.
الإدمان “لغة” كاملة، وثقافة خاصة، نتعلم منها أكثر من اللغة الاغترابية الفاترة التى نستعملها نحن طول الليل والنهار بأقل قدر من التواصل، حاملة معان فاترة، أو بلا معنى أصلاً.
الإدمان ثورة مُجْهَضة (أيضا مثل المرض النفسى خاصة الذهان- الجنون).
الإدمان ثقافة خاصة، بداخلها ثقافات فرعية.
الادمان – فى عمقة- يعِّرينا، كما يفعل الجنون
نحن نأبى أن نرى أنفسنا من خلال تعرى المجنون، فنلصق عليه لافتات تشخيصية، ونبعده، ونخاف منه أو نشفق عليه، ثم نطفئ ناره ليصبح رمادا بدلا من أن نحتويها لتصبح طاقة لنا، وله.
نحن أيضا نأبى أن نرى أنفسنا من خلال محاولة فهم لغة الادمان ودلالاته، أو فهم رحلاته واقتحاماته، أو هربه ولذّاته، أو إبداعه وخيبته.
أى أسرة تفرز الإدمان؟
بدراسة الحالات السالفة الذكر لاحظنا أنه لا يوجد نموذج معين يمكن أن نصف به أسرة مَا يخرج منها بوجه خاص من نسميه: “المدمن” (أكرر: وسنعرض فى هذه النشرة تباعا عينات ومقتطفات دالة فى هذا الصدد)، تحيرنا كثيرا ونحن نعاين مدمنا خرج من أسرة “مثالية” بالمقاييس التقليدية، ومن أسرة مفككة “ضاربة، (استعارة من لغتهم) ومن أسرة متدينة، ومن أسرة منحلة، ومن أسرة ربها (قائدها: الوالد عادة) جاثم على نفَسَ أفرادها، ومن أسرة ربها (قائدها: الوالد عادة) غائب فى الخارج، أو حاضر غائب فى الداخل.
أيضا وصلتا معانٍ متعددة من ظاهرة الإدمان.
ماذا يريد المدمن أن يقول من خلال إدمانه؟
هذا الإدمان أى وظيفة يؤديها له؟
كسر الوحدة؟
تخفيف الحزن؟
تجاوز الشعور بالدونية؟
ما هو الإدمان؟
- نداءٌ يطلب الرؤية والاعتراف؟
- موت بديل؟
ماذا يقول المدمن بإدمانه؟
- أنا جدع؟
- أنا قادر؟
- أنا غير محتاج لكم؟
- أنا موجود بسمومى غصباً عنكم؟
- أنا لن أذل نفسى إلا للمخدر الذى هو طوع أمرى بقليل من النصب أو السرقة أو التحايل.
كل هذا نتمنى أن نعرض بعض جوانبه تباعاً من خلال مقتطفات من حالات حقيقية.
الإدمان إذن ليس كما يشاع عنه، لا من عامة الناس، ولا من المرضى ولا حتى من الأطباء والمعالجين.
الإدمان ليس ما يُعرض فى الدراما، أغلب الدراما.
الإدمان ليس هو ما يوجه إليه الخطاب الوعظى فى المساجد والكنائس بسطحية متمادية.
الإدمان لا يتجلى بعمق أعماقه من خلال الأبحاث الانتشاريةEpidemiological تلك الأبحاث التى تحاول تعداد نسبة المدمنين فى المجتمع بطرق مختلفة.
الإدمان لا تكفى الإحاطة به من خلال الأبحاث الإكلينيكية الوصفية، اللهم إلا فى حالات دالة جدا، ومع ذلك لا يمكن تعميم نتائجها.
لغة الإدمان مختلفة، وكل مدمن له رسالته الخاصة جدا التى يعرف بعضها دون باقيها، وهكذا الطبيب والمعالج أيضا، يعرف بعضها وتظل تتزايد معرفته بباقى جوانبها مع استبعاد أن يلم بها كلها كاملة أبدا.
وهل أحدكم، أحدنا، يلم برسالته، أية رسالة – سواء كان مدمنا أو غير مدمن، كاملة أبداً؟
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نتعرض هنا الآن من جديد لتقديم الظاهرة وبحثها وقد اعترفنا بكل هذه النقائص والمعوقات؟
ليس معنى أن ندرك الصعوبات، وأن نحترم تواضع النتائج، أن نكف عن تذليل هذه الصعوبات، أو نتوقف عن محاولة قراءة النتائج المرة تلو المرة، وإعادة تفسيرها وتأويلها معا بكل طرق البحث والتفكير المتاحة.
وأيضا من أهم المأمول هو أن نستخرج من نتائجنا المتواضعة ونحن نفحص ظاهرة بهذا التشعب، أن نستلهم فروضا جديدة، تولد بدورها فروضا أجدّ، وهكذا.
- المعرفة ليس لها نهاية.
- المهم ألا ندرس الظاهرة ونحن على مسافة منها (1).
- ألا ندرسها من أعلى، من فوق.
إذا كنا نريد أن نتعلم من الظاهرة، فلتكن مغامرتنا الحقيقية هى أن نعرف أنفسنا من خلالها، وأن نعرفهم مرورا بأنفسنا.
نفس المنهج هو متاح ونحن نتعامل مع المرضى النفسيين خاصة الذهانيين (المجانين).
وبعد
أكتفى بهذه المقدمة اليوم، وأنهيها بجزء من مقدمة أطروحة قديمة وهى المصدر الأساسى لما نقدمه الآن، قدمتها منذ أكثر من عشرين عاما، وحين راجعتها الآن، وجدت أنها تحتاج إلى تحديث مهم جدا.
وإليكم الجزء الأول منها، وكان عنوانها:
معانى الإدمان ودلالاته:
ظاهرة الإدمان تحتاج لأكثر من قراءة. وقراءة الظاهرة ليست بالضرورة مرادفة للبحث فيها بالمناهج العلمية التقليدية الشائعة، فالظواهر حقائق تاريخية قبل وبعد المنهج.
الممارس المتأنى، الذى يهتم بالمتابعة والمعنى، مثل اهتمامه بالرصد المستعرض. وتحديد نسب التواتر، قد يصل إلى حقائق وملاحظات، من خلال قراءة إكلينيكية مباشرة تكمل (ولكنها لا تغنى عن) الأرقام الكميّة المستعرضة.
قبل أن أتقدم بهذه الانطباعات الصادرة مباشرة من الممارسة الإكلينيكية، والخبرة الذاتية الملتحمه (من خلال المنهج الفينومينولوجى)، أتساءل: إن كانت الأبحاث المتعددة والجادة، الكّمية والوصفية، قد أعانت فى مقاومة الظاهرة، أو هدت المسئولين إلى طريق أفضل للحيلولة دون مزيد من انتشارها، أم لا؟
وكما أن البحث العلمى يحظى بالاحترام بمدى دقته، وأمانة أدائه، فإنه ينبغى أن يحظى بالاحترام أكثر وأبقى بمدى فاعليته وحقيقة جدواه. هذا ليس موقفا نفعيا مسطحا يُلزم البحث العلمى بخدمات سريعة، ولا هو عودة إلى إثارة قضية ما إذا كان العلم للعلم أم العلم للمجتمع، وإنما هو إعادة نظر فى أن من بعض وسائل التيقن من مصداقية الإجراء العلمى: هو أن نقيس مدى إمكانية إسهامه فى دفع المسيرة البشرية إلى ما يحقق طبيعتها، ولست أعنى بذلك تحقيق مطلب الرفاهية، أو القياس بمدى الإنجاز المدنى، وإنما أعنى القياس بمقاييس الصحة الإيجابية لمجاميع الناس، ودفع عجلة التطور البشرى.
كذلك الحال فى الإعلام (وأيضا الدراما): لاحظت أنه كلما زادت جرعتهما زادت الظاهرة حضورا.
ما هذا؟ لماذا؟
جاءتنى الإجابة عن هذا التساؤل المبدئى بأنه يحتمل أن تكون ثمة علاقة طردية بين هذا وذاك، علاقة طردية، ليست بالضرورة سببية. وأستطيع أن أصيغ ذلك على الوجه التالى:
تتزايد حركة الإعلام حول ظاهرة الإدمان، كما قد تتزايد الأبحاث، مع تزايد حجم الظاهرة ومدى انتشارها. وعلى ذلك فإنه قد يثبت أن البحث فى الإدمان، وكذلك الحماس للنهى عنه بالطرق السطحية السائدة، يزيدان مع زيادة كمية المتعاطى من المخدرات، وليس العكس، ويصعب الجزم – كما ذكرنا- على اتجاه السهم بين السبب والنتيجة.
التساؤلات حول هذه الملاحظة يمكن أن تعرض على الوجه التالى:
- هل تزيد هذه الأبحاث وتزيد حركة الإعلام لأن الظاهرة زادت واستشرت بما استدعى البحث فيها والحديث عنها بهذه الوفرة؟
- هل تزيد الأبحاث وحركة الإعلام زيادة موازية ليست لها علاقة مباشرة بزيادة انتشارالظاهرة، اللهم إلا باتخاذ الظاهرة كمثير- للبحث والحديث- مثله مثل غيره من المثيرات الجارية؟
- هل زيادة الأبحاث والإعلام تمثل سببا ضمنيا لزيادة الظاهرة، أى أن دورها سلبى، بمعنى أنها تزيد من انتشار الظاهرة بدلا من أن تحد منها، بعكس الشائع والمأمول؟
(وبعد مرة أخرى)
وغداً نقدم أهم الفروض التى استطعنا أن نستخلصها مؤقتا من الممارسة الإكلينيكية أساسا.
[1] – أشرفت لعدة سنوات فى أوائل التسعينات على البحث القومى للإدمان، وكان بحثا انتشاريا لمعرفة تواتر الإدمان فى 16 محافظة، وكنت رئيسا للجنة العلمية، وتوقفت (وربما توقف البحث) بعد سنوات لأسباب لا أريد أن أذكرها.