الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ‏ الكتاب الثالث: “عن الحرية والجنون والإبداع” (الحلقة الثالثة)

‏ الكتاب الثالث: “عن الحرية والجنون والإبداع” (الحلقة الثالثة)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت21-9-2019

السنة الثالثة عشرة

العدد:  4403

‏  الكتاب الثالث:

 “عن الحرية والجنون والإبداع” (1) (الحلقة الثالثة)

 …………

 …………

– ماهية‏ ‏الإرادة‏ ‏

على ‏غير‏ ‏ما‏ ‏يشاع‏ ‏فى ‏عابر‏ ‏القول‏ ‏ومتعجله‏، ‏يجدر‏ ‏التنويه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الحرية‏،  ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏ارتباطها‏ ‏الوثيق‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏إرادة‏، ‏وما‏ ‏هو‏ ‏اختيار‏ ‏واع‏ ‏بين‏ ‏بدائل‏ ‏متاحة‏، ‏فإنها‏ (‏الحرية‏) ‏ليست‏ ‏مرادفة‏ ‏تماما‏ ‏لا‏ ‏للإرادة‏ ‏ولا‏ ‏للاختيار‏ ‏الواعى، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الاختيار‏ ‏منها‏ ‏إلى ‏الإرادة‏.

نبدأ‏ ‏بالتذكرة بالقول‏:‏

 “‏إن‏ ‏الإرادة‏ ‏دائما‏ ‏نسبية‏، ‏وإن‏ ‏نموها‏ ‏مثل‏ ‏سائر‏ ‏الوظائف‏ ‏النفسية‏، ‏يتناسب‏ ‏تناسبا‏ ‏طرديا‏ ‏مع‏ ‏مسيرة‏ ‏التكامل‏، ‏أى ‏مع‏ ‏المساحة‏ ‏من‏ ‏النفس‏ ‏التى ‏تعمل‏ “معا”، ‏أى ‏مع‏ ‏مدى ‏الترابط‏ ‏وعمق‏ ‏الولاف‏ ‏المتصاعد‏، ‏ومستواه”.

‏ من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نراجع‏ ‏المزاعم‏ ‏التى ‏تشير‏ ‏إلى ‏واحدية‏ ‏الإرادة‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏و‏‏إلى ‏اختزالها‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يخص‏ ‏الوعى ‏الظاهر‏ ‏أو‏ ‏القرار‏ ‏السلوكى ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أخرى. إن‏ ‏هذه‏ ‏المراجعة‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تنفى ‏التداخل‏ (‏لا‏ ‏الترادف‏) ‏مع‏ ‏الاختيار‏ ‏الواعى، ‏والقرار‏ ‏المعلن‏. ‏

‏  ‏الإرادة‏ ‏و”‏الآخر” (‏الموضوع‏) ‏

لا‏ ‏توجد‏ ‏إرادة‏ ‏بالمعنى ‏الحقيقى ‏إلا‏ ‏فى ‏حضور”‏آخر” ‏موضوعى ‏ماثل‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الوعى ‏الفردى (بمستوياته المتعددة). إن ‏‏الاختبار ‏الحقيقى ‏لفعل‏ ‏الإرادة‏ (‏الحرية‏) ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏فراغ‏.  يسرى هذا حتى على من يعلن حريته بانسحابه ‏ عن‏ “الموضوع” ‏(الآخر/الواقع) كلية‏، مثل الفصامى (السلبى) الذى يبدو وكأنه ‏قد‏ ‏تنازل‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏الأمر‏ ‏عن‏ ‏حقه‏ ‏فى ‏أن‏ ‏تقيـَّـم‏ ‏اختياراته‏ ‏بميزان‏ ‏حضور الآخر فى وعيه، إلا أن النظرة التالية تـُظهر كيف أن الآخـر (الواقعى) قد حضر عند الفصامى بشكل لم يقبله احتجاجا، فاحتد عليه انسحابا، وهذا نوع من “تأكيد الحضور بالغياب، فالتغييب”، بما لا ‏ ‏يتنافى ‏مع‏ ‏فرضنا‏ ‏الأساسى ‏الذى ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏المجنون (بدءا بالفصامى) قد ‏ ‏اختار‏ ‏أن‏ ‏يسلب‏ ‏نفسه‏ ‏حق‏ ‏الاختيار‏.

‏ ‏البارنوى (المجنون) ‏الذى ‏ألف‏ ‏لنفسه‏ ‏عالمه‏ ‏البديل‏ ‏عن‏ “الآخر” (الواقعى أيضا)، أو اختزل الآخر إلى مصدر تهديد أو وعيد، باعتباره خطرا‏ ‏على ‏تفرده‏، ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏يمارس‏ ‏إرادة‏ ‏جزئية ذاتية‏ ‏منغلقة‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏تجلت‏ ‏فى ‏أفعال‏ ‏توحى ‏باختيار‏ ‏حاسم‏ يؤكد استبدال الآخر بآخرين من صنعه، وهم عادة ملاحِقُون مطاردون له، معقبون على أفعاله، موجهون لسلوكه، برغم أنهم ليسوا إلا بعض  داخله. ‏

تتجلى ‏الإرادة‏ ‏الحقيقية‏ المرتبطة تمام الارتباط بحضور الآخر فى الخارج وفى الوعى‏ ‏فى ‏موقف‏ (‏مأزق‏) ‏الاكتئاب‏ ‏الأصلى (‏البيولوجى‏/‏المواجِهى‏)‏ (*)

(*) “الاكتئاب البيولوجى المواجهى” هو مصطلح صكه المؤلف من خلال فرض يحاول التحقق من صحته خلال  سنوات خبرته الإكلينيكية، وهو يعتبر هذا النوع الذى أسماه بالإنجليزية Biololgical Confronting Depression  وبالعربية المصرية الفصحى/العامية “الحزن الحقيقى””، وهو يختلف كل الاختلاف عن الاكتئاب بمعناه المرضى، وعن “الزهق” بالعامية، وعن الهم، وعن الغم، وعن الضيق، مما لا مجال لتفصيله. هذا الحزن الحقيقى– من خلال هذا الفرض – هو  جزء لا يتجزا من  مظاهر وضرورات العلاقة بالموضوع بالمعنى الذى شرحته مدرسة التحليل النفسى الإنجليزية (جانترب بوجه خاص) ، باعتبار أنه يعلن صعوبة العلاقة بموضوع (آخر) حقيقى مستقل لا مفر من صحبته برغم صعوبة استقباله بما هو. وسوف نتناول كل ذلك فى عمل مستقل نرجو ألا يطول انتظاره، هذا علما بأن إرهاصات هذا الفرض ظهرت فى فكر المؤلف من قديم.

‏ ‏حضور‏ “الآخر”‏ـ‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏والوعى ‏معا‏- بكل‏ ‏موضوعيته‏ ‏وتحدياته‏ ‏هو‏ ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏ظهور هذا النوع من‏ ‏الاكتئاب‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏: ‏المريض‏ ‏المكتئب‏  ‏يختار‏ ‏أن‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏علاقته‏ ‏بالآخر‏، ‏لا‏ ‏ينسحب‏ ‏من‏ ‏مواجهته‏، ‏ولا‏ ‏يلغيه‏، ‏ولا‏ ‏يستبدله، ‏ولكى ‏يحقق‏ ‏ذلك‏ ‏فإنه‏ ‏يختار‏ “المجال” ‏الذى ‏يحافظ‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الوعى ‏وهو‏ “واقعية‏ ‏العلاقة”، ‏وهو‏ ‏إذ‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏يجد‏ ‏أن‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يتحمل‏ ‏الوعى ‏بكلية‏ ‏الآخر‏ ‏وبمخاطر‏ ‏الاقتراب‏ ‏منه‏ مختلفا ‏ككل‏ ‏موضوعى، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ هو يفعل ذلك دون يقين باستمرار هذا الحضور، فيعايش ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏يهجره‏ ‏هذا‏ ‏الآخر‏ طول الوقت، ‏فيتولد هذا‏ ‏الاكتئاب الحيوى الذى يعلن حركية الإرادة بشكل عميق متجدد‏. الوعى ‏بالآخر‏ ‏ـ‏ ‏كموضوع‏ ‏حقيقى ‏ـ‏ ‏مع‏ ‏اختيار‏ ‏الاستمرار‏ ‏معه دون اختزال أو إجمال: ‏هذان هما‏ ‏العاملان‏ ‏الأساسيان‏ ‏اللذان‏ ‏يولّدان‏ هذا الحزن الأساسى (كما خلقنا به – “خلقة ربنا” حسب التعبير المستعمل لإثارته فى المقابلة الإكلينيكية) (*).

(*) فى تعاملنا مع هذا الحزن فى الموقف الإكلينيكى يطلب الطبيب (المعالج) من المريض أن يسمح لحزنه أن “يحضر”، دون الإسراع بربطه بسبب معين، وأن ذلك هو ضمن “حقه الطبيعى فى هذه المشاعر” الحزن، ويُستعمل تعبير “خلقة ربنا” هكذا ببساطة، وكثيرا ما يتم ذلك دون كلام بالألفاظ، بالصمت المتبادل، لفترة تطول أحيانا عشرات الدقائق، وبعد الاستغراب والمقاومة، يعيش المتقابلان (الطبيب والمريض)، ما يشعران به أن ثمة فطرة طبيعية (خلقة ربنا) تحضر فى شبكية العلاقة الحوارية دون ألفاظ يغلفها شعور عميق بالألم النفسى “البَنّاء” الصعب المثار عند الأثنين معا إعلانا لموضوعية المحاولة. نفس هذا الحزن هو الذى يتم تحريكه بشكل آخر فى سياق العلاج الجمعى، كعلامة على استعادة، أو بدء عمل علاقة بآخر حقيقى (مما سيفصل فى موضع آخر).

كلُّ من الوعى بالآخر مستقلا وموضوعيا، مع قرار الاستمرار فى مواجهته دون اختزاله أو الاكتفاء باستعماله، ‏هما‏ ‏العاملان‏ ‏الأساسيان‏ ‏اللذان‏ ‏يسعى إلى تحقيقهما ‏العلاج‏ ‏النفسى، ‏وخاصة‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏الجمعى، ‏وهو‏ ‏الذى ‏وصفته‏ ‏تحديدا‏ ‏بتعبير‏ “‏إحياء‏ ‏ديالكتك‏ ‏النمو (2) حيث‏ ‏يهدف‏ ‏هذا‏ ‏العلاج‏ ‏إلى ‏تنمية‏ ‏الوعى ‏ليس فقط بالآخر كموضوع شخصى، وإنما بالجانب‏ ‏الآخر‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏قضية‏، ‏ومن‏ ‏كل‏ ‏موضوع‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏الوعى ‏بـ‏ “‏كلية‏ ‏الآخر‏” ‏مع‏ ‏تحديات‏ ‏تحمل‏ ‏الغموض‏ ‏، ومن ثمَّ : تنشيط‏ ‏الجدل‏. ‏

‏ – ‏تشكيلات‏ ‏الحرية‏:‏

إذا‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏الحرية‏ ‏هى ‏مجرد‏ ‏الاختيار‏ ‏الواعى ‏فى ‏عالمنا‏ ‏الظاهـر‏، ‏ولم‏ ‏تكن‏ ‏مرادفة‏ ‏تماما‏ ‏للإرادة‏ ‏كما‏ ‏بيـَـنا‏، ‏فما‏ ‏هى ‏المقومات‏ ‏الحقيقية‏ ‏للحرية‏.

 أولا‏: ‏على ‏مسار‏ ‏التطور‏ ‏والنمو‏،

 ‏وثانيا‏:‏ كما‏ ‏نكتشفها‏ ‏فى ‏فعل‏ ‏الجنون‏،

 ‏وثالثا‏: ‏كما‏ ‏تحضر‏ ‏فى ‏فعل‏ ‏الإبداع‏، ‏وأحيانا: ‏فى ‏حالة‏ ‏العادية؟

نحن‏ ‏نواجه‏ ‏الحرية‏، ‏نعيشها‏، ‏نواكبها‏ ‏على ‏مستويات‏ ‏مختلفة‏ ‏وبمظاهر‏ ‏متعددة‏، ‏ليست‏ ‏متنافرة‏، ‏ولامستبعـِدة‏ ‏إحداها‏ ‏الأخرى، ‏ومن‏ ‏ذلك‏:‏

‏(1)‏ على ‏مسار‏ ‏النمو‏ ‏النوعى، ‏والنمو‏ ‏الفردى، ‏يحضرنا‏ ‏فعل‏ ‏الحرية‏ ‏كثيرا‏ ‏بأثر‏ ‏رجعى، ‏وذلك‏ ‏حين‏ ‏نعايش‏ ‏آثارها‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏التغيير‏ ‏النوعى ‏الذى ‏يشير‏ ‏بدوره‏ ‏إلى ‏طفرة‏ ‏الولاف‏ ‏الناتج‏ ‏عن‏ ‏التراكم‏ ‏المتضفر‏، ‏إذ‏ ‏هو‏ ‏تراكم‏ ‏يعلن‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏ولاف‏ ‏اختيارات‏ ‏متعاقبة‏ ‏لم‏ ‏تعلن‏ (‏وما‏ ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعلن‏) ‏فى ‏حينها‏. إن ‏هذا‏ ‏مرتبط‏ بأن‏ ‏الاختيار ‏الأهم‏ ‏هو‏ ‏اختيار‏ ‏المجال‏ ‏وفرص‏ ‏الحركة‏، ‏وكلاهما‏ ‏يسمح‏ ‏بناتج‏ ‏معـين‏ ‏يصبح‏ ‏وكأنه‏ ‏المَعْنِى ‏بالاختيار‏ ‏فى ‏النهاية‏، ‏إذن‏ ‏فالاختيار‏ ‏ليس‏ ‏فعلا‏ ‏بسيطا‏ ‏مرتبطا‏ ‏بتفضيل‏ ‏بديل‏ ‏بذاته‏ ‏بين‏ ‏البدائل‏ ‏المطروحة‏ ‏حالا، ولكنه فى عمقه ليس إلا: إعلان عن اختيارات سابقة تراكمت فأعلنت فى اختيار أخير ظهر على السطح‏.‏

‏(2) ‏إن‏ ‏ثمة‏ ‏حرية‏ ‏تـعلـَن‏ ‏إذ‏ ‏تواكب‏ ‏انبعاث‏ ‏الوعى ‏فى ‏مواجهة‏ ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏زحمة‏ ‏المعلومات‏ ‏فى ‏الداخل‏ (‏والخارج‏)، ‏ويتمثل‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏الإعلان‏ ‏المصاحب‏ ‏لأعراض‏ ‏مثل:‏ ‏خبرة‏ ‏تغير‏ ‏الذات‏ (‏لست‏ ‏أنا‏ ‏هو‏أنا)  ‏أو‏ ‏تغير‏ ‏الواقع‏ ‏من‏ ‏حوله (ليس العالم/الواقع/ الناس هم نفس ما كانوا، ليسو هم)، “‏تغير‏ ‏الناس‏، ‏ليسوا‏ ‏ناس‏ ‏الأمس‏”، ‏إن وعى  ‏الشخص‏ ‏بأنه‏ “‏ليس‏ ‏هو”‏ ‏أو‏ ‏أن‏ ‏الواقع‏ ‏قد‏ ‏تغير‏ ‏هو‏ ‏عرض‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏اكتشاف‏ ‏اختيار‏ ‏سـبـق‏ ‏تحديده‏، ‏هو‏ ‏اختيار‏ ‏السماح‏ ‏لحالة‏ ‏من‏ ‏ذواته‏ ‏الأخرى ‏أن‏ ‏تشارك‏ ‏فى ‏وساد‏ ‏الوعى ‏الظاهرى، ‏أن تشارك فى عملية الإدراك الواعى، ثم‏ ‏جاء‏ ‏هذا‏ ‏العرض‏ ‏ليعلن‏ ‏تحقق‏ ‏هذا‏ ‏الاختيار، ولو جزئيا‏‏.‏

‏(3) ‏ثمة‏ ‏حرية‏ ‏تُــفَـعْــلـَنُ‏ ‏فى ‏فعل‏ ‏حاضر‏ ‏مسئول‏ ‏مخترِق‏ يغير الواقع الفعلى إلى أحسن، عادة بواسطة اختيار تمارسه جماعة مسئولة، وهذا ما يطلق عليه أحيانا صفة ما هو ‏”‏ثورى‏”، ‏باعتباره الناتج الإيجابى لوعى جماعى مغامر يتبنى تنفيذ طفرة نوعية محددة.

‏(4) ‏المجنون، كما ذكرنا، مثله مثل الثائر والمبدع،  ‏يمارس‏ ‏حرية‏ ‏حقيقية‏، لكنها ‏حرية‏ ‏خاصة‏ ‏تماما سبق أن تناولناها تفصيلا حتى نهاية تنازله عنها بها، ونضيف هنا أنه أيضا‏ ‏يتغير‏ ‏تغيرا‏ ‏كيفيا‏ ‏نتيجة‏ ‏اختيارات‏ ‏سابقة‏ ‏ومتلاحقة‏، ‏ففى ‏البداية‏ ‏يحتد‏ ‏وعيه‏ ‏حتى ‏يرى ‏الداخل‏ ‏رؤية‏ ‏أكثر‏ ‏حدة‏ ‏ونشاطا‏، ‏فيواجه‏ ‏الخارج‏ ‏بعديد‏ ‏من‏ ‏الأساليب‏ ‏حسب‏ ‏نوع‏ ‏الجنون‏، ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏الاقتحام‏، ‏والإلغاء‏، ‏والإسقاط‏، ‏والمواجهة‏ (‏غيرالمسئولة‏‏)‏، ‏وهو‏ ‏يتصور‏ (‏بشكل‏ ‏غير‏ ‏واقعى) ‏قدرته‏ ‏على ‏اقتحام‏ ‏التناقضات‏ ‏وإعلانها‏، ‏بل‏ ‏وقبولها‏ ‏جزئيا‏ (‏رغم‏ ‏عجزه‏ ‏اللاحق‏)، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏يقذفها‏ ‏فى ‏وجه‏ ‏من‏ ‏ينكرها‏ (‏من‏ ‏السادة‏ ‏الأسوياء‏)، ‏وهو‏ ‏يخترق‏ ‏كل‏ ‏المألوف‏ ‏تحطيما‏، ‏ثم‏ ‏يتركه‏ ‏انسحابا‏ ‏باندفاعة‏ ‏منفردة‏ ‏وقادرة‏ ‏على ‏أن‏ ‏تبقيه‏ ‏وتحميه‏ ‏فى ‏موقفه‏/‏موقعه‏ ‏الجديد‏. ‏إن هذا‏ ‏الفشل‏ ‏الأخير‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يجهض‏ ‏حقه‏ ‏فى ‏احترام‏ ‏اختياره‏، ‏وهو‏ ‏أيضا‏ ‏ضمن‏ ‏صفقة‏ ‏حرية‏ ‏المجنون‏، ‏والذى ‏يتقبله‏ ‏المجنون ويمارسه ويدفع ثمنه ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏اختياره‏، وقد فصلنا الأمر فى البداية أكثر.

‏(5) ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏ميزنا‏ ‏بين‏ ‏أشكال‏ ‏الإرادة‏ ‏بما‏ ‏يتماس‏ ‏مع‏ ‏مفهوم‏ ‏الحرية‏ ‏فى ‏الفصل السابق فيما يتعلق بالمقارنة بين “حالات الوجود” المتناوبة: ‏ ‏وذلك‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏: ‏حالة‏ ‏العادية‏ ‏وحالة‏ ‏الجنون‏ ‏وحالة‏ ‏الإبداع‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى:

نؤكد هنا من جديد أن‏ ‏مفهوم‏” ‏العادية”‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏ليس‏ ‏مرادفا‏ ‏للصحة‏ ‏ولا‏ ‏للشخص‏ ‏العادى، ‏وإنما‏ ‏العادية هى ‏حالة‏ ‏متبادلة‏ ‏مع‏ ‏حالتىْ ‏الجنون‏ ‏والإبداع،‏ ‏وكذلك‏ ‏مفهومى ‏الجنون‏ ‏والإبداع، هما صفتان لحالتين لنفس الشخص (أى منا) لا لشخص دون آخر، ‏ ‏وكما أشرنا أيضا: يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏صحيحا‏ ‏بمرونة‏ ‏التراوح‏ ‏بين‏ ‏حالات‏ ‏وجوده‏ ‏مع‏ ‏إيجابية‏ ‏الناتج‏ ‏على ‏المدى ‏الأشمل‏.

‏بدءا من هذا الفرض السابق يمكن التمادى إلى فروض تكميلية تناسب موضوعنا الحالى، بمعنى أن نبحث كيف يختلف مفهوم الحرية فى كل من هذه الحالات (العادية، الجنون، الإبداع) باختلاف كل حالة. الفرض الحالى يطرح تصورا يقول إن للحرية ‏مستويات‏ ‏ ‏متصاعدة‏ ‏ومختلفة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الحالات‏ ‏الثلاث‏ ‏بشكل‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تفصيل‏ ‏يتناسب‏ ‏مع‏ ‏المداخلة‏ ‏الحالية‏ ‏للنظر‏ ‏فى ‏الإبداع‏ ‏من‏ ‏زاوية‏ ‏الحرية‏.‏

(ونكمل الأسبوع القادم)

[1] –  هذا هو الكتاب الثالث باسم “عن الحرية والجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986  ص(30/58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثالث من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”  الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى أربع كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثالث.

[2] – يحيى ‏الرخاوى: “‏مقدمة‏ ‏فى ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏الجمعى” ‏دار‏ ‏الغد‏ ‏للثقافة‏ ‏والنشر‏ 1987- القاهرة.‏

 

admin-ajax (4)admin-ajax (5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *