الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كتاب: “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” (الحلقة 2)

من كتاب: “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” (الحلقة 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد22-9-2019

السنة الثالثة عشرة

العدد:  4404

من كتاب: “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” (1) (الحلقة 2)

الفصل الثانى:

……..

……..

الأيديولوجيا والسياسة:

فى معظم الدول الغربية تكاد الممارسة الطبية أن تتجنب ذكر المذهب السياسى للمريض أو سؤال المريض عنه، بدرجة ليست أقل من التحفظ حول سؤاله عن دينه، والمبررات – على ما أعتقد –  واحدة، وهى تصور أننا بذلك نتجنب الاقتراب من منظومات ثابتة قد تصل إلى حد التقديس، وأن نقصر جهدنا على “بقية” المريض بعيدا عن تلك المنظومات ما أمكن ذلك.

فهل هذا ممكن؟

نعم، أحيانا!.. (أو نادرا)

العلم والأيديولوجيا:

أغلب ما يسمى النشاط السائد حاليا تحت اسم “العلم” يمكن أن يندرج تحت ما يسمى: أيديولوجيا منهجية، باسم “الموضوعية”، وذلك يتجلى فى حماس وشروط  المؤسسة العلمية الرسمية العاملة على إحكام  إغلاق المنهج، واحتكار طرق البحث، وهو نشاط يمكن أن يندرج بسهولة تحت مفهوم الأيديولوجيا كما قدمناه الآن، وبالتالى يصبح أبعد ما يكون عن الموضوعية التى يزعمون أنها من دعائمه الأساسية، الأرجح عندى أن الأيديولوجيا المالية (وهى ليست بالضرورة مرادفة للرأسمالية) تمارِسُ برْمَجَة العلماء، ثم الأطباء لصالح المال فى المقام الأول، وهى تسهم فى إحكام السيطرة ووأد الإبداع الذى يهددها أولا بأول، فيصبح بعض العلم بذلك ليس مرادفا للمعرفة ولا هو أحد تجلياتها، يصبح أيديولوجيا تبلغ أحيانا قوة أكبر من قوة الدين كأيديولوجيا، فى حين أنها قد تخدم أغراضا أكثر اغترابا، وأخطر تعجيلا بالإنقراض.

 لا ينبغى أن تـَـشجـُبَ هذه الحقائق فضل العلم والأبحاث العلمية، لكن لعلها تساعد على أن توضع نتائج العلم، وباستمرار، من جانب اصغر ممارس إلى أكبر عالم موضع الاختبار العملى، الذى يتجاوز الجداول المعاملة إحصائيا، والمعلومات المنشورة، وأرقام المعامل!!!

 إن الممارسة الكلينيكية الإبداعية، تحتاج أن نتخلص من الاختناق وراء أسوار الأيديولوجية العلمية (2) وأن تسمح بتقديم نتائجها لكل الممارسين، حتى يمكن انتقاء الأصلح من الحقائق النافعة والباقية من كوم الإضافات المحكومة بهذه الأيديولوجيا العـِلـْماَليـّة المغلقة، حتى أن هذه الأيديولوجيا اعتبرت “ضلالا” (3) حديثا عند البعض.

 هذه المهمة أولى بالقيام بها الفقراء أمثالنا الذين لا يمتلكون أدوات ولا إمكانات الأبحاث الباهظة التكلفة، فى حين أنهم قد يتمتعون بفرص أكثر رحابة فى التفكير والإبداع، ويمارسون علاقات أكثر حميمية ومرونة وإبداعاً مع مرضاهم ويصلون إلى نتائج عملية (إمبريقية) ليست أقل نفعا من نتائج المعامل المقدسة.

اللغة والأيديولوجيا:

كل لغة تحدد نوع التواصل بين من يستعملها، كما تؤثر بدرجة ما  على الوجدان والمعتقدات التى تمثلها أية أيديولوجيا، حين استعملتُ لفظ الوجدان لأصف به بعدا من الأبعاد التشخيصية لم أجد لفظا بالإنجليزية يقابل استعمالى الخاص للفظ الوجدان (أنظر بعد) لذلك استعملته بحروف لاتينية مع شرح المعنى الذى أريده، WIJDAN، (4)

كذلك أنا أمارس تحريك ما هو “حزن” فى الممارسة الكلينيكية، حتى فى المقابلة الأولى مع المريض، وأحاول أن أقارنه بما هو “الزهق”، أو “الهم”، أو “الغم”، أو “النكد” (5)  ، كما أننى من البداية أنبه مريضى أننى لا أسأل عن الحزن “على” أو الحزن “لأن..” (عشان) ويستجيب أغلب مرضاىَ لما أريد توصيله لهم عن “حقهم فى الحزن” كما خلقه الله، كما خلقنا الله ، لكننى حين حاولت أن أترجم هذا اللفظ  (الحزن)، إلى الانجليزية بمضمونه الخاص جدا فى لغتنا العامـّية ، والعربية، لم أعثر حتى الآن على كلمة بالانجليزية تنبض بما ينبض به لفظ “حزن” بالعربية، وطبعا رفضت أن أترجمه إلى “اكتئاب” لأنه أصبح لفظا يصف عرضا مرضيا ليس له نبض ألفاظ الأسى والمرارة عندنا (لا فى الفصحى ولا العامية).

إن اللغة (6) بقدر ما هى أداة للتواصل هى أيضا سور أيديولوجى محكم، يمكن أن تتشكل المشاعر داخله باختناق معطـِّــل لحركية النمو، كما أنها هى هى التى قد تتيح تحريكا مرنا لبسط مستويات الوعى لاحتواء الوجدان فعلا .

المال والأيديولوجيا:

 لم يعد المال هو الأداة التى ترمز إلى، أو تستعمل فى، تنظيم التعاملات، فحسب، ولا هو الوسيلة الأولى أو الأساسية لتحديد الطبقات بين البشر، ولكنه أصبح معتقدا راسخا يصبغ الحياة الإنسانية كلها بمنظومة فكرية سياسية سلوكية تخدم قيماً اغترابية مالية مطلقة معلنة أوخفية، بغض النظر، عن جدوى ذلك ونفعه فى معركة التطور والبقاء، وتعلن محاولات العولمة الأخيرة لتوحيد العملة، وعولمة الاقتصاد، واحتكار الإدارة المالية عالميا، تعلن كل ذلك، وقد تحول المال إلى إله، تماما مثل تحول العلم المؤسسى إلى دين سلطوى حديث، ثم منظومة ضلالية محكمة.

إن ما ذكرناه فى فقرة العلم والأيديولوجيا ، ينطبق بشكل مباشر على هذه الفقرة فى حدود ما يخص الطب النفسى بالذات، أما فى مجال الاقتصاد والسياسة والجارى فى العالم طولا وعرضا، وهو ما يقبع وراء الحروب المبيدة والاستباقية، والتطهير العرقى، والاستعمار الظاهر والخفى مرورا بالاستعمار الاستيطانى الماحى ، كل ذلك له علاقة بهذه الأيديولوجيا التى تهدد الجنس البشرى بالانقراض، إن ما يسمى “سياسة السوق”، بقدر ما يدور حولها من نقد ومراجعة هو بصورته الحالية المتمادية، يمثل كارثة بكل معنى الكلمة، وهى كارثة لها تأثيرها فى مجالات كثيرة، أخفاها مجالات العلم والعلماء والبحث العلمى والنشر العلمى، ومن ثم على ممارسة الطب، وعلى الهدف منها، ومحكات قياسها، ومآل المرضى، بل هى مسئولة عن ما آل إليه الطب عامة والطب النفسى خاصة من سلبيات معاصرة، لقد أثـَّـرَت هذه الايديولوجيا حتى على توجه تجديد تشخيصات لأمراض معينة، ووضع مواثيق بذاتها للممارسة الطبية، مما ترتب عليه، وسوف يترتب عليه أخطر الآثار على الإبداع فى مجال الطب النفسى كمثال، وفى الأغلب على الحياة المعاصرة عامة.

إن هذه الأيديولوجيا المرتبطة بالمال الأعمى، والعلم المغلق، والمنهج الكمّى المقارن معا: هى ما يصبغ معظم ممارساتنا الطبية النفسية بشكل أو بآخر، وبالتالى هى التى تتحكم فى مدى انتشار كثير من النظريات شبه العلمية دون غيرها.

والأحد القادم نقدم:

– الأيديولوجيا والوعى:

– الأيديولوجيا والمدارس النفسية     

– الأيديولوجيا والأسطورة الذاتية

[1] –  يحيى الرخاوى: “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

[2] – اعتبرت الأيديولوجيا العلمية “ضلالا” عند البعض مثل روبرت شيلدراك

The Science Delusion Freeing the Spirit of Enquiry, Rupert Sheldrake, First published in Great Britain in 2012 by Coronet, An imprint of Hodder & Stoughton, An Hachette UK company.

وقد نشر الكتاب بعنوان آخر فى أمريكا هو  “العلم يتحرر”    “Science Set Free”  4 September 2012  

[3]- لا يوجد خطأ مطبعى.

[4] – يحيى الرخاوى. (1990) آفاق وخداعات حول تصنيف وتسمية الأمراض النفسية. الجزء الأول: اختراق النظام التشخيصى السائد. المجلة العربية للطب النفسى 1: 81-92 (إفتتاحية).

– يحيى الرخاوى. (1990) “فى تصنيف الأمراض النفسية: “تعدد الأبعاد وجها لوجه أمام تعدد المحاور”. إفتتاحية  المجلة العربية للطب النفسى.

[5] – وبديهى أنه ليس “الدبرشـَنْ” ولا هبوط “المودْ”.

[6]- يمكنك الرجوع إلى مقال: “مخاطر الترجمة‏ ‏بين‏ ‏تسطيح‏ ‏الوعى ‏واختزال‏ ‏المعرفة” قضايا فكرية  الكتاب السابع  والثامن عشر – مايو  1997 فى موقعى  www.rakhawy.net، بل إلى أرجوزة كتبتها للأطفال أدافع عن “الحق فى الحزن” قلت فيها:

حزنى مش زن وشحاته وصُـعْـبَانِـيَّـهْ,.. حزنى حقى لمّا تغمرنى الأسيــّـة

حزنى بيفجــّر مشاعري: إللى هيـَّـا

هما شايفين أنى لازم أبقى دائم الابتسام!….، يبقى كده أنا فى السليم كله تمام

كل ما أضحك أبقى أشطر؟!!

طب وأنا بالشكل ده ازاى راح أكبر..؟؟

 

admin-ajax (4)admin-ajax (5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *