يوليو 1985 – القراءة

القراءة

– 1 –

 .. ونبدأ بـ محمد عبد المطلب فى الفراغ، فنجده – مباشرة – يعلن رعبه من الاغارة الانفتاحية(الساداتية) التى ستاكل أحلامه الخاصة، وبدا لنا رعبه هذا يحمل بعدين متداخلين، الأول هو أن هذا ” التطاول فى البنيان” : هو على حساب نور الحياة، وعلى حساب قطعة الأرض التى كان يتمناها بأمنية ” عميقة مستحيلة” ” أن أمتلك هذه القطعة لأقيم عليها بناء فسيحا وحديقة نموذجية “، وهنا يجدر بنا أن نشكره ونحن نحس بأمانته التى حالت دون تشويه أمنيته الحقيقية (الخاصة)…. بأدعاء أمنية عامة لحديقة عامة(!!) رغم أن الذين كانوا يلعبون فى الحديقة،”الأولاد”  (“أولاد الناس جميعا”… بعد فرار ولده من وجهه احتياطا واجبا) والحديقة النموذجية، ولم يبد أنه اهتم أصلا: أين سيلعب أولاد الناس، ولا نستبعد أن يخصص لهم ركنا فى حديقته النموذجية(!!)، المهم أنه كان فى ذلك – رغم ذلك – اديبا جيدا لأنه لم يدع خطابة اشتراكية، وفى نفس الوقت كشف عن عمق موقفه الرافض للبناء الشامخ المغير، الذى قد ينفع (وقد لا ينفع) مئات الناس، فى مقابل بناء خاص فسيح لفرد واحد قد ينفع (وقد لا ينفع) غيره من الناس، هنا يتخلى دون أن يدرى (وهذا من فضائل الابداع) عن موقف مقترض مسبق بفضل طلاقه ابداعه .

أما البعد الثانى لرعبه من الهجمة الانفتاحية الساداتية، فهو أعمق وأكثر جدلا( ومن ثم: ابداعا)، لأنه لا يخاف فيه من مجرد أن يحل المبنى محل الفراغ (الأرض الخالية)، وأنما هو يخاف فيه من ” نفسه” من استجابته لهذه الرفاهية لدرجة الحذر” واكتشفت” أن السعادة تسللت الى، فضحكت، ضحكت كثيرا، وشعرت أن سعادتى أكبر من أن أتحملها بمفردى ….. الخ” …. ولنفس هذا السبب، وهنا عمق الجانب الآخر: بكى، فجرى، اذن هنا لا يرفض ” هذا” الانفتاح من موقف خطابى ولصالح الناس كما يقول الخطباء عادة، ولكنه يرفضه أيضا، وربما أساسا، لأنه يخشى على استثارة الجانب فى داخله الذى يريده، فيستجيب له، فتنقل خطواته “.. ثقيلة مثل خطوات الدببة”، فيغرق فى لزوجة الاسترخاء، وقد ترك للقارئ أن يكمل بنفسه أى ثمن سوف يدفعه مقابل ذلك .

ومع هذا فقد انتهى الموقف نهاية تعلن – بشكل شبه مباشر – (لماذا؟) أنه كان مجرد حلم أو خيال، كماأن السطر الأخير بالذات لا يدل على ما اذا كان الفراغ قد حل محله بيته المجاور، فلم يعد له بيت(وهنا يكون الخيال مستمرا، والمحاولة أروع) – أم أنه هو هو الفراغ الأصلى الذى تصور – رعبا – أنه قد أقيم عليه هذا التحدى التحذيرى الساحر، ثم عاد(الفراغ) الى حالته الأولى بعد أن أفاق من حلمه/ خياله( وهنا يصح رفضنا للنهاية التفسيرية، غير المفتوحة….).

وقد عقب زميل لنا على هذه القصة بقوله…(خسارة أن يضيع كل هذا التداعى الشفاف على رمال لم تتحرك بنا)….. ويبدو لنا أن الرمال قد اهتزت من داخل، وأن ظل هيكلها الخارجى كما هو، بل أن الجهد الذى بذله الكاتب، كان فى اتجاه تثبيتها، لا السماح بتفجير الحركة الداخلية، وكان التثبيت بقصد ما أعلنه فى خطابه المرفق من شجب”الفترة الساداتية السرطانية” ويبدو أن هذا الالتزام المبدئى( وله كل الحق فيه،ولكن كمواطن أو ناخب أو كاتب مقال سياسى وليس كقاص مغامر) هو الذى ثبت كثبان الرمال على أنفاس نبضه الابداعى، الذى استطعنا أن نغوص الى بعضه بالرغم منه، ونعتقد أن المبدع بعد اعتقاده بماشاء، بحسب رؤيته، أو بحسب حاجته، أنما يمسك القلم – كمبدع – ليختبر هذا الاعتقاد، لا ليؤكده، والا فلماذا الابداع؟ وقد يؤكده بطريقة أخرى تعمق اعتقاده المبدئ  وتفجر مخاطر جديدة، مخاطر الاغارة على وعيه، على داخله، على أطفاله بالداخل والخارج، وقد ينفى الابداع معتقده حين يكتشف أنه كان أكثر أنانية من الانفتاحى بانى الأطباق الكثيرة حين ضبط نفسه متلسبا بالبديل” الملكى” الخاص جدا(مهما كانت الحديقة نموذجية) وقد يهز الابداع معتقده، مجرد هزة صادقة عنيفة، لا يؤكده، ولا ينفيه وهنا يترك لنفسه، ولقارئه، الطريق مفتوحا لتفجرات جديدة، لا هو يعلمها ولا نحن .

– 2 –

فاذا انتقلنا الى تلك الليلة الأخيرة من ألف ليلة وليلة، وجدنا محاولة أستلهام التراث قد سجنت الابداع ولم تساعده، سجنته فى الأسلوب، فأصبح القيد فكرة مسبقة تدمغ حاكما بذاته، أو عصرا بذاته، وأسلوبا قديما يحد من حركة الكاتب لأنه لم يستغل اللعب الخيالى[1] الذى يميز هذا العمل التراثى الخالد،(وواأسفا على وضعه فى قفص الاتهام!!) وفى حدود هذين القيدين جاء الرمز شديد التحديد، كما كانت المباشرة صارخة، حتى قال الأمير الفلهوى أنما كان يعنى” السادات” (أيضا) ولكن لعل جرعة الابداع المتواضعة قد اضطرته أن يجعل الرمز أكثر أحتواء، فلا يستبعد جمال عبد الناصر شخصيا، لمن شاء، فقد يكون الكاتب من الذين اعتبروا تصحيح مايو انقلابا نذلا، وله ذلك ، وقد ينطبق هذا على ما بدأ به من تصوير خدعة المذبحة، لكن ما تلى ذلك قد لا ينطبق على السادات بوجه خاص، حيث لم ينتكس السادات الى” أصله” أو “أصل عبد الناصر” الا فى أواخر أيامه، وقد يكون ” عدم التطابق” هذا على شخص بذاته، ضد ما ذهبنا اليه من فرط الرمزية، ووضوح المباشرة، فاذا كان الأمر كذلك، فهذا العمل أكثر عمومية من فرد بذاته يعلن باختصار أن المطارد( بكسر الراء) والمطارد(بفتح الراء) هما واحد من عمق بذاته، فى أحوال مثل هذى، ولكن تناول هذه المقولة بهذه الصورة لم يعاملها أبداعيا بما ينبغى، ثم ما تخلل العمل من تناول” لأرضية”(موقف العامة) لم يتضفر مع رسم” الشكل “(لعبة الشطار) فبدأ العامة فى معظم الأحوال فى حالة من الاعتماد والتصفيق، والحلم، والانتظار، ثم المقاومة السلبية فى أحسن الأحوال، وقد يكون فى ذلك قد صور واقعنا كما هو ظاهر، لكن الابداع الذى يتناول مقولة بكل هذا الظهور والشيوع ، مطالب حتما بالبحث وراء ما هو ظاهر، سواء فى عمق الوجود المأساوى المخدوع للأمير الفهلوى، أم فى أبعاد” أخرى” من وعى العامة، حتى ولو أظهرهم سببا مساهما اسهاما مباشرا فى تأكيد شطارة وفهلوة الأمير واستبداده( قارن موقف العامة فى مأساة الحلاج: أنتم حكمتم فحكمتم، أنتم حكمتهم فحكمتم ).

وحتى النهاية، جاءت مبسطة باغماءة قاتلة، الأمر الذى قد يتفق قليلا مع مبالغات ألف ليلة القديمة، ولكنه لا يتفق مع حاجتنا الى تطوير “الألعاب” الابداعية لاختراق المستحيل، فماذا لوكانت رأس الأمير بعد فصلها بمهارة سريعة لم يلمحها أحد هى التى استقرت على الطبق، والرأس المقطوع، ولو لوهلة وجيزة، حتى ينتبه الناس الى مهارة اللاعب، وماذا لو كانت الرأس الحقيقى المقطوع قد اختلف عن الراس الشمعى بالدم السائل المتفجر حتى حسب الناس أن الخدعة لم تكن خدعة بدليل هذا الدم السائل…. ثم يتبينون، أو لا يتبينون .

***

لكننا نشرناها ” هكذا” لتقول، ونقول ……. ثم نسمع من غيرنا ما يصوبنا أو يؤيدنا أو يفتح لنا آفاقا لا نعرفها .

– 3 –

أما الأسوانى، فى للقمر وجهان ، فقد حاول منطلقا من نفس الموقف تقريبا”….التحذير من أغارة غير محسوبة، من القرش والطمع والحماس المادى والمظهر السلطوى، على الطبيعة، وبنفس الناس وتاريخهم وايقاع وجودهم الأهدا والأعمق” وهذا المنطلق نابع – أيضا – من التحولات الاجتماعية والسياسية التى هزت وجدان المبدعين الثلاثة( وكل من حافظ على سلامة حسه وامانة وعيه) لكن الأسوانى هنا لم يكلبه موقع انطلاقه، فهو قد حاول أن يرى نفس الموقف من زوايتين مختلفتين(للقمر وجهان)، الأولى لبس فيها نعلى العمدة، واذا به يحيرنا اذ لا يصور العمدة باعتباره ممثل السلطة، ولا تابعا للسلطة الأكبر، لكنه( العمدة) يحاول، حريصا على مصلحة الناس، صديقا للشجر والفراغ والتاريخ( لاحظ بذرة الشجرة المنزوعة التى بعث بها عرابى: حقيقة كان ذلك أم خيالا شعبيا هو أقوى من الحقيقة وأدل ): كل ذلك فى مواجهة سلطة غاشمة متهمة، مبررة، مدعية الصالح العام تبريرا لكل ما تأتى، منكرة على صاحب الحق الأصلى حقه فى حديقته، أو فى أى تعويض عنها، وهكذا ينتهى المشهد ونحن نتابع مواجهة غير متكافئة بين سلطة” طيبة” ، وسلطة غاشمة .

ثم تأتى الحكاية الثانية لتشككنا فيما انتهينا إليه، ولكنها لا تشككنا بمعنى التناقض العكسى البسيط، لكنها تدخل متغيرا جديدا لم نلحظه أصلا، ولا فى خلفية الحكاية الأولى، وهذه أضافة أعمق من أن يظهر هذا التاجر” فى كل شئ” فى الحكايتين معا، وهذا الرجل الجاهز(دعنا نقبل هذه الصفة اسما مؤقتا له) يرى” المسألة” بمنظار آخر من حيث أن” كله مكسب” وقبل أن نواصل متابعة حساباته وخططه الآتية والخمسية نتساءل عن معنى هذا البحر من البترول تحت أرض هذا البلد(أو هذه الحديقة) ونتصور، بعد استبعاد هذا الاحتمال واقعا فى أرض الوداى المزروعة، اشارة الى عائد المهاجرين من بلاد البترول، يعودون ليقلعوا الشجر، ويخرجوا الزرع ،ويأكلون ويشربون منتظرين السفر القادم حتى لو لم يأت ثانية أبدا، لكنهم” هنا” يعملون، لكنهم يعملون فوق البترول: ليأكلوا ويشربوا، والذى يستنفع هو ذاك” الجاهز” أبدا، لكن الأمر لا يقتصر على هذا التصوير المبسط، فقد أحرجنا الكاتب بمعلومة محددة حول موقف العمدة (من وجهة نظر” الجاهز”) وكيف انه خسف بثمن حديقة عم عوض الأرض، وكيف أن الباشمهندس الذى أنكر على العمدة التعويض فى الحكاية الأولى هو هو الذى قرر أن يمنح عم عوض مبلغ عشرة آلاف جنيه.

هنا تصبح رؤية كل منهما هى حقيقته حتى لتجسد فى أرقام وأسباب فقلع الشجر عند العمدة هو بسبب الوقاية مما تحمله من آفات، وعند” الجاهز” هو بسبب العثور على البترول، ولا احسب أن هذا أو ذاك هو واقع الحال، وأنما الخفى وراء الأحداث أن الشجر قطع بسبب” غياب عم عوض” صاحبه وانفصاله عنه، اذن فهو لم يقطع لأن السلطة قطعته بقدرما قطع لأن صاحبه بدا وكأنه استغنى عنه حتى أهله، والنتيجة الطبيعية أن يقطع وأن يجسد كل واحد سببا” خاصا” به يفسر قطعه، ونتيجة”خاصة” تترتب على ذلك .

لكن ما هى حكاية التعويض؟ أن العمدة يحس بالحق فى التعويض من باب” طبية السلطة” لا أكثر ولا أقل، ولكن السلطة الأكبر من منظور العمدة أيضا ترفض مبدأ التعويض أصلا تحت دعوى أن” المهمل لا يستحق أى تعويض”.

أما ” الجاهز” فهو يرى فى كل رواج رواجا له فيبالغ فىقيمته لأنه سيصب فى النهاية فى جيبه، ولو على حساب الزرع، والحس النقى، والتاريخ، لأن ذلك هو المناخ الذى تترعرع فيه قروشه والا فأين سيذهب كل هذا: تعويض عم عوض + أجور العمال(من البترول) + عائد البترول ذاته ” وعم  الرخاء، وكثرت النقود فى الأيدى…… وأصبحت أيامنا كا لأعراس” وهو بخلاف بطل” الفراغ” استطاب الأفراح والليالى الملاح دون تهيب، لأنه ليس عنده داخل يقلبها غما وهو يخشى أن يسرق من نفسه دون أن يدرى  والكاتب لا يشعرنا أن هذه الأيام التى كالأعراس هى شئ سئ أصلا، لأنه لا يستعمل أية حكاية تعلن استغلال العمال من جانبه (ألا يؤكلهم؟ ويرعى مزاجهم كما ينبغى؟ فيعلمون…. ويعلمون…. ويدفعون!!) ومع ذلك فهو يتركنا رافضين هذا  ” الرواج” حتى لو لم يكن ثمة استغلال” ظاهر” ويشعرنا بالجفاف وكأن المنظر انقلب من ساقية تصب الماء حول شجرة لها تاريخ، الى طلمبة تضخ بترولا لا يصلح للشرب، بل يدير مطبعة تصدر أوراق البنكنوت مبللة برائحة البترول فيزداد العطش والخراب والجفاف، رغم الحركة الشبيهة بالعمل والرواج .

وهكذا يضرب المبدع بحدسه الرائق على محور” المسألة” دون أن يدمغ العمدة بالسرقة أو الظلم، أو يدمغ الباشمهندس بالاستقلال والامتناع عن التعويض (من وجهة نظر” الجاهز” أو يدمغ الشاطر الجاهز نفسه بالانتهازية أومص الدماء، وفى نفس الوقت ينقلنا بتكثيف متداخل من جو هادى لحديقة صغيرة بها أشجار عجوز تتوارى فى أثواب الخجل والتلكؤ والألم لهجر صاحبها لها الى جو صاخب جاف لا يرطب جفافة الرواج والسعادة الزائفة والعمل المغترب .

– لا مقابلة بين قهر وتسليم

– لا صياح حول مستغل وضحايا

– لا استقطاب بين خير وشر

وأنما نقلة مكثفة من صورة الى صورة، مع تداخل وتكثيف للأدوار، دون شجب محدد نهائى لدور واحد دون الآخر،وكأن الجميع قد اشتركوا فى هذا المآل السيئ، من أول  عم عوض حتى العمال المجتهدين مارين بالعمدة والباشمهندس و “الجاهز الشاطر” .

وبعـد

فنحن لا نفترض أن ما ذهبنا اليه هو وحده القراءة المناسبة، ولا نظن أن أيا من أدبائنا الثلاثة قد عنى بتحديد هدفه مسبقا، أو باختيار أسلوبه تماما، وأنما نتصور أن العامل المشترك هو المنبع الواحد ثم تفرق المسار، وتناسب جرعة الابداع تناسبات عكسية مع وصاية الوعى الجاهز والحكم القبلى، كذلك تناسبت عكسيا مع الميل الى الاستقطاب والبعد الواحد، وعلى العكس من ذلك كان الإبداع يتفجر بأضطراد كلما ترك الأديب قلمه يقوده الى ما ينبض فى توليف جديد، ولم تسحب جرعة الابداع الأصيل( فى القصة الثالثة) صاحبها من التزامه، ولم تحرمنا من اعلان موقفه، بل لعله بما دبج وأنشا، وربما بما قرانا ونقدنا يكتشف التزاما أهم وأخطر مما تصور ابتداء .

وفى الناحية الأخرى نجد أن الالتزام المباشر ظل يلاحق أبداع عبد المطلب ملاحقة جعلته يتراجع

– مرغما دون أن يدرى – عن التمادى فى أى ” اتجاه آخر”، اللهم الا للمحة أو لمحات لا تطول بسبب قناصة الالتزام .

أما مأزق الأديب شمس الدين كاتب الليلة الأخيرة فقد كان مزدوجا كما ذكرنا حيث أعاقه الشكل كما أعاقته الفكرة عن أن يكتشف ما لاح له ، فأنهى عمله دون أن يقوله .

  ( ى . أ )

***

[1] – قارن ليالى ألف ليلة لنجيب محفوظ (دون وصايته) وتناولها نقدا فى هذه المجلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *