الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1985 / يوليو 1985 – الأدب الاجتماعى والسياسى، ومأزق الابداع-وعد بقراءة ثلاث قصص

يوليو 1985 – الأدب الاجتماعى والسياسى، ومأزق الابداع-وعد بقراءة ثلاث قصص

الأدب الاجتماعى والسياسى، ومأزق الابداع

وعد بقراءة فى الثلاث قصص التالية!!

وردتنا هذه القصص الثلاث، الأولى من الصديق الأديب محمد عبد المطلب الذى قدم لقصته” الفراغ” فى الخطاب المرفق بأنها تعبير عن “فترة السادات السرطانية”، والثانية من الأديب شمس الدين موسى، الذى  أشعرنا – وهو يساهم فى مسئولية احدى الزميلات الأسرع أيقاعا …….

والأحداث “القاهرة “- أنه ربما يرانا كما يريد، ونريد ، أما الثالثة فكانت مقدمة بتعبير ر قيق من أديب  رقيق يقول  مهداة الى العزيزة “الانسان والتطور”… ونحن نعلم أن مجلتنا لها طابعها الخاص والحمد لله، ونلم ببعض صفاتها مثل أنها “متعبة” ” بكسر العين” ومقلقة، ومتحدية، وغامضة أحيانا أما ان تكون ” عزيزة” فقد أسعدنا ذلك كثيرا وكثيرا، أذ يبدو انها – رغم كل ما سبق – قد نجحت فى أن تقيم هذه العلاقة الخاصة مع كاتب حساس .

وكنا – لما تزايد الحرج والعجز – ننوى فى هذا العدد أن نكتفى بنشر المتفق مع جرعة الابداع التى نرجوها ، ونعتذر للمتفضلين الآخرين، ولكننا لمحنا بين هذه الأعمال الثلاثة وجه شبه دفعنا الى أن نحاول مرة ثانية ان يواكب النقد النشر، فثمة سياسى اجتماعى فى المحاولات الثلاث……… وهاكم القصص أولا:

***************************************************

قصة قصيرة

الفراغ

محمد عبد المطلب

    عندما فتحت عينى بعد نومة القيلومة وجدت الحجرة تسبح فى ظلمة خفيفة… ورأيت زوجتى تتحرك فى فراغها تمارس مهامها المألوفة، ثم تنبهت الى الأطفال يخرجون من تحت السرير ويجرون كالأرانب الى الصالة ويتضاحكون بصوت خافت، ولما تنبهت زوجتى الى يقظتى وجدتها تتجه الى النافذة الوحيدة فى الحجرة وتدفعها الى الخارج، ومرت برهة قصيرة فاكتشفت أن الحجرة غارقة فى نفس درجة الضوء السابقة لفتح النافذة، فقلت لزوجتى: هل تأخرت فى النوم وتقدم الليل؟ جاءنى صوتها وهى ترتب الملابس فى ارفف الدولاب بأنى استيقظت فى ميعاد كل يوم وبقيت ساعة حتى تحل الظلمة، وعلى أن أقوم لأغسل وجهى وأجلس فى الصالة فيكف الأولاد عن الشجار ويبدأون فى فتح دفاترهم المدرسية… لكنى لم اجد رغبة شديدة فى متابعتها  وأتجهت الى النافذة  متكاسلا مغمضا عينى، ولما فتحتها متوقعا رؤية قطعة الأرض الفراغ الكبيرة التى أمام عمارتنا القديمة والتى يلعب فيها الأطفال رايت بناية غريبة وحديثة لكنها شديدة الأناقة تنبعث منها أضواء متباينة، وتصطف أمامها عربات حديثة الطراز، وقبل أن أستوعب ما رأيته خيل الى أن أنغاما هادئة تأتى من داخل هذا المبنى الحديث فضلا عن رائحة شديدة الجاذبية اقتحمت أنفى، فاستدرت بقوة مخيفة الى زوجتى أسائلها فوجدتها تواصل ممارسة مهامها برتابة غير مبالية، وصرخت فيها: هل رايت هذه؟ التفتت الى بسرعة وطالعت تعبيرات حيادية على وجهها، ثم عادت مرة أخرى تدفع وجهها نحو الدولاب… صرخت من ورائها… عندما عدت فى الظهيرة كانت قطعة الرض وما زالت فراغا …..؟

جاءنى صوتها مكتوما… هل أنت متأكد؟ للحظة قصيرة انتابنى الشك… لكن ذهنى بدأ ينشط بسرعة ويسترجع أحداث اليوم منذ البداية فتذكرت أن عربة الشركة وقفت أمام هذه القطعة الفراغ مثل كل يوم، وعندما هبطت منها مودعا زملائى رأيت صبيا يسابق الريح الى داخل البيت فعرفت أنه ابننا الأكبر يهرب منى، وأذكر أن نظرة غير ارادية حانت منى الى هذه الأرض فقد تأملتها وتأملت الأولاد الذين يلعبون فيها الكرة، وعايشت الأمنية العميقة المستحيلة فى داخلى فقد وددت أن أمتلك هذه القطعة لأقيم عليها بناء فسيحا وحديقة نموذجية. وبقوة شديدة عدت الى النافذة والى التحديق فى المبنى المذهل الأنيق وموسيقاه الهادئة والروائح الجذابة التى تفلت منه والعربات الحديثة التى ترتص أمام أبوابه المتعددة، فقلت انه فندق، بل شركات عالمية.. بل هو برج… بل هو كل شئ… بل هو أشياء عديدة، وعلى أن أنزل بنفسى لأعرف كل شئ، وأمام الأبواب الزجاجية رأيت فتيانا من ذوى السمرة الخفيفة يفتحونها بأدب شديد وينحنون انحناءات رشيقة، فدخلت وانبهرت عيناى بالأضواء الهادئة النادرة، وامتلأ صدرى تماما بالروائح الرائعة، وكلما توغلت فى السير رأيت من يبتسم لى ويفتح الأبواب، ووجدت نفسى وجها لوجه أمام رجال ونساء ذوى وجوه شقراء وبيضاء وحمراء يجلسون فى استرخاء لذيذ، ويحملقون فى الأسقف الوردية بهدوء شديد، وعندما تقع أبصارهم على تقفز البسمات الى شفاهم ويهزون رؤوسهم هزات رشيقة ومتقنة ورأيت بعضهم يمد لى يدا شديدة النعومة ويشدنى الى الصالات الفسيحة التى تأتى منها الموسيقى، وتظهر لى فتاة شديدة المرح تجذبنى الى حلبة الرقص وتطلب منى أن اترك جسدى ليستجيب الى نداء الموسيقى، فوجدت نفسى أتحرك… فبدت خطوتى ثقيلة مثل خطوات الدببة، وتلفت حولى فوجدتهم جميعا يرقصون برشاقة وسعادة، واكتشفت أن السعادة تسللت الى … فضحكت كثيرا، وشعرت ان سعادتى أكبر من أن أتحملها بمفردى، فوددت أن أريح رأسى على صدر الفتاة العارى التى همست فى أذنى انها تبحث عنى منذ مدة طويلة. لكن انتابتنى فجأة رغبة غامضة فى البكاء بصوت مرتفع، فتركت الحلبة وجريت الى الممرات التى سرت فيها والردهات الطويلة، تودعنى نظراتهم المضيافة، وابتساماتهم المضيئة، وانحناءات الشبان ذوى السمرة الخفيفة وهم يغلقون الأبواب الزجاجية من ورائى، وبعد أن لفحنى تيار هواء ساخن سرت خطوات قليلة حائرا متباعدا عن صف السيارات الأنيقة، وعند ما اسرعت ورفعت وجهى الى البيت وجدت أمامى قطعة أرض فراغ فسيحة.

***************************************************

قصة

وقائع الليلة الأخيرة من ألف ليلة وليلة

شمس الدين موسى

الليلة الثانية قبل الألف من ألف ليلة وليلة ………

بلغنى أيها الملك السعيد…. ان الشاطر الفهلوى الذى لقبوه بالأمير، لم ينل لقب الأمير الذى لم تجربه ألسنة العامة، الا بعد جولته الشهيرة مع رفاقه الشطار، الذين كانوا يتوزعون فى أنحاء المعمورة ينشرون الفساد والظلم، لكنه نجح فى جمع الشطار والنظار والفرسان فى قصره المنيف. وكما هو متبع بسط لهم السماط عدة ليال متوالية، وبينما هو فى حال من الدعة والألفة بين مأكل وشراب، والشاطر الفهلوى يحيى وجودهم فى داره الوسيعة على حافة الصحراء، والنجوم الطالعة وسط السماء تلقى باشعتها اللاهية على حديقة القصر اليانعة، وكان الشاطر الفهلوى قد أيقن أن الجمع موجود ولا أحد يستطيع أن يلفت مما هو مرسوم ومخطط فى اللوح المحفوظ، وسرعان ما تبدل الحال، وارتفعت فوق المكان أنواع عديدة من السحب والغيوم، وأمر الشاطر الفهلوى باغلاق جميع الأبواب ومحاصرة جميع الأسطح والنوافذ والجدارن والأسوار، وأمر بحبس جميع الركائب التى احضرها الشطار، وأرسل المندوبين لمصادرة كل ما يملكه الشطار من مال وعقار. وانهالت على الجميع الطلقات من كل ناحية وسط الهرج والمرج والأصوات المذعورة  التى تستغيث طالبة العون من شاطر الشطار لكن ما من مجيب، الا صوت الطلقات التى حصدت الأهات بعد ان أخرست كل من يرفع صوته بطلب الأمان تنفيذا لأوامر الأمير الواضحة. وسمعت الأصوات الطلقات من الأماكن القريبة والبعيدة حتى ظن العامة أن الحرب عادت ثانية بعد أن نعموا بالاستقرار، ولم تنقطع اصوات الطلقات ألا مع صياح الديكة التى أدركت الجميع……. وصمتت شهرزاد عن الكلام المباح .

الليلة الأولى قبل الألف من ألف ليلة وليلة ………

بلغنى أيها الملك السعيد …. ان الأمير منذ صباح اليوم التالى اصدر امرا لحفر حفرة كبيرة خلف القصر على مشارف الصحراء، جمعت بها الجثث التى تناثرت فى كل مكان بعد أن عرضت عليه كى يتعرف على اصحابها….. وسرعان ما أمر الأمير باشعال النيران فى الجثث بعد تجريدها مما تحمل من أموال وحلى وملابس. وتصاعدت السنة اللهب الى عنان السماء ولم تخبو حتى صباح اليوم التالى، عندما كان الأمير قد صحب أعوانه ونساءه وغلمانه وسط تهليل العامة وتصفيقهم على جانبى الطريق الذى اتخذه متجها ناحية الشمال للترويح عن نفسه وأل بيته. ولكن صياح العامة والحرافيش  لم يوقف عقل الامير الفهلوى الذى بدأ يراجع صور الشطار بينما اتباعه يلقونها بداخل الحفرة. ومع تذكره للوجود التى لم يرها بدأت الوساوس تداعب صدره، فلم يكن ينصت الى تهليل العامة وتصفيقهم الذى انهال عليه من كل جانب، حتى أدركه الصباح على مشارف الحقول المترامية التى تلاحمت أطرافها البعيدة مع اطراف السماء…….. وصمتت شهرزاد عن الكلام المباح .

الليلة الألف من ألف ليلة وليلة ……

بلغنى ايها الملك السعيد…. أن الأمير الفهلوى الذى لقبوه بالأمير بدأ عهده الجديد بالقضاء على بقايا الشطار ومطاردتهم فى كل مكان ،وبث جواسيسه وبصاحبيه فى كل الأركان متتبعا أخبار الفارين من الشطار، وأعلن عن منحه جائزة عينية لكل من يرشد عن واحد من الفارين أو يقدم رأسه الى حضرة الأمير، وكلما طلب احد  الفارين الأمان استدرجه الأمير ثم أوقع به، حتى عرف المطاردون ذلك فلم يستسلموا وارسلوا له التهديد والوعيد وهم خارج الحدود. وسرعان مااستتب الأمر وعادت الحياة الى طبيعتها القديمة بعد عهد الشطار، وقل الظلم الذى كان يقع على العامة والسكان، ودعا الدعاة للأمير، ولم يتذكر أحد لقب شاطر الشطار، وأصبح الأمير هو حامى الجميع والسيد الذى يلقى الخضوع والطاعة لقاء الأمان والسلام…. وبمرور الوقت كاد الناس ينسون عهد الشطار كما كاد الأمير ينسى كل عهوده للسلام والأمان، وبدأ يفرض فروضه الجديدة المتزايدة، ولم يعف سقا أو نوتى أو شحاذ من دفع الأتاوة، وكلما مر الأمير فى موكبه أغلق أصحاب الحوانيت والورش حوانيتهم والورش ورشهم، وأختفى من طريقه العامة وابناء السبيل كلما عرف أنه سيمر. وقاطع المصلون الجوامع التى اتخذها مكانا لصلاته، وكان أتباعه يحشدون له من يثقون بهم من الناس كى يحيطوا به أثناء الصلاة. ووسط كل هذه المظاهر نسى الأمير فيما نسى أنه كان شاطرا من الشطار، ولعله لم ينس لأن ذاكرته كثيرا ما تعود للوراء فيتذكر من فر ومن هرب ومن اختفى من الشطار. وسرعان ما كانت الشكوك تلهب صدره، خشية على نفسه من قضاء الشطار. الذى يعرفه فيعلن من جديد عن خلعه لمن يبلغ عمن هرب من الشطار، أو يسلم رأس احدهم له شخصيا وسط حفل يجمع له عليه القوم ووجهائه الذين كانوا يشيدون به وبحمايته ورعايته للجميع، وادرك الصباح، وصمتت شهر زاد عن الكلام المباح .

الليلة الأولى بعد الألف من ألف ليلة وليلة ……

بلغنى أيها الملك السعيد …. أن الأمير شاطر الشطار كان قد أبلغ عن وجود من فى حوزته رأس احد الشطار الهاربين منذ سنوات، ويحق له الجائزة. وعلى هذا أعد فى اليوم التالى الحفل الذى  يحضره الجميع كى يسلم صاحبه الجائزة رأس الخائن الهارب كى ينال جائزته مع عهد الآمان مدى الحياة، الذى يخلعه عليه الأمير بعدما يتيقن أن الرأس تخص أحد الشطار فعلا. وقبل الحفل اعلن فى كل مكان عن أسم صاحب الجائزة واسم الخائن صاحب الرأس المقطوع موضع المعاينة، وموعد الحفل المقام الذى يحضره الأمير شخصيا كى يشرف بنفسه صاحب الجائزة بتسليمها له .

وبدأ الحفل بالقاء كلمات عديدة من الوجهاء المقربين للأمير. ثم نودى على صاحب الجائزة الذى برز وسط الحاضرين ومن قلبهم، واضعا فوق وجهه الكثير من الألوان والأصباغ الزاهية، بينما يرتدى ملابس المساخيط والمشخصاتية الذين يجمعون حولهم الصبيان والسابلة أثناء تقديمهم عروضهم. كان يتحرك حركات بهلوانية بين تصفيق الحاضرين وتهليلهم، وفى يديه لفافة ضخمة عليها عدة أربطة من القماش والقطن. تقدم صاحب الجائزة باللفافة لفة بعد أخرى حتى أبرز الرأس الذى بها تحت سمع وعيون الحاضرين الشاخصة فى اعجاب ، وأذا هى رأس آدمى لها ملامح وجه ليست غريبة عن الجميع… تحققوا فيها بعيون متسأئلة. وقلما يدرك أى واحد أن الرأس ليست حقيقية، وبسرعة سابقت ادراك الجميع لما يفعله صاحب الجائزة، وكأنه حاوى من الحواة الذين ينتقلون بين الحوارى والأزقة، تحول تجاه مجلس شاطر الشطار الفهلوى الذى لقبوه بالأمير، وسرعان ما تحولت أنظار الجميع ناحية مجلس الامير، بينما المسخوط يرتفع عاليا ما بيديه ــ كانت رأسا غير حقيقية، كانت أنموذجا شمعيا، يحمل ملامح يعرفها الجميع، كانت ملامحها شمعية لوجه الأمير بعيونه وشورابه… انتقلت أنظار الجميع ناحية مجلس الأمير، فاذا هو غير موجود، كان مكانة شاغرا قبلما يصل اليه المسخوط ليضع الرأس أمامه للمعاينة. ارتفعت الأصوات من كل ناحية مصفقة ومهللة لما فعله المسخوط، ومنادية على الأمير. كان المسخوط يحمل الراس بين كفيه ومتوجها بها للجميع وسط الصفير قبلما يصل الى موضع الأمير بحركاته اللينة الراقصة. كان يتجه ناحية مجلس شاطر الشطار ــ الأمير ــ لكن الأمير كان ملقيا على الأرض فى غيبوبة باردة بعد ان فارقت عروقه دماء الحياة ، بين تهليل العامة وصفيرهم على ايقاع الحركات البهلوانية الراقصة لصاحب الجائزة ………

وأدرك شهر زاد الصباح ، وسكتت عن الكلام المباح .

***************************************************

قصة قصيرة

للقمر وجهان

عبد الوهاب الأسوانى

الحكاية الأولى:

لحظتها كنت أشرب شاى العصر أمام الدوار… اقترب منى شيخ الخفراء ومعه غلام فى العاشرة… قال لى ان رجالا من الحكومة موجودون فى جنينة عم “عوض” ويرويدونك…. بصراحة تشاءمت …. الحكومة لا يأتى من قبلها الا وجع الرأس… نسيت نفسى فلعنت شيخ الخفراء وطردت الغلام ….

****

وجدت باب جنينة عم” عوض” مفتوحا فدخلت ….. كان بصحبتى أحد شيوخ البلد وأربعة من الأعيان وشيخ الخفراء …….

لم اصدق عينى فى البداية لبشاعة المنظر…… عشرات من العمال الغرباء يحملون الفؤوس وينهالون بها على أشجار المانجو والموز والبرتقال والجوافة والجميز والليمون ….. كانوا يربطون النخيل بالحبال ويقتلعونه فى قسوة. هالنى ما رأيت …. جنينة عم عوض من أحسن الجنائن فى  بلدنا، محصولها الوفير مضرب الأمثال. وقفت مذهولا بقدر الوقت الذى يقضيه رجل صالح فى صلاة العشاء، وأنا أقنع نفسى بأننى أحلم….. لم أتنبه الا عندما ترنحت شجرة المانجو الكبيرة…. هذه الشجرة بالذات يعرفها كل من فى البلد لثلاثة اجيال مضت …. هى أول شجرة مانجو تزرع فى الوجه القبلى.. بعث لنا ببذرتها عرابى باشا من الجزيرة التى حبسه فيها عسكر الانجليز … حينما سمعت دويها الهائل عرفت أن الأمر حقيقة وليس حلما…. طقطقت الشجرة ومالت وفر العمال من تحتها وهم يتصايحون فى فزع….. كانت لفروعها فرقعة هائلة وهى تصطدم بسور الجنينة الغربى…. هدمت السور وسقطت نخلة صغيرة وأتلفت الحقل المجاور…. ثار من أوراقها غبار كثيف، انتشر فى موجات متتابعة فحجب عنى الرؤية.. لم أعد أسمع الا العطسات تتعالى من الأركان …..

فتشت بعينى عن الرأس المدبر … وقع بصرى عليه وهو يظهر شيئا فشيئا مع انقشاع الغبار… طويل القامة عليه سترة من جلد… يحشر نفسه فى بنطلون منفوخ الجنبين، ورقبة حذائه تصل الى ركبتيه. فى البداية ظننته من عساكر السوارى، لولا أنه فى وسامة حضرة جناب المأمور السابق…. اقتربت منه وقدمت نفسى:

– شرفتم البلد يا سعادة البك …. أنا العمدة .

– أنت العمدة ؟ …. جئت فى موعدك .

قال ذلك بلهجة متعالية كأننى كنت أجيرا فى مزارع أجداده .

فتح حقيبة جلدية صغيرة واخرج منها أوراقا، مدها لى قائلا: امض اخذتنى العزة وكدت أرفض…. لكن لهجته الآمرة، دلت على مكانته فى وزارة الداخلية، فقررت الأخذ بالأحوط. سألته وأنا أتناول الأوراق وابتسم: خيرا يا سعادة البك؟

أجاب بلهجة متعالية: المسألة خاصة بالحراسة.

– أى حراسة ؟

– ستصلنا معدات ثمينة تحتاج الى الحراسة.

كان المفروض ان أقرأ الأوراق قبل أن أوقع….. لكن  رداءة خط كتبة الحكومة تحتاج الى وقت…. وربما ظن الرجل أننى لا أثق به، وكل الأدلة تشير الى مكانته …….

نظر الى توقيعى وطوى الأوراق وهو يقول:

– الخفراء سيتلقون أوامرهم منى ابتدأء من هذه اللحظة ….

– كلنا تحت أمر سعادتك .

وقلت لنفسى الاحتياط واجب، والعمدة يجب ان يكون  عمدة فى كل المواقف، بلا صدام  أو خضوع – لأحد: لكن لماذا تقتلعون أشجار الجنينة يا سعادة البك ؟

– اشجارها مليئة  بالآفات الضارة بالزراعة .

قبل ان يكمل جملته، دخل علينا عم عوض، صاحب الجنينة …. نظر الى الخراب حوله بعينيه الكليلتين وصرخ…. شق ثوبه ولطم خديه وسقط على الأرض فاقد النطق. اشار سعادة البك الى شيخ الخفراء وطلب منه التحفظ على عم عوض. نظر شيخ الخفراء ناحيتى كأنه يستشيرنى فقلت له: سعادة البك هو صاحب الأمر الآن .

لما رأيت سعادته يبتسم، سألته:

– طبعا ستصرفون الى عم عوض تعويضا معقولا .

أجاب بلهجة غاضبة: تعويض؟…….. بعد اتلافه لزراعة البلد ؟

حينما أفاق عم عوض وضعوا فى يديه الحديد وأرسلوه الى مركز البوليس للتحقيق. ولم نعرف طعم الراحة منذ ذلك اليوم، وحسينا الله ونعم الوكيل .

الحكاية الثانية:

 يومها كنت أستضيف اربعة من تجار العاصمة…. قضوا عندى أسبوعا بعت لهم خلاله مائة رأس من عجول التسمين، واشتريت منهم سبعين اردبا من علف الماشية …

هبطت الى النيل أودعهم، حين فوجئت بعشرة مراكب تقف على الشاطئ…. هبط منها مئات من عمال التراحيل، وبضعة رجال من العمال الفنيين….. أنزلوا على البر مواسير طويلة وقصيرة ومعدات لا حصر لها…. تعجبت: ما الحكاية ؟

–  بلدكم تعوم فوق بحر من البترول .

– أين ؟

– فى جنينة رجل اسمه عوض .

فى الحال وجدتنى أشق الجموع والتقى بالباشمهندس الذى يدير العملية…. كاد يجن من الفرح وأنا أتفق معه على الخطوط العريضة لمساندته …. بعدها لم اضع دقيقة واحدة… أستاجرت الأرض البور الواقعة شرقى الجنينة، أرسلت الى البندر لشراء قدور الفول وأوانى الطبخ وما يلزم من مقاعد وموائد، هذا غير الطهاة والقهوجية .

خططت لاقامة سلسلة من المطاعم والمقاهى الصغيرة…. سجلت أسماء العمال وأرقام بطاقاتهم الشخصية فى الدفاتر…. عرضتها على الباشمهندس فوافق عليها … اتفقنا على مبلغ شهرى معين من كل عامل، نظير وجبتين من الطعام وكوبين من الشاى…. تركنا وجبة الافطار حرة ليتسنى لنا خدمة من جاءوا لاسعاد البلد .

جاء السيد العمدة ومعه جماعة من الأعيان ….. طلب منه الباشمهندس بعض الخفراء لحراسة المعدات….. وافق العمدة وأبدى حماسا مشكورا لمساندة العملية…. وجاء عم عوض صاحب الجنينة، صرخ وشق ثوبه ولطم خديه…. لكن السيد

 العمدة نهره وطلب من شيخ الخفراء أن يطرده، ولم يرض هذا الباشمهندس… قال العمدة معاتبا: اعذره …. ومن حقه علينا أن ينال تعويضا مناسبا .

قال العمدة: جنينة لا تساوى اكثر من خمسين جنيها .

ضحك الباشمهندس من قسوة قلب العمدة، وامر بان تصرف لعم عوض عشرة آلاف جنيه … ودهشت لهذا الكرم، سيما وأن جنينة عم عوض لا تزيد عن شجرة ليمون ونخلتين وشجرة جوافة صغيرة لم تطرح بعد. فى الأيام التالية، توالى وصول مئات العمال، مما ضاعف من مسئولياتى فى خدمة البلد…. لكن تم – بحمد الله – حصر الجميع فى الدفاتر….. ودارت العجلة، وعم الرخاء، وكثرت النقود فى الأيدى، وانتشرت البسمات على الوجوه، وأصبحت أيامنا كالأعراس …….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *