الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يناير 1984 / يناير 1984 – قصة قصيرة الصرخة

يناير 1984 – قصة قصيرة الصرخة

قصة قصيرة

الصرخة [1]

هالة

اليوم الأول

أطلقت صرخة فزعت لها.

حاولت أن أجرى ولكن ساعدين قويين أمسكا بى، ما هذا كررت محاولتى ولكنها أسفرت عن انتصار أكبر للساعدين، ماذا أفعل؟ حاولت المراوغة والهرب فطرحانى أرضا.. أحسست ببرودة الأسفلت تحتى وبداخلى .. جاهدت لأرى شيئا بدون جدوى .. ثم أحسست بشيئا يقترب … لا … لا … ماذا تريد؟ أتريد أن تقتلنى؟ الساعدان مرة أخرى … يقتربان منى … يحتويانى .. هممت أن أقاوم .. وفى ضوء الليل الخافت لمحت عينين … شعرت لأول وهلة أنهما منى .. لى .. بهما كنوز الدنيا … منارتان تحملانى إلى الأمان.

هل لى أن أقاوم هذا الشعور الصاغى بالأمان .. هذا البريق الواعد بالإجابة … بالحقيقة. اقترب منى … لفحت وجهى حرارة أنفاسه وهزمنى حنان لمسته .. ولأول مرة أتحد كيانى على رغبة واحدة… و … وأصبحنا ذاتا واحدا.

نظرت فى لهفة إلى الممدد جانبى تواقة إلى نظرة الأمان فى عينيه.. ولكنى وجدته يحملق فى ذاهلا.

ـ ماذا بك؟

ـ …..

ـ لماذا تحملق فى هكذا؟

ـ لا أدرى ماذا أقول

ـ ألم تقرأ شعرا أو غزلا قط؟

ـ لم أقرأ عن موقف كهذا لأعرف ما يقال.

ـ وما هذا الموقف؟

ـ …….

قبل أن يجيب انهمرت الأمطار فجأة على غير ميعاد فأسرعنا ننهض من على الأسفلت الذى سرعان ما تغطى بطبقة من الطين ووقفت لا أدرى ماذا أقول… أو داعا أقول أم إلى أن نلتقتى.. أأطلب منها ميعادا؟ هل احتمل نظراتها مرة ثانية؟ وسرنا فى صمت لا يقطعه سوى صوت المطر، لا أدرى من الذى أمسك بيد الآخر ولكنى شعرت براحة غريبة ونحن نسير اليد فى اليد .. لا كلام يقال ولكنى واثقة أنه يفكر مثلى وإن قال شيئا سيقول ما أتوق لقوله.

بعد فترة التفت إلى وقال:

ـ بماذا ستتعللين لتأخيرك؟ ولمظهرك؟

ـ ولماذا تظن السماء أمطرت؟

فضحك وضحكت الدنيا بأسرها لضحكته وضحكت أنا.

ـ هذا منزلى. مع السلام.

ـ مع السلامة.

اليوم الثانى

 (أ)

هذه الليلة نمت كما لم أنم قط. فلحياتى معنى رغم كل شئ، والأمان موجود رغم كل الاحباطات، والتوحد ممكن رغم كل العوائق، وبداخلى حياة لابد لها من ولادة

تناولت أفطارى وخرجت، لا أريد الذهاب إلى الجامعة فلى وقفة طويلة مع نفسى.. لابد أن أتعرف عليها .. كيف عشنا غرباء عشرون عاما كاملة؟

….. ….. …..

….. ….. …..

ياه – كم أنا منهكة – ماذا دهانى؟ أما كفانى تسكع فى الطرقات .. أما كفانى سيرا كالمجاذيب أجادل نفس .. أسألها عن هويتى وعن مستقبلى فلا أجد سوى إجابات مبهمة ترفض أسار الكلمات، وهل تكفى لحظة نشوة قدسية أن تزيل احباطات عشرين عاما؟ لا …. لا ….. لا يكفى ضوء باهت فىالأفق ليهدينى فى مغامرة غيرمحسوبة.

فى طريقى للعودة ذهبت إلى الجامعة لأسأل عما فاتنى من محاضرات.

(ب)

لم أنم الليلة قط .. ماذا حدث؟ ما هذا الجنون؟ لماذا حاولت فى بادئ الأمر؟ ولماذا تجاوبت هى الى هذا الحد؟ وأى فتاة هذه التى تمارس الحب مع رجل لا تعرف شكله ناهيك عن اسمه. ولكنها لم تطلب شيئا وأعطتنى كل شئ، أجل.. فقد متعتنى كما لم تمتعنى امرأة قط، والأدهى من هذا أننى لم أشعر أنى أمارس عملا شهوانيا.. مطلقا…. لقد أشعرتنى أن هذا حقى بل هذا ما كان يجب أن يكون منذ خلقت.

هل أحبتنى؟ أحبتك؟ ما خطبك أجننت مثلها؟ أنها لم تر حتى وجهك ولا تعرف شيئا عنك فلماذا تحبك؟ حقا. لماذا تحبنى؟ لماذا أريدها أن تحبنى وهى التى لا تكاد تعرفنى.. أنا الذى عشت عمرى كله استجدى الحب من أهلى ورفاقى … فلابد من التأنق فى الكلام والهندام ولابد من حساب الحركات ومدارة الأخطاء أو تجميلها… لابد أن تكون ملاكا أو الها كى تحب… لا … ليس من الضرورى أن تكون ملاكا… يكفى التظاهر بأنك واحدا … فلماذا إذا أريدها أن تحبنى وأنا لم أقل لها كلمة غزل واحدة حتى بعد أن دعتنى؟

ولكنها أحبتنى … فلا توجد امرأة فى الوجود بمقدورها أن تعطى مثلما أعطتنى هى إلا لمن تحب. لا لم تكن نشوة عادية… كانت قدسية، فهى امرأتى أنا…

لماذا تحبنى؟ هل استحق ا لحب؟ ولم لا.. هل لأننى لا أستطيع أن أكون ناجحا لا أستحق حبهم؟ ولكنها مختلفة عنهم. هى الحياة الحقيقية وهؤلاء مسخ.. وأنا مسخ.. ولكن مازال فى شعاع حقيقى.. ترى هل من أمل فى الخلاص؟ فى الحياة؟

اليوم الخامس والعشرون:

(أ)

للمرة الألف أحاول أن أقنع نفسى بمواصلة السير فى الطريق المرسوم، للمرة الألف أحاول أن أعود كما كنت ولكن يبدو أن هذا مستحيل – لم أعد أنا أنا – فهناك شئ مبهم بداخلى – جديد على – لا أستطيع تحديده فأنا أدور حوله كالطائفين بالكعبة ولكنى لا أدرك كنهه، لا أعيه… أدرك فقط أننى لم أعد كما كنت.

ثمة حاجز منيع بينى وبينه ولكنه لا يدعنى لشأنى فأنا لا أستطيع معاملة هؤلاء الناس كما كنت أعاملهم من قبل. لا أطيقهم. لا أطيق زيفهم وتسلطهم ولكن ماذا دهانى. أليسوا هم أهلى الذين عشت بينهم سنوات عمرى. لو أمقتهم هكذا قط.

لا – لا أستطيع أن أعود كما كنت ولكن كيف إذا أكون؟

ذهبت لاستلام نظارتى الجديدة.

(ب)

ثمة جذب فى الإتجاه الآخر يحيرنى.. ثمة تداعى فى النظم الآمنة لا سبب له. وثمة فترة من الوعى الحاد تركتنى حطاما.

لقد كنت شبه سعيد فى حياتى حتى الآن – أسابق الزمن لتحقيق آمالى، أثابر لأحقق الكمال لنفسى – فلماذا أتوقف الآن. بل وأعود إلى الوراء.. أهدم ما بنيته طيلة عشرين عاما من الجهد المضنى، ماذا دهانى؟ من يتقبل إنسانا فاشلا؟ أو من يتقبل إنسانا مختلفا؟ من يتقبل حطاما؟

ولكن ماذا عساى أن أفعل الآن .. فقد بدأت المعركة ولا سبيل للانسحاب، فأما النصر أو الشهادة كما يقولون!

على أن أذهب الآن إلى الصيدلية لشراء الدواء لعينى.

اليوم السابع والخمسون:

(أ)

شكلى غريب جدا بهذه النظارة! تسبب لى صداعا مستمرا ولكنى أحسن حالا. أعنى بصرى فقط. فما زال هذا الشعور المبهم يحاصرنى، والأدهى من ذلك أنه بدأ يهاجم أركان حياتى ركنا بعد الآخر. فقد أصبحت ارى الأشياء مختلفة تماما- وكأنى لم أعشها من قبل أو كأنى أخلق من جديد.

فما هذه الطيبة المزعومة الا انسحاق، وما الحرية الا وهم دنئ. ما أتعجب له الآن هو كيف كنت أراهم هكذا، كيف خدعت بهذه السهولة. وماذا أفعل الآن؟ أأحتمى بحصونى أم أواجه الموقف. الموقف الذى لا أعرف له تفسيرا.

(ب)

سئمت هذه الأدوية. ولم أعد أبالى بالألوان ولا بالأشكال عموما فقد تشابكت وماعت وتمردت على معانيها – وأنا تعبت .. حقا  تعبت من ملاحقتها وأستجوابها . لا أدرى ماذا حدث فجأة ليقلب موازين الأمور هكذا ؟ فلا أنا ما زلت كما أنا ولا أصبحت أخر. فياهل ترى ماذا تحمل لى الأيام؟

أنا لا أريد أن أفقد أحلامى بعد كل هذا العناء , ولكنى لا استطيع أن أحتمل هذا النور الذى أرانى الضباب.

لم أعد أريد شيئا ولا أستطيع شيئا البته.

اليوم الحادى والثمانون:

(أ)

يا الهى ! ما هذا ! أقف أمام المرآة أتحسس وجهى كالمجاذيب فى فرحة طفل لم يولد بعد . وجهى ! هذه عيناى.. نعم أنها هى عادت لى … نفضت تراب السنين وعادت لى .. تحمل أسمى. وهذا فمى .. وهذا أنفى _ ياه .. هل أطبق هذه الفرحة؟ الآن فقط استطيع أن امضى مطمئنة على .. فماذا يضيرنى الآن حتى لو فقدت فأنا لن أضيع أبدا.

والآن الى العمل!

(ب)

حلم عجيب ! أكون حقا بهذا الجمال! أأكون بهذا الجمال؟! ما يدرينى؟ لعلى حقا أحسن مما أريد أن أكون – أو لعلى لا أستحق أن أكون أصلا – أو لعلى لا أدرك ما أكون فعلا – نعم أنا لا أدرك ما أكون – أو من أكون – ولكن الطريق صعب محفوف بالمخاطر. والهدف غير محدد – والشجاعة عملة نادرة. ومن يدرينى ربما يدركنى الموت هنا.

فهل أغامر على أنال شرف الشهادة؟

أجل! فإلى المعركة.

اليوم السادس بعد المائة:

(أ)

ترى ما خطبى! وما هذا الذى أسمعه؟ أسمع صوتا يتحدث بلغة حبيبة إلى قلبى – طالما اشتقت لها … يحدثنى بسلاسة وقوة افتقدتها زمنا طويلا … يحدثنى عنى.. وعنه، يخطط لى ويقنعنى … نعمل سويا لأول مرة وكأننا نعمل منذ الأزل يبعث أحلاما دفنتها أيادى كثيرة ويرسم فى تأن وذكاء لتحقيقها، يجاهد لتلاقى الطرفين.. وأجاهد لتلاقى الطرفين، يمنينى بشئ أروع من أن أتخيله . ثم ….

آه … لقد حفر لى الحفرة – ماذا؟! تريدنى أن أترك كل شئ؟ أترك دنياى هذه؟ كلا، فقط أترك القشرة الخداعة – وأمضى وحيدة … بلا رفيق-

كلا .. أتركى القشرة الخداعة فى الآخرين أيضا – ولن تمضى وحيدة فهناك من يقوم بنفس المحاولة.. لنفس الهدف … فى مكان ما .. يشهد على ذلك ليل وأسفلت وقطرات من المطر.

ولكن ماذا أفعل – كيف أواجه الناس بجلد آخر؟ وماذا سأقول لهم؟ وكيف أتعامل معهم؟ آه – رأسى يكاد ينفجر – سأذهب إلى الاسكندرية أمكث فى الشاليه بضعة أيام على أجد حلا.

(ب)

ما هذا؟ أسمع ترنيمة سحرية! جميلة حقا .. مختلفة … خاصة جدا – لطالما تقت إلى سماعها – وترديدها. وتطويرها دوما. تطربنى …. تهزنى برقة وحزم، تلغى مشاريعى كلها فى لحظة وتقنعنى بهذا!!

ما هذا؟ أيعقل أن أحمل هذا السحر؟

آه – كم أريد أن أسمعه إلى الأبد – ما هو يحثنى على التفكير فى مشاريع أخرى وحياة أخرى بصوت عال … يشاركنى التفكير والتفكير والتخطيط – يحارب أشياء وأشياء .. ترى هل يعود المنشق؟

كلا. لا أستطيع أن أهدم حياتى بأسرها. هل جننت، ومن يدرينى أننى سأصل. أترك العلاقات السطحية؟ أتريدنى أن أمضى وحيداً؟ بل أنت الآن وحيد، أجل .. تكسب هذه المرة.

لا… هذا كثيرا – ماذا تعنى – دع الاهتمام بالمظهر على حسابك ولكن من يقبلنى كما أنا – لا أحد – بل هناك من تقبلك فعلا بشرط الحركة – الحركة – أنسيت تلك الليلة؟

ولكنى لا أقوى على الحركة الدائمة. أشعر بدوار … حسنا دعنى أفكر بضعة أيام بعيدا عن هنا.

اليوم السبعون ومائتنان:

آه .. كم أحب البحر!! أعشق مشاهدة أمواجه المتلاحقة وأملأ عينى بزرقته الصافية – ولا أدرى كم من الوقت مضى وأنا أسير هكذا … أحاول قدر استطاعتى أن أحول  بصرى إلى الخارج – ولكن دون جدوى.

يا إلهى! ما هذا؟ هل خلقت هذا البيت الجميل خصيصا لى؟ هل امرت تلك الأشجار أن تميل هكذا من أجلى؟ سأمضى يومى هنا إذا.

آآآه…

دوت صرخة قاتلة … منى … أشعر بالم لا يوصف من أحشائى. أكاد أمزق الأعشاب التى أمسكت بها من الألم.. أسمع بكاء طفل وليد – طفلى!!

يا إلهى!

أشعر براحة غريبة على. راحة سفينة رست على بر. بعد أن طال السفر.

 بعد وقت  غير قصير خرجنا نحيا طفولتنا.

***

[1] – الرسم بريشة الكاتبة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *