الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يناير 1984 / يناير 1984 – الأشياء … والـ “هناك”

يناير 1984 – الأشياء … والـ “هناك”

عدد يناير 1984

الأشياء … والـ “هناك”

محمد يحيى

هناك …، على بعد…

– بعد ماذا؟؟ لا تقاس هذه الأشياء بالمسافات ولا المدد.

– أى أشياء؟؟

– الأشياء الحقيقية، الأهداف الأبدية المستحيلة، تلك التى لا طريق لها ولا تعين، حيث يتحول كل شئ، تتحول كل فكرة إلى حقيقة  الهية، حيث تدوم الأحوال ولا تبدأ، حيث لا ذات ولا ضياع، حيث … كثرت حيثياتى، طال الأمل وطالت معه سخافاتى، كفانى عبثا وليمض كل شئ كما يستحق..،

– و”يبدو أننى لا أستحق”

– ولكننى موقن أن هذا الـ  هناك موجود، كل شئ هناك، كل شئ فى البدء وفى الأبد هناك.

– وها أنا استوعب تماما أننى هنا، وأن الطريق إلى هناك يبدأ من خلفى، من أبعد خلف قريب.

– خلفى؟؟ لكن الأشياء التى أحبها، ارتبط بها، أوجد بها، فيها، لا توجد خلفى، كل الأشياء أيضا هنا.. ولكنها أشياء أخرى، أقبح والزج ولكنها أقسى، ويبدو أننى أحب القسوة، فهى التى توقظ حواسى.

– كل الأشياء هنا؟؟ لا، أنها أشياء كثيرة، ولكنها ليست كل، عندما كانت هى “كل”، كنت أنا “فقط”، فكان كل شئ “عادى”.

لكن هذا  الشئ “غير العادى” المزعج طال واستفحل، وليته كان استمر “وحده”، يأمل (فى عزلته) فى شئ آخر، فهو حر فى أن يضفى على شكلى رونقا وبريقا وطعما ألذ – إذا أراد -، ولكن إذا تدخل فى كل شئ، فهل هو حر؟؟ وقد تدخل فى كل شئ، أصبح كل عادى يبدو كالسراب، كالوهم، وأصبح السراب ساحة للأمل فى حقيقة…

– الحقيقة؟؟

لابد أن يكون لى فى الحقيقة مكان، مكانى الحقيقى، الأصلى، لابد أننى الآن لا أعيش إلا انحرافا عنه، عن هذا المكان، مكانى، المرسوم منذ بدء الخليقة، ليحتل فترة ما من الزمان الأبدى يخلق فيها انتماءه للخلود، للعوالم والأبد، للكل، أنه مكانى الطبيعى السابح فى مسروقات الشيطان الرجيم، الضائع فى قضائه، هذا الفضاء المسروق من جوف الحقيقة.

ثانية؟؟ – “اصبح  السراب ساحة للأمل فى حقيقة”.

هنا: تسرقنى الأشياء من مكانى لتشتتنى فيها، لكن مكانى يظل مكانى، وأظل أحلم أن انتقل “منه” إلى “هناك”، لكننى لست فيه، لأتخذه نقطة انطلاق مثالية، فى نفس الوقت الذى عجزت فيه الأشياء – الغبية الفاشلة للأسف – عن أن تجعلنى أتلاشى فيها.

“لست فى مكانى لكنه يظل مكانى”.

لا أجد أمامى إلى واحة للصراع مع شر منتصر، وأظل أحلم بجنات خير تبزغ فى لحظة لتحتوينى ونتلاشى معا بتلاشى اللحظة، ما أنعم التلاشى فى لحظة جناتية طارئة، بلا ماض ولا مستقبل، لينتفى الحاضر والمكان.

“لست فى مكانى لكنه يظل مكانى”

حاولت أراجع نفسى، أعرف مكانى، أستقر فيه لأنطلق منه، لكن شيئا من هذا لم يكن ذا وجه حقيقى، لم يكن فى المكان الذى وجدته فى بحثى عن مكانى إلا “أنا فقط”، وحيث المكان حيث الاستقرار حيث السكون حيث النوم الموات، خرج من جوف الاشياء (جوفى) خروجه من جعبة ساحر، تغطى، شرانهما، ظهر من حيث ظننتنى ناجحا، من جعبتى.

لم يكن فى الجعبة إلا أنا فقط.

احتللت نفسى.

لكن شيئا فى نومى لم يشبعبنى، حاول الجوع إيقاظى، تنبهت قليلا لأبحث عن أشياء تشبعنى، ووعيت أن الـ “هناك” ما زال ينادينى، لكن الأشياء اختطفتنى، وما زال الـ “هناك” فى وعيى، ومازلت أدرك أن هذه الأشياء وأنا لسنا هناك

ومازلت اتخبط حتى رفضت الأشياء، فنسيت الـ “هناك” معها، فعدت للأشياء، لأتذكره ولا أصله.

ومازلت أتخبط، ومازلت أتخبط حتى شعرتنى أقترب منه وكأنه موجود فى كل شئ، وزاد وجوده من كرهى للأشياء حبى لها، فهو فيها فى، ولكنه لا أنا ولا هى.

– فلأبحث عن عصارة الأشياء عصارتى (مكان الأشياء مكانى)، ولأنس الظاهر، أنسى قبح الحواس المزيفة.

فجأة طار كل شئ، تبخر اختفى ضاع انعدم، وها أنا فقط وحدى تماما، مات البدء الأبد الاول  الآخر، عاد الموات ثقيلا، ولا سبيل للرجوع، لا سبيل للخلاص إلا الموت.

– لا يأتى وحده..

– سألده … نعم سأقتل نفـ …!!؟؟.

أين المقتول؟؟

لست أقتل نفسى (حالتى هذه)، ليس المقتول هو أنا الآن، النائم الخائف

– الخائف؟؟

– نعم، مرعوب رعقبا قاتلا.

– قاتل؟ أين المقتول المرعب؟؟

فلأقدم عليها وهيا، أما يظهر المقتول، أو ينعدم ويختفى، فها هو يتحفز ليطعننى، ها هو يتحفز لفتح ستارة تشففت كانت تفصل بينى وبينه فلأطعنه الآن لأقتله، عله أما يكشف عن أسلحته – بخاطرى وقرارى واستعدادى شرطا – يقاتلنى فيبكينى، علنى أبكى، فيرجع يهدهدنى ونبكى ونبحث “معا” عن هناك “لنا”.

أنه يبحث معى عنه، فى الأشياء – فينا -، فى ظاهرى، فى قبحها، فى عصارتها عندما تكشف عن تغلغلها فيها، فى الأشياء، وكل منهما وحده وهم، والوهم قبيح مميت وزائف وحده.

ولكن …، ها هو الجمال والقوة يأتيان ممتزجين من نور التحامهما الرهيب (العصارة والظاهر)، ذلك الالتحام الذى أمام عينى، ذلك الالتحام الذى يخلقنى – مع الأشياء -، ويردنى، ليعود التحاما يخلقنى فيردنى، فأخلقه ويخلقنى، ويردنى، فأخلقه ويخلقنى، أصاحبه يصاحبنى، ويردنى، لنعيد الكرة ونمضى معا، ونرتد، ونعيد الكرة ونمضى معا، نعيد قطع مسافة أكبر، سعيا إلى هناك، إلى هناك قوى، لا طريق لا، هنا وهناك.

أخاف … أخاف جدا … أرعب … ولا يزال الموت يغرينى من خلف.

لكن الهناك أصبح هنا – هناك، يدعونى أحمل الخلف وأنا والأشياء والهنا والهناك.

فهل أقدر؟

لا أقدر.

إلا أن أواصل.

….. لأصل

وتعود حلقة “ربما….”.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *