يناير 1984 – الدائرة

الدائرة

عصمت داوستاشى

مدخل:

أنه صديقى .. وقد أطلق عليه ابنى الصغير اسما غريبا “الدائرة”، صحيح أن صديقى يبدو على شكل “دائرى” فى كل شئ .. تكوينه الجسمانى وحتى تكوينه النفسى .. ولكن ما أدرى ابنى الصغير بهذه التشريحات المعقدة؟ أقول له: تقصد أنه مثل الكرة. فيهز الصغير رأسه بالنفى .. وينظر إلى بعينين كلهما ثقة ويقول: أنه دائرة…. ويرسمها لى بأصبعه فى الهواء.

وحين عاتبنى صديق آخر … لتقصيرى فى زيارتى له … قائلا: طبعا فأنت دائما مع صديقك المقدس .. يقصد صديقى الدائرة .. وحين تأملت هذا القول، وجدت أن رمز التقديس عبارة عن دائرة ترسم وجوه القديسين.

فالدائرة عنصر أساسى فى صديقى العزيز هذا .. فهو إذن غارق حتى قمة رأسه فى قانون الدائرة بكل تنويعاتها.

التحول الأول:

فى بداية تعارفى عليه، كان كالطوق الصلب الذى يحتويك داخله، فلا تقدر على الفرار .. كان أشبه بكرة من الحديد، مثل تلك التى يحشون بها فوهات المدافع فى الحروب القديمة .. كان فارسا من زمن بعيد .. قنبلة لم تنفجر بعد.

يتدحرج ببطء حين أمشى بجواره فأضطر لأن أبطئ خطواتى، وحين أفعل هذا يقف ويشغل نفسه بشئ ما، حتى أقف وأنشغل مثله، وأحيانا كثيرة اضطر إلى دفعه للأمام فيتدحرج قليلا ليقف من جديد، كان من الثقل فى كل شئ حتى أنى بعد فترة من تعارفى عليه توقفت عن دفعه للأمام .. كما توقفت عن الوقوف حين يقف .. وابتسمت لشكه فى كل شئ، وتفرغت لتأمله، أن ا نبهارى المتألق بشخصه، جعلنى أتحمل الكثير من تصرفاته التى كنت أعتبرها تصرفات مرضية، فى حين يتباهى هو بها من منطلق ثقله الراسخ فى الحياة.. وحركته البطيئة، محطما كل شئ فى طريقه، باعتبارها نفايات يجب أن تصبح هى واسفلت الطريق فى مستوى واحد … ليقدر على مواصلة طريقه دون عقبات.

حتى ذلك الوقت كان يراودنى الأمل فى أن أتعلم منه شيئا يساعدنى على الترقية فى مجال عملى… فصديقى موظف أقدم منى، وقد استطاع أن يفتح لى فعلا أبواباً كثيرة كانت مغلقة أمام خجلى وانطوائى. كان صديقى هذا دائرة مغناطيسية، ويعلم أنه يجذب أمثالى من برادة الحديد، ومع مرور الأيام ونضجى معها .. انصهرت وتشكلت وأصبحت أنا الآخر “شيئا ما” له ثلثه .. وأصبحت أيضا أضيق به كثيرا … لقد استطاع حقا أن يغير أشياء كثيرة داخلى، ولكنه وقف عاجزا أمام براءتى وطهارتى وأصالتى. لم يفكر أبدا فى حجم العدوانية التى بدأت تتوالد داخلى تجاهه، كما وجدتها فيما بعد عند جميع من يعرفه .. معالمه محصنة ضد كل .. وأى شئ .. كانت  ذاته محصورة داخله، تأخذ أطيب ما تجده، وتحطم ما لا يفيدها.. وتأملت هذه القنبلة الحديدية الصدئة.. صديقى  المتدحرج أمامى.. وتمنيت لو عثرت على مدفع قديم لأضعه فى فوهته وأحشوه بالديناميت وأطلقه تجاه نمطه فى الجحيم، متخلصا منه للأبد.

التحول الثانى:

فى مرحلة تالية، بعد عودتى من الإعارة إلى  إحدى الدول العربية… التقيت به، كان قد أصبح “كرة قدم” نعم كرة قدم دائرية أيضا.. وأكثر جماهيرية، وكنا نلتقى أنا واحد أصدقائى وأصدقائه لنلعب به حين تتاح لنا فرصة للعب به، وقد كان هو أكثرنا استمتاعا … لا أنكر أنها كانت أوقاتا طيبة فى ظل اعتقاده الدائم بأنه راسخ ومغناطيسى، وأن دائرته ما زالت تحتوينا والعالم.

أصبح من المستحيل عليه – أن لم تكن هذه الاستحالة دائمة فيه – أن يرانا برؤية معايرة .. عكس ما نراه نحن فى نفوسنا، والتى يدرى هو ما بها. يربطنى به دائما رؤيته لى وقد أصبحت مثله لاعبا ماهرا .. وبالكرة التى هى .. هو .. وأننى مثله أستطيع أن أسدد أهدافا رائعة .. الفرق الوحيد بينى وبينه، أنه يمتلك ملعبا ضخما مؤسسا تأسيسا رائعا، ممتلئا بالجماهير التى تهلل له وحده راضيا ومتمسكا على أن يكون هو النجم الوحيد، للعبته الوحيدة، على أرض ملعبه الوحيد، يحقق بنفسه الانتصارات تلو الأخرى.. وينظر إلى ويبتسم .. ينظر إلى ويبتسم.. يبتسم.

فمهما كنت لاعبا ماهرا .. فلا فائدة طالما ليس لدى ملعبا خاصا بلعبتى .. كم كنت أتمنى أن أجد هذا الملعب الذى استعرض فيه أنا الآخر مهارتى فى تسديد الأهداف.. أن أشوف صديقى الدائرة فى تحوله الجديد إلى كرة قدم، بأن أسدده تجاه الهدف لأحقق انتصارا مازلت أحلم به.. ويبتلعه هو .. واللعبة.

التحول الثالث:

بعد انقطاعى عنه لتفرة طالت لمشاغل حياتى التى زادت تعقيداً، التقيت بصديقى الدائرة وقد تحول هذه المرة إلى بالون ضخم خفيف الوزن.. لابد أن أظل ممسكا بالخيط الذى يربطه، وإلا طار من بين أصابعى، هو والخيط المتصل به، وقد أصبحت قسوته ظاهرة، وعدوانيته واعية واضحة الهدف: تحطم ما تبقى فى ملعبه من الناس والأشياء التى تخص غيره..

ومن المحزن أن متعته الكبرى كانت تحطيم زوجته وأولاده.. متخيلا أنه لو  تخلص منهم سيعود إلى ذاته المتفردة ملكا متوجا من جديد.. كرة ثقيلة من الحديد.. قنبلة .. وغاب وعيه فى تقدير الزمن.

وواصل تحطيم أصدقاءه وأصدقاء أصدقائه .. لم يعد هناك شئ يعجبه، ولم يعد بعد أن أصبح بالونا قادرا على الاستقرار فى مكان ما..

خلال هذا الزمن بينى وبينه .. كنت قد تحولت أنا إلى ما كان عليه هو فى بداية صداقتى له.. تحولت إلى دائرة .. لم يقلها لى بانى بعد .. ولكنى صرت ثقيلا بطئ  الخطوات.. خاويا بعد أن دمرنى شكه فى كل شئ.. فطلقت زوجتى مرتين وأرجعتها .. وكاد منزلى أن يتحول إل خرابة بمعنى الكلمة … وقطعت صلتى بأصدقائى بسبب صداقتى له .. وفقدت حيويتى وأظلمت روحى وانتشرت الشيخوخة فى جسدى نتيجة العمى الذى ضاع منى بجوارى.

كنت قد قدمت استقالتى من العمل، وارتكنت إلى دخل ضئيل من تصليح الساعات التى كانت يوما ما هوايتى.

ولم يعد يزورنى أحد… كما أنى فقدت حماسى لكل شئ تقريبا.

وكان آخر ما يربطنى بالناس – غير أسرتى الصغيرة – عملى وصداقة فاترة معه .. وتعبت من أمساكى بطرف الخيط الذى يربط بينى وبينه، وسألت نفسى كثيرا .. ما هذا الإصرارعلى الاحتفاظ به..؟ ما على إلا أن أترك طرف الخيط فيطير صديقى هذا كما يحلو له، وأرتاح أنا من هذه الصداقة التى انتهت إلى غير ما كنت أهدف إليه.

كنت فى أواخر ديسمبر .. وجاءت نوة المكنسة متأخرة كثيرا لأول مرة فى تاريخ ذاكرتى، كنت أرتدى ملابسى الشتوية القديمة… فتحسست بعفوية ياقتى فعثرت مرشوقا بها مجموعا من الدبابيس الصدئة فانتزعت أحدها بصعوبة، وجذبت خيط البالون .. حتى وصلت أنفاس صديقى إلى جبهتى .. فطعنته بالدبوس فانفجر.

ورقة كافكا:

فعلتها أخيرا … وتحررت من دائرة لعينة كانت تطوقنى … لحظتها أخرجت ورقة كنت قد دونت فوقها كلام كافكا فى يومياته .. احتفظت بها طوال سنوات صداقتى للدائرة .. تأملت الورقة التى تآكلت أطرافها … قرأتها ببطء وابتسمت فى سخرية، ومزقتها كما فجرته تماما … وطيرت قصاصاتها فى الهواء لتلحق ببقاياه .. كتب كافكا:

“أن الناس تشدهم بعضهم إلى بعض حبال، ومن سوء حظ المرء أن تتفكك تلك الحبال من حوله فيهبط فى الفراغ إلى مستوى أدنى من مستوى الآخرين .. ولكن إذا تقطعت الحبال فهوى إلى الحضيض فتلك هى الكارثة، وذلك هو السبب فى أنه ينبغى لنا أن نظل متماسكين”. سقطت بقايا الورقة والبالون حولى، ولصق بعضها بثيابى.. فتقززت وأزلتها بسرعة.. صرخت العاصفة فأدخلت يدى فى جيبى وأسرعت إلى منزلى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *