الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من فقه العلاقات البشرية: (1) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس” الفصل الرابع: “المريض ورّانى نفسى” (3)

من فقه العلاقات البشرية: (1) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس” الفصل الرابع: “المريض ورّانى نفسى” (3)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 4-2-2023

السنة السادسة عشر

العدد: 5635

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(1) [1]

عبر ديوان “أغوار النفس”

العلاج النفسى (مقدمة)

بين الشائع والإعلام والعلم والناس (7)

الفصل الرابع

المريض ورّانى نفسى (3)

………………….

………………….

نفسنة ([2]) الحياة المعاصرة

بصراحة، كلمة “نفسنة” ليست الترجمة الدقيقة لأصل الكلمة التى وصلتنى بالإنجليزية وهى Psychiatrization، وأنا استعلمها هنا لأنبه كيف أن الإعلام عندنا، قد بالغ فى حشر آراء الطب النفسى (وعلم النفس) فى كل أمور الحياة تقريبا، من أول السياسة، حتى الجريمة، مرورا بالتربية، والرياضة، والأسعار، والموضة، والدين، والعنف، واختيار الوزراء، ولون حجرات النوم، ومائدة الطعام، والاستخارة، وسخرية عادل إمام مقارنة بخفة دم إسماعيل يس، وسيكولوجية ركاب مترو الأنفاق… إلخ.

احتاج الأمر منى الآن وأنا أشرح هذا المتن أن أتوقف فى محاولة أن أصنف ما أتجنب أن أقوله وما قد يقوله بعض زملائى بحسن النية فى مثل هذه اللقاءات فوجدت أن أغلبها يمكن أن تندرج تحت ما يلى:

1) بديهيات لا تحتاج إلى رأى أصلا، (وليس بالضرورة رأى علم النفس أو الطب النفسى) مثل أن “الجريمة لا تفيد”، أو أنه “على الأب أن يكون قدوة لأولاده جدا جدا”!!

2) تحصيل حاصل قد يأخذ صفة نفسية، لكنه لا يضيف، مثل أن الطالب الذى ينتبه إلى الدرس جيدا، يحتاج مجهودا أقل لمذاكرته (أى والله)!

3) شجب أخلاقى للشر بأشكاله، مثل أن الغش لا يصح، وعيب!،، لأن من يغش إنما يغش نفسه، وهذا ليس من الصحة النفسية فى شىء!!!!!

4) نصائح عادية مسطحة يقولها أى واحد فى أى مناسبة (دون حاجة إلى أن يكون مختصا فى النفس، ولا فى غير النفس)، مثل: إنه على الزوجين أن يجتهدا فى حل مشاكلهما معا بالسلامة.

5) نصيحة نفسية معادة (حتى لو كانت روجعت وثبت عدم جدواها) مثل النصيحة الأشهر “دع القلق وابدأ الحياة” (انظر نقدها فى المتن السابق ص66 ).

6) فتاوى سياسية بلغة نفسية، مثلا: تبرر السلام مع إسرائيل، أو تشجبه (كله ينفع).

7) وضع لا فتة تشخيصية على شخص نشرت حكايته فى الإعلام، دون لقاء هذا الشخص أو فحصه، ودون استيفاء المعلومات اللازمة، ودون التأكد من مصداقية المحرر الذى نشر الخبر، ودون عمل حساب تأثير هذه اللافتة النفسية عليه أو على ذويه، أو على من هو مثله.

8) الحكم على مسئولية متهم ارتكب جريمة غريبة، أو نادرة، أو مستهجنة جدا، لم يبت فيها قضائيا بعد، دون فحصه مباشرة، أو ملاحظته، أو الاطلاع على ملفه.

9) ترديد توصيات نابعة من ثقافة غير ثقافتنا، فى سياق لا يناسبها، مثل الكلام عن الحرية وحقوق الطفل، بنفس الألفاظ والتوصيات التى تتردد فى ثقافات أخرى، ولصق الصفات النفسية، وعبارات المديح بهذه التوصيات لمجرد أنها مستوردة.

10) التوصية الأكيدة بضرورة الذهاب إلى الطبيب النفسى للاستشارة (والعلاج) “عمّال على بطّال”، فى أمور الحياة العادية التى غالبا لا تحتاج لمثل ذلك.

11) تشريح شخصية بعض الفناين أو الفنانات بما يحب أن يسميه الإعلاميون “تحليل نفسي”، دون لقائهم، وبأقل قدر من المعلومات، وغالبا دون إذن منهم.

12) لصق اسم مرض خاص (أو صفة مرض عام، مثل الجنون) ببعض رؤساء الدول الذين يمارسون سوء استخدام السلطة فى الحرب أو السلم،  وكأننا لا نعرف أننا بذلك نلتمس لهم العذر (مـَرْضـَى بقى!!) ليواصلوا قتل واستغلال الأبرياء والضحايا.

……….. وغير ذلك كثير مما هو مثل ذلك.!!

هوامش محدودة:

بعد كل هذه المقدمة الطويلة، وجدت أن المتن أوضح من أن أضيف إليه شرحا آخر، اللهم  إلا ما تصورت أنه يحتاج إلى التذكرة من جديد، مثل ما يلى:

1- تجنب الإلحاح فى ترديد أنه “دع القلق وابدأ الحياة”،

ثم إنك – بعد ذلك: لمْ لا بدْ انك تسيب هذا “القلق”، علشان “تعيش”

 دون اتهام الكتاب الأصلى لديل كارنيجى بالمسئولية الكاملة عن سلبية تـَلـَقـِّى  هذا المفهوم، الذى هو من أشهر ما يجرى بين الناس على أنه غاية المراد لتحقيق ما هو صحة نفسية، وقد كررت طويلا أن البديل الحقيقى هو “عش القلق، واقتحم الحياة”.

2- إشاعة أن ثم شىء اسمه “الاكتئاب القومي”، وأن الحزن مرفوض من أساسه، فهى إشاعة تروّج مفاهيم سطحية، مسخت عاطفة شديدة العمق والدلالة مثل الحزن.([3]). ثم أنها تشوه الوعى القومى بشكل أو بآخر.

3- الترويج السطحى ضد الخوف المشروع، كثيرا ما يتكرر فى الإعلام، الأمر الذى انتقدته حتى فى أرجوزة للأطفال عن الخوف، لا أكتفى إزاءها بالإشارة إلى موقعها فى الموقع برابط، وإنما أقتطف منها ما يلى:

قالوا يعنى، بحسن نيةْ: “لا تخف”

دا مافيش خطرْ

طب لماذا؟

هوا يعنى انا مش بشر؟

إنما احنا نقولَّك: “خافْ وخوِّف”!

فيها إيه؟

لو ماخفتش مش حاتعمل أى حاجهَ،

فيها تجديد أو مغامرة

 لو ما خفتش مش حاتاخد يعنى بالكْ،

حتى لوْ عاملين مؤامرة

لو ما خفتش مش حاتعرف تتنقل للبر دُكْهَهْ

خايف انْ تْبِلّ شعركْ

لو ما خفتش يبقى بتزِّيف مشاعرك

بس برضه خللى بالك

إوعى خوفكْ

يلغى شوفكْ

………………

إوعى خوفك يسحبك عنا بعيدْ، جوّا نفسك

إوعى خوفك يلغى رقة نبض حسك

4- استشهاد الإعلام، وبعض النفسيين، بما ينشر هنا وهناك من أرقام ونسب مئوية لكثير من الأبحاث (بعضها أو كثير منها مستورد)، الأمر الذى يتكرر بشكل متواتر، وكثيرا ما ينساق الطبيب النفسى إلى تفسير هذه الأرقام وكأنها حقائق مسلمة، دون (أو قبل) مناقشة مدى مصداقيتها، أو نوع العينة التى أجريت عليها وهل هى ممثِّلة لما تشير إليه أم لا؟ … إلخ … إلخ.

(هـَذَا‏ ‏الذى ‏قد‏ ‏أَظـْهـُرُه‏ ‏الـْبـَحـِثِ‏ ‏الـفُلاَنـِى،‏

‏”‏لمّا‏ ‏عدّ‏ ‏التانى ‏ساب‏ ‏الأوَّلانى”.‏

ثم‏ ‏أوْصَى: “أ‏نْ ‏يكون‏ ‏الكــلْ ‏عالْ‏.‏‏…الخ).‏

*****

استمرار وصف أدوار يلعبها الطبيب النفسى

-10-‏

وساعات‏ ‏أشوفنى ‏مـِطـيّباتى ‏مُـعْـتَبـرْ،‏

آه‏ ‏يا‏ ‏حلاوتـُهْ‏ ‏وهـُوَّا‏ ‏بِيـْلبِّـسْ‏ ‏خـُدُوُدهْ ‏الإبْـتسَامةْ‏،‏

أو‏ ‏لمّا‏ ‏بِيْـشَـَخـْبـَطْ ‏ويكتبْلَكْ‏ ‏حـُبـُوبْ “‏منعْ ‏السآمـة‏”، ‏

أو‏ ‏لما‏ ‏يِوْصف‏ ‏حقنة‏ ‏المُـحـَاياة‏ ‏تقوم‏ ‏تمسح‏ ‏مشاعرك

“‏بالسلامة‏”.‏

-11-‏

وساعات‏ ‏أشوفنِى ‏كمَا‏ “‏الأغا‏”‏

بيضحّـك‏ ‏المَـلـِكهْ، ‏ويُستعمَـلْ ‏من‏ ‏الظاهرْ، و‏بَــسْ‏. ‏

انطلاقا من المتن:

من‏ ‏أقبح‏ ‏الأدوار‏ ‏التى ‏قد‏ ‏يضطر‏ ‏اليها‏ ‏الطبيب‏ النفسى – ‏أو‏ ‏قد‏ ‏يتمتع‏ ‏بها‏ ‏إن‏ ‏شاء‏ – ‏هو‏ ‏ما‏ ‏تصورت‏ ‏نفسى ‏فيه‏ ‏أحيانا‏ ‏بالنسبة‏ ‏للمرفـَّهات‏ ‏من‏ ‏بنات‏ ‏الذوات‏ (‏القدامى، ‏والمحدثات‏ ‏معا‏) ‏حين‏ ‏يحضرن‏ ‏للفرجة‏ ‏علىّ، ‏أو‏ ‏للدردشة‏، ‏أو‏ ‘‏للوِنْسَه‏’، ‏أو‏ ‏لقضاء‏ ‏وقت‏ ‏مع‏ ‏نجم‏ “‏تلفزيونى” – مقابل مبلغ الكشف –  ‏أو‏ ‏لمعاينة اسم‏ ‏معين‏ وجها لوجه، ربما للتأكد من خفة دمه، أو للكشف عن ما وراء تجهم وجهه، ‏و‏كنت‏ عادة ‏اضطر‏ ‏من‏ ‏منطق‏ ‏العقل‏ ‏والذوق‏ ‏والمجاملة‏ والتكيف‏ ‏وآداب‏ ‏المهنة‏ ‏أن‏ ‏أجارى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏النوازع، فطالب الاستشارة الأولى له هذا الحق مهما كان الدافع إلى الاستشارة، فأجدنى فى حيرة وأنا أحاول أن أحدد دورى أكثر فأكثر قبل أن أستثار. لكن، والحمد لله، تكون مثل هذه الزيارة هى الأولى والأخيرة، فنادرا ما أضطر للصبر على زائرة أو زائر من هذا النوع أكثر من مرة واحدة، وهو كذلك، نادرا ما يصبر علىّ، وقد استنتجت من هذه الخبرات أن ما يحدث هو أن مثل هذه العلاقة العلاجية – إن كان لها أن تسمى كذلك أصلا– تنتهى بمجرد نهاية استكشاف الاستطلاع أو الفرجة، أنا ليس من حقى أن أشجب من يستطيع من الزملاء أن يقدم خدمات لهذا النوع من طالبات وطالبى الحاجة ما داموا قد سألوه المشورة، ولكننى كنت أعجز عادة أن أواصل.

حاولت عدة مرات، وقد أكرر هذه التيمة كثيرا، أن أبين الفرق بين العلاج وبين “الترييح”، كما يشاع عن الطبيب النفسى أن: “الطبيب لازم يريّـح المريض”، الطبيب يعالج، ومن ضمن علامات نجاح العلاج أحيانا أن مريضه يرتاح، لكن لا ينبغى أن يكون الهدف تماما ودائما هو “إرضاء الزبون”، فالزبون هنا بوجه خاص ليس “دائما على حق”، وقد يصل الأمر إلى استعمال الطبيب من جانب المريض تبريرا لسلوك سلبى باعتبار أن المريض ليس مسئولا جدا عما يفعل، طالما هو مريض ولا مؤاخذة.

يندرج تحت فكرة “الترييح” ما جاء فى المتن: إعطاء حبوب منع السآمة، (لمضادات الاكتئاب مثلا). حين صار الحزن مرفوضا من أساسه بفضل الإعلام الطبى المسطح – تحت تأثير شركات الدواء – وبالتالى أصبح التخلص منه بأسرع ما يمكن هو هدف العلاج فى كثير من الأحيان، لن أكرر الحديث عن إيجابيات الشعور الجاد بالألم النفسى، لكن السائد فى معظم الممارسات هو الإسراع بالتخلص من الحزن ما أمكن ذلك. النتيجة ليست فى اتجاه أن تحل الفرحة الحقيقية محل هذا الحزن المـُـزاح، ولكن أن يحل نوع من الطمأنينة التى كثيرا ما تكون ماسخة ولا تتناسب مع الجارى، حتى تصل إلى درجة من اللامبالاة، وربما هذا ما يعنيه المتن: “تمسح مشاعرك بالسلامة”

أعرف الردود على كل ذلك، وأحترمها، وأرفضها من واقع الممارسة.

مرة أخرى.

………………….

………………….

ونواصل الأسبوع القادم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية (1) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى.

[2] – استعملت هذا التعبير منذ سنة 1978 لأصف به ما جاء فى المتن ثم بلغنى مؤخرا (2017) أن هناك برنامجا تليفزيونيا حواريا بهذا الأسم، ولم أشاهده ولا مرّة واحدة، ولكننى استمعت لمن يتابعونه فوجدته أبعد ما يكون عن ما أردتُه هنا، ولم أستطع أن أنحت اسما آخر لما أحاول تقديمه، لكل ذلك لزم التنويه بأنه لا علاقة إطلاقا بين هذا البرنامج وبين ما أريد إبلاغه بهذه التسمية.

[3] انظر مثلا: “ما هو لازم إنى أزعل” نشرة 7/9/2007 ،  أو نشرة 18/11/2007 )مقدمة 3/3عن الوجدان، والحزن(. وقد نشرت مؤخرا فى صحيفة “القاهرة ” بتاريخ 16 / 1 / 2018 بعنوان: “آهات مصرية عبر أكثر من نصف قرن”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *