الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف الوجدان واضطرابات العواطف (52) أسى الفقد (3) والعديد باسم اليتيم يفتقد الأب

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (52) أسى الفقد (3) والعديد باسم اليتيم يفتقد الأب

نشرة “الإنسان والتطور”

الإثنين: 22-12-2014   

السنة الثامنة

العدد: 2670  

 الأساس فى الطب النفسى

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (52)

ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (15) 

اضطرابات الوجدان (العواطف)

عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (12)

أسى الفقد (3) والعديد باسم اليتيم يفتقد الأب

مقدمة:

تعجبت لوفرة العديد على ذهاب الأب، أكثر من رحيل الأم، هل يا ترى لأن مصدرى هو الصعيد أصلا، أم أن هذا العديد يشمل الأم ضمنا؟ لست متأكدا.

صورة الأب فى ثقافتنا تحتاج لإعادة نظر من جوانب كثيرة، فلا يجوز أن يستمر تكرارنا لصورة السيد أحمد عبد الجواد، ولا إلى بدائلها الأحدث، ولا إلى صورة مستوردة من خواجات الحرية!!، وإلى الصورة المضروبة بالإعلام والمسلسلات، كما ينبغى أن نميز بين صورة الأب فى الثقافات الفرعية، جغرافيا، وطبقيا، ومهنيا، إن أى تعميم هو تسطيح وإعاقة تحول بيننا وبين التعرف على دور الأب فى الأسرة وفى المجتمع، وخاصة بعد أن تميّـع الموقف السياسى، والاجتماعى فى هذه السنوات الأخيرة إلى درجة لا تحتاج إلى وصف.

العديد الذى بين يدىّ يبدوا عديدا صعيديا أساسا، وسوف أعرض اليوم كيف يستوعب الوعى الشعبى فقد الأب بما يترتب عليه من يتم وربما ضياع، لكن هل التركيز على حجم ضياع اليتيم بعد فقد الأب، وأنه لا بديل للأب الأصلى، هل يساعد ذلك فى العناية باليتيم بشكل أفضل، أم أنه يزيد من الحسرة والاحتجاج جعل الموت الذى كسر عمود الاسرة وشرد اليتامى هكذا.

أنا آسف للتمادى فى هذا الألم، لكنه أفضل من لصق لافتة أعراضية على هذه المشاعر الإنسانية التى لا يصح وصفها إلا بما جاء على لسان أصحابها هكذا:

(8) الذل وألم الوحدة بفقد الدعم

ريت (1)ماشى ورا خاله، نِفسُهْ دليلة وكادني (2) حاله

ريت اليتيم ماشى ورا عمُّه، نفسه دليلة وكادني همُّه

لاحظ شكل الموقف، وأن اليتيم لا يمسك بيد عمه، ولا بيد خاله، ولكنه يمشى وراء أى منها، الطفل عادة فى هذه الثقافة يمسك بيد أبيه، أو حتى بذيل جلبابه، وهذا قد يفسر الذل (الدال هنا بدل الذال حسب لهجة المعددة) الذى يظهر على وجهه أو وهو مطأطئ، أمّا هذا التعاطف مع اليتيم فهو لا يغنى لكنه ربما يكون للتذكرة لا أكثر.

(9) تأكيد للتفسير السابق: كيف يصحب الأب ابنه ولا يسيّره “وراءه”

إن لبسونى الجوخ ما أريده، أريد أبويا ومسكتى في إيده

وإن لبسونى الجوخ ما احبّه، أريد أبويا وقعدتى جنبه

علينا أن نتعلم أن أى تعويض مادى لا يعوض الطفل فقد أبيه، وطلب اليتيم عودة أبيه يعلن نوعا من إنكار الموت ، وأيضا حدسا تطوريا وشعبيا بإمكانية البعث، أما تعبير، “مسكتى بإيده، وقعدتى جنبه، فهو لا يحتاج إلى تعليق”

(10) اليتيم يميز نوع الحنان، ويعرف أنه مهما قال للبديل “يا با” فهو يفتقد النوع الأصلى من العواطف

من قال عمى كيف أبوىْ يكدب، أبويا حنيـّن وحنيته تغلب

من قال عمى كيف أبوىْ كداب، دا أبويا حنين وحنيته بوداد

الطفل يميز نوع الحنان، ويقارن، وحين يفتقد ما اعتاد عليه – صامتا فى الأغلب- فإنه يكاد يرفض أن يكون البديل هو الأب ما دام لم يتذوق نفس طعم الحنان (الحنـّيّة)، وهو يميز بين حنان وحنان حتى لو كان أبوه هو الذى وصاه أن عمه هو بمثابة أبيه، مهما صار  يلقبه بـ “أبويا” أو :  “يا بَا”،

فى العديد الأول كانت المقارنة كمية “حنّيته تغلب”، أما فى المقارنة الثانية فهى أعمق وأجمل ، حين تكون “الحنّية بوداد”، تصبح شيئا آخر، ولعل كلمة وداد هى الأكثر تعبيرا فى الصعيد عن مشاعر شديدة الجمال والخصوصية (على حزب وداد قلبى يا بوىْ)

(11) قبول الأب البديل قبولا مشروطا

يا خال ربينى ووديني حداك، لا بد ابويا يوم الرحيل وصّاك

يا خال ورينى قرار جيبك، لا يحس ابويا ويلزمك عيبك

حبن  بفتقد اليتيم أباه يقبل البديل ويطلب التربية بنفسه، هذا التعبير “ربّينى ” يعلن قيمة ننساها حين نتصور أن الأطفال يفضلون أن يترك لهم الحبل على الغارب، واليتيم هنا يسأل خاله أن يربيه قبل أن يسأله أن يؤويه (ودّينى حداك)، وهو يفعل ذلك مستندا إلى مرجعه الأول، وأن ذلك ليس تفضلا من خاله، وإنما هو تنفيذ لوصية أبيه، وهو يرى أن أباه حين وصّى خاله به لم يكن كذابا، لكن الذى يخالف هو الأوْلى بهذه الصفة

والتربة تشمل الرعاية والمسئولية، وكثيرا ما نسمع أن من يكفل اليتيم، ولو من أقاربه، قد يميز بينه وبين أبنائه أو بناته من الرحم، وقد يبخل على اليتيم ،

ومن قبيل إعلان العشم المحتج أن يطلب اليتيم من خاله أن يريه ما إذا كان جيبه ممتلئ أم أن تقصيره هو لضيق ذات اليد فعلا (ورينى قرار جيبك)، فإذا ثبت أنه قادر ولكن مقتر عليه بوجه خاص لزمه اللوم (يلزمك عيبك) ، ومِنْ مَنْ؟ من الأب الذى شاهد المشهد (جتى بعد رحيله) فأحس بالحقيقة (لا يحس ابويا) وثبت العيب ووقعت الملامة (يلزمك عيبك)

(12) وعلى لسان يقوم العديد بتصبير الأم ومواساتها

قولوا لأمى يصبرك ربك، الموت لا بيدّى ولا بيدك

قولوا لأمى يصبذرك سيدك، الموت لا بإيدى وبا بإيدك

حين يأتى التسليم هنا لإرادة الله فى أنه لكل أجل كتاب، لا يبقى أمامنا إلا الصبر، والعديد هنا على لسان اليتيم له معنى خاص، فمن ناحية أن الطفل يمكن أن يكون أقدر على معايشة الفقد، علما بأنه يدرك الموت بطريقته الخاصة وقبل الزعم بأنه لا يعرف الموت إلا متأخرا نسبيا (ولقد كتبت فى ذلك مطورلا: متى يعرف الطفل الموت؟)، ومن ناحية أخرى فإن الطفل يعرف الله معرفة فطرية قوية راسخة، قبل ان يشوه الكبار هذه المعرفة بالترهيب والترغيب، ومن ناحية ثالثة، فالطفل هنا يتبنى أمه وكأنه الكبير الذى ينصحها بالتسليم والقرب من الله بشكل بسيط وفطري ومعين.

وبعد

نتوقف هنا قسرا لنعود الأسبوع القادم إلى باقى ملف الوجدانات العسرة، ونحن نتناول موضوعا إشكاليا هو “الألم النفسى” (وطبعا علاقته بالاكتئاب، والحزن، وكل ما سبق!!)


[1] – ريت = رأيت، شــقْت

[2] – كادِني = آلمنى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *