الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف الوجدان واضطرابات العواطف (51) أسى الفقد (2) ومَسْرَحَة الموت “بالعديد”

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (51) أسى الفقد (2) ومَسْرَحَة الموت “بالعديد”

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 21-12-2014   

السنة الثامنة

العدد: 2669  

 الأساس فى الطب النفسى

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (51)

ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (14) 

اضطرابات الوجدان (العواطف)

عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (11)

أسى الفقد (2) ومَسْرَحَة الموت “بالعديد”

مقدمة:

توقفنا الإثنين الماضى عند أسى الفقد، وكنت أعلنت أننى أخشى من الاستطراد، وأنتظر رأيكم، وما وصلنى شفاهة هو أن هذا الموضوع مؤلم، وغير مألوف عند ساكنى الحضر غالبا، لكن فى نفس الوقت كان هناك حب استطلاع ورغبة فى التعرف على موقف ثقافتنا الشعبية من هذا الطقس الصعب.

فى نفس الوقت كنت أكتب هذا الأسبوع عن “الموت” فى أدب نجيب محفوظ، وكان هذا هو عنوان الأطروحة التى سوف أرسلها للنشر فى الدورية السنوية المختصة بنقد أعماله، فاضطررت لقراءة عدة كتب ورسالات لدارسين ونقاد كتبوا فى نفس الموضوع (الموت)، وقد لاحظت أن أغلبهم بعيدون تماما عن هذه الطقوس الأكثر عراقة فى ثقافتنا، نجيب محفوظ نفسه قاهرى حتى النخاع، وهو لم يتحدث معى إطلاقا عن أن له أية دراية أو علاقة بمثل هذه الطقوس برغم حميمية علاقته بالطبقات الشعبية الكادحة، المهم: بما أن الشىء بالشىء يذكر قلت أكتب نشرة اليوم عن عنصر أو اثنين مما وعدت به، وتصورت أن الأولى بالكتابة هو ما أسميته فى الحلقة السابقة “مسرحة الموت”، وفيما يلى بعض ما وصلنى مما ألهمنى هذا الاسم:

(1) الراحل عريس فى زفة:

خايل يا خويا فى اللحد تتمخطر، والطول وافى والشنب أخضر

خايل يا خويا فى اللحد تتمشى، والطول وافى والشنب لسّه

واضح أن الراحل كان شابا فارعا، صغير السن (الشنب أخضر- الشنب لسّه) ، والحزن على شبابه هكذا يزيد الحسرة واللوعة ، وهو – هكذا – لا يعين الأم أو يعتبرها، لكن لعله دعوة للتفريغ والمشاركة كما ذكرنا.

(2) ثم يبدأ تقمص الميت والتكلم باسمه من داخل القبر:

يا ديب ما تزعق تبكينى،  أنا كنت عند امى ترضّينى

إعلان الوحدة  والشوق إلى هدهدة الأم، وفى نفس الوقت أن الذئاب أصبحت هى الصحبة، وأن كل ما يطلبه الراحل منها هو أن تخفض من صوتها ، فهو يبدو  أنه لا يخاف أن تهاجمه، أو تفتك به، فقط أن تخفض من صوتها حتى لا يبكى، وهو يتذكر هدهدة أمه وربما حضنها إذا ما بكى

(3) المفاوضة طمعا  فى تراجع ساخر:

غساُلهم يا بو الرقوق صينى، ما تشاور امى لا بد تفدينى

غسّالهم يابو الرقوقِ نْحاس، ما تشاور امى لا بد ما ترضاش

فى هذا العديد رقة شديدة فى علاقة الراحل بأمه، وكأن رسول الموت ممثلا فى اللحاد أو المغسل، يمكن أن يستأذن أم الراحل، وهى قطعا لن تأذن، لكن من ضمن كمال “مَسْرَحَة الموت” – كما أسميناها – تصوير هذا الاحتمال كأنه وارد

(4) الرضا بالرحيل مع شرط الرفق فى التعامل وهو راجع من عند “المزيِّن” لتوه:

ما تنزلونى القبر بالجبرى، حالق جديد يا خد الهوا شعرى

ما تنزلونى القبر بالعاصى، حالق جديد ياخد الهوا راسى

لاتنزلونى القبر بالهمّه، حالق جديد لا تِعْكسوا العمة

لا تنزلونى القبر بالعاصى، حالق جديد لا تعكسوا راسى

واضح أن الراحل كان ، بل ما زال، “عايقا” يحاول أن يحافظ على تسريحة شعره، وعلى حبكة عمته، وعلى عدلة رأسه، وهذا الكلام تقوله المعدِّدة، أو أقارب الميت الشاب غالبا، فتزداد لوعة الأم وحسرتها، وفى ذلك ما فيه من خير وتنفيس، أو غير ذلك

(5) القبر يرحب بالقادم الجديد (لتكتمل المسْرَحَة) فيدور الحوار التالى:

القبر قال له انزل ولا تخافشى، – خايف انزلك يا قبر ما اطلعشى

والقبر قال له انزل بلا تعسير، ياللى شبابك يشبه القناديل

وكأن الأمر بيده، ونلاحظ أن فى البيت الأول ملامح احتمال الدخول والخروج، وفى البيت الثانى يبدو وكأن ترحيب القبر به كأنه “قنديل” سوف يضيئه هو للتشجيع أو الاستدراج

(6) ثم نتابع النقلة من الداخل:

ولا يعجبك قبرى وتزويقه، من فوق واسع وتحت يا ضيقه

ولا يعجبك قبرى ولا رخامه، من فوق واسع وتحت يا ضلامه

وهكذا يتغير المنظر على المسرح ونحن ننتقل إلى مواجهة الوحدة ، والضيق، والظلام، ولا أعرف كيف يكون مثل هذا الكلام هو تصبير لأهل الميت، كيف؟ والأمرّ من ذلك حين يدخل الدود المسرح

(7) الدود يتمخطر:

بين اللحود دودة بتتمشى ، تاكل الحواجب والشنب لسه

يبدو أن صلاح جاهين كان يعرف كل ذلك وهو يقول:

يا طير يا عالي في الســما طظ فيك

ما تفتكرشى ربنا مصطـفيك

برضـك بتاكل دود وللطين تعًودً

تمـص فيه يا حلو .. ويمص فيك

الدود هنا يـتمشى، ويمزمز على مهله

ما أقسى كل هذا

كفى اليوم لو سمحتم

ونكمل غدا إذا احتملتم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *