الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف اضطرابات الإرادة (7) استدراك: استحالة إثبات جميع نظريات التطور، ومع ذلك..!!

ملف اضطرابات الإرادة (7) استدراك: استحالة إثبات جميع نظريات التطور، ومع ذلك..!!

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 8-3-2015   

السنة الثامنة

العدد: 2746

الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:

ملف اضطرابات الإرادة (7)

استدراك:

استحالة إثبات جميع نظريات التطور، ومع ذلك..!!

حمدت الله لهذه الوقفة التى جاءت مصادفة إذْ أتاحت لى التقاط أنفاسى قبل أن أغوص فى عرض فروضى عن الإيقاع الحيوى والتطور، فقد عثرت مصادفة على ما وصلنى منذ أكثر من عشرين عاما أثناء إلقائى محاضرة فى المجلس الأعلى للثقافة فى لجنة الثقافة العلمية أشرت فيها إشارة عابرة  إلى نظرية التلخيص والاستعادة لإرنست هيكل Recapitulation theory وإذا بصديق عالم هو أ.د. أحمد شوقى أستاذ الهندسة الوراثية فى كلية الزراعة جامعة الزقاريق، يعقب بتواضع كريم على أن هذه النظرية قد ثبت خطؤها مائة فى المائة، وأن من يتكلم عنها أو يحتج بها  أصبح نادرا أو نشازا (بل جاهلا) فى أغلب المحافل العلمية، ولا أنكر أننى صدمت تماما، ولم أرد عليه فلم يكن عندى دليل أكثر مما قلت، ثم إن ذكر إرنست هيكل جاء عابرا فى المحاضرة فهو لم يكن موضوع المحاضرة الأصلى.

لم أنس هذا الحدث أبدا، ولم يثننى عن مواصلة إصدار مجلة الإنسان والتطور 1980 – 2002 ثم نشرة الإنسان والتطور اليومية الحالية من سبتمبر 2007 وحتى تاريخه، ثم مواصلة مهنتى من خلال تطبيقات عملية لهذه النظريات، ولا عن متابعتى لفائدتها فى واقع ممارستى يوما بيوم حالة بحالة، لكننى لا أستبعد أن يكون هذا الحدث ضمن أسباب تأجيل نشر النظرية التطورية الإيقاعحيوية إلا إشارة إلى بعض  معالمها فى أوراق متباعدة بين الحين والحين.

لكننى حين رحت أواصل كتابة الافتراضات الأساسية لهذا العمل الموسوعى باسم “الأساس فى الطب النفسى”، امتد بى النظر من واقع خبرتى أساسا مع بعض قراءاتى فى البيولوجيا النيورونية أكثر من قراءاتى فى علوم التطور، امتد حتى بدأت تتكشف لى صعوبة المنهج من جهة واستحالة إثبات ما أمارسه بالطريقة التقليدية من جهة أخرى، لكننى واصلت حتى تبينت لى الحقائق تلو الحقائق وخاصة أثناء تناولى ملف الإدراك من (نشرة 10-1-2012) إلى (نشرة 10-3-2013) بكل مستوياته ثم ملف العواطف، ولم أتردد فى تسجيل ما يصلنى من الممارسة مدعمة بما أصادفه من معلومات داعمة مثل ما أشرت إليه فى سياق عرض “العقل الوجدانى الاعتمالى” Emotionally Processing Mind ومستويات الإدراك وعلاقتها بالوعى، وعلاقة البرامح البقائية الأساسية وتطورها إلى الوجدانات الحالية وغير ذلك مما ورد فى مئات الصفحات السابقة.

وهكذا وصلت أخيرا – الأسبوع الماضى-  إلى هذا المأزق الذى اضطررت معه أن أعرج إلى بعض الخطوط الأساسية للنظرية، مما اضطرنى إالى التمادى فى القياس وأنا أتبنى نظرية الاستعادة والتلخيص بالذات Recapitulation theoryحتى نشرت الأسبوع الماضى هذه القياسات التى افترضت فيها استعادة التاريخ الحيوى كله فى جزء من الثانية microgeny وليس فقط فى خلال عمر الإنسان الفرد ontogeny (أنظر نشرة الأسبوع الماضى)، مرورا بدورات النمو ونبضها.

كنت أنوى اليوم أن أواصل التوضيخ لهذه الخطوط العريضة خاصة بعد أن وصلنى ترحيب طيب، وجهد صبور لتلقى تفاصيل فروضى باحترام وجدية وتشجيع، وحين هممت بذلك لاح لى  كضرورة، آن أوانها، خاصة بعد وضعى فى الاعتبار ما تبقى لى من عمر، مع صعوبة الاعتماد على من يستطيع أن يوصل أفكارى بعدى نظرا لأن أغلبها نابع من الممارسة الشخصية وتدوين الملاحظات والأفكار دون توثيق أو تحقيق، وكان من أهم ما شجعنى على أن أغامر بنشر فكرى التطورى هو ما أتاحه لى ملف الوجدان من التعرف أكثر فأكثر على تشارلز داروين إنسانا وعالما، (نشرة 3-8-2014 “تشارلز داروين “جاب الديب:  من بؤرة وعى إيمانه المعرفى”(وليس من “ديله”) وقبل ذلك ما أعطاه لى فكر دانيال دينيت وهو داروينى الفكر والهوى وخاصة فى كتابه “أنواع العقول” الذى أشرت إليه كثيرا واستشهدت به مرارا. (نشرة 25- 12- 2007 “أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى”)،  (نشرة 2-1-2008 “أنواع العقول  – وإلغاء عقول الآخرين- الطريق إلى فهم الوعى”).

إلى هنا وكانت الأمور تسير بدون إعداد مسبق فى اتجاه توضيخ معالم النظرية من خلال هذه الممارسة اليومية فى هذه النشرات المتتابعة المنتظمة، لكننى حين عدت أقرأ نشرة الإثنين الماضي وجدتنى أطالب المتلقى (كما أطالب طلبتى وزملائى الأصغر أثناء تدريس وعرض الحالات) أن يستحضروا كل إدراكهم وإبداعهم (وليس فقط خيالهم) ليتصوروا إمكانية تلخيص واستعادة ملايين السنين فى جزء من الثانية، وجدت أننى أطلب المستحيل فعلا، إلا أن هذا المستحيل نفسه لم يكن يمثل أبدا إعاقة لى فى ممارستى اليومية مع الذهانيين خاصة، بل كان هو المُنْطلق.

لعل القارئ يذكر كيف أننى وضعت فرضا أن تشارلز داروين نفسه قد حصل على نظريته من خلال بؤرة حدس إيمانه مهما تصور هو أنه وصل إليها من ملاحظاته الدقيقية والمتواصلة، (مرة أخرى نشرة 3-8-2014 ” تشارلز داروين “جاب الديب: ….الخ) كما أشرت أيضا إلى أن “الحلقة المفقودة” (أو الحلقات) فى نظريته -هو أو غيره- سوف تظل مفقودة، وحتى لو عثروا عليها فسوف تظهر حلقات أخرى مفقودة لأن هذه هى طبيعة المعرفة التى تصدى لها هو  (وأغلب علماء التطور غالبا)، وهكذا فإن على هذا الفريق المبدع المغامر من العلماء ,ان يسلم بهذا النقص الطبيعى، وأن يستنتج ما افتقد بالحدس والتشكيل دون تردد، تماما مثل افتراض المواد الناقصة وتحديد وزنها الجزيئى قبل اكتشافها فى جدول مندليف.(نشرة 18-8-2014 جدول “مندليف” داخلنا، والحلقة المفقودة).

وعلى ذكر إيمان داروين فيبدو أنه كان من أسباب تأجيلى الخوض مباشرة فى تفاصيل فروضى التطورية: محاولة تأجيل فتح النار علىّ من المفسرين الحَرْفيين لنصوص رائعة احتكروا تفسيرها حتى كادوا يخفون معالمها، فوصلوا إلى الجزم بفساد وخطأ كل ما يمت إلى التطور بصلة، والأمر غير ذلك،

آن الأوان أن أعترف أن إبحارى فى علوم التطور والعلم المعرفى العصبى والبيولوجيا النيورنية عامة قد فتح لى أفاقا رائعة شديدة الثراء للتعرف على طبيعة الوعى البشرى ومستوياته المتصاعدة التى لابد أن يستمر تصاعدها إلى ما نود أن نعرف (الله) وأيضا  إلى ما لا نعرف (الغيب) والعلاقة بينهما وثيقة وثيقة، وقد هدانى ذلك إلى أن يصلنى أن قدرة ربى على إبداع وتنظيم وترشيد “برامج التطور” هى التى أتاحت للأحياء التى بقيت (واحد فى الألف) أن تبقى، حتى أننى نصحت المغتربين المعاصرين من البشر الذين نسوا هذه الحقائق أن يعودوا إليها لعلها تنقذهم وتنقذنا من الانقراض بفضل قوانين التطور التى سنها خالق الحياة.

ولا بد هنا من الإشارة – مادمت أتكلم عن مصادرى- إلى أن استلهاماتى من مواقف النفرى أسبوعيا جنبا إلى جنب مع تداعياتى على تداعيات نجيب محفوظ عن تدريباته (أسبوعيا أيضا) قد ساعدا على الربط بين كل هذا وكل ذاك، مما دعّم إيمانى حتى رحت أحمد لله أن هدانى لهذا وما كنت لأهتدى لولا أن هدانى سبحانه.

ثم وصلنى مؤخرا من الفصل رقم 22 من كتاب مرجع (1) رافض للتطور من أول داروين وقبله حتى إرنست هيكل وبعده، وصلنى ما وجدته قاسيا وغريبا وقبيحا برغم أنه مدعم بأسانيد ومراجع علمية لا جدال فى جديتها وأصالتها، ذلك أنه قد وصلنى رفضه لإرنست هيكل بالذات وقد وصل إلى درجة القذف والسباب، بل وتعييره بعلاقات نسائية شخصية، وأيضا بعلاقته بالنازية، وقد سهل علىّ كل ذلك أن أرفض رفضه وأشك فى نقده، لكننى احترمت حججه واتهامه – بدرجةٍ ما – لإرنست هيكل، اتهامه بالتلفيق فى بعض رسوم (2) الأجنة المقارنة لإثبات نظريته، ولكننى وجدت أن كل هذا النقد والرفض والقذف هو أبعد ما يكون عن التلقى الإبداعى، والوعى الخالقى، والنبض الحيوى والإيقاع الإنسانى، وكل ذلك – على ما يبدو لى – هو المنهج المتاح لتتبع مثل هذه النظريات المستحيل إثباتها بالطرق التقليدية، حتى لو وجدوا كل الحلقات المفقودة الواحدة تلو الواحدة.

فإذا كان كل هذا النقد والرفض والتجريح والتكفير والقذف قد أظهر لى – ولكم غالبا – استحالة مجرد تصور أن الأنتوجينينا (تسعة أشهر + عشرات السنين)، تكرر الفينولوجيا (ملايين السنين)، فماذا يكون الحال إذا أنا تقدمت بنظريتى التى تزعم أن هذه الملايين من السنين يمكن أن تُستْعَاد وتُلخَّص فى أزمات النمو المتلاحقة فى بضع أسابيع أو أشهر، ثم فى بضع ثوان فى الإبداع.

وبعد

 هذه المفأجاة المفيقة، ولو أنها ليست جديدة جعلتنى أستطيع أن أخلص إلى ما يلى:

أولاً: أنه توجد استحالة تامة لإثبات نظريات التطور بدءًا من تشارلز داروين وحتى نظريتى بالمنهج التقليدى مهما تطور.

ثانياً: أن استحالة هذا الإثبات لا يبرر إنكار المشاهدات النابعة من حركية الوعى الشخصى، والوعى البينشخصى، والوعى الجماعى، فالوعى الجمعى إلى الوعى المطلق إلى وجه الله.

ثالثا: أن يقينى من فائدة وجدوى سلامة ما وصلنى دون إثبات يجعلنى استمر فى حمل الأمانة لأصحابها مهما غابت الأدلة وعجزت اللغة.

رابعاً: أن الفتح الذى فتحته علينا ولنا التقنيات الحاسوبية العملاقة الأحدث يمكن أن يساعدنا يوما على اجتياز هذه الفجوة الهائلة بين الحدس البشرى والإيمان الحقيقى وبين الإثبات والتنظير المنطقى.

خامساً: أن ما لاح لى مؤخرا من عطاء العلوم الكموية Quantum بدءًا من الطبيعة الكموية والرياضة الكموية إلى الوعى الكموى وعلم النفس الكموى والطب النفسى الكموى سوف يسهم فى عبور هذه الفجوات إن عاجلا أو آجلا.

سادساً: أن خالق هذا الكون كله من العدم، وخالق قوانين التطور ومنظم مسيرته لم ولن يخذل كل من حمل أمانة ما خلق لنا من أول الجبال الذى تسبح بحمده حتى الإرادة المسئولة التى امتحن بها هذا الكائن الأخير المسمى الإنسان، فحمل الأمانة.

وبعد

استسمح من يتابعون محاولاتى، وهم قلة (بل ندرة والحمد لله) أن يسمحوا لى بأن أواصل تسجيل ما عندى ولو بدا طرْفيا حتى نصل سويا إلى الفكرة المحورية (ربما تكون هى النظرية) دون التنازل عن ضرورة إكمال الرسالة طالما نحن ما زلنا أحياءً لم ينتقل وعينا الشخصى إلى الوعى المطلق إلى وجه الله بعد.

……………..

وغدا نعود إلى اضطرابات الإرادة ونحن نؤجل مواصلة هذا التحدى مؤقتا.

[1] – Evolution Encyclopedia Vol. 3

      Chapter 22 – VESTIGES AND RECAPITULATION

[2] – أشرت سابقا فى (نشرة 28-9-2014) إلى اعتراف إرنست هيكل بما فعل وأن حجته كانت واهية وهى أن علماء كثيرين غيره فعلوا ذلك، قبله لكن لم يكن لديهم الشجاعة الكافية للاعتراف، لكننى فهمت ما فعل باعتبار أنه بحدس فائق كان يغطى الحلقات المفقودة بما يشبه جدول مندليف بشكل أو بآخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *