الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حوار مع مولانا النفّرى (122) (موقف العهد) الحرف يضىء بحسن استعماله

حوار مع مولانا النفّرى (122) (موقف العهد) الحرف يضىء بحسن استعماله

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 7-3-2015   

السنة الثامنة

العدد:  2745

 حوار مع مولانا النفّرى (122)   

“الحرف” يضىء بحسن استعماله

يقول مولانا النفرى فى “موقف العهد”:

 وقال لى:

الحرف يسرى فى الحرف حتى يكونه، فإذا كانه سرى عنه إلى غيره

فيسرى فى كل حرف فيكون كل حرف.

فقلت لمولانا:

هكذا يا مولانا أستطيع أن أرد على من يصله منى تهوين بشأن الحرف أو دوره أو ضرورته، ولا بعض هذا وصلنى أنك قصدت إليه ولا مرة واحدة، ولا أنا توقفت عنده ولا مرة واحدة، وهأنتذا تنبهنى إلى أصعب وأروع استعمال للحرف، ودعنا نتذكر إلى أين يذهب بنا ما هو “الحرف” كلما لاح فى أحد المواقف: فهو “اللفظ” أو “الرمز” أو “التعريف” أو “القانون” أو “التجريد” أو “المنهج المحكم” أو مجرد “الكلمات”.

تُعَلمنا اليوم يا مولانا كيف أن الحرف يسرى فى الحرف!! إذن فهناك حرف وحرف:

 حرفٌ ظاهٌر جاهز منفصل، وحرف آخر ينتظر هذا الحرف، ولا مانع أن يكون بنفس الصورة والشكل، لكنه غيره، فهو يستقبل الحرف الأول الساعى إليه مرحبا، فيكونه، أو:

 وصلنى أن الحرف “السارى” لا يكون حرفا بتلك المعانى الضيقة التى نفّرت المتعجلين منه إلا إذا فشل أن يتطابق مع الحرف المضيف الجارى، أو لعلهما يكونان معاً حرفا جديدا: “معنى” “فعلا” فى “آن”.

 ثم يكمل قوله لك يا مولانا:

فإذا كان: سَرَى عنه إلى غيره

فيصلنى أنه حين يكون الحرف حرفا جديدا هكذا لا يعود يمثل منطوقه ولا شكله ولا تعريفه، بل يصير طاقة حيوية جاهزة ليبعث الحياة فى كل حرف:

“سَرَى عنه إلى غيره فيسرى فى كل حرف

فيكون كل حرف”

احترت طويلا يا مولاى أمام الآية فى الكتاب المقدس “فى البدء كان الكلمة” ولم يقل “كانت الكلمة”، ولم أسارع بترجمتها إلى “الكلمة” التى نعرفها ونستعملها، وظللت أترجح بين معان كثيرة من أول “الله” حتى “المعنى” مرورا بالمحبة، فاحترتُ، فصرفت كل ذلك وتركتها دون محاولة تحديدها خوفا عليها، لكن وصلنى مجددا كيف كان هذا هو البدء، وهذا هو الأهم، ثم عرفت معنى كيف تسرى إلى مستقر لها لتكون كل شىء.

نفس الحيرة شملتنى حين وصلتنى كلمة “اللوغوس” وهى أصل معنى “الكلمة” باليونانية، وقد فُسِّرت بأنها “عقل الله الناطق” وهنا أتوقف عن النقل والتنظير حتى لا أفسد أصل الاستلهام من هذا الموقف العظيم، وما ترتب عليه عندى من تداعيات.

عدت اليوم إلى النص فوجدت أننى سبقتْ لى خبرات قد تعيننى على ما يصلنى الآن يا مولانا – طبعا أنت تتابعنى وأنا استلهم تداعيات شيخى محفوظ  فى صفحات تدريبه مع الفارق، وحين لاحظتُ أن شيخى محفوظ يكرر فى تداعياته أحيانا نفس الكلمات فى صفحات متباعدة فتصلنى فى كثير من الأحيان بمعان مختلفة برغم أنها هى نفس الشكل ونفس الكلمة، وصلنى حينذاك أنه ينبهنا‏ ‏‏ ‏إلى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏التلقى يستأهل‏ ‏‏الوقوف‏ ‏عنده‏، ‏وأن الكلمة‏ ‏ليست‏ ‏أبدا‏، ‏ولا‏ ‏أصلا،‏ ‏ذلك‏ ‏البريق‏ ‏الذى ‏ينبعث‏ ‏من‏ ‏ظاهرها‏، وأنه حين‏ ‏يحمل‏ ‏اللفظ‏ – ‏أى ‏لفظ‏ – ‏معناه‏ ‏تماما‏، ‏يصبح‏ ‏سحرا‏ ‏قادرا‏ ‏أن‏ ‏يثمل‏ ‏به‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏سعادة‏ ‏لا‏ ‏توصف‏، ‏وأن‏ ‏يجن‏ ‏فى ‏صحنه‏ ‏آخرون‏، ‏أية‏ ‏ألفاظ‏ ‏هذه‏ ‏التى ‏تـسكر‏ ‏وتـجن؟‏ يقول محفوظ:

فى الفقرة (78) من أصداء السيرة بعنوان: البلاغة

“………….. ‏تذكرت‏ ‏كلمات‏ ‏بسيطة‏ ‏لا‏ ‏وزن‏ ‏لها‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏مثل‏: ‏أنت‏،.. ‏فيم‏ ‏تفكر‏‏؟ ‏… ‏طيب‏،. ‏يا‏ ‏لك‏ ‏من‏ ‏ماكر‏… ‏ولكن‏ ‏لسحرها‏ ‏الغريب‏ ‏الغامض‏ ‏جن‏ ‏أناس‏،.. ‏وثمل‏ ‏آخرون‏ ‏بسعادة‏ ‏لا‏ ‏توصف‏،..”‏

فقلت أنا نقدا لهذه الفقرة:

هذه الألفاظ‏ التى أوردها هكذا ‏‏هى ‏فى ‏ذاتها،‏ ‏كأصوات‏: ‏أبعد‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏عن‏ ‏البلاغة‏ ‏مثل‏ “‏أنت‏” ‏هكذا‏ ‏فقط‏: “‏أنت‏”، ‏أو‏ “‏فيم‏ ‏تفكر‏”‏؟‏ ‏نعم‏ “‏فيم‏ ‏تفكر‏” ‏أو‏ “‏طيب‏” ‏أكرر‏: إنه مجرد‏ ‏لفظ‏ “‏طيب‏” ‏ثم‏ “‏يالك‏ ‏من‏ ‏ماكر‏”،،…… ‏أعنى: “‏يالك‏ ‏من‏ ‏ماكر‏”!!!…!! لكنها وصلتنى خاصة حين كررتها بصوت مسموع بشكل مختلف كل مرّة عن كل مرّة:

وحين كتبت قراءتى ناقدا لهذا النص المحفوظى دعوت القارئ لتجربة يجريها بنفسه كالتالى:

‏هل‏ ‏أدعوك‏ – ‏عزيزى ‏القاريء‏ – ‏أن‏ ‏تتوقف‏ ‏عند‏ ‏هذه‏ ‏الألفاظ‏ ‏فتكررها‏ ‏أنت‏ ‏للمرة‏ ‏الثالثة‏ ‏بصوت‏ ‏مرتفع‏، ‏ثم‏ ‏تترك‏ ‏كل‏ ‏لفظ‏ (‏أو‏ ‏تعبير‏) ‏منها‏ ‏يرن‏ ‏فى ‏وعيك‏ ‏شخصيا‏ ‏دون‏ ‏محاولة‏ ‏أن‏ ‏تكمل‏، ‏ودون‏ ‏محاولة‏ ‏أن‏ ‏تتذكر‏ ‏حوله‏ ‏أو‏ ‏به‏ ‏أو‏ ‏معه شيئا‏،؟!

ثم أردفت فى نقدى، وتداعياتى على تداعيات محفوظ استشهادا موازيا جاء فى قصيدتى عن “الطواف والسعى” حين قلت فى ديوان “البيت الزجاجى والثعبان” قصيدة: “أنهار‏ ‏المسعى ‏السبعة” (1980)

قال‏ ‏النهر‏ ‏الرابع:

……………

لو‏ ‏أن‏ ‏السعى ‏تناغم‏ ‏بعد‏ ‏السعى ‏إلى ‏السعي

لرجعنا‏ ‏أطهر‏ ‏من‏ ‏طفل‏ ‏لم‏ ‏يولد‏ ‏بعد‏ ‏

لا‏ ‏نتكاثر‏ ‏بالعدَّة‏ ‏والعَدّ

ولَعَادَ‏ ‏المعنى ‏

يملأ‏ ‏وجه‏ ‏الكلمهْ

يهتز‏ ‏الكونُ

لو‏ ‏يعنى ‏القائل،‏ “‏أهلاً”:

أن‏ْْ: “‏أهلاً”

هل رأيت يا مولانا كيف أننى أحصل على كثير من الدعم لمنهج تنظيرى الحالى فى كل ما اكتب وخاصة فى تخصصى الدقيق، أحصل عليه من حدْسك وحدس شيخى محفوظ أكثر مما أحصل عليه من منظرين “علماء جدا” يكاد يخنقهم المنهج اللفظى المقارِن، فأطمئن إلى منهجى من استلهاماتك وتداعيات محفوظ وإبداعه، وخاصة حين يلتقى كل ذلك مع ما يصلنى من تعرّى مرضاى حتى لو لم يتحملوا مسئولية هذا التعرى، إليك الهامش الذى كتبته أوضح موقع “الحرف” فى بداية خبرة الجنون حين تمتلئ الكلمة (الكلمات) بالمعنى الأصلى لها تماما، حتى يثقل على المريض أن ينطقه من فرط امتلائها به، وقد يعجز عن الانتقال إلى الكلمة التالية التى تحمل نفس ثقل المعنى، أو قد يصاب بالبكم التخشبى (هكذا يبدو)

وهذا جاء فى ذلك الهامش:

“….فى‏ ‏بداية‏ ‏الفصام‏ ‏وبعض‏ ‏الذهانات‏ ‏الأخرى ‏ ‏عندما‏ ‏يصر‏ ‏الفصامى، ‏أو‏ ‏يكتشف‏، ‏أنه‏ ‏ينبغى ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يعيش‏ ‏كل‏ ‏لفظ‏ ‏ينطقه‏ ‏بحقه‏، ‏أى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏اللفظ‏ ‏هو‏ ‏معناه‏ ‏كما‏ ‏ينبغى، ‏كما‏ ‏يعنى ‏تماما‏ تماما، وبما أن ذلك يقترب من المستحيل، فإن الفصامى قد يصاب بالبكم لعجزه عن تحقيق المستحيل”.

المبدع يبدأ نفس البداية يا مولانا، لكنه ‏ ‏يتجاوز‏ ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ويقبل أن يحمِّل اللفظ فى  تشكيل جديد ما تيسر من معنى ما، فيتخلق الشعر‏ ‏أو‏ ‏تنساب القصة‏ ‏أو‏ ‏يغنِّى ‏أصداءً‏.

(انتهى المقتطف)

وبعد

هذا يا مولانا بالنسبة للحرف الذى يسرى فى الحرف، أما تكمله الفقرة وكيف أنه يسرى فى كل حرف فهذا يذكرنى ببداية نمو اللغة عند الأطفال، وقد سجلت بعض ذلك من مشاهدتى استعمال طفل قريب منى جدا – بمثابة حفيدى –  (1) لكلمة واحدة من أوائل ما نطق من كلمات وكان عمره عاما وبعض عام، وكانت الكلمة هى: “كُويَهْ” يعنى “كرة”، فكان يطلقها على كل شىء مع اختلاف النغمة والإشارة المصاحبة وتعبير الوجه، وحسب نظريتى الباكرة فى  تطور الانفعال (2) فقد اعتبرت هذه البداية الفجة تشبه من حيث المبدأ الغاية القصوى من النضج حين تحتوى كل كلمة مناهل وكل المعانى كل الوجدان وحفز الفعل الخاص بها فتصبح فى غير حاجة إلى أن يصاحبها وجدان خاص بها، منفصل عنها يشرحها أو يدفعها،

 ولكن هذا حديث آخر.

[1] – هذا الطفل أصبح الآن استشاريا قديما فى جراحة العظام فى المملكة المتحدة من سنوات.

[2] – ذكرت النظرية فى “عن ماهية الوجدان وتطوره” عدد أبريل 1984 – مجلة الإنسان والتطور – تطور الانفعال من التهيج البروتوبلازما العام الى المعنى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *