الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطف وموقف على موقف هل ثمة حاجة إلى مزيد

مقتطف وموقف على موقف هل ثمة حاجة إلى مزيد

“يوميا” الإنسان والتطور

   29-12-2007

العدد: 120

مقتطف وموقف على موقف

هل ثمة حاجة إلى مزيد

الوسواس القهرى فى رحاب مولانا النفرى (1)

ذكرت مرارا أن من أكبر ما منحتنى إياه هذه النشرة اليومية، أنها أتاحت لى التعرف على كثير مما  قرأتُه ونسيته، أو تصورت أننى نسيته، ذكرت سابقا أننى كم عثرت على كتاب عزيز هنا أو هناك، فأكتشف أننى ملأت هوامشه وبين سطوره بتعليقاتى فى معاركى معه ونقدى له، ثم أننى نسيت كل ذلك، إلى أن عاودت تصفحه ثم قراءة بعضه، فيحضرنى كل ما كان، الأغرب من ذلك هو ما يحدث لى حين أراجع ما كتبتُ، فأجد أننى نسيته أيضا، نسيت أننى كتبته ونسيت ما كتبته، وأكتشف أموراً عديدة فى نفسى، وعن نفسى، وعن هذه المجالات كلها التى طرقتُ أبوابها مضطرا أو مختارا.

 من خلال توارد هذه المفاجآت تبينت لى أمور كثيرة من أهمها أمران:

 الأمر الأول: أننى اكتشف أن كثيرا من الرؤى والآراء والفروض التى افرح بالوصول إليها هذه الأيام (أى فى البضع سنين الأخيرة) سبق أن سجلتها كتابة، وأن كثيراً منها منشور فعلا، وبنصه بالحرف الواحد، وخاصة عن المسائل الشائكة مثلالموت، والخلود، والله، والمصير، والعلاقات البشرية.

الأمر الثانى: هو أننى أجد نفسى على يقين من رؤيتى الآن – برغم أنها هى هى – تملأ وعيى بوضوح كاف، الأمر الذى أشك أنه كان كذلك حتى لو كانت المسألة أو المسائل قد كُتِبَتْ بنفس الألفاظ حرفيا.

ما هذا؟

هل يوجد بداخلى من يعرف هذه الأمور من ورائى؟ من ذا الذى يسرق منى القلم ويثبت ما بداخلى على الورق أو الحاسوب، ثم يسرِّبُه إلى النشر هكذا، ثم هأنذا أضطر أن أعيد اكتشافه لظروف لم أحسبها، من خلال ورطة لم أستعدّ لها. (طبعا لم يحدث أى من ذلك، لكن هذا هو بعض ناتج دهشتى الآن)

والآن؟!

 ما العمل وقد أصبح لى موقع خاص، ثم منتدى – بفضل الابن د. جمال ترك – يقال أنه لمناقشة فكر العبد لله؟

 أليس الأْولى بهذا العبد لله أن يناقش (أو يراجع) هو فكره مثله مثل أى رائد من رواد هذا المنتدى؟

 اقترح الابن د. أسامة عرفة فى حوار الجمعة أمس أن أعيد قراءة (نقد) ما سبق أن تناولته ثم عاد يحركنى من جديد، وهو يقصد تلك النصوص التى كتبت عنها أو قرأتها ناقدا، وأن أفعل ذلك المرة تلو المرة دون تردد أو حرج، وقد رجح د. أسامة أن هذا قد يتيح فرصة لأن أعرف – ويُعرف – تطورى وتطور فكرى، دون أن يلغى اللاحقُ السابقَ، حتى لو تَنَاَقَضَا!!

 وقد أقررت اقتراحه لكننى لم أعد بتنفيذه.

ثلاثة أعمال تتحدانى لأقبل بعض هذا الاقتراح بشكل أو بآخر، وقد أشرت إلى اثنتين منها  فى عن يومية 26-12-2007 (قراءة النص: بين التفسير والاستلهام) الأول: حكمة المجانين (طلقات من عيادة نفسية) والثانى (مواقف النـفـّرى بين التفسير والاستلهام)، أما الثالث فهو: افتتاحيات مجلة الإنسان والتطور خلال عقدين، وكنت قد جمعتها فى كتاب كنت أنوى نشره بعنوان “حكاية كلمة”.

حين راجعت بعض مقدماتى أو كتاباتى وجدت أننى نفذت أحيانا هذا الاقتراح فعلاً من قبل، مثلا: فى كتابى “قراءات فى نجيب محفوظ”[1] كتبت أنقد قراءتى الباكرة لرواية “الشحاذ”، وكيف أنى عدلت عن هذا المنهج تماما إلى حدّ الرفض، وأيضا حين قدمنا روايته “السراب” فى إحدى ندوات الجمعية، وقارنت ما سبق أن قدمتُه نقدا على هذا العمل بما أثبته قبل ذلك فى أطروحتى عن “العلوم النفسية والنقد الأدبى” اكتشفت فى الندوة لزوم مثل هذه المراجعة الجسور لنقدى السابق.

ثم إنى أتذكر الآن ما تعلمته فى دراستى عن “عقدة أوديب” وهو أنه إذا كان للنص مستويات ولقراءته – نقده – مستويات موازية أو متجاوزه، فهذا أمر يدل على قوة إيحاء النص بقدر ما يدل على حركية وتطور النقد، سواء من قارئ/ناقدٍ واحد أو أكثر.

حين تتبعت أسطورة أوديب وأنا أعيد النظر فى استعمال سيجموند فرويد لها فى تفسير الاضطرابات النفسية والنمو النفسى، عجبت لتطور تاريخ تناول هذه الأسطورة الخالدة سواء بالكتابة أو بالاستعمال فى التنظير أو على المسرح.

 لو كان لدى الفرويد العظيم الفرصة التقنية – كما هى لدينا الآن –  للتسجيل والتفريغ والمراجعة، إذن لتضاعف عطاؤه مئات المرات.

حتى الأعمال التى سجلت وفورا يحتاج الأمر معها إلى تدقيق وتحقق،

 أعانى الأمرّين الآن حين أعثر على  فقرة فى أحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ، وأنا احاول أن احترم كل حرف، كل نقطة، وكل فصلة، ولكننى أحيانا اصدم بما لا أتصور أنه قاله هكذا فى هذا السياق، ارجع إلى خطه المصوّر فى  مجلة “نصف الدنيا”، وكثيرا ما أجد فرقا، وفروقا،

 فى أحيان قليلة جدا رجعتُ إليه شخصيا، وصحح لى نادرا بعض ما نشر خطأ، ناهيك عن الصعوبة التى كانت تحيط بظروف كتابته، مع أن هذه الأخطاء الشكلية بالصدفة هى أمر وارد لأى كاتب حتى بدون إعاقة اصلاً.

أنا لم أبلغ بعد الأحلام الأخيرة التى أمْلاها، بعد أن حالت إعاقة جديدة بينه وبين الكتابة تماما (كما أننى لا أعرف إن كنت سأبلغها أم لا).

فإننا إذا انتقلنا إلى النقل الشفاهى فحدّث ولا حرج.

والآن إلى النفرى:

بالنسبة لمواقف النفرى موضوع اليوم، أنا أتناولها وسوف أتناولها بنفس الالتزام وأكثر، مع أننى أعرف أنها جمعت شفاهة، ومع ذلك فإننى أعرف كيف أن حرف الجر قد يغير المعنى الذى أراده مولانا إلى أى اتجاه حتى النقيض، لست واثقا على وجه اليقين كيف سجلت هذه المواقف والمخاطبات شفاهة، وكيف انتقلت من فم إلى الأذن، عدة مرات، ولا مدى إحكام ذلك،

 أحاول أن أضع ذلك فى الاعتبار بكل أمانة، فأجد نفسى فى موقف لا أحسد عليه.

ثم تأتى مرحلة التفسير والتأويل والنقد والاستلهام، وقد تناولنا الأبعاد العامة لكل ذلك فى يومية سابقة 25-12-2007 (أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى)  عن مستويات النص (قراءة النص: بين التفسير والاستلهام)

اقتراح منهج:

نكتفى بهذا القدر من التقديم وننتقل إلى المنهج الذى نقترحه للتعامل مع بعض ذلك هنا الآن:

1) سوف نعتبر النص الذى وَصَلَنا مكتوبا هو نص قائم بذاته حتى لو كان قد تغير قليلا أو كثيرا من خلال النقل الشفاهى أو أى عامل آخر.

2) سوف أقصر قراءتى واقتطافى على ما انتقيناه من مواقف فى كتابنا عن النفرى

3) سوف نورد النص الأصلى للنفرى باعتباره المقتطف الأول ثم نورد نصّ المؤلف المشارِك د. إيهاب الخراط ثم نصّ كاتب هذه السطور.

4) سوف أغامر بعد ذلك بخطوة أخرى هى أسخف الخطوات وألزمها معاً، ذلك لأنها أقرب إلى التأويل والتفسير منها إلى الاستلهام والإبداع، من هنا يأتى سخفها – وأكاد أشبهها – بما يحدث لو أنك تتصدى لشرح قصيدة جميلة بكلام مرسل لا لزوم له،

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا أفعل ما أراه سخيفا؟

 يلح علىّ شعور بالمسئولية تجاه من لا يستطيع قراءة النص أو الموقف الأول بما هُوَ، لما هَوَ، أو يقاوم ما حاوله الموقف على الموقف، ليس فقط هو لا يستطيع، بل إنه قد يرفض ذلك، وهو عادة ما يتوقف محتجا، أو خائفا، أو متسائلا، أو مدافعا ضد ما وصله، أشعر بمسئولية تجاه هذا المتلقى وأنه حُرِمَ كنزا ثمينا هو من حقه مهما تكاسل أو تراجع.

ثم أرجع أتساءل بعد ذلك:

  • هل يا ترى يزيده هذا التفسير قربا من النص؟
  • هل ياترى يشجعه التفسير على الصبر على النهل من بقية النصوص (بدون تفسير)؟
  • أليس من الممكن أن يقوم التفسير بإضافة معرفية إلى النص، أو أن يغرى بتضفر معرفى مع نصوص أخرى علمية أو أدبية أو من أى مصدر آخر؟
  • أليس فى ترك التفسير تماما نوع من الاستعلاء والموقف الفوقى؟

أكتب ذلك وانا مازلت اقرب ميلا إلى ترك التفسير وهو الأمر الذى حاولته تقريبا فى الجزء الأول من نفس العمل (ص 15 -52) والذى اعترض عليه محمد إبنى وآخرون وقبلت اعتراضهم، ويجدر أن أعترف أنهم لو لم يعترضوا لاعترضتُ أنا على هذا المنحى، وربما هذا هو ما دعانى للمشاركة فى الجزء الثانى مع د. إيهاب بمنهج آخر.

ومع ذلك هأنذا أرجع إلى محاولة الوقوع فى نفس المراد تجنبه؟

 لماذا؟

خذ مثلا الموقف الذى سوف نقدمه اليوم دون تعليق على التعليق وهو ما يمكن أن نتعلمه من موقف النفرى من الوسواس، ثم تابعنا غدًا ونحن نحاول فى مرحلة التفسير، ثم – ولامؤاخذة – احتمالات التطبيق(!!).

تمهيد

من بين الاضطرابات النفسية جميعها لا أشهر من هذا الاضطراب المسمى الوسواس القهرى،

 صحيح أن استعمال كلمتَىْ “القلق” و”الاكتئاب” قد أخذتا حجما أكبر فأكبر فى العقود الأخيرة، لكن يظل الوسواس القهرى هو الاضطراب المحدد الذى له حضوره فى “تاريخ المرض النفسى” ومدارسه النفسية المختلفة من أول التحليل النفسى حتى المدرسة السلوكية مرورا بما يسمى النموذج الطبى المختزل (الكيميائى الميكنى).

وللوسوسة حضورها المتميز أيضا فى مجال الدين والتدين بما لا أجد مجالا لتفصيله الآن [2].

 وفى دراسات متلاحقة ثبت أن محتوى الوساوس الفكرية (والطقوس والصور) فى مصر (والبلاد العربية) أغلبها هو محتوى دينى متنوع.

  • فكيف تناولها النفرى؟
  • وكيف أعلن أنها تقربنا إلى الله لا تبعدنا عنه؟
  • وكيف أوصى إزاءها بالاقتحام والاستزادة، لا الهرب والإنكار والمقاومة؟
  • وكيف قرأها فاستلهمها شاب قس طبيب نفسى؟ (د. إيهاب)
  • وكيف قرأها فاستلهمها، هى هى، شيخ مغامر يعيد النظر ما دام حيا؟ (د. يحيى)
  • وهل ثم شئ يضاف بعد أن نورد المقتطفات الثلاث؟ (النص والقراءتان)
  • وهل ما سيضاف سيكون مفيدا أم مشوِّها أو مسطحِّا أو موضّحاً؟

أمام هذه الأسئلة، شعرت أنه لا مفر من أن نغامر بالتفسير والشرح والتأويل (غدًا) لنوصل بعض الرسالة إلى من لم يبلغهم أصلاً إسهام هذا النص التراثى الرائع فى تناول قضايانا اليومية فى مسألة بهذا الانتشار، وهذه الإشكالية القائمة فى الصحة والمرض؟

اقتراح وتجربة

اليوم سوف اكتفى بتقديم النص مستقلا وملحقا به الاستلهامين دون تعقيب.

وفى اليوم التالى (غداً) مباشرة سوف أحاول تقديم التفسير والشرح بعد إعادة كتابة النص أيضا

بهذا يمكن أن يستغنى عن التفسير من اكتفى بالنص الأول (كما فعل البعض أو يريد أن يفعل مع قراءتى لأحلام فترة النقاهة أنظر حوار/بريد أمس)

اما من استعصى عليه النص، وأراد المزيد ولو على حساب الجمال والشعر والتفرد، فليقامر بقراءة التفسير والشرح والنقد (غداً)، وأمره إلى الله،

 وأنا اعده أنه سينساه، إذْ لن يتبقى من هذا وذاك إلا ما يسمح له وعيه أن يتبقى.

وهذا هو غاية المراد

المقتطف

وقال لى كل شئ يصدرك إلي

يصدرك ومعك بقية منك أو من غيرك

إلا الوسوسة فإنها تصدرك إلى وحدك.

وقال لى الوسوسة ردّى إياك إلى بالقهر.

وقال لى أنظر إلى الوسوسة عمّ تخرجك

فلن تصلح إلا على مفارقته

وبم تُعلقك، فلن تصلح إلا على التعلّق به

موقف وراء المواقف (ص64)

أيتها الخطيئة المباركة:

حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي،

وانزع منى حتى تعلـقى بحكاية الوسوسة وتصديرها لى لك.

ولا أتعلق إلا بك لا بالكتاب ولا بالوسوسة ولا بالضعف ولا بالقوة.

إيهاب

السماح السماح، كل هذا السماح !! أإلى هذا المدى السماح؟

حين تختلى بى الوسوسة لا يكون لها همّ إلا إبعادك عنى، بإبعادى عنك.

 هى تشغلنى بك بزعم إنكارك، أقترب بها منك،

وما كنت أعلم ذلك، قبل ذلك.

وحين تستدرجنى الوسوسة إلى سوء الظن، إلى الحرف، إلى الخبر، أصارع كل ذلك خوفا من أن تغلبنى، ناسيا أنها لا تغلبنى إلا إذا غَلَبَتْكَ.

 أنت لا تُغلب أصلا، ولا تُغلب أبدا، فِممَّ الخوف؟

وهكذا تنقلب الآية عليها. تتسارع خطواتى إليك.

لم أستطب عمرى كلمة “القهر”إلا هذا القهر.

تأتى الوسوسة فلا أملك أن أغفو بعيداً عنك، ولو هنيهة.

تأتى فتذكرنى بك حتى بالإنكار.

كنت أقاوم خائفا من غلبتها، والآن، أنت تدعونى للاقتحام.

كنت أخشى عليك حرفاً فى نفسى، ناسياً أنك قائم بذاتك، فيها، وبها، إليك

 لا تضرك الوسوسة ولا تخفيك الحروف.

هى تَختبر من أًحَلَّ الحرف محلّك.

تخرجنى الوسوسة عن الحرف الذى يخفيك عنى، فتُدْخِلُنى أكثر إليك.

تخرجنى عن وهم صوَّرتُه لك، فأفارقه لأجدك أنت أنت دونه.!!

تعلقنى بإنكارك، فتدعونى أنت ألا أخاف أن أنكرك.

أجدنى فى رحابك لا تُنكر.

الوسوسة قد تنكرالحرف لا تنكرك.

فإذا سلّمنا لها كما أمرتنا، وجدناك دونه.

يحيى

وبعـد

بعد أن أثبت هذه المقتطفات هنا هكذا شعرت بمعنى وفائدة ما يمكن أن اسميه القراءة البطيئة [3]، يبدو أن مثل هذه النصوص هى من الكثافة والقدرة على تحريك أغوار الوعى بحيث لا ينبغى أن تقرأ فى كتاب على بعضها، فإن جمعت غلى بعضها البعض لأسباب عملية مثل النشر والتسجيل، فإن هذا ليس دعوة لأن تقرأ على بعضها.

فرق بين أن تقرأ نصا واقفا بذاته لذاته، فتعود إليه، وتبتعد عنه ثم تعود، وبين أن تقرأ صفحة، أو صفحات، تحوى ما تحوى من فقرات.

تُرى ماذا  تتلوها فقرات فماذا سوف يفعل التفسير بهذا النص الذى هو فى غنى عنه.

ربنا يستر

نرى غدًا.

[1] – يحيى الرخاوى “قراءات فى نجيب محفوظ” 1992 الهيئة المصرية العامة للكتاب.

[2] – الوسواس القهرى من منظور عربى اسلامى، وائل أبو هندى، عالم المعرفة عدد 293، يونيو 2003،

 وسنورد له نقدا مفصلا فى القريب العاجل.

[3] – فرحت بجمال الغيطانى ذات مرة حين علمت منه، أن ما وثّق علاقته بالتراث هو أنه كان إذا أحب نصّا راح ينقله بخط يده كتابة، وهذا أقرب إلى ما أعنيه هنا بالقراءة البطيئة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *