الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من سلسلة “فقه العلاقات البشرية”(3) عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة) (1)

من سلسلة “فقه العلاقات البشرية”(3) عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة) (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 17-6-2023

السنة السادسة عشر

العدد:  5768

من سلسلة: “فقه العلاقات البشرية”(3)[1]

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الثالث:

قراءة فى عيون الناس

(خمس عشرة لوحة)

 

تصـْـدير:

اشتمل الكتاب الثانى من هذه السلسلة عرض سبع لوحات من اللوحات الشعرية التى تضمنها ديوان “أغوار النفس” ،  نقدنا من خلالها ما أسميناه “العلاج النفسى “المـَكـْلـَمـَة؟”، ومع الإقرار بأن الكلام هو وسيلة من أهم وسائل العلاج، إلا أنه ليس دائما الوسيلة الوحيدة، ولا الوسيلة الأولى، ولا الوسيلة الأنجح، كما يتبين من خلال كل فصول كل هذه السلسلة، ذلك أن الحاجة إلى التواصل بين البشر تتجاوز الكلام إلى مستويات تليق بتاريخ الجنس البشرى ومرحلة تطوره!!

العلاج النفسى ليس إلا استثمار علاقة بشرية ممنهجة لحفز عملية نمو اثنين فأكثر إلى ما خلقا به وله، وأعنى: المريض الذى يعانى ويتوقف ويسأل النصح، والطبيب (المعالج) الذى يواكب مريضه مسئولا يتحرك معه وبه، وهو يقرأ نصـّيْن بشريين معظم الوقت: “نفسه” و”المريض”، فيعاد تشكيلهما معا (معظم الوقت).

ولـِـيتحقق ذلك: فهو يستعمل كل قنوات التواصل، ومعظم ما يناسبها من معلومات علمية، وخبراتية، وتجريبية.

نقد النص البشرى “معاً”:

منذ اكتشفتُ أن ما أمارسه فى العلاج عامة، وفى العلاج النفسى خاصة هو نوع من النقد، وأطلقت عليه مصطلح “نقد النص البشرى” وأنا مطمئن إلى ما وصلنى، ربما لأننى أمارس نقد النص الأدبى من قديم. ولأننى أعرف أن النقد الحقيقى هو إعادة تشكيل النص، وقد ترددت طويلا قبل الفرحة بفرحتى باكتشاف هذا المصطلح الذى يعبر فعلا عن ما أمارسه، فالنص البشرى، مهما اخـُـتـِـبر بمحنة المرض، ليس مجال تشكيل من خـُـارجـَـه أساسا، أو: أولا،  فخشيت أن يصل من هذا المصطلح الجديد  معنى أننى أقوم بإعادة تشكيل النص البشرى كما أعيد تشكيل النص الأدبى، ثم رويدا رويدا، وأنا أراجع ما أفعله مع مرضاى، خاصة فى العلاج الجمعى، اكتشفت أن نقد النص البشرى (المريض) يختلف عن نقد النص الأدبى: فى أنه  نقدٌ لنصـَّين معا: “النص الأول” هو المريض نفسه الذى يشارك فى عملية النقد تلقائيا، ثم إن  الطبيب نفسه هو نص بشرى آخر، وبالتالى فلا بد أن يكون عُرضة للنقد من الطرفين طول الوقت. بهذا عدت للتصالح مع المصطلح الوليد، وتمنيت أن أضيف كلمة واحدة له هى “معا”، أى: “نقد النص البشرى معا“، ومن ثمَّ  فإعادة التشكيل هى واردة لكلا النصّين طول الوقت.

الكتاب الثانى كان بمثابة نقد العلاج النفسى التسكينى الكلامى بالذات، وكان الاختيار الأول لعنوان اللوحات  الشعرية المقدمة  كما جاء فى الديوان (أغوار النفس)  هو “جنازات” وكان المقصود بذلك هو التنبيه إلى خطورة أن تتوقف حركية النمو (الحياة) من خلال سلبية أو خمول العلاج النفسى إذا اقتصر على عمليات التفريغ الكلامى، فالتسكين فالتأويل حتى التسكين ونحن “ندع القلق”، لا أعرف ندعه لِمَاذَا ولا لِمَنْ، ولعل القصائد السبع التى احتواها هذا الجزء الأول  من هذه اللوحات (الكتاب الثانى) قد أظهرت سلبيات هذا العلاج حين يدور فى دائرة مغلقة (اجترار ذات الأحداث والنصوص السابقة المحدودة طول الوقت طول العمر)، وذلك  حين لا ينتبه المعالج (والمريض)  إلى خطورة دلالات الحركة فى المحل، أو إلى احتمال أن المعالج يعامل المريض من على مسافة، كذلك أشرنا إلى احتمال الافتقار إلى المُواكبة الحقيقية فى العملية العلاجية، وكانت ثمة إشارة أيضا إلى الرعب من التغيـّر من حيث المبدأ، ومن ثم السماح لإرادة التوقف الداخلية بالتسكين حتى التثبيت، كما تمت تعرية وقفة النمو مع استجداء الشفقة حتى الاعتمادية الرضيعية المـُـشـِـلّة، وأخيرا بَيّنا كيف يمكن أن يكون التوقف بسبب الانغلاق فى سجن مرحلة باكرة غير آمنة من العلاقات البشرية، وهى مرحلة الحب الاحتياجى الاحتوائى الاعتمادى.

كان هذا الكتاب الثانى نقدا خالصا لكل من العلاج النفسى التسكينى، وما يقابله فى الحياة العامة بشكل أو بآخر، مما يؤدى إلى جمود حركية النضج، وتوقف النمو، حتى أسمينا ذلك باسم: “الموت النفسى”، وكانت أهم سلبية يمكن أن تؤدى إلى مثل ذلك حين ينقلب العلاج النفسى إلى “مـَكـْلـَمـَة” تأويلية، وأحيانا تبريرية تسكينية، لا أكثر.

قنوات أخرى للتواصل:

من حق أى شخص أن يتساءل أنه إن لم يكن الكلام هو الوسيلة (القناة) الأمثل للتواصل بين البشر، فى العلاج وغير العلاج، فما هى الوسائل والقنوات الأخرى؟

هذا الكتاب الثالث  يقدم ما أسميناه “قراءة فى عيون الناس” بديلا عن الاسم الذى استعمل فى الطبعة الأولى وفى الديوان وهو “لعبة السكات”، وقد تم هذا التعديل خشية أن نتصور أن حديث العيون، هو صمتٌ مطلق بشكل ما، فى العمل الحالى أريد أن أبين كيف أنه ثمة لغة أخرى أكثر ثراء وعمقا وصدقا من الكلام اللسانى بالألفاظ: تجرى بين المعالج والمريض أو بين المعالج والمرضـَى فى العلاج الجمعى وعلاج الوسط.

العيون البشرية فى هذا الفصل لم تكن عيون مرضى بوجه خاص، ولم تكن أيضا عيون أشخاص محددين فى عالم الواقع الملموس، وبالتالى فهذا الفصل هو أبعد ما يكون عن عرض حالات، أو وصف أشخاص بعينهم، هذا التأكيد ضرورى. لا أنكر أننى استلهمت بدايات بعض القصائد (اللوحات) من خبرة شخصية شارك فيها أصدقاء كرام، بلغ من شجاعتهم وصدقهم أنهم أتاحوا هذه الفرصة بهذا العمق، لم أقرأ ما قرأت فى عيونهم حرفيا، بل استلهمت من صدق مواقفهم ما أكملت به قصائدى دون أن أعنى شخصا بذاته. فكان – كما ذكرت – أقرب إلى ناتج الجدل مع وعيى الشخصى.

لم يقدم لنا فرويد وسيلة أفضل من الكلام، أو بصراحة غير الكلام، حتى حدسه التفسيرى، وشرحه التأويلى كان يستمده من الكلمات أساسا، بل إن وضع التداعى الحر والمريض مستلق على أريكة العلاج والمحلل يجلس خلفه بعيدا عن التقاء نظراته، كان نفيا عمليا لأى احتمال لاستعمال أى وسيلة أخرى غير الكلام، وبالذات لغة العيون، الوضع شديد الدلالة من حيث أنه وضع تجنب التقاء النظرات، حتى وصف “بيرلز”([2]) (أحد رواد العلاج الجمعى) فرويد – ربما مازحا – بأنه كان مصابا بعرض تجنب التحديق Gaze Avoidance، وبالتالى كان يخشى أن تلتقى نظراته بنظرات المريض، ومن ثـَـمَّ أصر – وأوصى – أن يجلس المحلل خلف المريض أثناء التداعى الحر، الذى نقدناه بقسوة فى الفصل الأول ونحن نسخر من هذا الوضع بشكل خاص حين نقول:

واحد نايم متصلطح، وعنيه تتفرج، على رسم السقف، 

وعلى أفكاره اللى بتلف، تلف تلف،  والتانى قاعد لى وراه …إلخ “

مخاطر التواصل بالجسد

انطلاقا من فرويد، ونقدا له، ظهرت‏ ‏مدارس‏ ‏تؤكد‏ ‏أهمية‏ ‏التواصل‏ عبر قنوات أخرى غير الكلام، بالإضافة إلى الكلام‏، ‏ولعل أكثر القنوات مخاطرة هى القنوات التى سمحت بدرجة من التواصل عبر الجسد، سواء فى العلاجات الشعبية أو فى بعض تنويعات العلاج السلوكى والخبراتى، فقد ‏ ‏ظهرت‏ ‏مضاعفات ليست قليلة‏ ‏من‏ ‏استعمال‏ ‏الأيدى والجسد، من‏ ‏بينها‏ ‏العدو‏ان،‏ ‏وأيضا التجاوزات‏‏ ‏الجنسية‏، ‏حتى اختلط‏ ‏الأمر‏ ‏على ‏أحد‏ ‏أتباع فرويد – ‏ويلهلم‏ ‏رايخ ([3])– وقد انفصل عنه، حين تمادى فى الشطح واستعمل أدوات مساعدة لتوصيل رسائله العلاجية ‏حتى ‏زادت حالته‏ ‏تماما‏ (‏بالمعنى ‏السلبي‏) ‏وسجن‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يقضى، ‏وقد‏ ‏كان‏ ‏مبالغا‏ ‏فى ‏ضرورة‏ ‏الالتحام‏ ‏الجسدى ‏والتحرر‏ ‏الجنسى ‏فى ‏العلاج‏ ‏وغيره‏، ثم ظهرت لاحقا محاولات ليست أقل خطورة ومضاعفات مثل العلاج الذى ابتدعه جانوف، وأسماه علاج “الصرخة الأولى”([4]) Primal Scream.. إلخ.

القصائد (اللوحات) فى هذا الفصل تؤكد على قنوات التواصل بالعين والوجه والجسد عموما، مع التركيز على العيون باعتبارها نافذة على الوعى الشامل.

الاختراق بالنظر:

لغة الاختراق‏ بالنظر (التحديق الكاشف) [5] ،‏ ‏فى ‏عمقها‏ ‏وثباتها‏ ‏هى لغة‏ ‏خطيرة‏ ‏ومهدِّدة‏، ‏وقد استعملتُـها مؤخرا (منذ سنوات) أثناء الفحص الإكلينيكى التعليمى فى الكشف عن كثير من طبقات النفس البعيدة عن متناول الكلمات.

الحزن مثلا حين تصفه الكلمات بالاكتئاب (أو للأسف بـ “الدِّبْرِشَن”)، أو حتى “الهم” أو “الزهقان” أو “الغم”، ليس هو الحزن الذى اكتشفته من خلال خبرتى فى هذا الصدد. حين أسأل المريض عن حزنه الخاص جدا، الدفين فعلا، أو عن حقه فى الحزن، أو عن: من ذا الذى سمح له بالحزن (وليس فقط بالبكاء) صغيرا أو كبيرا، أو عن: متى سمح لنفسه بالحزن؟ أسأله كل ذلك وعيناى تُواكبُ ألفاظى، محاولا مشاركته بالنظر، وقد لا ننطق حرفا، ولمدة دقائق قد تطول أحيانا (نادرة) إلى أكثر من نصف ساعة صامتين تماما أمام زملاء ومتدربين، من خلال هذا التواصل فى الـ “هنا والآن” تتكشف الطبقات التى نتعارف من خلالها على نوع آخر من التواصل، ثم لعل وعسى…

أصعب من ذلك تكون المشاركة حين نقترب من خبرة معايشة “الألم” النفسى “معا”، أعنى الحق فى الألم “معا”، دون الإحالة إلى الأسباب ودون الوصف بالألفاظ، قد تتدرج المشاركة إلى معايشة احتمالات الحرمان من الحق فى الألم، حين نصمت وندع عيوننا تتكلم،….الخ.

كتبت هذه القصائد قبل أن أغامر باستعمال هذه الآلية فى العلاج، أو فى التدريب، أو فى البحث، ولم أكن أتصور أن هذه المشاعر فى العيون هى بكل هذه الرقة والحدة والزخم والصدق والدقة إلى درجة لا يمكن وصفها بالألفاظ، وحين عدت لقراءة لغة العيون الآن فى هذا العمل لأقوم بما تيسر من شرح ثقيل، بما يشمل من احتمال تشويه الشعر، عرفت أننى كنت أمارس هذا المستوى من المشاركة عبر الوعى البينشخصى عبر نافذة العيون.

إطالة النظر بجدية سَلِسَة تعمّق النظر تلقائيا، وهى تكشف دون استئذان عادة.

فى البلاد المتحضرة، على ما أسمع، يـُـعتبر “التحديق” نوعا من الوقاحة، فلا يجوز لك أن تطيل النظر فى راكب أو راكبة فى حافلة عامة (أتوبيس)، هذا بالنسبة للنظر إليها عشوائيا بأية صورة، فما بالك لو كان النظر فى غور العينين مباشرة، أعتقد أنك (هناك) سوف تحوّل نظرك فورا، أو تتفقان على موعد دون كلمات، أو  قد تلعنك فى سرها، أو جهرا.

أما فى سياق العلاج، ولأن هذا الموقف غريب مهما مهدتُ له بالشرح، قد يخطر على المريض حين أطلب منه أن نتواصل دون كلمات (وأضيف أحيانا ودون المسارعة بتفسير أسباب ما يشعر به من حزن أو ألم أو غيره، لا بأحواله الراهنة، ولا بذكرياته) أقول إن المنظر هو غير مألوف لدرجة أنه يمكن أن يوصف بالشذوذ.

اللغة‏ ‏هنا‏ ‏لا‏ ‏تتواصل عبر ‏غور‏ ‏العيون منفصلة عن تعبير الوجه، ونبض اللون، والحركة عموما، وفى الوجه خاصة، وكل هذا يؤكد ‏‏أهمية‏ ‏لغة‏ ‏الجسد‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏، ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏يستنتِـج‏ ‏الطبيب‏ ‏تناقضا‏ ‏داخليا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تأمله‏ ‏العميق‏ ‏للتناقض‏ ‏بين‏ ‏الكلمة‏ ‏والتعبير‏ ‏الجسدى، ‏أو‏ ‏بين‏ ‏تعبير‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الجسد‏ (‏الوجه‏ ‏مثلا‏) ‏وتعبير‏ ‏جزء‏ ‏آخر‏ (‏اليدين‏ ‏أو‏ ‏العينين‏… ‏إلخ‏).‏

حين أطلب من المريض أن نتواصل بالنظر دون كلمات، يرفض، ويتساءل، ويتردد، وقد يصبر، ويحاول، وقد لا يستطيع أن يكمل، وقد يتهيج، وقد يعود يحاول، ثم يستمر… إلخ، وأحيانا لا أطلب منه ذلك صراحة بالكلمات، وإنما أصـُـمتُ فيصمت، ونطيل النظر! خبرات متنوعة تؤكد كم أن الكلام، مجرد الكلام، ولو بوصف المشاعر، قد يكون حاجزا دفاعيا برغم أنه – أساسا – وسيلة تواصلية.

‏‏إذا‏ ‏بلغت‏ ‏وظيفة‏ “‏الكلام‏” ‏الهروبية‏ ‏أن‏ ‏يغترب‏ ‏الإنسان‏ ‏عن‏ ‏إحساسه، ‏يصبح‏ ‏التوقف‏ ‏عن‏ ‏الكلام‏ ‏مخاطرة‏ ‏قد تصل بالشخص إلى أن ‏ ‏يدرك‏‏ ‏حقيقة‏ ‏اغترابه‏ (‏وموته‏ ‏النفسي‏) من خلال الكلام وغيره، ‏فيتألم حتى لا يطيق ويتراجع إلى الكلام، وقد يدفعه الألم إلى انتهاز ‏فرصة‏ ‏إعادة‏ ‏البناء‏ ‏أو‏ ‏إعادة‏ ‏الولادة‏ ‏فى ‏أزمة‏ ‏تطور‏ ‏جديد‏ ‏على ‏طريق‏ ‏النمو‏ ‏البشرى.

لا أريد أن أنهى هذا التصدير قبل الإشارة إلى فضل الكلام فى التواصل حين يحتوى معناه ليصبح واجهة صادقة للوعى، ووسيلة فاعلة للحوار البينشخصى، ثم الجمعى إلى الجماعى، حيث يسترجع وظيفته البدئية وقد كان “هو البدء” قبل أن يغترب.

وهذا ما أنهيت به رفضى لشجب الكلام بشكل مفرط حين استدركت لأنهـِى مقدمة الكتاب الثانى قائلا:

اللفظ‏ ‏قام‏ ‏من‏ ‏رَقْدِتُـه‏.‏

ربك‏ ‏كريم‏ ‏يِنْفُخْ‏ ‏فى ‏صُورْتُه‏ ‏ومَعْنِتُه‏.‏

يرجعْ ‏يغنى ‏الطِّير‏ ‏عَلَى ‏فْروعِ‏ ‏الشَّجَرْ‏.‏

ويقول‏”‏ياربّ‏”،‏

وتجيله‏ ‏ردَ‏ ‏الدعْوَهْ‏ ‏مِنْ‏ ‏قَلْبُه‏ ‏الرِّطِبّ‏.[6]

“لوحة” مقدمة هذا الكتاب الثالث:

فى العلاج الجمعى الذى نمارسه فى قصر العينى منذ حوالى نصف قرن (47 عاما) نبالغ فى التركيز على ما هو “هنا <=> الآن” وكذلك “انا/أنت” فيتراجع دور الكلام فى التواصل، ويتحول إلى قناة مساعدة للمواجهة المباشرة التى تتطور مع طول الممارسة، لتصبح حواراً أعمق بين مستويات الوعى الثنائية، فالجماعية، فالممتدة.

حوار مستويات الوعى يشمل الكلام لكنه لا يتبعه، وهو يتواصل بكل قنوات التواصل الظاهرة والخفية، ويكاد الوجدان – مثلا – يمارس دوره عبر الوعى مباشرة، وهو يتجلى فى كل مظاهر التواصل الحسى والإدراكى والوجدانى وما يتجاوز كل ذلك مما لا مجال  لتفصيله.

أشرت فى التصدير حالا كيف أن الصمت مع استمرار المواجهة وجدل مستويات الوعى على محاور أخرى: يمثل مخاطر غير مألوفة، لكن مع الإصرار وإعادة المحاولة يمكن أن تصل رسائل أعمق وأكثر دلالة من خلال نبض الصمت، وربما أكثر إسهاما فى دعم مواصلة الحوار فالجدل بين دوائر مستويات الوعى البينشخصى، فالوعى الجمْعى فالوعى الجماعى إلى ما هو أكبر وأشمل اتساعا وامتدادا.

يالاّ ‏بـْنـَـا‏ ‏نلعب‏ ‏يا‏ ‏جماعة‏: ‏لعبة ‏”‏هُسْ”.‏

فتَّــحْ ‏عينَـكْ‏ ‏بُصْ‏،‏

إنْ‏ ‏كنت‏ ‏شاطـرْ‏ ‏حِـسْ‏.‏

‏ “‏أنا‏ ‏مين‏؟‏”!‏

‏ ‏ما‏ ‏تقولشْ.‏

‏ ‏مجنونْ‏‏ !!؟؟

‏ ‏ما‏ ‏تخافشْ‏.‏

جرّب‏ ‏تانىِ، ‏مِا‏‏لأَولْ:

‏… ‏راح‏ ‏تتعلم‏ ‏تقرا‏ ‏وتكتب‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏ألفاظ‏:‏

مش‏ ‏بس‏ ‏عْنيك‏،‏.. ‏تدويرةْ ‏وِشــّـك

وسلام‏ ‏بُـقَّـكْ‏ ‏عَلَى ‏خَدّك‏،‏

والهزّه‏ ‏فْ ‏دقنك‏،‏

حتى درجات لون البشرة بل ظلال الألوان، وحركات عضلات الوجه والأطراف، والجسد، وتنوعها تشارك كلها فى الإسهام فى التعبير والتواصل بشكل أو بآخر.

وكلامِ ‏اللون‏:‏

اللون‏ ‏الباهتِ ‏الميّتْ‏،‏ واللون‏ ‏الأرضى ‏الكـَلـْحـَان‏،‏

واللونِ ‏اللى ‏يطق‏ ‏شرارْ‏،‏ واللون‏ ‏اللى ‏مالوش‏ ‏لونْ‏،‏

وعروق‏ ‏الوشْ‏،‏……، والرقبهْ‏،‏

وخْطوط‏ ‏القورةْ،‏ وطريقةْ‏ ‏بَلْعَكْ‏ ‏ريـقــكْ

تشويحةْ ‏إيدكْ…‏

إلى ‏آخرُهْ.‏

وقد وجدنا أنه كلما استغنينا عن تفضيل الكلام كوسيلة أولى أو وحيدة فى التواصل أتيحت الفرصة لقراءة أعمق للتركيب البشرى، وبالتالى ربما زادت فرصة التغير الكيفى بعد تراجع الاغتراب الكلامى.

يختم المتن المقدمة هكذا:

لما‏ ‏حانسكت‏ ‏حانحسْ‏،‏

أو‏ ‏نِعلن‏ ‏موتنا‏.‏

وخلاصْ‏!‏

مشْ ‏يمكن‏ ‏لمَّـا‏ ‏نْـحس‏،‏

نقدر‏ ‏نبتدى ‏ما‏ ‏لأول‏؟

****

………………….

………………….

ونواصل الأسبوع القادم فى قراءة “الخمس عشرة لوحة”:

بداية من اللوحة الأولى: ” قهوة‏ ‏سادة‏، ‏وكلام”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (3) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – فريدريك بيرلز (8 يوليو 1893 – 14 مارس 1970) عالم نفسى ألمانى، يعتبر صاحب نظرية الإرشاد والعلاج النفسى الجشطالتىGestalt therapy.

[3] – ويليام رايخ: محلل نفسى باحث جنس ، عالم إجتماع نمساوى ، وعضو الجيل الثانى من التحليل النفسى بعد سيجموند فرويد ، واحدا من الشخصيات الأكثر راديكالية فى تاريخ الطب النفسى , مؤلف كتب و مقالات، أبرزها تحليل الشخصية (1933)، علم النفس الجماعى للفاشية (1933) والثورة الجنسية(1936) .

[4] – علاج الصرخة الأولى Primal Scream  علاجا نفسيا ظهر فى أمريكا لمبتدعه “آرثر جانوف” Arthur Janov يقوم على فكرة  السماح للمريض (العصابى، ومضطرب الشخصية أساسا)، بعد فترة قصيرة من الحرمان الحسى، وبعد إعداد مناسب، والسماح للمريض أن “يصرخ” بآهته  بأعلى ما عنده مع معالجه مرارا وتكرار لعدة أيام، وقد زعم هذا المعالج أن نتائجه إيجابية برغم ما ثار حولها من شكوك وتحذيرات.

[5]- كنت قد استعملت كلمة “البحلقة” بالعامية لكننى اكتشفت أن “التحديق” بالفصحى يفيد ما أردت، وربما أدق.

[6] – انظر الكتاب الثانى: “هل العلاج النفسى مَكْـلـَمَة ؟” (ص 13)

 

تعليق واحد

  1. مولانا الحكيم جزاك الله عنا خير الجزاء فقد حالفني الحظ و رأيت كيف كنت تتواصل مع مرضاك هذا التواصل الذي تعجز عن وصله و وصفه الكلمات ،
    و المدهش أن هذا التواصل كان يمتد فى دوائر الوعي المحيطة و كأن همس حديث العيون هذا ينصته من ألقى السمع و هو شهيد ……

    و صدقت معلمنا الحكيم ( لما هنسكت هنحس )
    و ربما أيضا لما هنحس هنسكت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *