الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الثانى: “نبض المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (39) الفصل الحادى عشر أنواع ومستويات الصياغة من منظور: الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (3)

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الثانى: “نبض المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (39) الفصل الحادى عشر أنواع ومستويات الصياغة من منظور: الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (3)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 23-7-2022

السنة الخامسة عشر

العدد: 5439

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” [1] 

الكتاب الثانى: “نبض المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (39)

استهلال:

نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة الأسبوع الماضى  قبل متابعة نشرة اليوم التى سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الحادى عشر.

          يحيى

الفصل الحادى عشر

أنواع ومستويات الصياغة

من منظور: الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (3)

…………………………

………………………..

أنواع الصياغات الأخرى

أولاً: الصياغة النفسمراضية السببية Psychopathology  Etiological

تهتم هذه الصياغة بالأسباب التى يمكن أن تكون قد تسببت فى ظهور أعراض بذاتها أو أمراض بعينها، لكنها لا تتوقف عندها، ولا توليها الأهمية الكبرى التى بالغت فيها توجهات التحليل النفسى لأن المطلوب أن يلحق سؤال “إذن ماذا؟” بعد “لماذا” مباشرة، حتى لو لم نجد الإجابة عن هذا السؤال الأوّل اللحوح الجاهز دائما: “لماذا؟” بقدر مناسب؟

ثانياً: “الصياغة  النفسمراضية التركيبيةStructural Pscychopthology

 هذا المستوى من الصياغة يشمل قراءة المخ (= الأمخاخ = مستويات الوعى) باللغة التى تصلح لذلك: مثلا: لغة: “الطاقة الحيوية”، ولغة “تعدد التركيبات النيوربيولوجية” وتشمل رصد تشكيلات متداخلة مترادفة أحيانا مثل: تعدد العقول أو تعدد مستويات الوعى أو تعدد حالات الذات.. أو تعدد الأمخاخ وعلاقة أى من ذلك ببعضه البعض بما يسمح بالاقتراب أكثر فأكثر مما آلَ إليه “الترتيب الهيراركى” من اضطراب وتخلخل حتى وصل إلى الانتهاء إلى  التركيب المرضى الحالى.

مرة أخرى: خلاصة القول:

إن الصياغة النفسمراضية التركيبية هى: قراءة مستعرضة فى “هنا والآن” ترّكزُ على التركيب النيوربيولوجى الإمراضى الذى يمكن أن يكون قد حل محل التركيب الهيراركى العادى والنمائى الذى كان المريض يعيشه قبل المرض.

كذلك يرتبط هذا المستوى من التصنيف التركيبى للمريض باعتباره – كما ذكرنا – عدة شخوص، وليس فقط شعورا فى مقابل اللاشعور، عدة شخوص أو “حالات ذات أو أمخاخ” يمكن التفاهم معها واحدة فواحدة، عن طريق التفاعلات العلاجية، ومن ضمنها – وليس أهمها: – الكلام.

البداية هي استيعاب كيف أن هذه المنظومات المتعددة والمرتبة أصلا: ترتيبا هيراركيا هى الناتج الطبيعى لمسار النمو الإنسانى الفردى (الأنتوجينى) الذى تمتد جذوره إلى الأصول الفيلوجينية، ثم الوراثة المباشرة، ثم “الميمات” mames المحيطة، ثم ما طرأ على كل ذلك حتى وصل إلى الصياغة التركيبية الحالية، وهى البداية الجديدة للتخطيط والعلاج.

ويتوقف العلاج على تحديد مبدئى لطبيعة ما ترتب على التحول إلى حالة المرض بدءًا من:

كيف اختل هذا الترتيب بالمرض؟ وما هو الترتيب الذى انتهى إليه هكذا؟ ثم كيف نُحمـّـل – المعالج والمريض – مسئولية تصحيح هذا المسار؟ مع الحفاظ على جوهر الهدف لتحقيقه بأسلوب أكثر قدرة وسلامة من خلال إعادة الأمور إلى مسارها الطبيعى كما خلقها الله: بما يسمى العلاج.

بصفة عامة فإنه كثيرا ما تبدو الأعراض غامضة ومتداخلة بشكل غير مفهوم، والدرجة القصوى للتشتت والتنافر تطلق عادة على أعراض الفصام المتفسخ، وينسب إلى كارل ياسبرز أنه كان يرجح  تشخيص مرض الفصام بمدى وجود هذه اللامفهومية Un-understandability إلا أننى مع طول الممارسة والغوص فى أغوار النفسمراضية للفصاميين،  رفضت هذا التعميم الذى لم يقل به كارل ياسبرز  هكذا مباشرة، ذلك أننى أمارس مهنتىوأدرّب من أعلّمأن يكون العلاج انطلاقا من فهمنا الأعمق لغائية الفصام أى: ماذا يريد الفصامى أن يقول بمرضه هذا؟” وغالبا ما ننجح فى إرجاع الأعراض إلى وظيفتها في الإسهام في إبلاغ رسالة المرض، وحين تبلورتْ عندى هذه الفرضية وأمكنننى فهم المزيد من  لغة وغائية مساحة أكبر فأكبر من أغلب ما يعرض لى من فصاميين بالذات، ازداد رفضى تدريجيا أن يكون الفصامى مهما تناثر: “غير مفهوم”، وبالتالى أصبح تعثرى فى عدم فهم أعراض مريض ما، حافزا لى أن أبحث أكثر وأعمق عن  فهم غائى للأعراض، وهذا من أهم مبادئ الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى، وبالتالى أصبحتُ لا أقبل وصف الفصامى بأنه “غير مفهوم” اللهم إلا عند من أعجز عن الغوص إلى غائية لغة مرضه بشكل مناسب، لكننى لا أتوقف عن المحاولة وأمضى في اختبار الافتراضات وتجديدها حسب مسار العلاج والمزيد من المعلومات!!

تجميع الافتراضات الأساسية:

أولاً: إن الإيقاعحيوى هو العامل الأساسى لتنظيم دورات الكون ودورات النمو ودورات التطور ودورات المخ ودورات الإبداع ودورات الحلم  و(يمكن إضافة: ودورات العلاج)، بما فى ذلك آليات التشكيل لنبضاته المستمرة، وهو ما يرتبط بحقيقة أن المخ يبنى نفسه باستمرار ليلا ونهاراً على طول المدى.

ثانياً: إن فشل (أو إفشال) الإيقاعحيوى فى القيام بدوره الأساسى يترتب عليه خلل واضطرابات فى كل مجال بلغته، وفى مجال الطب النفسى: تترتب عليه أغلب الانحرافات والأمراض.

ثالثاً: إن الإيقاعحيوى ليس واحدا وإنما هو يجرى فى دورات متوازية، متبادلة، متغيرة، متصاعدة مثل: “الأنتوجينيا والماكروجينيا والميكروجينى” [2]  (وما لا نعرف) وأيضا فى دورات أخرى مثل “دورات أو تناوب حالات الوجود المتناوبة” [3]  ثم تناوبات أخرى مثل التنقل وترتيب قيادات الأمخاخ حسب مرحلة النمو وحسب دورات مفترضة أعمق وأدق يمكن استنتاج آثارها حتى لو لم يتم رصدها أو تسميتها.

رابعاً: إن الأمراض النفسية تظهر نتيجة لخلل فى إيقاعية وإبداعية الإيقاعحيوى، وتتوقف مظاهرها على مرحلة ظهور هذا الفشل، وأيضا على محاولة مواجهة هذا الفشل المرضى أو تحويره وتغييره حسب مرحلة المرض، بتشكيلات بديلة ولو مؤقتا، لكن يظل خلل الإيقاع مستمرا، وهو ما صككت له مصطلح “السيكوباثوجينيى” [4] : يظل مستترا قليلا أو كثيرا: وراء حائط أو حوائط  الدفاعات.

خامساً: إن العلاج يهدف أساسا إلى استعادة كفاءة تناغم وإبداعية الإيقاعحيوى للانطلاق إلى  مواصلة النمو والإبداع والتطور من جديد.

سادساً: إن هذا هو السبيل الذى نشير إلى أن له مزية عملية علاجية، فهو يسمح لنا بالرجوع إلى أصل الخلل باستمرار ما أمكن ذلك، ومحاولة تصحيح الجذور جنبا إلى جنب مع تشذيب الفروع، وذلك بترويض المخ الناشز، وتنشيط المخ المُـزاح، وتصحيح التكافل والتبادل على طريق استعادة هارمونيه إيقاع سائر دوائر المستويات من جديد.

سابعاً: إننا بهذا الأسلوب إنما نكمل شرح وتوظيف الفروض العاملة كما يلى:

(i) إن كل الأمراض النفسية (بعد استبعاد الأنواع العضوية التشريحية) نابعة من خلل أساسى واحد وهو الجاهزية والاستهداف للتفسخ وهو ما يمكن أن نعزوه إلى الانفصال عن أصل التوجه المحورى الإيقاعى الإبداعى النمائى.

(ii) إن الصحة النفسية تتحقق طالما يتواصل إعادة بناء المخ عبر الإيقاعحيوى، الذى يستعيد دوره الإيجابى من خلال الفـُرَصْ التي أتيحت له من المواكبة العلاجية ونقد النص البشرى، فتنشط القوانين الأساسية وخاصة: “أن المخ يعيد بناء نفسه طول الوقت”، مما يجعل الشخصية فى حالة تكوّن مستمر، Always in the Making وكذا كل المستويات سواء سميت: حالات الذوات Ego states أو مستويات الوعى أو حالات العقولMental states  فكلها تعود- أو في طريقها لأن تعود إلى: حالة جدل نمائى إيقاعى متصل بعد إزالة الموانع وتعديل التوجـّه.

(iii) إن نهاية الفصام – مثلا – بمعنى التفسخ والتناثر والنكوص فالاندمال هو المآل السلبى النهائى  إذا فشلت كل الدفاعات الصحية والمرضية فى الحيلولة دون تماديه، فالفصام فى غائيته القصوى: هو تمادى التفسخ المهدد لكل ما هو حركية الحياة التكاملية المتناغمة، وهذا ليس حتمية مطلقة، وعلينا أن نعمل لنحول دون ذلك من بداية البداية.

(iv) إن أية ظاهرة بيولوجية تشكيلية عادية أو مرضية أقل خطورة وإمراضية من الفصام إنما تظهر لتحول دون الاستمرار نحو التمادى فى هذا التفسخ الفصامى.

(v) إن العلاج من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى يتركز فى محاولة إيقاف هذا المآل، ومواجهة التهديد بالتفسخ حتى نخفف من الحاجة إلى دفاعات مـَـرضـِـية (ظهور أمراض أخرى، بديلة) وذلك بالعمل على إعادة تنظيم هيراركية الأمخاخ لاستعادة الإيقاعحيوى الطبيعى ومواصلة مسيرة النمو النفسِى، مع وضع احتمال أن نحافظ – مرحليا طبعا- على المرض الأخف – ونضع ذلك في الاعتبار: طالما هو يعين في الحد من التمادى إلى المرض الأخطر (وأخطر الخطر هو الفصام) ونحن نواصل تقديم فرص العلاج البنائى بما يـَعـِدُ من بدائل صحية ومجالات إبداعية مع المريض، والمحيط، والتأهيل، والتداوى.

 (vi) إن هذه العملية -العمليات- تحتاج إلى الإلمام بكل المتاح عن مستويات المخ (الوعى/العقول/الأمخاخ) وتاريخها، وكيميائياتها، وتناسب قواها، وتنافسها، وكيف آلت إلى ما ألت إليه ، جنبا إلى جنب مع إحياء نبض الإيقاعحيوى فى الاتجاه السليم بدءًا بتنشيط الوعى “البينشخصى” إلى “الوعى الجمعى” “فالوعى الجماعى” “فالوعى المطلق” إلى “الوعى الكونى” إلى “الغيب” إلى “وعى الحق …”.

دعونا نواجه الأمر الواقع فنكتشف أن الطبيب الأصغر يتعلم ويمتحن وينجح ويحصل على الدرجة، وقد تمت برمجته ان يكون الهدف  الأول (وأحيانا الأخير) من المقابلة الكلينيكية هو “الوصول إلى تشخيص” للوصول إلى العقار اللازم لمعادلة الخلل!!. يترتب على هذا التصور المدعم بالمنطق السطحى والتفكير الحتمى الخطـِّـى العلىّ الاستنتاجى([5])، أن الطبيب التقليدى بمجرد وصوله إلى هدفه ووضع لافتة التشخيص على مريضٍ ما، تتم الترجمة الفورية للمريض إلى معادلة كيميائية، ثم يروح الطبيب يبحث فى أرشيف معلوماته عن ماذا حدث لهذه الكيمياء من تغيرات، ثم يُـترجِمُ المريض نَفسه، وليس كيماءه  فقط، إلى “ما يصلح له” بكيمياء  سابقة التجهيز لتصحيح المعادلة، يحدث هذا باستمرار حتى يصبح برنامجا  منغرسا فى المنظومة المعلوماتية عند كل طبيب، والنتيحة هى البعد عن المريض وعن الحقيقة، وعن تنشيط حركية الإيقاع القادرة على التنغيم، والمواكبة، وإعادة التشغيل، والإبداع، ومعاودة كل ذلك بكل مثابرة على أرض الواقع النابض باستمرار.

أشعر أننى بالغت في الإيجاز والتفاؤل، بل والتعميم، لكن كل ذلك يمكن قبوله من خلال منطلق الطب النفسى الإيقاعحيوى بدءًا بقراءة الصياغة التركيبية الدالة على طبيعة الخلل الطارىء، أكثر من الاختزال التشخيصى، وفى نفس الوقت الاطمئنان إلى دوام قدرة المخ على إعادة بناء نفسه بما نقدم له من إحاطة واحتواءٍ واحترامٍ وقبولٍ ومواكبة.

…………………………

…………………………

 (ونواصل غدًا)

___________

[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث كتب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net وهذه النشرة هي استمرار لما نشر من الكتاب الثانى: “نبض المقابلة الكلينيكية: بحث علمىّ بمهارة فنية”.

[2] – يحيى الرخاوى، الطب النفىسى: بين الإيديولوجيا والتطور، جمعية الطب النفسى التطورى، 2019

[3] – انظر هامش (42)

[4]- Psychopathogeny

[5] – Linea deterministic deductive thiniking

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *