الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية”(11) الفصل الثالث: “التاريخ المرضى السابق” (2)

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية”(11) الفصل الثالث: “التاريخ المرضى السابق” (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 16-4-2022

السنة الخامسة عشر

العدد: 5341

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”([1])

الكتاب الثانى: المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (11)

استهلال:

نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة الأسبوع الماضى قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الثالث.

          يحيى

 الفصل الثالث

التاريخ المرضى السابق (2)

(مع إشارة إلى المرض العضوى، والشخصية قبل المرض)

أولا: التاريخ المرضى السابق

………

………

المتن:

– ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏السابقة‏:

‏…. هنا‏ ‏تظهر‏ ‏مشكلة‏ ‏كلينيكية‏ ‏حقيقية‏ ‏وهى ‏تختص‏ ‏بالإجابة‏ ‏عن‏ ‏سؤال‏ ‏يقول‏:

 ‏متى ‏يعتبر‏ ‏الاضطراب النفسى‏ ‏السابق‏ “‏تاريخا‏ ‏مرضيا‏ ‏سابقا‏” ‏ومتى ‏يعتبر‏ ‏جزءا‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏من‏ ‏المرض‏ ‏الحالى ‏وبينهما‏ ‏فترة‏ ‏تحسن‏ ‏ بإفاقة جزئية أو حتى كلية‏؟

والإجابة‏ ‏تقريبية‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏شيء‏، ‏فلكى ‏يعتبر‏ ‏المرض‏ ‏سابقا‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏هناك‏ ‏مؤشرات‏ ‏متفق‏ ‏عليها‏ ‏لتحديد‏ ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏حدث‏ ‏له‏ ‏شفاء‏ ‏تام‏ ‏من‏ ‏النوبة‏ ‏السابقة‏ ‏أم‏ ‏لا‏، ‏والتفرقة‏ ‏بين‏ ‏الشفاء‏، ‏ونوبة‏ ‏الإفاقة‏ ‏الكاملة‏ ‏هى ‏تفرقة‏ ‏صعبة‏ ‏ويمكن‏ ‏الاعتماد‏ ‏على ‏توجه‏ ‏ما ذهب‏ ‏إليه‏ ‏الدليل‏ ‏الأمريكى ‏الرابع‏ فالخامس ‏فى ‏هذا‏ ‏الشأن‏ ‏من‏ ‏أن‏: ‏

الشفاء‏: هو‏ ‏إفاقة‏ ‏كاملة‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏معها‏ ‏المريض‏ ‏يحتاج‏ ‏أن‏ ‏نذكر‏ ‏أو‏ ‏نتذكر‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏مصابا‏ ‏بهذا‏ ‏المرض‏ ‏بالذات‏، ‏أى ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏هناك‏ ‏داع‏ ‏للاستمرار على العقاقير، أو لوضع‏ ‏هذا‏ ‏المرض‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ اثناء‏ ‏التعامل‏ ‏معه‏‏، ‏وبالتالى ‏يشخص‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏المريض‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الفترة‏ ‏على ‏أنه‏ “طبيعى، قد شفى” ‏وليس‏ ‏مريضا‏ ‏بـهذا “المرض‏ ‏المحدد” أو ذاك. ‏

‏ يعتبر‏ ‏المريض‏ ‏فى ‏نوبة‏ ‏إفاقة‏ ‏فقط إذا لم تتوفر هذه الشروط‏، و‏يستحسن‏ ‏أن‏ ‏يعامل‏ ‏على ‏أنه‏ ‏عرضة‏ ‏لنوبة‏ ‏تالية‏‏، ‏وبالتالى ‏يشخص‏ ‏باعتباره‏ ‏أنه‏ ‏مصاب‏ ‏بـ‏ “‏المرض‏ ‏الفلانى”: ‏فى ‏حالة‏ ‏إفاقة:‏ ‏المثال:‏ ‏مريض‏ ‏الهوس‏ ‏اضطراب‏ ‏ثنائى ‏القطب‏: الذى ‏اختفت‏ ‏كل‏ ‏أعراضه‏ ‏لعدة‏ ‏سنوات‏ ‏وهو‏ ‏مازال‏ ‏يتعاطى ‏مضادا‏ت ‏للنكسات‏ ‏مثل‏ ‏أملاح‏ ‏الليثيوم‏.‏

وعادة‏ ‏ما‏ ‏يوضع‏ ‏المرض‏ ‏السابق‏ ‏مع‏‏ ‏الحالى ‏باعتباره‏: ‏تمييزا‏ ‏خاصا‏ ‏لأهمية‏ ‏ذلك فى العلاج والمتابعة‏.

‏يعتبر‏ ‏المريض‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏شفاء‏ ‏بحيث‏ ‏يعتبر‏ ‏المرض‏ ‏الحالى ‏جديدا‏ ‏وبالتالى ‏فإن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏ذلك ‏‏هو‏ ‏تابع‏ ‏للتاريخ‏ ‏المرضي‏، ‏إذا‏ ‏توفرت‏ ‏الشروط‏ ‏والمواصفات‏ ‏التالية‏ ‏لمدة‏ ‏السنتين‏ ‏السابقتين‏ ‏للمرض الحالى‏:‏

أ‏- ‏اختفاء‏ ‏الأعراض‏، (والاستغناء من التداوى الواقى)

ب‏- ‏العودة‏ ‏إلى ‏العمل‏ ‏‏ ‏كما‏ ‏سبق‏ ‏أو‏ ‏أفضل‏ ‏أداءً.

جـ‏ – ‏العودة‏ ‏إلى ‏مستوى ‏التكيف‏ ‏الاجتماعى ‏والعاطفى ‏السابقين‏ ‏.

د‏ – ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الموقف‏ ‏العام‏ ‏بالنسبة‏ ‏للعلاقة‏ ‏بالواقع‏، ‏والرنين‏ ‏الوجدانى، ‏والوظائف‏ ‏الدفاعية‏ ‏كما‏ ‏كانت‏ ‏قبل‏ ‏المرض‏.

هـ‏ – ‏ألا‏ ‏تكون‏ ‏طبيعة‏ ‏المرض‏ – ‏بالتعريف‏- ‏دورية‏ ‏بالضرورة.

و‏ – ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏المرض‏ ‏اللاحق‏ (‏الآن‏) ‏مختلف‏ ‏النوعية‏ ‏عن‏ ‏المرض‏ ‏السابق.

التحديث:

يبدو أننى حين كتبت هذا المتن منذ ثلاثين عاما، مارست النقد داخله، ربما كانت تشغلنى هذه القضية الخاصة بتحديد علاقة المرض السابق بالنوبة الحالية، لدرجة أنني أوردت كل هذه التفاصيل، وكانت تشغلنى أيضا إشكالة “نقلة الأعراض، ونقلة الأمراض” [2]  بل والنقلات عموما.

 وربما ما نبهنى إلى ذلك أكثر فأكثر هو ممارستى للعلاج الجمعى باستمرار، وما كنا نلقاه من تغيرات شديدة الدقة والأهمية فى الأعراض خاصة، تصل أحيانا إلى نقلات فى الزملات المرضية، فكان هذا وذاك مما أثار انتباهى إلى دوَامية النبض الإيقاعحيوى فى الصحة والمرض وهو أصل ظهور الفرض الذى أسميته لاحقا “حالات الوجود المتناوبة”(3)، وهو ما يشير إلى تغيرات فى نوع التواجد وحركية اتساع دوائر الوعى بشكل دورى متناوب مع عودتها باستمرار إلى مسارها الطبيعى الذى يُعْتبر هو الطريق الطبيعى لاستعادة طبيعة مسار  النبض الحيوى، ويبدو أنه انطلاقا من هذه الخبرة خلال خمسة عقود استطعت أن أعيش النقلات المستمرة بين حالات الوجود، بدءًا من انتباهنا لآثار دورات النوم والحلم واليقظة وآثارهما الواحدة تلو الأخرى (وليس بالضرورة محتواها) إلى دورات النقلات الطبيعية فى وحدات الزمن الصغيرة فالمتناهية الصغر أثناء العلاج الجمعى (والإبداع أيضا)، بالإضافة إلى ما تعلمته من خلال اجتهادى فى مجال نقد النص الأدبى الأعمق فالأعمق وما به من نقلات دالة ومميزة، وربما كل ذلك هو الذى جعلنى أتقدم إلى فرض: إن الأصل فى الوجود البشرى (وغير البشرى غالبا) هو هذه النقلات المتوالية المنتظمة الخلاّقة من خلال جدل نبض الإيقاعحيوى على كل المستوياتوفيما يلى بعض عينات من شهادات المبدعين (4) ، وبها بعض ملامح من التفكك، لكنه تفكك للتشكيل وليس للتناثر:

(1) إدوارد‏ ‏الخراط‏: “…… ‏لغتى، ‏فهى ‏تتخلق‏ ‏بالكلمة‏ ‏أو‏ ‏بنسق‏ ‏من‏ ‏الكلمات‏، ‏بجرسها‏ ‏وإيقاعها‏ ‏وكثافتها‏…، ‏وهى ‏فى ‏الآن‏ ‏نفسه‏ ‏تأتى ‏حسية‏ ‏ومُدركة‏، ‏أى ‏أنها‏ ‏تأتى ‏حسية‏ ‏ومتجسدة‏، ‏ولها‏ ‏طعمها‏ ‏ورائحتها‏ ‏وملمسها‏..”

أظن‏ ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏الجزء‏ ‏الأول‏ ‏من‏ ‏كلام‏ ‏الخراط‏ ‏مجازا‏، ‏فالجزء‏ ‏الثانى ‏لا‏ ‏يبدو‏ ‏كذلك‏.‏ أما‏ ‏خالدة‏ ‏سعيد‏ ‏فقد‏ ‏عنونت‏ ‏قراءتها‏ ‏لديوان‏  “‏لن‏”  ‏لأنسى ‏الحاج‏ ‏فى “‏حركية‏ ‏الإبداع‏” ‏بعنوان‏ ‏شديد‏ ‏الدلالة‏ ‏فى ‏هذا ‏السياق‏، ‏العنوان‏ ‏هو‏: “‏الشعر‏ ‏وعتمات‏ ‏الجسد‏“، ([5])

قالت‏ ‏فيه‏:

“تراجع‏ ‏أنسى ‏الحاج‏، ‏انسحب‏ ‏من‏ ‏العالم‏ ‏الخارجى ‏المضيء ‏اللامع‏ ‏إلى ‏عتمات‏ ‏الجسد‏، ‏حيث‏ ‏التشويش‏ ‏الفظيع‏”.‏

ثم‏ ‏راحت‏ ‏تتحدث‏ ‏عن‏ ‏مناجاته‏ ‏لــ‏ “‏شارلوت‏”، (‏وهى ‏عند‏ ‏أنسى‏- ‏ما‏ ‏تنسله‏ ‏الإصبع‏ ‏فى ‏منتهاها‏ ‏قبل‏ ‏بداية‏ ‏الظفر‏) ‏وعقبت‏ ‏خالدة‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏بقولها‏:

“‏إذن‏ ‏فأجزاء‏ ‏جسده‏ ‏تستعد‏ ‏للسفر‏، ‏مستشهدة‏ ‏بقول‏ ‏شارلوت‏ “..‏إن‏ ‏العقد‏ ‏سينفرط‏، ‏إننا‏ ‏متخلون‏ ‏عنك‏ ..”‏إلخ

(2) أما نجيب‏ ‏محفوظ‏: فـنـــقــرأ شهادته كما يلى: ‏

“… ‏تدب‏ ‏حركة‏ ‏من‏ ‏نوع‏ “‏ما‏” (‏التنصيص‏ ‏من‏ ‏عندي‏) فينشط‏ ‏الكاتب‏ ‏لتوصيلها‏ ‏إلى ‏القاريء‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تتجسد‏ ‏له‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏معين‏، ‏ما‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏‏؟‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ “‏أى ‏شيء‏”، ‏أو‏ “‏لا‏ ‏شيء‏ “‏بالذات‏… “.

فنلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏تعبيرات‏ “‏تدب‏ ‏حركة‏” “‏ما‏”، ‏فلم‏ ‏يستطع‏ ‏الكاتب‏ المبدع هنا ‏أن‏ ‏يلتقط‏ ‏مِنْ‏ ‏هذه‏ ‏التى ‏تدب‏ (‏تنشط‏) ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏من‏ ‏نوع‏ “‏ما‏ “، ‏فهو‏ طارق ‏ليس‏ ‏مجهولا‏ ‏كل‏ ‏الجهل‏، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏محددا‏ ‏بعد‏. ‏وهذا‏ ‏هو‏ أقرب شئ إلى حركية ‏”المكد” endocept ([6]‏) ‏ثم‏ ‏نلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏تحديد‏ ‏استجابة‏ ‏محفوظ‏ – ‏مثل‏ ‏المقتطف‏ ‏السابق‏- ‏بأن‏ ‏ثمَّ‏ ‏تحريكا ‏ ‏يلح‏ ‏للإنجاز‏، ‏وأن‏ ‏ثمَّ‏ “‏آخر‏” ‏يتوجه‏ ‏إليه‏ ‏التنشيط‏، ‏على ‏نحو‏ ‏يؤكد‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏حركية‏ ‏الإبداع‏ ‏المتوجهة‏ (‏لا‏ ‏المـُوَجَّهة‏)، ‏ودوائرية‏ ‏الجنون‏ ‏المغلقة‏ ‏والمتناثرة‏ ‏معا‏ ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏حركتها‏ ‏فى ‏المحل‏، ‏أو‏ للوراء‏.‏

ثم‏ ‏يعود‏ ‏محفوظ‏ ‏ليجهِّـل‏ -‏ بمنتهى ‏اليقين‏ ‏المعرفى – ‏طبيعة‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏أنها‏ “‏أى ‏شيء‏” ‏أو‏” ‏لا‏ ‏شىء‏ ‏بالذات‏” ‏على ‏نحو‏ ‏يتحقق‏ ‏معه‏ ‏الفرض‏ ‏الأصلى ‏الذى ‏أوردناه‏ ‏هنا، والذى‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الخطوات‏ ‏الأولى ‏للإبداع‏ ‏تتميز‏ ‏بحركيتها‏ ‏وتوجهها‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏تتميز‏ ‏بمضمونها‏ ‏أو‏ ‏هدفها (‏المحدد‏). ‏وتعبير‏ “‏لاشىء‏” ‏هنا‏ ‏لا يمكن‏ ‏أن‏ ‏يؤخذ‏ ‏إلا‏ ‏بما‏ ‏لحقه‏: “‏لاشىء‏ ‏بالذات‏”.‏

والفرق‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏كما‏ ‏تبدت‏ ‏هنا‏ ‏وبين‏ “‏التفكير‏ ‏العِهنى‏” Woolly thinking فى ‏الجنون‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏التفكير‏ ‏العهنى ‏غير‏ ‏المحدد‏ (فى الفصام خاصة) ‏هو‏ ‏بداية‏ ‏ونهاية‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يقابله‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏مجرد‏ ‏بداية‏ ‏يتعهدها‏ ‏الكاتب‏ ‏بحرص‏ ‏حتى ‏يتولد‏ ‏بها‏ ‏ومعها‏ ‏ومنها‏ ‏ماتطلقه‏ ‏من‏ ‏طاقة‏ ‏ومادة‏ ‏فى ‏تضفر‏ ‏جدلى ‏مع‏ ‏سائر‏ ‏المستويات‏، فهو الإبداع.

(3) يوسف‏ ‏إدريس‏: ‏”.. ‏الإبداع‏ ‏عندى ‏أشبه‏ ‏ما يكون‏ ‏بخلق‏ ‏الكون‏..، ‏سديم‏ ‏من‏ ‏الإحساس‏ ‏يتكون‏ ‏داخلى، ‏ثم‏ ‏تبدأ‏ ‏حركة‏ ‏هائلة‏ ‏الضخامة‏، ‏بطيئة‏ ‏الوقع‏. ‏وتتخلق‏ ‏الأفكار‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏السديمية‏ ‏للأحداث‏ ‏والشخصيات‏.. ‏وبتوقف‏ ‏الحركة‏ ‏تكون‏ ‏القصة‏ ‏قد‏ ‏تخلقت‏ ‏فيما‏ ‏أسميه‏ ‏”القصة‏ -‏الكون‏ – ‏الحياة”‏ ‏التى ‏هى ‏أعلى ‏مراحل‏ ‏السديم‏ “.‏

‏فنلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏تعبير‏”‏السديم‏” ‏الذى ‏هو‏ ‏أقرب‏ ‏‏إلى ‏صورتين‏ (‏معجميتين‏ ‏أصلا‏)، ‏الأولى “‏السديم‏: ‏الضباب‏ ‏الرقيق‏”، ‏والثانية‏: “‏السديم‏: ‏مجموعة‏ ‏نجوم‏ ‏تظهر‏ ‏بعيدة‏، ‏تظهر‏ ‏كأنها‏ ‏سحابة‏ ‏رقيقة‏”، ‏وكلا منهما‏ ‏يبدو ‏أقرب‏ إلى ‏مايتفق‏ ‏مع‏ ‏تعبير‏ “‏أريتي‏” ‏عن‏ ‏المعرفة‏ “‏الهشة‏”amorphous congition (‏بما‏ ‏اخترنا‏ ‏له‏ ‏بالعربيه‏ ‏لفظين‏ ‏معا‏: “‏الضبابية‏ ‏الُمدغمة‏”). ‏ووصف‏ ‏إدريس‏ ‏لهذا‏ ‏السديم‏ ‏بأنه‏ ‏من‏ “‏الإحساس‏” ‏هو‏ ‏تقريب‏ ‏غير‏ ‏ملزم‏، فالإحساس‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ هو ‏مرادف‏ ‏للإدراك‏ ‏الأوّلى، ‏وللحفز‏ ‏الغامض‏، ‏وللانفعال‏ ‏المعرفى، ‏وللتوجه‏ ‏العام‏ ‏جميعا‏.‏

‏ ‏ثم‏ ‏نلاحظ‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏السديم‏ ‏ليس‏ ‏مثولا‏ ‏ثابتا‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏حركة‏ ‏أساسا‏ (‏الحركة‏ ‏السديمية‏)، ‏ومع‏ ‏أنه‏ ‏ألحق‏ ‏بها‏ “‏للأحداث‏ ‏والأشخاص‏”، ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏فى ‏مرحلتها‏ ‏السديمية‏ ‏تلك‏ ‏ليست‏ ‏أحداثا‏ ‏بذاتها‏ ‏أو‏ ‏أشخاصا‏ ‏متميزين‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏تُنْبِئُ‏، ‏وتجزم‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏، ‏بأحداث‏ ‏وأشخاص‏ “بشكل ‏ما‏”.‏

‏ ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏الأفكار‏ ‏تتولد‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏، ‏وكأن‏ ‏الأفكار‏ ‏هنا‏ ‏هى ‏التى ‏تنشيء‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الضباب‏ ‏الرقيق‏ ما يتخلق بالإبداع‏، ‏فهى ‏ليست‏ ‏ترجمة‏ ‏الإحساس‏ ‏إلى ‏مفاهيم‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏تخليق‏ ‏لمفاهيم‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏استيعاب‏ ‏حركة‏ ‏السديم‏ ‏المنبعثة‏.‏

‏ ‏و‏لا‏ ‏يخدعنا‏ ‏تعبير‏ “هائلة‏ ‏الضخامة‏ ‏بطيئة‏ ‏الوقع‏ “، ‏فنتصور‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏تحدث‏ ‏فى ‏وحدة‏ ‏زمنية‏ ‏كافية‏ ‏لرصدها‏ ‏هكذا‏ ‏بأى مقياس‏، ‏فارتباط‏ ‏هذه‏ ‏السديمية‏ ‏بالكونية‏، ‏إنما‏ ‏يتواكب‏ ‏مع‏ ‏عملية‏ ‏إيقاف‏ ‏الزمن‏ (‏العادى‏) ‏على ‏نحو‏ ‏يجعل‏ ‏الجزء‏ ‏من‏ ‏الثانية‏ ‏يحمل‏ ‏هذا‏ ‏الإيقاع‏ ‏المتمادي‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏الإيحاء‏ ‏بالتوقف‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏هائلية‏ ‏الضخامة‏ ‏هنا‏ ‏إنما‏ ‏تشير‏- ‏فى ‏الأغلب‏ – ‏إلى ‏علاقة‏ ‏الذات‏ – ‏بالكون‏- ‏دون‏ ‏فقد‏ ‏لحدودها‏ (‏بما‏ ‏يميزها‏ ‏عن‏ ‏الجنون‏)

إن الممارس للطبنفسى الإيقاعحيوى يصله (دون تعسف أو قصد واضح) أن دورية المرض النفسى بما فى ذلك النكسات يمكن أن تكون عَمْلَقَةٌ غير مناسبة لأحد مراحل دورات الإيقاع التى تتجاوز العادية، ولا تصل بعد إلى الإبداع: مما يؤدى إلى ضخ طاقة أو كتمها أو إلى تفكيك فى مرحلة التفكيك المفترقى لم يمكن احتواؤه فى الطور السابق ولا التالى.

وربما كان هذا – قبل أن أصل إلى هذا التنظير وهذه الفروض: هو ما أوحى لى أن أقترح على إحدى تلميذاتى أ.د. نهى صبرى([7]) أن تقوم بعمل بحث الدكتوراه  عن هذه النقلات التى تحدث فى الأعراض أو فى التشخيص أثناء العلاج الجمعى([8])، وقد وصلنا من  هذا البحث  ضمنا – فضلا عن نتائجه التفصيلية فى العلاج وطبيعته، وطبيعة المرض وحركيته، وصَلَنَا ما أعتبره الآن من الخلفية التى انطلقت منها فروضى عن “واحدية المرض النفسى فى مقابل تعدده”([9])، ذلك الفرض الذى ثبت أنه ينبع أساسا، إن لم يكن تماما من الفكر التطورى (ثم لاحقا تبينت أنه محور أساسى فى الافتراضات الجوهرية فى الطبنفسى الإيقاعحيوى كله)

………………

……………..

(ونواصل غدًا)

__________________________

[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث كتب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net وهذه النشرة هي استمرار لما نشر من الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمىّ بمهارة فنية”.

[2] -Syndrome shift & Symptom shift

[3] – يحيى الرخاوى،  كتاب “النظرية والفروض الأساسية ” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022) تحت الطبع.

[4] – أكتفى بالإشارة إلى شهادات ثلاثة من مبدعى الحكى دون تعقيبى النقدى عليهم كما ظهر فى كتابى “حركية الوجود وتجليات الإبداع” فى “شهادات من مبدعى الحكى” إدوارد الخراط: (ص 170)،  نجيب محفوظ: (ص 174)،  يوسف إدريس: (ص  175)، وهو ما نشر سابقا فى مجلة فصول، ‏المجلد‏ ‏الثانى- ‏العدد‏ ‏الرابع‏ (1982) (ص‏: 257-309).

[5] – خالدة سعيد: الشعر وعتمات الجسد، فى نقد أنسى الحاج: “حركية الإبداع” دار العودة، بيروت 1979

[6] – “المكد “ هى كلمة جديدة لوصف ما هو “مــدرك كــلى داخلى” وهى كلمة  نحتها ترجمة لكلمة ابتدعها سيلفانو أريتنى هى Endocept فى كتابه عن الابداع  Creativity.. the Majic syntesisيصف بها حالة الإدراك الغامض لإرهاصات حركية عملية الإبدع فى بدايتها

Silvano Arieti: Tertiary processes (1976), Creativity: The Magic Synthesis. Basic Books، New York

[7] – الآن: أ.د.  نهى صبرى أستاذ الطب النفسى بقسم الأمراض النفسية: كلية الطب قصر العينى، جامعة القاهرة.

[8] – نهى صبرى (1996) الأعراض ووظائف الذات وتغييرات الظاهرة الإكلينيكية المحتملة خلال العلاج النفسى الجمعى. رسالة دكتوراه كلية الطب – جامعة القاهرة.

 Symptoms, Egofunctions and Possible Syndrome Shift in Group Psychotherapy

[9] –  يحيى الرخاوى: الفرضية: اختراق علم تصنيف الأمراض النفسى الحالى

الجزء الأول: الآفاق والأوهام – المجلة العربية للطب النفسى (1990) المجلد 1 (ص 81 – 92)

الجزء الثانى: متعدد المحاور مقابل متعدد الأبعاد نهج لعلم الأمراض النفسية – المجلة العربية للطب النفسى (1991) المجلد 2 (ص 1-13)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *