الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (16) الفصل الرابع: التركيب الأسرى والطفولة الباكرة

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (16) الفصل الرابع: التركيب الأسرى والطفولة الباكرة

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 1-5-2022

السنة الخامسة عشر

العدد: 5356

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”([1])

الكتاب الثانى: المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (16)

استهلال:

نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة أمس قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الرابع.

          يحيى

 الفصل الرابع

التركيب الأسرى والطفولة الباكرة

مقدمة:

المتن :1979  

كما أشرنا من قبل فإن الجو المنزلى والتركيب الأسرى لا يعتبر من التاريخ العائلى الجينى – وإنْ كان لابد من احترام السلوك الأسرى والبيئى المتنقل بين الأجيال من خلال ما أشرنا إليه وهو “الميم” meme!([2])، وينبغى أن يـُـسأل عن كل ذلك بالتفصيل، سواء بالنسبة للأطفال أو بالنسبة للناضجين وكبار السن، يتم الاستقصاء عن الجو المنزلى والتركيب الأسرى الذى نشأ فيه المريض، ثم عن طبيعة المنزل والتركيب الأسرى الحالى، ويمكن أن يتعدد أكثر إذا حصلت نقلات جسيمة فى الإقامة، أو فى التركيب الأسرى، مثل الحال بعد الطلاق، أو بعد زواج آخر، أو بعد هجرة طويلة، ويوصف‏ ‏الوضع‏ ‏المنزلى ‏فى ‏المراحل‏ ‏المختلفة‏، وبعد النقلات المتنوعة، ‏فيوصف‏ ‏بيت‏ ‏النشأة‏، ‏وبيت‏ ‏الزوجية‏، ‏وبيت‏ ‏الهجرة الداخلية‏ ‏أو‏ ‏الانتقال‏ ‏الدال..إلخ

وبالنسبة للتركيب الأسرى:

يوصف‏ ‏كل‏ ‏فرد‏ ‏من‏ ‏أفراد‏ ‏الأسرة‏، ‏بل‏ ‏ومن‏ ‏المتصلين‏ ‏بها‏ ‏اتصالا‏ ‏وثيقا‏، ‏وخاصّة‏ ‏أن‏ ‏بعض‏ ‏الأسر‏ في مصر ومثلها : ‏تكون‏ ‏على ‏علاقة‏ ‏بالجيران‏ ‏كأنهم من “الأسرة الممتدة‏”، ‏كما قد يقوم كبير العائلة بدور أب أكبر لأسرٍ متعددة  الوحدات‏‏‏، ‏بشكل‏ ‏يصبح به‏ ‏هذا‏ ‏الجار‏ ‏أو‏ ‏القريب‏‏ ‏أحد‏ ‏أفراد‏ ‏الأسرة المؤثرين طول الوقت فى قراراتها وثقافتها الخاصة، ويتبع فى ذلك جمع كل صفات هؤلاء المحيطين تحت ما يسمى “وصف مختصر للشخصية”، مثل الذى جاء ذكره  مع “المبلّغ” أو المرافق (مثل السن والعمل وطبيعة العلاقة بالمريض – ونوع القرابة إن وجدت – ومدة إقامته معه، ومدى إلمامه بأحوال المريض وتغيراته…إلخ) كما يسأل بالتفصيل أكثر عن علاقة كل فرد من هؤلاء بالمريض: الأب، الأم، الإخوة والأخوات بالترتيب بما فى ذلك الذين توفاهم الله، وبالنسبة‏ ‏للأب‏ ‏والأم‏ ‏تحدد‏ ‏علاقات‏ ‏القرابة‏ ‏بالدم بينهما‏، ‏والعلاقات‏ ‏العاطفية‏ ‏والسلوكية‏‏، ‏وأيهما‏ ‏المسيطر‏، ‏وعلاقة‏ ‏كل‏ ‏منهما‏ ‏بالمريض، ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بتناقض‏ ‏وتعدد وتضارب‏ ‏الوجدان‏ ‏فى ‏أى ‏مرحلة‏ ‏من‏ ‏المراحل‏ ‏وكيفية تطوّرها أو‏ ‏حلّها‏ إن كانت قد حُلَّت.

وفى جميع الأحوال تؤخذ أقوال الجميع بموضوعية ما أمكن ذلك، ويستحسن إضافة هامش يبين رأى الطبيب فى درجة مصداقية المعلومات أو دلالاتها من كل مصدر ومبلّـغ، خاصة إذا وصلت معلومات متناقضة من مصادر مختلفة. ‏

ويـُـدرج‏ ‏هنا‏ ‏وصف‏ ‏الزوجة‏ ‏أو‏ ‏الزوج‏ ‏والأولاد‏ -‏إن‏ ‏وجدوا‏- ‏فى ‏حالة‏ ‏المرضى ‏الأكبر‏ ‏سنا، ويثبت‏ ‏وصف‏ ‏موجز‏ ‏لشخصية‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الزوجـ‏(‏ة‏) ‏والأولاد‏ ‏بنفس‏ ‏النظام‏ ‏المتبع‏ ‏فى ‏الوصف‏ ‏الموجز‏ ‏لكل‏ ‏الشخصيات‏ ‏المحتمل‏ ‏تأثيرها‏ ‏فى ‏النشأة‏ ‏أو‏ فى ‏الوقت‏ ‏الحالى، ‏وذلك‏ ‏مع‏ ‏التركيز‏ ‏على ‏العلاقة‏ ‏بكل‏ ‏منهم‏ ‏بالمريض‏ ‏سابقا‏ ‏وحاليا‏، ورأى كل منهم فى المريض، وما آل إليه، وفى بعض ما يطرح من إشكالات ما أمكن ذلك.‏

أما فيما يخص  ‏وضع‏ ‏المنزل‏ فإن الطبنفسى الايقاعحيوى يستلهم كثيرا من الحدْس والمواجدة([3]) من خلال هذا المدخل حتى  أصبح لذلك أهمية خاصة من حيث أنه قد يكون السبيل الأسلم للتعرف على وضع الأسرة الاجتماعى والثقافى، وأيضا منظومة العلاقات الفاعلة والمسئولة دون استثناء أو اختصار:

ويتم  الاستفسار عن حجم الأسرة، ومكان ومساحة الإقامة وعدد الحجرات مثلا، وبالتالى نسبة عدد المقيمين فى هذا الحيز، ‏وكذا تنظيم أماكن النوم وخاصة فى الأسر كبيرة العدد قليلة الحجرات، ثم عدد دورات المياه إن تعددت، (لو وجدت أصلا!!)، وهل استقلت كل أسرة بواحدة!!!، ومدى توافر الأدوات و‏المتطلبات‏ ‏المعيشية‏ ‏والصحية‏ ‏الأساسية‏ ( ‏ماء‏، ‏كهرباء، ‏صرف‏ ‏صحى، ‏إلخ ‏.. ‏إلخ‏)‏

  التحديث:

عادة ما أنصح زملائى الأصغر وطلبتى بتقمص “الوضع الأسرى بشكل تفصيلى”، بل بمحاولة تخيل أنه يعيش فى هذا المنزل أو تلك الحجرة بالذات، وذلك أكثر من مجرد الحصول على معلومات مرصوصة، وكثيرا ما أطلب من أحدهم أن يتصور أنه فى سن المريض، أو فى سن طفولة المريض، أو بعد ذلك، أو غير ذلك، إن لزم ذلك، وأن يتصور المنزل الذى وصفوه له، وكيف يكون شعوره آنذاك، ولأضرب لذلك مثلا ربما نادرا، وإن كان بالنسبة لى شديد الدلالة:

 أسرة، مكونة من بنتين وولدين  وأب وأم، يسكنون فى حجرتين فوق السطح ويشاركهم فى السطوح (وليس فى نفس الحجرات) أسرة  (أو أسرتان) تعيش فى نفس المستوى،  ولا يوجد للجميع إلا منافع (دورة مياه) واحدة  مشتركة، وأطلب من الزميل الأصغر أو الطالب كاتب المشاهدة أن يتصور بأى قدر من الخيال والأمانة أنه أحد أفراد هذه الأسرة، ويكون الطلب أصعب إذا كانت الطالبة (أو الزميلة) أنثى، وعادة ما يتعذر على الفاحص أن يتصور منظر التزاحم لقضاء الحاجة، فى الصباح أو الحرج عند مفاجأة الخروج منها، إلى غير ذلك مما يمكن تخيله، (وعادة يصعب أو يستحيل تقمصه) وكثيرا ما لا يشكو المرضى مباشرة من هذه الظروف ولا يربطون بينها وبين ما أصابهم، ولا يبررون بآثارها معاناتهم، ولكن هذا لا يبرر إغفالها من الطبيب، وليس المطلوب من الحصول على هذه المعلومات استجلاب الشفقة، أو العمل على حل هذه المشاكل، فالطب طب، ومعايشة التفاصيل بصدق واحترام (مرة أخرى لا للشفقة أو الطبطبة أو التبرير)  هى ضرورة أولية للتعرف على ثقافة المريض ومدى اختلافها عن ثقافة الفاحص، وخاصة أنه فى الطبنفسى الإيقاعحيوى نعوّل بشكل أساسى على ما اشرنا إليه مرارا: وهو تنمية الوعى البينشخصى لتوصيل الرسالة  العلاجية، ولا يمكن أن ينبنى هذا الوعى عبر مسافة تجريدية معقلنة بينهما، وتتأكد هذه التوصية بشكل خاص للزملاء الذين يمارسون المهنة فى مستشفيات أوعيادات تستقبل المرضى بالمجان!!

وعند السؤال عن المستوى الاقتصادى، لا يكفى أن يكتفى الفاحص برقم الدخل الشهرى مثلا، إذ لا بد أن يحدد مصدره (من عمل الأب وحده، أم الأم أيضا، أم بعض الإخوة كذلك أم غير ذلك)، ثم عن المسئول عن توزيع الدخل، والطرق التى يتغلب بها رب الأسرة (سواء كان المريض أو غيره) للعيش فوق مستوى الكفاف، أو فى مستوى الكفاف، وفى كثير من الأحيان يستحيل التوقف عند الرقم تحديدا،  لأنه قد يكون أقل مما يفى بمستوى “الضرورة”، وتأتى الإجابات فى كثير من الأحيان غامضة،  وصادقة غالبا: مثل “ربك ستار، مابينساش حد”، دون تفسير أو تفصيل.

وفى حالة تصور استحالة الوفاء حتى بالكفاف لاستمرار مثل هذه الأسر على قيد الحياة، يستحسن المضى أكثر باحترام وحساسية، ودون إحراج ما أمكن ذلك،  فى البحث عن مصادر واقعية مساعدة (مشروعة أو غير مشروعة) تكمل هذا النقص أو تعوضه، ولو بالتقريب، أنا آسف ولكن الحديث عن الواقع بعيدا عن واقع الحال والوفاء بالاحتياجات الضرورية يصبح خطأ، أو على أحسن الفروض غير موضوعى؟

وقد يلزم نفس هذا الاستقصاء وأكثر، ولكن من الناحية الأخرى، وذلك حين لا تبدو على مريض ما  آثار الفاقة، وفى نفس الوقت يعطى أرقاما ومعلومات عن دخله شديدة التواضع، معلومات تدعو للاستغراب والتحفظ، وهنا ينقلب البحث إلى محاولة التقصى عن الدخل السرى له أو للأسرة (إن وجد) ويصبح ذلك لزوما فى حالات المدمنين، وقد اعتدت أن أسأل عن كمية المخدر التى يتعاطاها الواحد منهم يوميا، (أو أسبوعيا)  وثمن الوحدة منها (الجرام، أو التذكرة، أو السيجارة المحشوة أو غير ذلك) وعدد المرات، وأضرب هذا أو ذاك فى ثلاثين (مثلا!) ثم أسأله من أين يأتى بهذا المبلغ شهريا طوال تلك السنوات (أو الشهور)، وقد تكشف الإجابات عن مصادر غير مشروعة، أو أساليب انحراف كان لا يمكن التوصل إليها إلا بهذا التقصى التفصيلى، مع اهتمامى بدلالاته المتنوعة، كل ذلك ينبغى أن يجرى بين طبيب ومريض (أو مدمن) يطلب المشورة، وليس بما يشبه  تحقيق النيابة، أو استقصاء الضرائب (من أين لك هذا؟) ولا بد من أن يصل للمريض والأهل ان هذه المعلومات لازمة وواجب توافرها لدى الطبيب، بل وأحيانا تكون مرشدا لفحص نوع التسيب من جانب أحد افراد الأسرة مثل حصول المدمن على احتياجاته المادية إما نتيجة  لعطف غير محسوب، أو خوفا عليه من انحرافات أخطر، وكثيرا ما يترتب على مثل هذه الأسئلة اكتشاف انحرافات أخفى، مثل السرقة من  المنزل، أو من ذهب (سيغة) الأم أو الأخت، وأحيانا الأقارب أو حتى الاتجار فى المخدرات….إلخ؟ كل ذلك يندرج تحت ما يسمى “الجو الأسرى” و”المستوى الاجتماعى” و”الأخلاقى”، جنبا إلى جنب مع فحص الأعراض واقتراح التشخيص المحتمل والتشخيص الفارقى([4]) …إلخ.

من هذا الواقع ومع تكرار تذكـّـر أن المسألة ليست مواعظ وإرشادات، ولا هى تحقيقات نيابة، يواصل الطبيب الفحص بما فى ذلك التقمص ما أمكن ذلك، وحين يكون تدريب الطبيب شاملا مسئوليته كعضو فاعل مشارك فى المجتمع الأوسع، جنبا إلى جنب مع ممارسته مهنته، وحين يكون انتماؤه ليس فقط إلى ناسه الأقربين، وإنما إلى كل من خلقه الله على شاكلته، وقبله وبعده، تصبح ممارسة الطبنفسى الإيقاعحيوى مختلفة وإيجابية (مع الحذر من النزوع إلى المثالية طبعا).

………………..

………………

(ونواصل الأسبوع القادم)

__________________________________

[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث كتب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net وهذه النشرة هي استمرار لما نشر من الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمىّ بمهارة فنية”.

[2] – الميم Meme. الميم: هو مصطلح يقصد به فكرة أو تصرف أو أسلوب ينتقل من شخص لآخر داخل ثقافة معينة، غالبا بهدف نقل ظاهرة بذاتها، أو معنى متمثلا فى سلوك بذاته. وهو يقابل الجين Gene الذى ينقل الصفات بيولوجيا بالوراثة ويعمل الميم كوحدة لحمل الأفكار الثقافية أو الرموز أو الممارسات، والذى يمكن أن ينتقل من شخص إلى آخر من خلال الكتابة أو الحديث أو الإيماءات أو الطقوس أو أى ظاهرة أخرى قابلة للتقليد.

[3] – المواجدة = Empathy

[4]- Differential Diagnosis                                                                           

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *