الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “مستويات الصحة النفسية” مقتطف من الفصل الثانى: ثانيا: “ولادة فكرة” (3)

“مستويات الصحة النفسية” مقتطف من الفصل الثانى: ثانيا: “ولادة فكرة” (3)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 16-4-2018

السنة الحادية عشرة

العدد: 3880

“مستويات الصحة النفسية”

مقتطف من الفصل الثانى: ثانيا: “ولادة فكرة”(1)

“خطابات متبادلة سنة 1968 بينى وبين المرحوم أ.د محمد شعلان، وأنا فى باريس وهو فى الولايات المتحدة”، هذا هو الجزء الثالث وهو رد على خطابه الذى نشر أغلبه أمس.

…………………

…………………

‏”‏عزيزى ‏محمد‏: ‏كل‏ ‏سنة‏ ‏وأنت‏ ‏طيب‏، ‏وأنت‏ ‏حر‏، ‏وأنت‏ ‏خالق‏، ‏وأنت‏ ‏نفسك‏، ‏وأنت‏ ‏مستيقظ‏، ‏وأنت‏ ‏محبوب‏، ‏وأنت‏ ‏تحب‏، ‏وأنت‏ ‏تغنى ‏وتنطلق‏، ‏وأنت‏ ‏قوى، ‏وأنت‏ ‏مسئول‏، ‏وأنت‏ ‏شريف‏، ‏وأنت‏ ‏إنسان‏، ‏وأنت‏ ‏تتطور‏، ‏وأنت‏ ‏حى….‏

وصلنى ‏خطابك‏ “‏ضد‏ ‏الأمخاخ‏” ‏ورفضت‏ ‏أغلب‏ ‏ماجاء‏ ‏فيه‏ و‏لكنك جمعت‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏التناقضات‏ ‏ما‏ ‏أغرانى ‏بالرد‏ ‏عليه‏، ‏ثم‏ ‏أغرانى ‏بالرد‏ ‏عليك‏، ‏ثم‏ ‏أغرانى ‏بالحديث‏ ‏عنك‏.‏

وفى هذا الخطاب‏ ‏قلتُ أيضا: يا محمد‏:‏

‏”‏لقد‏ ‏رفضتَ‏ ‏اللغة‏ ‏ثم‏ ‏تمسكت‏ ‏بلغة‏ ‏الأغلب‏: ‏لغة التحليل النفسى

وهاجمتَ‏ ‏الأبحاث‏… ‏ثم‏ ‏استشهدت‏ ‏بنتائجها‏!

ورفضتَ‏ ‏التشخيص‏… ‏ثم‏ ‏تمسكت‏ ‏برموز‏ ‏النظريات‏ ‏السائدة!‏

ورفضتَ ‏المخ‏… ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تسجن‏ ‏فى ‏خلاياه‏!‏

وحاولتَ أن‏ ‏تتحرر‏، ‏وخيل‏ ‏إليك‏ ‏أنك‏ ‏نجحت‏… ‏ولكن‏ ‏الحرية‏ ‏صعبة‏ ‏صعبة‏، ‏فأنت‏ ‏تتردد‏ ‏وتحاول‏ ‏أن‏ ‏تلجأ بعد كل ذلك إلى‏ ‏مظلة‏ ‏تحتمى ‏بها‏، ‏والمظلة‏ ‏ليست‏ ‏قفصا‏ ‏مثل‏ ‏قفصك‏ ‏القديم‏، ‏ولكنها‏ ‏وقاية‏ ‏مما‏ ‏يأتى ‏من‏ ‏السماء‏، ‏من‏ ‏المجهول‏.. ‏ولكن‏ ‏إلى ‏متى ‏تظل‏ ‏رافعها‏ ‏فوق‏ ‏رأسك يا محمد؟‏ ‏ثم‏ ‏كيف‏ ‏تستعمل‏ ‏يديك؟‏ ‏وكيف‏ ‏تنطلق؟‏ ‏لتنطلق‏!‏

نعم‏…‏ لابد‏ ‏من‏ ‏آخرين‏، ‏ولكن‏ ‏ليس‏ ‏دائما‏ ‏أصحاب‏ ‏لغة‏ ‏لفظية‏ ‏وإنما‏ ‏أصحاب‏ ‏مشاعر‏ ‏وقلوب‏ (‏قلوب‏ ‏مخية‏ ‏أيضا‏) (2)، ‏وفيما‏ ‏أعلم‏ ‏فلم‏ ‏ينجح‏ ‏إنسان‏ ‏وحده‏”‏

ثم‏ ‏قلت‏ ‏له‏:‏

‏”‏قيود‏ ‏الأرض‏ ‏غائرة‏ ‏فى ‏جوفها‏ ‏وهى ‏تجذبك‏ ‏إليها‏، ‏وأنت‏ ‏تحن‏، ‏وتخاف‏، ‏وقيود‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏تأمن‏ ‏فى ‏رحابها‏… ‏ولكنها‏ ‏تتسلل‏ ‏إلى ‏فكرك‏ ‏فى ‏براءة‏ ‏ظاهرية‏، ‏وتوهمك‏ ‏أنها‏ ‏مفاتيح‏ ‏تفتح‏ ‏الأقفال‏، ‏وأنت‏ ‏فى ‏سكرة‏ ‏الأمان‏، ‏وأنت‏ ‏تحمل‏ ‏كومة‏ ‏المفاتيح‏، ‏تنسى ‏أن‏ ‏المفاتيح‏ ‏تقفل‏ ‏الأقفال‏ ‏أيضا‏ ‏ولا‏ ‏تفتحها‏ ‏فقط‏، ‏وأنت‏ ‏تعلم‏ ‏أنى ‏كنت‏ ‏حريصا‏ ‏على ‏رجوعك إلى مصر‏، ‏ومازلت‏، ‏ولكن‏ ‏حرصى ‏اليوم‏ هو ‏لسبب‏ ‏آخر‏ ‏غير‏ ‏زمان‏، ‏لأنى ‏زمان‏ ‏كنت‏ ‏حريصا‏ ‏على ‏قسم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية ‏وعلى ‏مصر‏، ‏وعلى ‏صديق‏ ‏شريف‏، ‏أما‏ ‏الآن‏ ‏فأنا‏ ‏حريص‏، ‏على ‏الإنسان، ربما بدءًا بما يمثله‏، ‏فلربما‏ ‏كان‏ ‏وجودك‏ ‏معنا‏ ‏خطوة‏ ‏على ‏الطريق‏ ‏التطورى (3)‏‏ ‏لنا‏ ‏جميعا‏.‏

وأنت‏ ‏تسأل يا محمد‏: ‏هل‏ ‏الجلسات‏ ‏الصباحية‏ (4) ‏التى ‏أشرت‏ُُ ‏إليها‏ ‏من‏ ‏معلـِّم‏ ‏لتلاميذ‏ ‏أم‏ ‏من‏ ‏نـِدّ‏ ‏لند؟‏ ‏وأنا‏ ‏أجد‏ ‏عندى ‏الشجاعة‏ ‏الآن‏ ‏لأقول‏ ‏إن‏ ‏رؤيتى ‏ ‏الآن‏ ‏تجعل‏ ‏الصدق‏ ‏أساس‏ ‏التفاهم‏ ‏وليس‏ ‏كمِّ‏ ‏المعلومات‏، ‏وتجعل‏ ‏التلقائية‏ ‏الذاتية‏ ‏هى ‏الوسيلة‏ ‏الأولى ‏لتقييم‏ ‏الرأى ‏وليست‏ ‏الحجج‏ ‏والبراهين‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏فإنى ‏لا‏ ‏أجد‏ ‏الصدق‏ ‏والحرية‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏الشباب‏ (‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏أعمار‏ ‏شهادة‏ ‏الميلاد‏) ‏وإنى ‏بعد‏ ‏تجربتى ‏الأخيرة‏ ‏لست‏ ‏مستعدا‏ ‏بحال‏ ‏أن‏ ‏أضيع‏ ‏عمرى ‏فى ‏مناقشات‏ ‏بيزنطية‏ ‏تـُستعرض‏ ‏فيها‏ ‏العضلات شبه العلمية‏، ‏أو‏ ‏يحـْـمـِى ‏بها‏ ‏المناقـِشُ‏ ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏أصالته‏، ‏أو‏ ‏يحصل‏ ‏بها‏ ‏المناقش‏ ‏على ‏شبق‏ ‏فكرى ‏زائف‏، ‏وإنما‏ ‏أنا‏ ‏مستعد أن‏ ‏أبذل‏ ‏عمرى ‏مع‏ ‏إنسان‏ ‏حر‏ ‏صادق‏ ‏تثيرنى ‏اعتراضاته‏ ‏فأجد‏ ‏بها‏ ‏ذاتى ‏وأنير‏ ‏بها‏ ‏فكرى، ‏ويثيره‏ ‏هجومى ‏فيستيقظ‏ ‏ويرفض‏، ‏ويتعرى ‏بلا‏ ‏خجل‏… ‏والإنسان‏ ‏الذى ‏حل‏ ‏مشكلته‏ ‏من‏ ‏الكتب‏ ‏والأبحاث‏، ‏الذى ‏يعشق‏ ‏حروف‏ ‏المطبعة‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏نبض‏ ‏الإنسان‏ ‏يصعب‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏أثير‏ ‏فيه‏ ‏تساؤلات‏ ‏الوجود‏ ‏والكون‏ ‏والخلق‏، ‏وربما‏ ‏كانت‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الفروق‏ ‏هى ‏التى ‏تميز‏ ‏الانجليز‏ ‏عن‏ ‏الفرنسيين‏، ‏والعلم‏ ‏الهندسى ‏عن‏ ‏الفلسفة‏ ‏الصوفية‏، ‏والأرقام‏ ‏عن‏ ‏الموسيقى… ‏الخ‏، ‏وأنا أحترم الزميل‏ ‏العالم‏ ‏الحافظ‏ ‏المنظم‏، ‏أحترمه‏ ‏كما‏ ‏أحترم‏ ‏الأسمنت‏ ‏المصنوع‏ ‏منه‏ ‏برج‏ ‏الجزيرة‏، ‏وأحبه‏ ‏كما‏ ‏أحب‏ ‏عمارة‏ ‏بلمونت‏، ‏وأقدر‏ ‏كفاحه‏ ‏كما‏ ‏أقدر‏ ‏مهندس‏ ‏السد‏ ‏العالى… ‏ لكننى أحتاج‏ أكثر ‏أن‏ ‏أنطلق‏، ‏وقد‏ وجدتُ ‏مثل ذلك بين الكثيرين من‏ ‏‏‏الشباب‏ ‏خاصة‏، ‏لأنه‏ ‏كما‏ ‏يقول‏ ‏العرب‏ “‏من‏ ‏طلب‏ ‏شيئا‏ ‏وجده‏”‏

ثم‏ ‏قلت‏ ‏أخيرا‏:‏

لست‏ ‏أدرى ‏كيف‏ ‏بدأت‏ ‏الخطاب‏ ‏وكيف‏ ‏أنهيه‏، ‏كل‏ ‏ما‏ ‏أدريه‏ هو ‏أنى ‏أحمل‏  ‏فى ‏نفسى ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏ومنذ‏ ‏إبريل‏ ‏الماضى ‏طاقة‏ ‏هائلة‏ ‏من‏ ‏الحب‏ ‏تكاد‏ ‏تغمر‏ ‏العالم‏ ‏كله‏، ‏طاقة‏ ‏تكاد‏ ‏تصنع‏ ‏الحياة‏، ‏طاقة‏ ‏تتحدى ‏الجنون‏، ‏وتشرق‏ ‏كالشمس‏ ‏بين‏ ‏جنبىّ ‏وتضئ‏ ‏وتدفئ‏ ما حولى، ‏وأحس‏ ‏أننا‏ ‏لو‏ ‏كنا‏ ‏جماعة‏ ‏لعملنا‏ ‏شيئا‏.. ‏ربما‏.. ‏بل‏ ‏حتما‏..‏

وأخيرا‏ ‏لك‏ ‏ماتشعر‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الكلمات‏”‏

‏***‏

[1] – يحيى الرخاوى (“مستويات الصحة النفسية” من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة) الطبعة الأولى 2017  والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.

[2] – هذا التعبير “قلوب مخية” لم أكن أعرف كيف يتطور إلى ما وصلنى بعد ذلك تحت مسمى “العقل الوجدانى الاعتمالى”  Emotianally Processing Mind وكتبت فيه كثيرا فى موقعى www.rakhawy.net  وهو ما أرجو أن أجمعه لاحقا إذا أمكننى مواصلة هذا النشر الورقى الذى بدأته من شهور محدودة.

[3] – هنا أيضا إشارة إلى جذور فكرى التطورى منذ ذلك الحين، حتى أطل بهذا الإلحاح فى المراسلات الخاصة.

[4] – إشارة إلى ما يعرفه عنى من مجالسة الأطباء المقيمين بالقسم أسبوعيا فى الصباح الباكر قبل ساعات العمل.

النشرة التالية 1النشرة السابقة 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *