الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قراءة فى “أحلام فترة النقاهة” (الحلقة الثالثة) الحلم‏ 3

قراءة فى “أحلام فترة النقاهة” (الحلقة الثالثة) الحلم‏ 3

“يوميا” الإنسان والتطور

25 – 10 -2007

قراءة فى “أحلام فترة النقاهة”  (الحلقة الثالثة)

الحلم‏ 3

هذا سطح سفينة يتوسطه عامود مقيد به رجل يلتف حوله حبل من أعلى صدره حتى أسفل ساقيه وهو يحرك رأسه بعنف يمنة ويسرة ويهتف من أعماقه الجريحة

متى ينتهى هذا العذاب؟

وكان ثلاثتنا ينظرون إليه بإشفاق ويتبادلون النظر فى ذهول

وتساءل صوت:

من فعل بك ذلك؟

فأجاب الرجل المعذب ورأسه لا يكف عن الحركة

أنا الفاعل

لماذا؟

هو العقاب الذى أستحقه

عن أى ذنب؟

فصاح بغضب:

الجهل

فقلت له:

عهدنا بك ذو حلم وخبرة

جهلنا أن الغضب استعداد فى كل فرد

وارتفع صوته وهو يقول:

وجهلت أن أى أنسان لا يمكن أن يخلو من كرامة مهما يَهُن شأنه

وغَلَبنا الحزن والصمت.

القراءة (النقد)

نبدا من الآخر:

(1) “الغضب استعداد فى كل فرد“،”

(2) أى إنسان لا يمكن أن يخلو من كرامة مهما يكن شأنه”.

 يبدو أن هذه البديهيات التى نتصور أنه لا جدال حولها، خاصة ونحن نرددها ليل نهار، ونتصور أننا بمجرد أن ننطقها قد حققناها، يبدو أن حلم محفوظ هنا ينبهنا إلى احتمال أننا فى حقيقة الأمر – ننساها- حتى لو ظللنا نرددها دون أن نختبرعمق وحقيقة ممارستها بتسطيحٍ أو تزييفٍ أو كذب.

أما أن الغضب استعداد فى كل فرد، فقد شغلتنى هذه المسألة طويلا حتى صغتها حديثا (2007) فى شكلها الأبسط فى صورة أغنية للأطفال “داخلنا وخارجنا”، أكتفى بالإشارة إلى موقعها فى الموقع “الحق فى الغضب” مقالات الدستور 25/7/2007

ثم إننى شُغِلْت قبل ذلك (1980) بما وراء هذا الغضب الإيجابى، حين رحت أدافع عن الوجه الايجابى لغريزة العدوان التى عادة ما ننكر دورها الإيجابى خوفا من حضورها التحطيمى السلبى الأشهر، كانت أطروحتى عن “العدوان والإبداع” من أول ما نظّرت فى مسألة الغرائز، وأكتفى أيضا بالإشارة إلى موقعها فى الموقع “العدوان والإبداع” مجلة الإنسان والتطور يوليو 1980.

الجهل ذنب خطير:

حين ننكر هذا الحق (حق الغضب) جهلاً أو تجاهلاً، ونتنكر- ضمنا- لإيجابيات هذه الغريزة (العدوان)، فنحن نختزل طبيعتنا البشرية فنستحق العقاب، أقسى العقاب، وهذا هو ما بلغنى مما يمثله هذا الرجل المقيد نفسه على عمود السفينة؟

هذا هو الجهل الأول.

الجهل الثانى (الذى يبدو أيضا أنه تجاُهُل، فإنكارْ)، هو أن نخص الكرامة (التى أكرم الله بها كل خلقه)، بفئة دون أخرى، وسواء فهمنا كيف أن الكرامة نابعة أساسا من أن الله “كرم الإنسان”، من حيث هو إنسان، أو فهمناها بذاتها لذاتها بمعنى العزة والحرية والإباء، فإن جهلنا بها أو تخصيصها لفئة من البشر دون أخرى يترتب عليه ذنب آخر يستحق نفس العقاب، أو مضاعفته، وهو ما جاء فى هذا الحلم وأعلِنَ بعد صدمة إفاقة.

الذى يجهل (يتجاهل / يُنْكر) حق الغضب (مع أنه استعداد فى كل فرد)، كما يجهل (يتجاهل/ينكر) أن أى إنسان لا يمكن أن يخلو من كرامة، لابد أن يدفع الثمن؟

 وهو نفسه الذى يصدر الحكم على نفسه (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).

لكن: كيف يكون الجهل جريمة تستحق العقاب؟. أى ذنب اقترفه هذا الجاهل؟

كثيرا ما أكرر مثل ذلك على طلبتى حين أجد أن شركات الدواء قد أغلقت عقولهم إلا على ما يخدم أموالها، فى حينُ يلقى المرضى فى وعينا من “المعرفة والمعانى” ما يعيننا على مساعدتهم ورؤية أنفسنا وإياهم، لكننى أجد مقاومة شديدة من طلبتى وزملائى لفهم أبسط هذه الرسائل، فأقول لهم: “إن الله سيحاسبنا على ما نعلم، وعلى ما رفضنا أن نعلمه، أو تجنَّبنَا أن نعلمه، ولو لاشعوريا، ما دامت قد أتيحت لنا فرصة تعلُّمُه، معرفته، إدراكه[1].

العقاب:

طيب ما هو العقاب الذى نلحقه بأنفسنا إذا ما أذنبنا فى حق أنفسنا فعشنا أنقص مما خلقنا الله، بمعنى أدنى، وأقل، وأكثر تشويها؟

نقرأ الحلم

مسرح الحلم هو سطح سفينه، هل هى مقابل سفينة نوح؟ “صدمة الإفاقة” التى يحملها لنا الحلم، نحملها ونحن نركب الفلك لعلها تنقذنا من الاغتراب التخديرى الذى وصَلْنَا إليه على مستوى العالم؟.

بالصدفة البحتة بعد أن كتبتُ المسودة الأولى لنقد هذا الحلم وصلنى من زائرة (قارئة) كريمة تعليقا على “يومية حالات وأحوال”: “أدمغة المدمن ومستويات الوعى“(23/10)، معلومة جعلتنى أعيد تحديث نقد الحلم. (انظر حوار الغد فى هذه اليومية)

تقول هذه المعلومة “… طلب “هوشى منّهً” قائد الثورة الفيتنامية من رفاقة أن يربطوه بسارى مركب، ولا يفكوه مهما تأثروا بصراخه، حتى يتسنى له الكف عن تعاطى الأفيون“. هزتنى هذه المعلومة وأنا أربطها بحدس نجيب محفوظ الإبداعى برغم عكس الرسالة، ذلك أن “هوشى منّهً” يربط نفسه ليفيق من المخدّر، فى حين أن رجلنا هنا يربط نفسه عقابا على أنه استسلم لتخدير الاختزال والاغتراب وتشويه الفطرة.

ما وصلنى من تشكيل هذا الحلم أن نجيب محفوظ يبلغنا بهذا الحلم أنه:

مهما بدا العقل الفوقى حليما وحكيما، ومهما بدا يقظا متلفتا، فهو قاصر عن الإحاطة بكلية الوجود، لأنه أغلق بقية قنوات المعرفة بما فى ذلك “الحركة” و”الجسد”.

العلم المعرفى

العلم المعرفى الأحدث (خاصة فى العشرين سنة الاخيرة)، يحاول تصحيح هذا الذى لحق بالوجود البشرى اختزالا واغترابا حتى التخدير، وذلك حين يذكرنا أن العواطف لها برامجها المعرفية، وأن الجسد (بما هو جسد) يشارك فى التفكير[2] كما يعلمنا متصوفونا ومتصوفوا العالم – المبدعون لا الذاهلون – أهمية بقية قنوات المعرفة المشاركة مع (وليست البديلة عن) العقل المنطق الأحدث.

النتيجة!!

 هكذا يحدد هذا الحلم بصورة تشكيلية شديدة الإيجاز والتكثيف الأمور على الوجه التالى:

(1) إننا قيدنا وجودنا كله، حتى الشلل حين حلّ هذا الرأس المتلفِّت: العقل الفوقى، محل حركتنا الاستكشافية المعرفية (الإيمانية).

(2) إنه سواء كان التلفت إلى اليمين (أى يمين) أو إلى اليسار (أى يسار)، فالنتيجة واحدة والضياع واحد، والعقاب حتمى.

(3) إن هذا الاغتراب التخديرى المُعقْلَنْ إنما يجرحنا فى غور وجودنا إذ يختزلنا حتى تستغيث أعماقنا “متى ينتهى هذا العذاب“.

المشاهدون والصوت:

لكن من هؤلاء الثلاثة الذين ينظرون إليه باشفاق ويتبادلون النظر فى ذهول؟

خطرت ببالى عدة احتمالات لرقم “3” هنا، رفضت إثباتها جمعيا خوفا من التعسف، ومع ذلك احترمت أنهم ثلاثة (ليسوا واحدا) احتراما شديدا، دون تعليق، خاصة وأنه سيأتى ذكر الرقم 3(ثلاثة) فى الحلم “4” (ومن يدرى بعد ذلك).

أما هذا الصوت: الذى يتسأءل: “من فعل بك ذلك؟

فقد يكون صوت أحد الثلاثة

كما يمكن أن يكون صوت الزمن

أو صوت الشخص المقيد على السارى  (على نفسه بصيرة).        

ننبه أيضا إلى أن إنزال العقاب ليس مرادفا للشعور بالذنب، العقاب هنا هو أن يعيش الإنسان ناقصا عاجزا برغم حدة انتباهه “فى المحل”.

ثم أن الرجل لم يكن مشدودا إلى صليب يتألم فوقه بل كان مقيدا بحبال عقله الأعلى لا أكثر.

هذا العقاب هنا يتمثل فى الحرمان من بقيه مناهل المعرفة من ناحية، سواء كانت المعرفة بالجسد أم بالحدس أم بالحركة أم بالوجدان، كما يتمثل فى العزلة والعجز والحركة البندولية بين اليمين واليسار.

هامش:

قبل أن أشير إلى خاتمة الحلم، وكيف وصلتْنى، أنبه إلى قول المشدود (لاالمصلوب) “وجهلنا أن الغضب استعداد فى كل فرد“… مقارنة بقوله: “جهلتُ أن الإنسان لايمكن أن يخلو من كرامة” وكأنه جعل الجهل “العام” (نحن) بإنكار “العدوان والإبداع”، هو الخلفية التى جعلته فرداَ، يميز البشر إلى “من عنده كرامة، ومن لا يستحقها”.

النهاية:

أرجو أن ينتبه قارئ الحلم لنهايته بدقة مناسبة، ذلك أن الحزن والصمت لم يكونا من مشاعر المحكوم عليه بالقيد والجمود، حتى لو شعر بالذنب، وعاقب نفسه هكذا، واعترف بجريمة الجهل. نهاية الحلم كانت حزن وصمت الجماعة “الثلاثة أو الثلاثة زائد الصوت أو الثلاثة زائد الصوت زائد الرجل المقيد، أو نحن جمعيا بنى البشر“.

حزننا هو لهذا الانقسام الذى بتر الوجود البشرى إلا من عقله الأعلى المتمنطق حتى لو اتصف بالحلم والخبرة.

ربما يكون هذا هو الحزن الدافع الأقوى لتحمل غموض وضرورة العلاقة بالآخر فى آن.

أو الحزن الذى هو التفاعل المناسب المصاحب لصدمة تعرية الحقيقة.

أما الصمت بعد هذه الرؤية فقد وصلنى على أنه ذلك الصمت المفعم بوعود اليقين وضرورة مواصلة السعى الممتد كدحاً إليه.

وبعـد

1- هل يمكن أن يقول تشكيلُ حلم بهذا التكثيف والإيجاز، كل ذلك؟

2- وهل لو عرضت هذه القراءة على مبدع الحلم – محفوظ نفسه-  يقبلها؟ 

3- وهل من حقى أن استقبل هذا الحلم/التشكيل المكثف بكل هذا التفصيل الناقد الصعب؟

الاجابة عن السؤال الأول هى: أن نعم،

 فإن لم يكن الحلم قد قاله فهذا هو ما حضرنى نقداً.

الاجابة عن السؤال الثانى هى: سواء قبلها المبدع الأول أم لم يقبلها، فهذا الأمر ليس من حقه، فالمبدع يبدع، ثم “يسهر النقاد جراها ويُختصُم“.

الاجابة عن السؤال الثالث هى: متضمنة فى الاجابة عن السؤالين السابقين.

[1] – ذات مرة رحت ألقى محاضرة على شباب مبعوثين تابعين لوزارة التعليم العالى إعداداً لهم لمواجهة ما يسمى “الصدمة الثقافية” عند سفرهم للدراسة فى أوربا، وكان من بين ما قلته لهم إن هناك ما يمكن أن يتعلموه من ثقافة مختلفة متقدمة، وأيضا هناك ما يمكن أن يغلقوا وعيهم عن تعلمه، وهم يقاومون أن يصل إليهم من هذه الثقافة الغريبة، وأضفت أن الله سبحانه سيحاسبهم على ما تعلموه وعلى ما رفضوا أن يتعلموه!! (ولم يفهم أغلبهم الجملة الأخيرة)

[2] – لاكوف  Lackoff. Philosophy in the flesh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *