الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / فى رمضان تتذكر الطبيعة البشرية (مُذْ كنا أطفالاً) : مش حابيع نفسى عشان أرضى جنابك!

فى رمضان تتذكر الطبيعة البشرية (مُذْ كنا أطفالاً) : مش حابيع نفسى عشان أرضى جنابك!

“يومياً” الإنسان والتطور

 17-9-2008

السنة الثانية

العدد: 383

فى رمضان تتذكر الطبيعة البشرية

 (مُذْ كنا أطفالاً)

مش حابيع نفسى عشان أرضى جنابك! (1)

أما قبل

الحاجة إلى الشوفان. أن يرانا آخر بما هو نحن، ليست سوى بداية. اعترافُ كل منا بالآخر كيانا موجودا مستقلا متفاعلا معا هنا/”هناك”  هو بمثابة ما يقول التعبير الشائع “فتح كلام”، يليه بعد ذلك أن ترى ماذا أفعل، وأن تقدره أو تنقده أو حتى ترفضه لى، وأن أرى بدورى ما تفعله أنت.

إن الحياة حلقات متنوعة من الإنجاز والإخفاق، لا تكتفى بالشوفان والاعتراف معلنا من حيث المبدأ وخلاص، ولا هى تتوقف عند النجاح كما نعرفه أو نتصوره. الطفل – مثل الكبير – ينجز، ويعمل أشياء طيبة كثيرة، صغيرة وكبيرة،  وهو يريد منا ليس فقط أن نراه، ولكن أن نرى ما فعل، يريد منك أن  تقدره، ليس فقط بالمديح، وإنما بالرأى، بالنقد، بالتعديل، بالفرحة، بالحوار، بالتساؤل.

مهما بلغ النضج، أو العمر، أو الإنجاز، أو النجاح، فأيا ما كان ما تعمله، أنت تحتاج أن يراه أحد، ليس أن يراك أنت فقط، لكن أن يرى ما أنجزت، وأن يضعه فى مكانه، ثم يرى أن هذا الذى رآه هو بسبب أنك بذلت فيه ما بذلت.

الجوائز الرسمية، وغير الرسمية، والنقد بكل أنواعه، والنشر، حتى لو لم يكن وراءه أى مكسب مادى، وحتى الظهور فى وسائل الإعلام يعتبر اعترافا ضمنيا بما تفعل وأحيانا بما هو أنت.

 هذه الحاجة للتقدير تبدأ عند الطفل الصغير، هو يريد من والديه، وغيرهم، وأى أحد حوله، يريد من أى واحد أنْ يراه، وقد عمل الواجب، أو رسم وردة، أو استطاع ان يركب دراجة بعجليتن – وليس ثلاثة – دون أن يسنده أحد، نستمع إلى الأغنية التى كتبتها على لسانه أولاً:

 الأغنية

أنا باعمل ، حاجة حلوة

نفسى تتفرج عليها

آه: تقوللى كام “برافوا”

أو تقولْ: “ألله ينوّر”

أو تقوللى نـُصْ نـُصْ ، تِقْدر اكْترْ،

أو تقوللى هيه وحشهْ ، بس كمّل  وانت تكبرْ.

أنا مطّمن لشوفك ليّا صح، دى حلاوتك

أنا مستنى اْلِتفَاتَّـكْ

المهم ما تنسانِيشْ

حتى لو إنِّى مافيشْ

 

قوللى رأيك كلّه يعنى

قوللى إنك: آه سامعنى

حتى لو رأيك بيوجع

أنا حاتعلم  وأطلع

 

 بس يعنى خلّى بالك

الحكاية مش كلام، أو  مشّى حالك

هيه مش لعبة مجاملة

إوعى تفهم إنى هابلة

 

إوعى تنفخنى زيادة

أو تقولها للجميع كده زى عادة

مش حابيع نفسى عشان أرضِى جنابك

مهما كنت جعان لِشُوفَكْ، أو حايوجعنى عتابكْ

 

لو تقولها “زى واجب”، مش عايزها

لو تقولها وانت مش شايف، أنا مستغنى عنها

لو تقولها وانت فاهم إيه حدودها

يبقى حاتجيلك ردودها

باللى يترعرع بنا،

واحنا بنعمّرها ناحية ربنا

القراءة: واحدة واحدة

أنا باعمل ، حاجة حلوة          

نفسى تتفرج عليها

أول خطوة لما يسمى التقدير، هى أن ترى ما يفعله الآخر (خصوصا الطفل)، مجرد أن يبلغ وعيك أنه عمل كذا، هذا نوع من التقدير، ليس بالضرورة أن هذا الكذا يكون عملا كبيرا أو مجيدا أو جديدا أو لامعا، فقط أنه (الطفل، أو الشخص)  عمله وأنجزه، طبعا هناك أعمال لها وضع خاص تحتاج إلى هذا الاعتراف المبدئى بشكل خاص، لكن من حيث المبدأ ، فإن كل ما ينجزه الطفل بالذات (والكبير أيضا) يحتاج إلى وعى الآخر به، الفرجة هنا ليست من فوق أو بعيد، لكنها إقرار أشبه “بعلم الوصول” فى البريد الموصى عليه.

آه: تقوللى كام “برافوا”

أو تقولْ: “ألله ينوّر”

أو تقوللى نـُصْ نـُصْ ، تِقْدر اكْترْ،

أو تقوللى هيه وحشهْ، بس كمّل وانت تكبرْ.

بعد أن يصلك خبر ما أنجز طفلك (أو أنجز أى أحد يهمك أمره، أو يهمه أمرك) يمكن أن تكتفى بهذا التوقيع بعلم الوصول.  أحيانا يقوم الطفل بلعبة ما، أوينجح فى اجتياز عقبة ما،  فلو أنك أتقنت الملاحظة لرأيته ينظر بطرف عينه إلى أبيه يطمئن أنه يرى ما فعله، وهنا يمكن أن ننبه أن التعليق الفورى أو المباشر على هذا الإنجاز ليس ضرورة حتمية طول الوقت، بل إنه أحيانا يكون سلبيا. كثيرا ما يحتاج الطفل أن يطمئن أن من حقه أن ينسب ما أنجز إلى نفسه فقط، ويكون التعليق المتسرع من الآخر، أو المبالغ فيه (حتى التصفيق) هو بمثابة سرقة ما أنجز بشكل ما.  ذكرنا ذلك فى النجاح، حين قلنا إن النجاح يكون بنّـاء حين يوضع فى محله لصالح مسيرة نمو صاحبه أولا، ثم للآخرين بعد ذلك (أنا حانجح  مش عشانكم، مش عشان  خاطر عيونكم، النجاح دا هوّا ليّا، وانا منكم).

 أين الحد الفاصل بين أن يعود عائد الإنجاز (النجاح مثلا، التفوق) للناشئ الذى أنجزه، وأن يستولى عليه الذى اعترف به أو صفق له؟؟ إن ذلك يتوقف على نوع وحجم ولغة الرؤية والتقدير: نستمع إلى الطفل فى الأغنية، ماذا يريد :

أنا مطّمن لشوفك لىّ صح،  دى حلاوتك

أنا مستنى اْلِتفَاتَّكْ

 المفيد فيما يسمى التقدير والاعتراف بالإنجاز،  للطفل خاصة، هو أن يكون فى حجم الإنجاز لا أكثر ولا أقل، المبالغة فى مدح عمل أكثر مما يستحق، ليس تشجيعا صرفا، المهم هو “شوفك لىّ صح”، فى حجمها الموضوعى، مجرد التفاتة، إيماءة، مشاركة، قد تكون أفضل من كلمات تطبيل كثيرة. معظم الأمهات (وكثير من الآباء) يرون أولادهم موهوبين بشكل خاص جدا، (ما حصلوش) موهوبين، أكثر من أطفال الآخرين (الأقرباء بالذات!!)، هذا حق الأم، وحق الطفل معا.

نرجع إلى الأغنية ونحن نحترم هذه الرغبة فى كل منا بتنبيه دال، وهو افتراض يدعو للابتسام، إذا صح هذا الافتراض بأن كل واحدة  تعتبر طفلها هو الأفضل، فما هو الحل؟ ومن فينا الأصدق؟ ألا يدل هذا على أن من يرى طفله كذلك هو(الأب او الأم) ليس إلا  طفل أهبل؟  فماذا يريد طفله الحقيقى الأعقل؟ نستمع للأغنية على لسانه (لا القصيدة)

المهم ما تنسانِيشْ

حتى لو إنى مافيشْ

التقدير الأساسى الذى يريده الطفل هو أن يكون فى وعى وذاكرة المظلة الحانية  التى ترعاه وتراه وهو يحقق المكسب تلو المكسب، وهو يخطو الخطوة تلو الخطوة، حتى لو كان هذا المكسب شديد الضآلة. نحن ننسى أن الطفل يستطيع أن يلتقط التقدير والرؤية دون أن نعلنها، وهو حين يطلب رأينا بغير ألفاظ، لا يريد منا خطبة عصماء فيما تم، وإنما هو يلتقط رؤيتنا كلها، ويطمئن إلى أن رسالة ما أنجز قد وصلت إلى من يهمه الأمر، إلى من حوله، وهو أيضا يحتاج كل رؤيتنا دون اختزالها إلى ما يسره، أقول مرة أخرى دون ضرورة الإعلان، الوالد لا يمكن أن يمنح طفله مثل هذا الموقف إلا إذا كان هو يواصل شخصيا مشوار نضجه، ليصبح أكثر موضوعية، فيستطيع أن يعطى تقديرا موضوعيا كاملا، وهذا هو ما يحتاجه الطفل:  رؤية لا تغفل الجانب السلبى أو التافه من الجارى

قوللى رأيك كلّه يعنى

قوللى إنك آه سامعنى

حتى لو رأيك بيوجع

أنا حاتعلم  وحاطلع

حتى لو كانت الرؤية مؤلمة لأنها عرت النقص أو نبهت إلى الخطأ فهى تقدير أيضا، على شرط ألا تكون المسألة كلمات سطحية، أو مجاملة، أو رافضة فقط، كما يعلمنا هذا الطفل فى الأغنية، وهو ينبهنا أيضا فى هذا المقطع إلى أنه يفقس نفاقنا له، أكثر مما نفعل نحن مع أنفسنا، وأن ما يحتاجه هو التقدير، وليس النفخ الفارغ

بس يعنى خلّى بالك

الحكاية مش كلام، أو  مشّى حالك

هيه مش لعبةْ مجاملة

إوعى تفهم إنى هابلة

إوعى تنفخنى زيادة

أو تقولها للجميع كده زى عادة

يكون التقدير ذو قيمة حقيقية حين  لا يكون بنفس الوتيرة (وأحيانا بنفس الكلمات)  لكل الأطفال أو لكل الناس، إن هذا السيل من المديح والمجاملة يفقد قيمته إذا لم يكن مختصا بهذا الشخص بالذات، إزاء هذا الفعل بالذات، نحن نذكر كيف كنا نستقبل شكر المرحوم محمد لطيف المعلق الرياضى خفيف الظل حين كان يبالغ فى شكر كل الحضور وغير الحضور من أول شرطى الأمن المركزى حتى مخطط الملعب وحارس المرمى، إذا حدث منا مثل هذا التقدير بالجملة لأطفالنا ، أو قمنا بمواصلة التقدير باستمرار على العمّال على البطال، فإن التقدير يفقد فاعليته حتما.

ثمّ تحذير آخر: حين يتواصل التقدير بحيث يصبح الإنجاز مرتبطا به طول الوقت طلبا للرضا، بمعنى ألا يتم قبول الطفل (أو أى شخص) إلا بما يعمل فعلا، تنقلب المسألة إلى تشريط معطل تماما.  نتعلم من الأغنية:

مش حابيع نفسى عشان أرضِى جنابك

مهما كنت جعان لِشُوفَكْ، أو حايوجعنى عتابكْ

هذا التنبيه هو الذى يحدد جرعة التقدير ووظيفتها، حتى لا يختزل وجود الطفل إلى مجرد إرضاء من حوله، وبالذات الوالدين. كما أن تنبيها آخر تنبهنا إليه ألاغنية على لسان الطفل، وهو أن التقدير قد يصدر من الكبير (أو الآخر) باعتبار أنه واجب متبادل عادة (كما أقدرك، تقدرنى) هذا ما يرفضه الطفل، خاصة إذا كان التقدير يصدر بشكل يدل على أنه غير مرتبط تحديدا بالإنجاز المحدد، أو أنه بمثابة عمل واجب ينبغى عليه أن يعمله.

لو تقولها “زى واجب”، مش عايزها

لو تقولها وانت مش شايف، أنا مستغنى عنها

علينا أن نتساءل، ليس بالضرورة فى حالة الطفل ، وإنما بصفة عامة: ألا يحتاج الذى يقوم بالتقدير إلى من يقدره هو بدوره؟ أو يقدر تقديره؟  أو يرد عليه أن رأيه قد وصل؟ أوأن رؤيته قد أفادت؟ الإجابة على كل هذه الأسئلة هى بالإيجاب، لكن المشكلة ممن يأتيه الرد؟ مِن الذى سبق له أن قدّره؟ ألا يمكن أن تنقلب المسألة بذلك إلى ما يشبه الصفقة “قدرنى وانا اقدرك”: إنت أحسن ولد فى الدنيا، وانت أحسن بابا فى العالم!!! إذن: على الذى يقدر بأمانة أن ينتظر الرد من مصدر آخر يقدره بدوره، وهكذا؟  إذا كان رئيس العمل يقدر الوالد الذى يعمل معه، فإن هذا الوالد يصبح أكثر قدرة عل تقدير زوجته أو إبنه أو مرؤوسه وهكذا. فهمت من خلال المثل القائل “إعمل الطيب وارميه فى البحر” (باعتبار أن التقدير الموضوعى هو شهادة وأمانة لصاحب الإنجاز، فهو عمل طيب) أن الرد الرائع الجميل لأى عمل طيب، بما فى ذلك النقد الموضوعى، هو أن تكون هناك فائدة حقيقة للجانبين باعتبارهما نقطتين فى بحر الناس، بهذا نطمئن جميعا أن الكل يمارس ما يمارس لنفسه فى النهاية، فيكسب الجميع: الذى اعترف بالإنجاز، واحترمه، ووضعه فى حدوده، والذى قام بالإنجاز ووصله التقدير فعلا بشكل أفاد فى طمأنته، أو تشجيعه، أو تعديل موقفه، أو استمرار نموه وتقدمه، أو كل ذلك، وغير ذلك.

لو تقولها وانت فاهم إيه حدودها

يبقى حاتجيلك ردودها

باللى يترعرع بنا،

واحنا بنعمّرها ناحية ربنا

إن العائد الحقيقى والباقى يكون كذلك حين يكون التقدير عائد على من قام به بإيجابية دافعة إلى ما هو أنفع له وللناس، هنا يتدخل ما أحب أن أسميه : العامل المشترك الأبقى، وهو الذى يتأكد حين يتم الإنجاز والتقدير المتبادل وغير المتبادل تحت مظلة ثقافة تضع خير الناس وتعمير الأرض جزء لا يتجزأ من العائد الذى يعود على كل المشتركين فى هذا الحوار الناضج، وغيرهم، أحسن وأقرب وأكثر إنتاجا وإبداعا بما رحمة من الحق سبحانه وتعالى وتوفيقه.

مستويات التقدير

إذا كان الطفل، بما أنه طفل، يحتاج إلى هذا النوع من التقدير من الأكبر، فهذا حقه، لكن الأكبر كما ذكرنا، إلى أن وصلنا إلى  نجيب محفوظ، هو يحتاج أيضا ذلك، وإذا كنا قد انتهينا إلى أن عائد التقدير الموضوعى الحقيقى هو من أى مصدر عام، وأن مصبه هو فى أى خير عام (لصالح الناس وتعمير الأرض)، دون مثالية أو تضحية، فإن ذلك يتطلب أن نبين أن تعدد مستويات التقدير هو المنقذ من أن يكون غيابه سببا فى الإحباط أوالتوقف. هذه مسألة تحتاج تفصيل لاحق، نوجز رؤوس مواضيعه فيما يلى:

1) إذا حصلت على تقدير ما تنجز ممن تنتظر منهم التقدير وبشكل موضوعى ، فحلال عليك يا عم (من أول تقريظ مدرس العربى لموضوع التعبير الذى كتبته حتى فرص النشر وجوائز الدولة)

2) عليك ألا تنسى أنه بقدر ما هو مهم تقدير الآخرين لك، فإن تقديرك لنفسك هو مهم أيضا، وقد يكون أهم، وخاصة إذا قست إنجازك بمقاييس موضوعية فعلا من واقع معايير عامة متفق عليها (وينفلق من لا يراك).

3) إذا اطمأننت إلى مصداقية هذا المقياس الثانى فقد يكون مفيدا، وحافزا، أن تحترم تقدير عدد قليل ممن تثق فى رؤيتهم بأقل قدر من التحيز العاطفى (الثلليية)، دون أن تعتمد على ذلك وحده

4) هناك أيضا تقدير التاريخ، وإن كان قد يأتى بعد رحيل صاحبه مثلما حدث مع كثير من العباقرة والمبدعين، إلا أن فائدته تطمئن المجتهد أنه حتى لو لم يجد من يقدره حيا، فالتاريخ بالمرصاد، يرصد كل إنجاز، ويقدره، مهما طال الزمن.

5) قبل كل هذا، وبعد كل هذا، فثم يقين أنه إذا صدق الإنجاز، وأفاد الناس، وعمر الأرض، وأثرى الإبداع، فإن الحق سبحانه وتعالى يراه لا محالة، ويهيئ له من يراه إن آجلا أو عاجلا

 “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى”

يُرى، فعل مبنى للمجهول، ليسمح لكل من له بصيرة أن يَرَى، بما فى ذلك صاحب الشأن، الحق سبحانه وتعالى، حتى لو لم يره أى مخلوق آخر.

[1] –  أصل هذا المقال قبل التحديث نشر فى سلسلة مقالات “الإنسان”، فى  جريدة روز اليوسف اليومية بتاريخ 18/11/2005 بعنوان “فماذا عن التقدير والتشجيع والجوائز؟”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *