عدد ابريل 1986- العرايا

عدد أبريل 1986

العرايا

فاروق حسان

حدث ما حدث ذات صباح…

لم اكن متيقظا تماما، ولا نائما تماما، عندما طرق سمعى صوت دقات غريبة صاحبتها همهمات ونداءات متباينة جعلتنى أقلب الوسادة ضاغطا بهاعلى أذنى.

عادة، كان للصباح رائحته المألوفة التى تحمل بقايا أنفاس الليل، وأصواته المعروفة التى كانت تصلنى متناثرة خافتة معلنة بداية اللهاث وراء لقمة العيش التى كانت تلتهم النهار بالنسبة لسكان مثل هذه الحارة المختنقة بالبيوت المتساندة فى أعياء.

كان ذلك فى الماضى وقبل أن يحل ذلك الصباح المشبوه بأصواته التى اقتربت بشكل  غير مألوف خاصة تلك الدقات المتنافرة العالية التى تبعث على الحيرة والارتباك.

أزحت الوسادة وأنا افتح عينى على مضض ثم أغلقتهما بسرعة عندما فوجئت بضوء الشمس الذى كان يملأ الغرفة.

لحظتها، أيقنت أنى أرى شيئا مضببا بلا تفاصيل، وأنى مازلت عند ذلك الشريط المخملى الضيق الذى يعقب النعاس ويسبق الاستيقاظ، فالوهج الشديد الذى أغشى عينى لا يمكن بحال أن يكون حقيقيا لسبب وحيد هو أنى أحرص عادة على إغلاق نافذة حجرتى الوحيدة قبل النوم.

وللحظة أسلمت نفسى لهذا اليقين، لحظة استطالت وانبعجت ثم تفتتت إلى ومضات زمنية متتابعة على وقع تلك الدقات المريبة التى كانت تصك سمعى بشكل حاد جعلنى أنتفض فاركا عينى بكلتا يدى فى محاولة مستميتة لاقناع نفسى بأنى قد اجتزت بالفعل تلك المسافة الضيقة الفاصلة بين الحلم والواقع. كان أول ما صفعنى – بعد أن اعتادت عينى ضوء الشمس – مشهد اللمبة الذابلة لعامود النور الذى يستقر مرهقا على الرصيف الملاصق لشقتى والذى اختفت معالمه تحت ركام الأتربة، فى حين مثلت رقعة ضيقة من السماء خلفية عبثية تلمع بالضوء فوق أجزاء البيوت الواطئة بنوافذها التى تكاد تكون سرية.

عادة، وفى كل صباح، كان أول ما يطالعنى لحظة الاستيقاظ وبعد أن تعتاد عينى العتمة الخفيفة المنتشرة فى فراغ الحجرة هو الأجزاء العلوية من تلال الكتب والأوراق التى كانت تغطى جدارين كاملين وتكاد تقترب من السقف، وكان أكثر ما يؤرقنى هو ذلك التقوس الواضح للأرفف القديمة التى كنت أنظر إليها واجفا من أن تنهار فجأة من ثقل ما حملت.

كان ذلك فى الماضى، قبل أن يحل ذلك الصباح المريب، والمشهد الغامض لرقعة السماء التى تزاحمت فيها أجزاء البيوت العلوية وقطع الملابس المتطايرة على حبال الغسيل والتى كان من المستحيل علىمن قبل أن أطالعها إلا إذا غادرت حجرتى ووقفت أمام الباب الخارجى رافعا رأسى ككلب يعوى للنجوم.

داهمنى الشك فى أنى قد استيقظت حقيقة، وتصلبت فىمكانى مستسلما لظن أنى أتماوج عند تلك اللحظات السحرية التى ينداح فيها الحلم ليمتزج بالواقع عندما يخفف النوم من قبضته الثقيلة دون أن يرخيها تماما، لكن الدقات الغريبة والنداءات المزعجة بدت أقرب إلى الحقيقة بشكل لا يترك المجال لأى احتمال آخر، فاعتدلت بسرعة آلمت ظهرى لافاجأ بوجوه أطفال الحى وقد تحلقوا حول الفراش وقد مد كل منهم يده يطبق وهو ينقر عليه بقطعة نقود معدنية محاولا لفت نظر بائع الفول الذى كان يجلس على طرف السرير منحنيا على القدر الذى يستقر بين قدميه.

كان المشهد غريبا مبتور الصلة بالواقع وهذا ما جعله أقرب الحلم، لكنه – وبشخوصه الواضحة ونبض الحياة الذى يعربد فى تفاصيله – جعله أقرب إلى الحقيقة وهذا ما جعلنى أمد يدا مرتجفة لألمس أحد الأطفال وأشعر بدفء جسده تحت الجلباب الرث الذى كان يرتديه.

لم يعد للمنطق صلة بكل ما يدور…

لقد امتزجت الحارة بغرفتى بشكل سيريالى لا نراه إلا فى اللوحات الزيتية، وكانه فى استطاعتى أن أميز – وبصورة جيدة – جدران البيوت على الرصيف المقابل بجدرانها الناشعة بالماء وأبوابها المعلقة على واجهاتها فى إهمال، والمارة بخطواتهم المترددة، وقطط القمامة بنظراتها المذعورة الوجلة. كنت أرى ذلك كله من خلال جدار الغرفة الذى كان يمثل حدها الجغرافى بالنسبة للحارة والذى لم يعد موجودا بعد أن مرت على أطرافه سكين خرافية لم تترك وراءها ما ينبئ عن سابقة وجوده سوى إطار أملس ينم عن حدة نصلها.

أخذت أدلك عنقى فى محاولة لإزلة الذعر المتوتر الذى اخترق جسدى كله، وكان أشد ما أثارنى هو ذلك الكلب الذى رفع ساقه وأخذ يتبول على الكتب.

لم يكن حلما على وجه اليقين، ولا حقيقة على وجه التمام…

فأنا أدرك أنى متيقظ بالفعل، وأنى أجلس على فراشى ساحبا الغطاء حتى أسفل العنق كى أخفى ملابسى الداخلية التى أنام بها عادة والتى لم يكن من المناسب أن يرانى بها أطفال الحى المتحلقون حول الفراش والذين استطعت التعرف على بعضهم، لكن الغريب فى الأمر كله هو أن وجودى بالنسبة لهم كان وجودا شبحيا فلم يلتفت أحدهم تجاهى وإنما أنصب اهتمامهم فى الصراخ للفت نظر البائع والمعرفة التى كانوا يتابعون حركتها بين القدر والأطباق الصدئة فى اتساق حركى غريب.

بجنون صرخت:

= أنتم يا …

انبعثت حشرجة جرس “المنبه” الذى كان الصوت الحقيقى الوحيد وسط هذا الركام الكابوسى الذى كان يحيط بى.

صرخت بوحشية:

= أنتم أيها الـ ….

التصقت الكلمات بحلقى عندما صدرت عن السقف ضجة رعدية مباغتة غطت على كل ما عداها جعلتنى أفلت الغطاء رافعا بصرى لأفاجأ به مذهولا وهو يطوى ببطء مميت كغطاء علبة السردين وقد تساقطت منه قطع الحجارة ورقائق الجير التى أصابنى بعضها فى حين بدأ الغبار الرمادى يتلوى فى دفقات كثيفة خانقة أغشت بصرى وأنا أنحنى دافنا رأسى بين ركبتى معتصر أذنى بين يدى صارخا:

= لا .. لا .. لـ ااااااااااااااااااا

و …

قبل أن تلفنى الدوامات الرهيبة والفضا اللانهائى الذى كان كفضاء الأبد الذى لا يسبر غوره والذى كنت أتقلب فيه ممدا معتصرا همس فى أذنى صوت ثعبانى كان لأنفاسه رائحة أسنان الموتى:

= هل لديك ماتخفيه؟؟؟؟ *

* جاء فى نهاية القصة هذين السطرين

ضرب الطبيب كنا بكف:  حيرنى أمر هذا الرجل، رغم أنه يبدو عاقلا إلا أنه يرى أشياء لا وجود لها.

ورأينا حذفهما لفتح النهاية ثم أضفناهما لفتح الحوار (النقد يواكب النشر).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *