الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1986 / عدد ابريل 1986- بحثا عن جبال المحال

عدد ابريل 1986- بحثا عن جبال المحال

بحثا عن جبال المحال

أعتدال عثمان

مرة ودميتى فى صدرى وقفنا على أسوار مدينة التصاوير والتهاويل، والمدينة بلا أسوار، والحرس يتناوبون الحراسة ولا يغفلون، غير أنا دخلنا، وكنا لم نزل هناك على الأبواب العالية الصدئة.

لعبنا مع الريح، وتشابكنا فى غصون الشجر، والعرق يبرق على وجهينا ويسرى فى عروق الحجر فيذوب محبة، ويترقرق بحنان أمى، ويضمنا معا، فندخل بين ذرتين، ونسمع همس الحنايا، ونضحك كثيرا، ونتحمم بالغمام، ونكن آخر النهار.. حين تزجرنا شعاعات الشفق.

مرة ودميتى فى صدرى نظرت فوجدتك تأتى مع الغمام. والريح تشتد، ويصحو زهر البرتقال ويسرى فى هواء النفس. وحين تأتى يغضب البحر فتتخفى فى غيمة، أو فى بطن بذرة، وتظهر لى فى الرؤى، وتنام على فراشى، ويد أمى تربت كتفى، وأياد تتخاطفنى، وعيون تمزقنى بنصال باردة، صلبة وحامية، وأهلى يحكمون الغطاء حولى، وأتوه فى تهاويل. لها ألف ذراع تتشابك حولى وتهددنى كما الوعيد.

وأراك فتنفتح لى فى عينيك سماء بأنوار الطيف، لانك أنت الجميل الهادئ الزاخر الثائر المتسع القاسى الضيق العارف الحنون. لأنك عال كموج الظلمات، ورقراق حين تتذكر، لأنك ميت فى جوف زمان سحيق، وحى كريح المسك والعنبر؛ لأنك عذب وقابض، شامخ مرير كطعم النبيذ فى فم صديان لم يذقه. لأنك خمر وكرم لم يعصر، وداسته الأقدام فى زمن القهر والتحاريق؛ لأنك فى أديم بلادى سهل ووعر، ممتنع كجبال المحال، وكالشط لغريق الذى لم يغادر الشط. ولأنك هنا وهناك، ولست فى شئ وفى كل شئ.

وأنظر إليك فلا أجدك، وأجدك تأتيننى كما الغمام الولود، فتهب أعاصيرى، وتنشق سماواتى بوقد بروقى. ويتم بك اشتعالى، فعرفت أننى زوجتك دميتى البكر فى زمن بكر. وإذ ذاك تأخذنى فرحة صبية، وتغمرنى فى البحر فيضحك، والموج خجلان، والصبح يلهث بأنفاس السحر الندية.

ومرة نمت، فخرجت دميتى من صدرى.

وحين نظرت، لم أجدها ولم أجدك.

وجاء أبى فى عباءة بيضاء واسعة،

وخطوة وئيد يزلزل أرضى، والسماء

مبعدة جهمة. أتعلق بثلج لحيته،

– يا أبتى، ها أنذا ابنة عمرك، دخلت المدينة ودميتى فى صدرى، فأخذها الغمام وطار إلى البعيد، وأنا لا أعرف السبل وحدى.

وتمد لى يدا

تخرج من طيات عباءتك، بيضاء بغير سوء.

أفرح.

وتندفع يداى تمسكان    هواء جارحا كحد السيف.

وأجد يدى تنفصلان وتبتعدان، وجرحى لا ينزف،

ودماء بيضاء تغرق قلبى، وأنا لا أغرق.

وأنزل الساحة، وهناك خلق كثير. أتقدم وراءك، وامرأة فى أسمال، فمها يلوك قطعة من لحم يدى، التى لم تعد يدى. والصراخ فى فمى بغير صوت. وطفل المرأة منغرز كالدودة بأعلى ساقها، وصراخ جوعه ينهش أذنى. وخفق قلبى يصعد إلى السماء، فتنغلق دونه، فيرتد مرعوبا إلى أرض الساحة، وينداح وسط نفايات الطعام، وتلال القمامة، وأوراق صخف ممزقة، مصفرة وموحلة بآثار أقدام، وعلامات حمراء وسوداء تلتقى وتفترق ولا تعنى شيئا.

ومحاجر عيناى تلفظانهما، كرتان ناريتان لا تحرقان. تحدقان وتحدقان ولا يدخلهما فهم، ورأسى تحاريق تطوحها عظام كما  الهشيم. وتبكى عيناى البعيدتان بعينى طفل المرأة. ويدك، يا أبى، معلقة فى هواء الساحة الرخو. وثقل فى صدرى كأصفاد الأسر، يجرنى منها شرطى بيد صدئة، وسترته القاتمة تسير فى اتجاه واحد وكأنه يعرف منتهاه. والخلق تنظر كأنها لا تنظر. وأنت، يا أبتى، لا تنظر ولا تعرف ولا تأخذ بيدى. وهى الآن فى أصفاد الشرطى. والعالم دخان قاتم ثقيل بلون عباءة أبى، وقد اتسخت. ووحل لزج تخثر عليها. وأتعلق بآخر خيط منها، وأنت تنتزعها وتفلت منى. والشرطى ينتزعنى من الناحية الأخرى، فأنشق نصفين وأغيض فى وحل قان.

وأغيض، وتنفصل رأسى. وقدماى تسيران بغير جسمى. وارتجافة أخيرة تغشانى فأنظر بعينى البعيدتين، وإذا بدمية كدميتى فى صدرى.

وانظر وإذا بشئ يأتيننى كما كنت تأتى.

وحين نظرت توقفت

فرأيت نفسى

وعرفت أنها نفسى

وأن يدى فى أصفاد الشرطى

والأصفاد ليست مستحيلة

وأن الخلق فى الساحة يرون

ويعرفون وينتظرون

وأننى لابد أن

أفعل

فتوقفت.

ونظرت

وإذا ذاك زايل الخوف نفسى. وأنا الآن أنتزع يدى من الشرطى فأجدها طليقة

وهى طليقة

تستطيع أن تعمل

وهى تعمل

وإذا ذاك انقشع الدخان، وتراجع إلى السماء مع عباءة أبى البيضاء المتسخة. وغار الشرطى فى وحل الساحة، والساحة تشغى بالخلق، وهم فى حركة لا يكفون، وأنا معهم، نزيح الوحل، وبقايا الشرطى، ونفايات الطعام. والمرأة قد لقمت الطفل ثديها. والصحف القديمة تجمعت فيها التصاوير وتداخلت فى صورة وجه مليح كوجه دميتى

فى عيونها السمراء لمعة السمك فى الشبك أخذتها من على الأرض وشذبت تعاريج حوافها، وعلقتها على جدران بيت قلبى.

وإذا ذاك وجدت أنك تأتيننى كما كنت تأتى، فتشهيت ارتجافتى فى صدرك.

وحين تحوانى.

وجدت أنك بين سحرى ونحرى

طفلى الذى ما ولدت

وإذا اتلدت لا تكبر

وإذا كبرت

تظل لى ولدى

الذى يرجف

فى صدرى

ويستكين.

تظل لى ولدى

الذى يرجف

فى صدرى

ويستكين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *