الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / سلسلة فقه العلاقات البشرية: (2) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟) (8) الفصل الثانى: (اللوحات) اللوحة الثانية: “الركن‏ ‏بتاعى ‏مِتْـحضّر” (2)

سلسلة فقه العلاقات البشرية: (2) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟) (8) الفصل الثانى: (اللوحات) اللوحة الثانية: “الركن‏ ‏بتاعى ‏مِتْـحضّر” (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 29-4-2023

السنة السادسة عشر

العدد: 5719

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(2) [1] 

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الثانى:

هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات) (8)

الفصل الثانى:

 (اللوحات: من 1 – 7)

اللوحة الثانى:[2]

“الركن‏ ‏بتاعى ‏مِتْـحضّر” (2)

……………..

…………….

  “المتن الشعرى”

دعونا نعود فنعرض المتن الشعرى كله على بعضه بعد هذه المقدمة التى تبدو أنها كادت تأخذ حقه.

 (1)‏

الركن‏ ‏بتاعِى ‏مـتـحـضّـر‏،‏

حارْجَـعْـلُهْ‏ ‏واسيبكمْ‏،‏

ساعْتِنْ ‏احسّ‏ ‏بْـكُمْ‏.‏

حافضلْ‏ ‏كِــدَهُـهْ

طالعْ

نازلْ‏،‏

‏ ‏زىْ ‏اليـُويـُو‏، ‏

‏ ‏كِــدَهُـهْ.

‏(2)‏

أصل‏ ‏انا‏ ‏خايفْ‏.‏

أنا‏ ‏خايف‏ ‏موتْ‏، ‏أنا‏ ‏ميّـتْ‏ ‏خايف‏.‏

‏ ‏لكن‏ ‏قولــِّـى: ‏

هوّا‏ ‏الميت‏ ‏بيخاف‏‏؟

‏ ‏طبعا‏ ‏بيخاف‏، ‏

بيخاف‏ ‏يصحى‏.

‏(3)‏

ياللاّبـْـنـا‏ ‏نلعب‏ ‏يا‏ ‏جماعة‏ ‏لعبة‏ “‏هيلا‏ ‏هُـبُ‏”.‏

نقعد‏ ‏مع‏ ‏بعض‏.‏

قال‏ ‏إيه‏، ‏ونحسّ‏،‏

وكلام‏ ‏للصبح‏،‏

ونقول‏ ‏بنحب‏.‏

فيها‏ ‏لاخْـِفيها‏، ‏أنا‏ ‏فين‏ ‏بيها‏، ‏

ما‏ هى ‏مش‏ ‏موجودهْ‏ ‏من‏ ‏أصلـُه‏.‏

قدِّم‏ ‏رجلِ‏ ‏تْـغـُـوص‏ ‏التانية‏،‏

دانا‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏زاد‏ ‏النـــــاس‏، ‏

باغطسْ‏ ‏وِبْدونْ‏ ‏إحساسْ‏.‏

‏(4)‏

ومادام‏ ‏الركن‏ ‏متحضر‏ ‏هنا‏ ‏تحت‏ ‏الأرض‏: ‏

راح‏ ‏انط‏ ‏لفوقْ‏، ‏

وأعدّى ‏الطوقْ‏،‏

وارْضِى ‏القرداتِى‏.‏

يِسْتَرْزَقْ‏. ‏

الفرق بين ما عرضنا من قبل فى “الحنين إلى الركن الخاص”، وبين هذا التراجع المرضى هنا إلى ركن قبرٍ يمثل ما هو ضد الحياة خوفا من التواصل، هو الفرق بين الصحة والمرض، وعلى قدر ما يطمئن هذا الشخص إلى أنه قادر على التراجع تماما، تكون حركته – الظاهرة – نحو الآخر. الشرط هنا يُعلـَن من البداية هكذا:

الركن‏ ‏بتاعِى ‏مـتـحـضّـر‏، ‏

حارْجَـعْـلُهْ‏ ‏واسيبكمْ‏، ‏ساعْتـِنْ ‏احسّ‏ ‏بْـكُمْ‏،

حافضلْ‏ ‏كِــدَهُـهْ، طالعْ ‏..، نازلْ‏، ‏زىْ ‏اليـُويـُو‏، ‏‏ ‏كِــدَهُـهْ.‏

هذا الموقف لا يُعلن بداهة هكذا فى العلاج النفسى، وإنما يستنتجه المعالج حين يلاحظ أن مريضه جاهز لأن ينسحب بمجرد أن يتهدد بالوعى بأن ثمة علاقة تنمو بينه وبين الطبيب.

 النص (السكريبت) يحدث هكذا عادة:

‏يتقدم‏ ‏المريض‏ ‏نحو‏ ‏الشفاء‏ (‏ظاهريا‏) ‏فيبدى ‏تفهما‏، ‏ويحاول‏ ‏تواصلا‏، ‏ويقترب‏ ‏من‏ ‏الواقع، ومن الآخر، ولا يعلن شروطه السلبية هذه صراحة، ولا لنفسه، حتى لو كانت جاهزة من البداية بداخله، وهو عادة لا يعرفها، بل هو ينكرها إذا ووجه بها، ويتساءل أيضا، ومعه حق “إذن لماذا حضر للعلاج؟” ثم إنه عادة يبدو وكأنه يستجيب بشكل نشط للعلاج، لكن عند “مأزق” النقلة النوعية، سرعان ما يرجع إلى موقفه الأول بكل عنفوان مقاومته، إن تصريح داخله هكذا: إنه لا يفعل شيئا إلا أنه “يطلع وينزل مثل اليويو“، هو الضمان الذى يشجعه على استمرار المحاولة مطمئنا أنه لن يتغير.

وهكذا ينقلب العلاج إلى ما يشبه تزجية الوقت، ما لم ينتبه المعالج ويحاول كسر هذه الحلقة.

دور المعالج:

المتن هنا ليست وظيفته أن يبين كيف يمكن كسر هذه الحلقة بقدر ما هو مـَعْـِنـٌّى بتجسيد صلابة ونوع المقاومة من هذا النوع، ‏يمكن‏ ‏للمعالج‏ ‏أن‏ ‏يدرك‏ ‏أن‏ ‏التقدم‏ ‏خادع‏، ‏وأن عملية العلاج تتحرك دون تقدم مثل‏ ‏لعبة‏ ‏اليويو‏ (طالع نازل) ‏فهى ‏لا‏ ‏تنتهى أبدا، ‏إذ‏ ‏يلاحظ‏ ‏رجوع المريض‏ ‏إلى ‏نفس‏ ‏المستوى ‏الوجودى/السلوكى ‏السابق‏ ‏تحت‏ ‏أى ‏تهديد‏ ‏بالاقتراب‏ ‏أو‏ ‏بالتواصل،‏ ‏فإذا‏ ‏تكرر‏ ‏ذلك‏ ‏مرارا‏‏ ‏فإن‏ ‏المسألة‏ ‏لا‏ ‏تصبح‏ ‏علاجا‏ ‏تطوريا‏ نهائياً ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تصبح‏ ‏تأجيلا‏ ‏وتسكينا‏ (‏وهذا‏ ‏طيب إذا اضطررنا له أحيانا:‏ ‏شريطة‏ ‏أن‏ ‏نعرف‏ ‏ذلك، وقد نقبله‏).

المعالج اليقظ‏، خصوصا من ينتمى إلى العلاج من منظور النمو، يعرف‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏: ‏خبرة‏ ‏التحسن‏ ‏الخادع‏ ‏برغم ظاهر تحسنه، تحسن كأنه الواجهة التى أعيد دهانها دون تغيير حقيقى ‏والطبيب قد يلاحظ‏ ‏تكرار‏ ‏ذلك‏ ‏باستمرار‏.

‏هذه‏ المقاومة هى ‏من‏ ‏أعنف‏ ‏أنواع‏ المقاومة التى تبديها ‏ ‏الشخصيات‏ ‏الشيزيدية‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏، وأيضا الوسواسية بدرجة قهرية، ‏إذ‏ ‏أنها شخصيات‏ ‏سريعة‏ ‏الاستبصار المعقلن والفعلى‏، ‏تلتقط بسرعة ما يهدف إليه المعالج، وتستجيب بحماس واضح ‏على ‏مستوى ‏الأمل‏ ‏والرؤية‏ والكلام والعقلنة، ‏ولكنها‏ ‏تفعل ذلك لأنها واثقة من امتلاك آلية الانسحاب فور الطلب، ‏وحين نستمع إلى داخل داخلها نجد المبرر جاهزا، والمناورة معدّة (كما رأينا فى الحالة الأولى: من شطـِّى لشْطى).

لا يوجد مجال للاتهام هنا، كما يفعل بعض المعالجين (إنت للى مش عايز تعمل علاقة أهه = ها أنت لا تريد عمل علاقة مع آخر)، ذلك أن المريض (أو الشخص) المقاِوم لهذه الدرجة عنده مبرراته، ربما ترجع لتركيب غائر فى صورة برنامج جاهز وُلـِد به، (الاستعداد الوراثى) وربما لخبرات سابقة رسّخت الخوف من الاقتراب الحقيقى والتواصل، وربما لهذا وذاك معاً، ومن ثم فإن أية نقلة نوعية فى اتجاه تواصل حقيقى مع الآخر، حتى مع المعالج أثناء العلاج، هى نقلة مرعبة، بلا ضمان، وها هو المتن يعلن لنا ما يقوله “داخل” هذا الشخص فى هذه الحالة فى الفقرة التالية:

أصل‏ ‏انا‏ ‏خايفْ‏، أنا‏ ‏خايف‏ ‏موتْ‏، ‏أنا‏ ‏ميّـتْ‏ ‏خايف‏.‏

‏ ‏لكن‏ ‏قولـِّـى: ‏هـُوَّا‏ ‏الميت‏ ‏بيخاف‏‏؟

‏ ‏طبعا‏ ‏بيخاف‏، ‏بيخاف‏ ‏يصحى‏.

‏ نكمل استلهام المتن ونحن نتدارس: أى موت هذا الذى نخاف أن نصحو منه، ذكرت أن هذه الاستجابة الجبانة المتكررة بلا حركية حقيقية ضمن برنامج الذهاب والعودة، هى “الموت مع لبس قناع الحياة”!! وهو موت نفسى سلبى، وهو عكس الموت إلى إعادة بعث، كما أنه ليس الموت باختفاء الجسد، الذى تبين لى مؤخرا – كما ذكرت- أنه أرقى بكثير من الموت النفسى الجمود العدم الذى نعنيه هنا.

الموت النفسى ألعن من الموت الذى نعرفه، ثم إن تعبير “أنا خايف موت” هنا، وعموما، هو تعبير قد يشير إلى تجسيد حيلة دفاعية نتيجة الرعب الذى تواجهه بعض الحيوانات الأدنى باللجوء إلى التجمد الساكن بجوار الأحجار أو الأشجار، حتى يحسبها المهاجـِم جمادا، وتصبح الحركة فى هذه الحال مساوية للالتهام من المُغـِير الأخطر.

أما تعبير “ميت خايف” فهو تعبير غير مألوف، لكن الشطر التالى مباشرة يبين هذا النوع الأعمق من الخوف، ذلك أن الذى تصلب خوفا، ليحافظ على نفسه بهذا الجمود الدفاعى، لا يختفى خوفه إذْ تجمد، بل إنه يزيده ليحافظ على جموده هذا الذى يحميه. إنه يخاف خوفين: يخاف الخوف البدئى من المهاجم الذى تجمد حتى يتقيه، ثم إنه يخاف أن يتحرك من موقعه الثابت حتى لا ينقض المهاجم عليه بمجرد أن يتحرك فيتجسد فى عين المهاجم كائنا حيا يصلح للافتراس.

الصحو الذى يخافه هذا الميت هو أن يستيقظ من موته الدفاعى هذا، فيتحرك، فيهلك.

امتدت آلية الدفاع هذه فى البشر حتى أصبح الجمود والإنكار والمحو هى الميكانزمات المكافئة للموت، وأصبح الخوف من الآخر وارد من حيث إن “الآخر” هو تهديد لكينونتى، لماهيتى، لحريتى، هذا موقف نمر به جميعا فى السنين الأولى بدءا من الشهور الأولى ونحن نتحسس طريقنا إلى التواصل، وقد يفلح أغلبنا (المفروض يعنى) أن يتجاوزه إلى تحمل الآخر وهو يحفر سبيله إليه، ولكن إذا زاد الخوف من الاقتراب، وكان ميكانزم الانسحاب إلى الركن بهذه الجاهزية فإن المسألة تتجاوز مجرد الخوف والحذر إلى الانسحاب إلى الكهف بهذا الجمود هكذا (الموت النفسى)، وتصبح العودة إلى التواصل خطرا مضاعفا، لأنها تمر من جديد بنفس الموقف (البارانوى) الذى ألجأ الشخص إلى الهرب فى الجمود الكهف.

هذا النزوع إلى العودة إلى الركن القبر، ثم الخوف من الصحو، هما من أهم ميكانزمات عرقلة النمو، لكن المسألة هنا لا تتوقف عند هذا الحل، بل إن الشيزيدى يتحايل لتغطية انسحابه ليس فقط عن الآخر، وإنما على نفسه أيضا، بحركة نشطة، يتوقف مدى نشاطها على مدى ضمان جاهزية الانسحاب إلى الكهف الجمود، مع ضمان إجهاض فاعلية حركية الذهاب <==> العودة.

هذه الجاهزية للانسحاب الإجهاضى هى استعداد داخلى قوى، ونزوع واثق من القدرة على إلغاء التواصل بالآخر فى أى لحظة. قد يتم هذا الإلغاء بأن تنسحب العواطف من السطح، أو تشل فاعليتها تماما، وهو ما يمكن أن نسميه “غطاء اللامبالاة”، هذا الغطاء هو بمثابة تصنيع جدار عازل، جاهز لتغليف النفس الحقيقية، كغطاء يقوم بدور الواقى ضد أى اقتراب أو اختراق من آخر، إنها آلية سحب المشاعر للداخل ‏ حتى لا نخاطر بالمشاركة التى تلوح باحتمال التواصل.

اللامبالاة حتى التبلد التى نصف بها عادة كثيرا من حالات الفصام السالبة ليست سوى هذا الغطاء السميك الذى تـَكـوَّن ليخفى الرعب الساحق عن صاحبه من جهة، ثم ليحميه من أى احتمال للتواصل من جهة أخرى.

فى بداية الفصام الحاد يتجسد هذا الرعب أعراضا غامرة من الفزع والهلع، وتكون استجابة المريض فى مواجهة أى مؤثر يصله من خارجه رعباً هائلا، يبدو المريض وكأنه يتلقى المؤثرات الحسية لأول مرة، لا ليتعرف عليها ويستوعبها مثل الطفل حديث الولادة، وإنما ليخاف منها وينسحب بعيدا عنها إلى ركنه ، وهو يختبئ تحت غطاء لا مبالاته.

فى ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏المكثف‏ ‏لحالات‏ ‏الفصام‏ ‏نحتال لكى نخترق‏ ‏دفاعات‏ ‏هذا‏ ‏الموت الظاهر الذى يخفى وراءه كل هذا الرعب، وكثيرا أثناء محاولة الاقتراب غير المحسوب جيداً‏ ‏نفاجأ‏ ‏بتفجير قدر‏ ‏هائل‏ ‏من المقاومة ومزيد من الإنكار فالبلادة، فإذا تواصلت المحاولة، من معالج مبتدئ متحمس وكسر حاجز اللامبالاة عشوائيا فإنه قد يواجه بشكل مفاجئ بتفجير درجة غامرة من الهلع المريع، والتوجس المـُـتـَـلـَـفـِّـتْ، وقد يعقب ذلك مباشرة هياج مفاجئ حتى التحطيم، وهذه هى حركة الذراع الأخرى لإلغاء “الآخر” الذى يمثل كل هذا الخطر بمجرد وجوده أو اقترابه، الجمود والهجوم هنا هما وجهان لعملة واحدة.

تطبيقا لهذا التأويل يمكن أن نرى بعض حالات العدوان التى قد يقدم عليها الذهانى، وكيف يتواتر القتل مثلا أكثر بالنسبة للأقرب فالأقرب، لأن التهديد هنا يأتى من الأقرب لأنه هو الذى يهدد أسرع بعمل علاقة، قد يترتب عليها تحريك الحياة فى ميت أَمِنَ بموته: لموته، فهو الرعب حتى الهجوم وربما القتل.

من هنا يمكن الانتباه كيف أنه علينا أن نتأنى طويلا قبل أن نحكم على مريض أنه “متبلد الشعور”، الشعور لا يتبلد، والعواطف لا تنعدم، وإنما هى تختبئ حماية وانسحابا،

هذا الفرض جدير بأن يجعل الطبيب يتعامل مع المريض محترِما حتى تبلده، لأنه – بحسب هذا الفرض يكمن وراء هذا التبلد الظاهر عواطف ووجدانات زاخرة بكل الصدق والألم، والرعب، وهى تظل موجودة نابضة فى الداخل برغم كمونها، حتى لو لم يصلنا منها إلا ذبذبة بعيدة بعيدة تحت غطاء من اللامبالاة والتبلد.

فى بؤرة هذه العواطف الهاربة يكمن الخوف، وبالذات الخوف من الحركة، الخوف من اليقظة، الخوف من البعث، الخوف من احتمال العودة إلى الحياة المليئة بالآخرين الخطرين!

‏إن أخشى ما يخشاه مثل هذا المريض (أو الشخص) هو أن ‏يتعرض‏ ‏لخبرة‏ ‏إحياء‏ ‏مشاعره، دون إعداد أو استعداد كافيين ومن ثم احتمال استقبال أو إرسال بعضها، بما يترتب على ذلك من التهديد بعمل علاقة حقيقية بأى شخص حقيقى.

توصيات وتطبيقات عملية:

‏إذا‏ ‏ما تبنى‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى هذا الفرض، ‏واستوعب هذه الاحتمالات، فإن ذلك قد يكون خليقا أن يجعله:

  1. يحترم‏ ‏اللامبالاة‏، بل وحتى يمكنه أن يحترم ‏ما يسمى بالموت‏ ‏النفسى، ‏فلا يتعامل مع هذا أو ذاك باعتبار أن أيا منهما هو مجرد مظهر سلبى لاختفاء المشاعر والبلادة.

  2. يبذل جهدا آخرا من نوع آخر، للنظر فيما وراء هذا الجدار الواقى للمريض ضد التواصل الخطر (من وجهة نظر المريض).

  3. يتأنى فى محاولة اختراق هذا الجدار إلا بعد أن يلتف حوله لعله يوصل للمريض أية درجة من الأمان قبل محاولة كسره.

  4. لا يُحبـَط إن هو فشل فى كل ذلك، باعتبار أن المريض إنما يستعمل حقه (المرحلى) فى استعمال ما تيسر من دفاعات، بما فى ذلك الموت: اللامبالاة.

امتداد الخوف من التواصل الثنائى إلى العلاج الجمعى:

العلاج الجمعى (المفروض يعنى) هو أقدر على اختراق صعوبات التواصل هذه أكثر من العلاج المقتصر على الطبيب والمريض فقط، (العلاج الفردى)، ذلك لأنه من المفروض أنه حين يكون الاقتراب متعددا، والائتناس واردا من أكثر من مصدر (آخر)، يقل الخوف حيث يمكن اختبار نتائج الاقتراب بقدر ما تكون الثقة متاحة والبديل وارد لكن الشيزيدى، أو داخله على الأقل، تزداد مخاوفه كلما ازدادت مصادر واحتمالات تكوين العلاقة، هذا الداخل يتعامل هنا فى المتن مع محاولات التقارب حتى فى العلاج الجمعى بسخرية لاذعة، وهو يعلن أشكالا من المقاومة والشكوك بشكل آخر، من نوع آخر، حيث يصف محاولات الاقتراب والحوار بأنها أشبه باللعب لتزجية الوقت أو تبادل الخداع، فهى أعجز من أن تقدم عرضا كافيا يسمح بأية درجة من الأمان.

 ياللاّبـْـنـا‏ ‏نلعب‏ ‏يا‏ ‏جماعة‏ ‏لعبة‏ “‏هيلا‏ ‏هُـبُ‏”.‏

نقعد‏ ‏مع‏ ‏بعض‏.‏. قال‏ ‏إيه‏، ‏ونحسّ‏،‏ ..

وكلام‏ ‏للصبح‏،‏.. ونقول‏ ‏بنحب‏.

من أكثر ما يقع فيه المعالج النفسى الجمعى (المبتدئ عادة) هو أن يلجأ إلى استسهال استعمال تلك الألفاظ العاطفية الشائعة، برغم بريق مضمونها، مثل “الإحساس” أو “الحب” أو “التعاطف”، فى أحيان كثيرة قد يصيح المعالج فى مريض ما: “يا أخى ما تحس بزمايلك” مثلا، أو قد يتبادل أفراد المجموعة كلمات مثل: ” أنا احبك فعلا”، أو “أنا شاعر بيك جدا”[3]، وكلام من هذا. كل ذلك مقبول بحذر، لأنه هو ما اعتدنا عليه، ثم إنه لا توجد ألفاظ أخرى بديلة جاهزة، لكن الصورة التى أوردها المتن هنا تنبهنا إلى ضرورة أن يكون وراء كل هذه الألفاظ ما يجعلها قادرة على تسهيل فعل التواصل، أو الحفز للسير على أرض الواقع، وإلا فالمسألة تصبح –  كما تعلمنا من المريض منذ قليل – أشبه بتزجية الوقت.

أيضا تذكرنا هذه الفقرة بما جاء فى المقدمة من التنبيه إلى أن العلاج النفسى ليس مرادفا لما هو: “علاج بالكلام”، فالكلام بزعم الانضمام للجماعة يمكن أن يبدو جاهزا وأن يستمر “للصبح”،(حسب المتن هنا) لكن دون أن يخطو المريض للمشاركة بوعى يسمح بالحركة النمائية.

إذن ماذا؟

فيها لاخفيها، أنا مين بيها

ما هى مش موجودة من أصله

قدِّم‏ ‏رجلِ‏ ‏تْـغـُـوص‏ ‏التانية‏،‏

دانا‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏زاد‏ ‏النـــــاس‏، ‏

باغطسْ‏ ‏وِبْدونْ‏ ‏إحساسْ

بالرغم من كل ذلك، وبالرغم من يقظة داخل هذا المتردد الجاهز للانسحاب هكذا، فإنه قد لا يمانع – ساخرا  داخله– من المشاركة، بل إنه قد يشارك متحمسا سواء للكلام، أو للانضمام لمجموعة تعانى مثله، لكنه يكثف رؤيته الساخرة من البداية حتى تفل كل حماس، وتجهض كل احتمال لأى تواصل، فهو يعلن بذلك أنها مشاركة مستحيلة حيث أنه غير حاضر فيها أصلا. برغم ما يبُذل من جهد من معظم الأطراف، لكن – من وجهة نظر هذا الشيزيدى الساخر – يظْل كل واحد فى خندقه بعيدين عن بعضهم البعض.

ثم إن افتقاد المريض للثقة الأساسية تجعله دائم التساؤل عن موقعه فى المجموع أو حتى بالمجموع “أنا مين بيها”، برغم احتمال حماسه البدْئـِى “فيها لاخفيها”.

ننبه هنا إلى أنه بالرغم من كون العلاج الجمعى يعطى فرصا أكبر لتنمية التواصل بين عدد أكبر من البشر، إلا أن المسألة لا تحقق أهدافها بمجرد النقلة من علاقة ثنائية، إلى علاقة متعددة – أفراد المجموعة بما فى ذلك المعالجون – لأنه أحيانا ما تكون كثرة العدد بمثابة فرصة للهرب فى محيط مائع غير محدد، ضد قواعد ممارسات العلاج الجمعى التى تؤكد على قاعدة: “أنا ó أنت”، بقدر ما تؤكد على “هنا والآن”:

“دانا كل ما زاد الناس، باغطس وبدون إحساس”[4].

ينتهى النص مثلما بدأ وهو يعلن أن ما يحول دون أى حركة نمو من خلال تواصل البشر مع بعضهم هو هذا القرار المسبق بالانسحاب السلبى المشروط والعودة لنفس الموقع الذى بدأ منه لا أكثر، وكلما كان هذا القرار عميقا وراسخا، فإن المريض (أو الشخص) قد يسمح لنفسه بأى اقتراب أو تفاعل شكلى، لأنه مطمئن إلى الفشل المريح فى النهاية، بزعم طاعته لتعلميات العلاج، وأحيانا لأوامر وتوصيات المعالج.

 كثيرا ما يبدو المريض مشاركا متحمسا كنوع من إرضاء المعالج لا أكثر، إما اعترافا بجميل ما، وإما رشوة لضمان استمرار المسافة كما هى، وإما للفـَـلّ من حماس التدخل للتغيير، وهذا هو ما اختتمت به هذه الصورة من المتن:

وما دام‏ ‏الركن‏ ‏متحضر‏ ‏هنا‏ ‏تحت‏ ‏الأرض‏: ‏

راح‏ ‏انطّ‏ ‏لفوقْ‏، ‏

وأعدّى ‏الطوقْ‏،‏

وارْضِى ‏القرداتِى‏.‏

يِسْتَرْزَقْ‏. ‏

 وبرغم‏ ‏الرفض العميق لأى احتمال تواصل، علاجى حقيقى، فإن ‏العلاج‏ قد يستمر لمدة التعاقد (أحيانا أكثر من سنة)، وقد ينخدع الطبيب ‏بذلك‏ ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏متحمسا‏ ‏مثاليا‏ ‏آمِلا‏، ‏وكأن‏ ‏المريض‏ ‏بإرضائه ‏ ‏ظاهريا‏، ‏يعفى ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏مخاطر‏ ‏التغيير.

وبعد

أرجو أن يكون قد بلغنا من هذه الصور مدى ضرورة  الإنصات إلى داخل مرضانا بشكل واع، دون اتهام أو تسرع، حتى لا تخدعنا حيل الطاعة المؤقتة، والامتثال المناوِر، أو حتى اختفاء الأعراض، ثم إن المثابرة على كشف الداخل هكذا لا تعنى التمادى فى اتهام المريض بإصراره على موقفه، وإنما هى تـَحـْفـِزُ إلى مزيد من احترام قراره المبدئى (رغم فشله) وبالتالى المثابرة فى عرض بديل حقيقى يحمل أمانًا وَمِعيَّه لا تضطر المريض إلى هذا الإصرار على الانسحاب والتوقف والمناورة هكذا.

 

…………………

…………………

ونواصل الأسبوع القادم بعرض اللوحة الثالثة: “ريْحـِة بنى آدمْ”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (2) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات)”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – كما أشرت سابقا فى الكتاب الأول وفى هامش “3”، كان اسم هذه اللوحات “جنازات“، ، وكان المقصود بها أن أقدم كيف يمكن أن يساء فهم العلاج النفسى على أنه تفسير وتبرير وتسكين، وكيف أن هذا بمثابة وقف النمو بما يمكن أن يقابل “الموت النفسى“، إلا أننى وجدت  نفورا من الاسم، ومبالغة فى التصوير، ففضلت مصطلح “لوحات” تصف كل هذه الأحوال (لا الحالات) التى أوحت لى بعطاء هذا العمل.

[3] – انظر أيضا اللوحة الثالثة (التالية)!! حيث جاء على لسان حال المريض:

                     “ويقول لى حس بالنار من تحتك، كما إنى باحس: بحلاوة ريحتك!!

[4] – وهذا ما سوف نعود إليه بفصل مناسب فى الكتاب التالى (الثالث) “قراءة فى عيون الناس:فقة العلاثات البشرية”

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *