الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / (رباعيات.. ورباعيات) (3) (صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور) ما زلنا مع صلاح جاهين

(رباعيات.. ورباعيات) (3) (صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور) ما زلنا مع صلاح جاهين

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 28-12-2019

السنة الثالثة عشرة

العدد:  4501

 (رباعيات.. ورباعيات) (1) (3)

(صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور)

ما زلنا مع صلاح جاهين

…………

………….

طور الاكتئاب:

فى رباعيات جاهين، تكاد تظهر كل أعراض الاكتئاب بلا استثناء، من أول عدم الاكتراث والملل، إلى الشعور بالضياع وفقدان المعنى، إلى الإحساس بتغير الكون وتغير الذات، ثم الميل إلى الانتحار أو العجز عن الانتحار، كل ذلك يتتابع فى صور – برغم مرارتها- جميلة، جميلة، حتى تجعلنا نحب ما لا يحَب، أو على الأقل نقترب من صدق معاناة من يعايشها، فى تعاطف متألم قد يُخفف عنه، وقد يشجعنا على خوض ما نخشى.

وصلاح يعايش ما آل إليه امتهان الحزن بتسميته باسم مرض (الاكتئاب)، وهو يرفض هذا المنطق ويسخر منه؛ لما فيه من مساس بجلال الحزن، فحين تـُختزل الآلام البشرية إلى “لافتة تشخيصية”، تعلّق على “حالة” المريض، دون تمييز لجوانبها الإيجابية، تستأهل المسألة أن يقول فيها صلاح:

ياحزين ياقمقم جـّوه بحر الضياع

حزين أنا زيك وإيه مستطاع

الحزن مابقالهوش جلال ياجدع

الحزن زى البرد زى الصداع!

وهو فى هذه الفقرة لا يحتج فقط على اختزال الحزن الجليل ليصبح عـَرَضـا عابرا مثل البرد أو الصداع، وإنما يشير ضمنا إلى أن الحزن الحقيقى ليس فى متناول الفاحص النمطى (الطبيب عادة) فهو يشبهه مثل حزن القمقم فى عمق بحر الضياع، وهو يعلن فى الوقت ذاته ما يفرضه هذا الحزن الجاثم من شلل عاجز: “وإيه مستطاع”؟

ثم ننتقل إلى مزيد من عينات أعراض الاكتئاب المتنوعة، كما وردت بأبعادها وتفاصيلها فى الرباعيات، فنرى السلبية والتسليم، وهو يعبر عنهما بتجسيد موقف التسيير حتى يكاد يختفى الاختيار تماما، ونلاحظ أن هذا ليس موقفه الوجودى على إطلاقه، وأيضا قد يتراءى وجه شبه فى هذا الموقف التسليمى، مع أبى العلاء أو الخيام، ولكنه لا يقلدهما (2) فهو لا يحتج على المسئولين عن وجوده (هذا جناه أبى)، كما أنه لا يهرب من واقعه بالاغتراف من لذة يعرف زيفها، ولكنه يواجه حقيقة الوجود العارية؛ فيسلم نفسه لها غير راض ولا ثائر؛ حتى يبدو سلبيا لأول وهلة.

لكن عمق الرسالة التى يبلغنا إياها تقول غير ذلك، حين نتذكر أن تحديد جانب من الرؤية حتى غاية أعماقه (من منظور جشطالتى)، هو الخطوة اللازمة للتبادل مع نقيضه (تبادل الشكل مع الأرضية)، حتى يمكن أن يكون تمهيدا لأن يقفز هذا النقيض إلى مقدمة الاختيار، فصلاح  إذ يعلن الاستسلام بهذه الصورة القصوى، يكاد يمهد للإيحاء برفضه:

مـُرغم عليك ياصبح مغصوب ياليل

لادخلتها برجليَّه، ولا كان لى ميلْ

شايلنِّى شيل دخلت أنا فى الحياة

وبكره حاخرج منها شايلنى شيلْ

فى حدة الاكتئاب يوجد عرض يسمّى “الشعور بتغير العالم من حول المكتئب”، حيث يشعر بتغير إدراك الكون والناس (3)وصلاح يقول فى ذلك:

والناس مهمّاش ناس بحق وحقيق

كذلك هو يرى، فى نوبة الاكتئاب: كيف أن كل شىء، مهما تنوعت صور جماله وتجليات لغاته – قد صار إلى سواد – وهو إذ يحس بالحزن فى كل ما حوله، فى الناس جميعا، فعيون الناس هى الحزينة، على الرغم من جمالها، أو ترحيبها أو شقائها، ولا يـَخْـفَى ما فى هذا من “إسقاط” شامل:

أعرف عيون هيَّا الجمال والحسن

واعرف عيون تاخذ القلوب بالحضن

وعيون شقية وقاسية وعيون كئيبة

وباحس فيهم كلهم بالحزن

ثم إنه قد يعزو (أو يـُسْـقِط بلغة الدينامية النفسية) ضيقَه وضجره إلى ما يراه من حزن فى عيون الناس الذين ينظرون إليه، والرائع فى هذا الحدس الفنى أنه قد جمع بين ما يسمّى أفكار الإشارة (التى تصل أحيانا إلى ضلالات الإشارة) (4) وبين إسقاط الحزن. بمعنى أن المكتئب – عادة – ما يكون شديد الحساسية فيتصوّر أن الناس يشيرون إليه، فى حين أنهم لا يفعلون، ولكنّه لا يعزو ذلك إلى حزنهم، أما صلاح فقد كثّـف إسقاط الحزن، حتى يشعر هو أن الناس تشير إليه إشفاقا، أو  مشاركة.

إيش تطلبى يا نفس فوق كل ده

حظك بيضحك وانتى متنكده

ردِّت قالت لى النفس: قول للبشر

ما يبصوليش بعيون حزينه كده

وهو يشرح، أيضا، فى هذه الرباعية، كيف أن الاكتئاب يحيطه، دون أى مبرر ظاهر، فحظه يضحك له، وأمانيه قد تحققت جميعا أكثر مما تمنّى، لكن الحزن لا يتركه، وهو فى قمّة ما يبرر سعادته ورضاه،  وعادة ما يزعم الأطباء أن هذا من ضمن المحكات التى تدل على أن الاكتئاب قد وصل إلى درجة مرَضية، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فانقضاض الاكتئاب فى قمة لحظة السعادة -هو من ناحية – إشارة إلى عمق العلاقة بين هذا وذاك، ومن ناحية أخرى، هو مألوف من منظور ثقافى حين يحرم السعيد نفسه من التمادى فى الضحك أو الفرحة، وهو على قمتهما قائلا: “اللهم اجعله خيرا”.

ثم إن فى هذه الرباعية إضافة تشير إلى احتمال أنها تتضمن جانبا ثالثا (غير الإسقاط، وغير إظهار انقضاض الاكتئاب فى قمة الفرح)، وهو أن الإنسان لا يمكن أن يسعد حقيقة وفعلا، إذا ما حقق كل أمانيه، وسعد بحظه من الحياة، فى حين أن الناس فى هـَمٍّ مقيم، إذ لا يمكن أن تكون سعادة الفرد أصيلة ومطلقة فى حين أن من حوله يعايشون الألم أو الحرمان أوالقهر، فعيون الناس الحزينة هنا ليست كذلك نتيجة لإسقاط اكتئاب صلاح عليها فقط، وإنما – أيضا – لأن فى الحياة ما يستحق الحزن، فهو فى قمة فرحته، لا يستطيع أن ينسى ذلك.

ويزيد الاكتئاب، وتصبح الحياة بلا مبرر ولا معنى، ويرى أن الهم والملل مشترك بين الحيوان والإنسان، لأنها الحياة هكذا، وهو لا يجد مبررا حتى للانتحار، وهذا من أعمق درجات الاكتئاب؛ حيث يستسلم الإنسان، ولايقدر على أى شيء بما فى ذلك إنهاء حياته.. ولا يجد معنى لأى شىء حتى للتخلص من اللامعنى، فيقول: 

الدنيا أوضة كبيرة للانتظار

فيها ابن آدم زيُّهْ زى الحمار

الهم واحد والملل مشترك

ومفيش حمار بيحاول الانتحار

وأحدّ أشكال الاكتئاب، يظهر فى شكل الإفراط فى السخرية اللاذعة التى تكون عدمية (أوإعدامية)،  نرى ذلك حين يسخـَر صلاح حتى من الطير فى السماء، ويذكّــره بالموت والعفن اللذين ينتظرانه، وكأن صلاح من فرط اكتئابه يرفض أن يرى كائنا حيا مخدوعا بالحياة؛ فالطير مهما طار مزهوا باختراقه السماء، وبالسباحة فى الأعالى، هو كائن له نهاية لو أدركها لهبط إلى جاهين، وإلينا، يشاركنا أحزاننا فى انتظار المصير المحتوم: فى الطين طعاما للدود، وإن كان الأمر لم يقتصر على التخويف المألوف من أن يأكلنا الدود فى القبر، بل إنه رسم صورة أبشع. حين جعل الطير – وجعلنا ضمنا- نمص الدود كما يمصّنا الدود، هذا تصوير أقسى وأرعب، فمن ناحية هو ينبهنا إلى ما يمكن أن يسمى وعى الموت (وليس فقط الوعى بالموت)، حتى فى القبر. ومن ناحية أخرى، فإنها تذكرة ضمنية ساخرة بأن هذا الطير المغرور لن يجد فى القبر إلا الدود ينتظره ليعرف قيمته.

ياطير ياطاير فى السما طظ فيك

ما تــفــتكرش ربنا مِصْطفيك

برضك بتاكل دود وللطين تعود

تمصّ فيه ياحلو، ويمصّ فيك

وهنا، أيضا، إشارة إلى وهم غرور الإنسان بالتفوق؛ حين يصل الأمر إلى أن يتصوّر أنه يقف على قمة هرم الأحياء جميعا، فى كل أنحاء الكون، بل إن الكون مخلوق من أجله، وإذا كان كوبرنيكس قد كسر هذا الوهم من حيث إعادة تحديد موقع الأرض كوكبا تابعا متواضعا، فإن الإنسان لم يستطع بعدُ أن يمارس فضيلة التواضع بشأن نفسه واصطفائه ومركزيته فى الكون عامة، وصلاح جاهين ـ هنا ـ يبشر أيضا، ولو بطريق ضمنى، بثورة كوبرنيكسية بشرية، من خلال هذا الإبداع الجميل.

…………….

(ونواصل مع صلاح أيضا فى “كيف  الخلاص” الأسبوع القادم)

 

[1] – المقتطف من كتاب  “رباعيات ورباعيات”  (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017)  والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط

[2] –  انظر الفصل الثانى، وقارن بالخيام.

[3]  –  من أعراض هذا النوع من الاكتئاب، عرض يسمّى “الإحساس بتغير الذات”  depersonalization أو “تغير الواقع المحيط “derealization.

[4] –  عـَرَض أفكار الإشارة Ideas of Reference   يعنى شعور المريض أنه محطّ أنظار الناس، بدرجة أكبر من الواقع، ولكن قد يصل الأمر إلى اعتقاد راسخ بأن ذلك يحدث فعلا، وأنه يترتب عليه مترتبات أخرى، مما لا يمكن تصحيحه أصلا، ويسمّى حينئذ ضلالات الإشارة Delusions of Reference..

 

admin-ajax-41admin-ajax-51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *