الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حوار مع مولانا النفّرى (114) ومازلنا فى موقف المحضر والحرف

حوار مع مولانا النفّرى (114) ومازلنا فى موقف المحضر والحرف

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 10-1-2015   

السنة الثامنة

العدد: 2689

حوار مع مولانا النفّرى (114)   

ومازلنا فى موقف المحضر والحرف

مقدمة:

لو أردنا أن نستوعب موقفا واحدا من مواقف مولانا بحقه، إذن لما انتهينا أبدا، فهذا هو موقف “المحضر والحرف” يشدنى إليه للأسبوع الثالث على التوالى، ولا أجدنى قد أحطت ببعض بعض ما ينبغى أن أحيط به.

 فى الأسبوع قبل الماضى حاولت أن أتعرف على “الحرف” أكثر مما وصلنى قبلا، لأن مولانا كان فى هذا الموقف مباشرا فى وصفه، وحتى تصنيفه وربما توظيفه،

 وفى الأسبوع الماضى فوجئت بأن “الإنسان معنى”، وبرغم علاقتى بالمعنى، وإصرارى على أن كل أدوات التواصل، بل وبرامج البقاء هى مُسَخَّرَةْ لخدمة “المعنى” أساسا، وأن أى حرف لا يحتوى معناه لا يستأهل البقاء ولا حتى الاستعمال، إلى أننى فوجئت بهذا التكريم بأن الإنسان نفسه هو “معنى” الأمر الذى أفرحنى بالإنسان والمعنى معاً.

ثم أفاجأ اليوم اليوم بترتيب آخر للحرف، فى نفس الموقف، يقول مولانا أنه:

وقال لى:

أوقفت الحرف قدام الكون،

وأوقفت العقل قدام الحرف

وأوقفت المعرفة قدام العقل

وأوقفت الإخلاص قدام المعرفة

فالترتيب إذن هو: الإخلاص قدام ، تليه المعرفة، يليها العقل، يليه الحرف، وبكل استغراب: يليه الكون!

ليكن ولنبدأ واحدة واحدة:

الجديد فى ذلك هو أن يأتى الإخلاص الذى لم يخطر لى قبلا أنه يمكن أن ينضم إلى وسائل الكشف عن طبقات الوعى فى هذه السلسلة، وهو يتقدم المعرفة، أما أن تأتى المعرفة قدام العقل فهذا ما لم استغربه، خاصة بعد أن تحدد دور العقل المنطقى الحسابى الخطى (1) بشكل جعله ينزل قسرا من عليائه ويكف عن وصايته على سائر عقول الوعى الأخرى وخاصة العقل البيولوجى والعقل الاعتمالى الوجدانى، كذلك قبلت موقع الحرف فى آخر قائمة برامج الكشف، فتصلنى رسالة أن الحرف أعجز عن أن يترجم حتى نشاط هذا العقل الظاهر الطاغى إلى ما يمكن التواصل به والانتفاع به بحقه، فيظل العقل متقدما على الحرف، وعلى الحرف أن يترجم ما يستطيع فى حدود قدراته.

أما أن يأتى “الكون” فى آخر القائمة، ولا أقول فى ذيلها، فهذا ما أوقفنى أراجع كل ما ذهبت إليه، اللهم إلا أن تكون كلمة “قدّام” هنا تعنى أمرا آخر غير التفضيل والهيراركة، فربما كانت تعنى هنا: “أمام” وليس “فوق”، وهنا يصلنى احتمال أن الحرف بقصوره – مع ضرورته – يمكن أن يمثل ساترا بيننا وبين الكون، وهو يقع أمامه فيحول دون تناغمنا مع إيقاع هارمونية الكون بما للحرف من دور فى الاختزال والترميز.

ربما!

لكن هل يجوز أن نستعمل نفس الكلمة “قدّام”: مرة لتدل على التقدم والتفضيل وأخرى لتدل على الحجب والستر.

ولم لا؟ فالشعر يحتمل كل جديد.

نرجع إلى الإخلاص وكيف يأتى قدام المعرفة ، بل كيف يكون على سلم هيراركية وسائل المعرفة أصلا؟ رحت أبحث عن أصل الإخلاص، وتوقفت طويلا أمام تسمية الصورة الكريمة المشرقة الهادية “قل هو الله أحد، الله الصمد..” تسميتها بسورة “الإخلاص”، فهل يا ترى هذا هو الإخلاص الذى وصلك يا مولانا فيما قاله لك وهو بذلك قد أوقفه قدام المعرفة؟ إن كان ذلك كذلك فهو كذلك، فما أروع أن يكون توحيد الله الصمد، الذى لم يكن له كفوا أحد، هو الطريق إلى معرفة من نوع أرقى وأبقى،

 لكن ثم إخلاص آخر عثرت عليه، ولم أكن أفهمه قبلا، وهو أن نخلص ديننا، لا أن نعرف ديننا فقط، أو أن نتبع ديننا، أو نخلص لديننا، ولكن أن “نخلص ديننا”، هكذا مباشرة، شعرت من الآية الكريمة التى أوردت هذا التعبير أن أخلاص الدين هو السبيل للانضمام إلى جمهور المؤمنين بعد التوبة، حتى لو كان ما قبل التوبة ليس إلا النفاق والزيف “..إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً”، مرة أخرى إذا كان هذا هو الإخلاص فهو أعمق وأرقى من المعرفة، و هو لا يحتاج إلى عقل يشرحه ويبرره، ناهيك عن استغنائه أصلا عن الحرف، فالإخلاص لغة: “أمانةٌ، وبرُ، وصلاحٌ ، وصدق، ووفاء، وطاعة، وولاء، وتمحيص من شوائب الشرك والرياء”، فهل يا ترى هذا كفيل بأن يسبق كل من المعرفة والعقل والحرف؟

ولكن من قال أن هذا التريب هو نفى للأدنى لحساب الأعلى؟ الأرجح أنه احتواء الأعلى للأدنى دون الاستغناء عنه، فالبدء بالإخلاص يجعل للمعرفة قيمة تدعمه وتكمله، واحترام المعرفة يكرم العقل  لو تناغم معها فلا يعود يحتكر كل المجال بحذلقته ومنطقه، ثم يأتى الحرف وسيلة التوصيل والتواصل، وأيضا يمكن أن نحترم هذا الترتيب أكثر إذا تصورنا العكس:

فلو جاءت المعرفة بدون إخلاص، أو أتت فوق الإخلاص إذن لبدت محدودة مقيدة  مهما شملت وتجاوزت قدرات العقل الظاهر

ولو جاء العقل بدون المعرفة أو منافسا لها حتى الاستبعاد، فهو الجفاف والغربة، بل واحتمال الاغتراب

وأخيرا لو جاء الحرف منفصلا عن كل من العقل والمعرفة والإخلاص، إذن لأصبح مفرغا ليس فقط من معناه، ولكن أيضا من وظيفته

هكذا يا مولانا تتصالح مستويات كشف الوعى وتتضافر إليه بما قاله لك فقلته لنا.

آسف يا مولانا، فما اعتدت التفسير، لكننى اضطررت إليه،

وما زال فى نفس الموقف ما يغرى بالعودة إليه الأسبوع القادم.

[1] – وهو ما يعنيه “العقل” عادة فى الاستعمال الغالب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *