الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف الوجدان واضطرابات العواطف (57) طيف الاضطرابات الوجدانية المتعلقة بالخوف (بقية)

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (57) طيف الاضطرابات الوجدانية المتعلقة بالخوف (بقية)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 11-1-2015   

السنة الثامنة

العدد: 2690  

 الأساس فى الطب النفسى

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (57)

ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (20) 

اضطرابات الوجدان (العواطف)

عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (17)

طيف الاضطرابات الوجدانية المتعلقة بالخوف (بقية)

(الرعب، والهلع، فزع الترقب، الرهاب، المزاج التوجسى، مزاج الاستغراب)

  مقدمة:

يبدو أن طيف الوجدان، بكل تشكيلاته هو فى سوائه واضطرابه اكثر اتساعا مما تخنقه الألفاظ التى توصفه وتصنفه، فما بالك بالأعراض التى توشمه أو تختزله، المهم سوف أحاول أن أنهى اليوم موضوعا لا ينتهى بأن أعدد بإيجاز ما تبقى من طيف الخوف، بعد أن تناولنا الخوف ذاته، ثم القلق، وذلك كما يلى:

11-1-2015_1

1- الرعب‏: Terror‏  هذا اللفظ غالبا لا يستعمل لتسمية عر ض مرضىّ لأسباب كالتى ذكرناها فى الحديث عن “الخوف” سابقا، ولكن استعماله فى سياق مرضى، يشير عادة إلى شدة الخوف، وللتذكرة فهو – مثل الخوف – يشير إلى ‏وعى ‏محدد‏ ‏بخطر‏ ‏محدد‏، ‏مع‏ ‏يقين‏ ‏بأن‏ ‏الخطر‏ ‏محتمل‏ ‏فعلا‏، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏دون‏ ‏تمييز‏ ‏مصدر‏ ‏هذا‏ ‏الخطر‏ ‏تحديدا‏‏، ‏وهو‏ ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏إلى ‏الخوف‏ ‏العادى ‏مع‏ ‏فارق‏ ‏الدرجة‏ ‏والعجز‏ ‏عن‏ ‏تحديد‏ ‏المصدر‏، أو ربما تحديد مصدر أقل بكثير من أن يثير كل هذا الخوف، ولعل كلمه “روْعِ” باللغة العربية تشرح طبيعة هذا “الرعب”، وربما تفرقه عن الخوف العادى.

2- الهلع‏: Panic ‏تطلق كلمة “هلع” فى السياق المرضى على نوع من الخوف الحاد ‏المنقـّضّ‏، ‏النوْبِى (1) ‏عادة‏، ‏ ‏ويصاحب‏ ‏هذه الحدّة المفاجئة‏، ‏ ‏مصاحبات‏ ‏أتونومية‏ ‏دالّة‏ ‏وخاصة‏ ‏خفقان‏ ‏القلب‏ ‏والشعور‏ ‏بالاختناق، وكتمة التنفس، كما يصاحبه ‏ ‏شعور‏ ‏باقتراب‏ ‏الموت‏ ‏كأنه‏ ‏واقع‏ ‏حالا، وكثيرا ما أقول لمريض هذه النوبات مداعبا، وهل “مت فى أحدى هذه النوبات أبدا؟”، فيبتسم – مرغما أحيانا– وهو ينفى ذلك، أو يحتج على سؤالى، وفى كثير من الأحيان أكتب له ضمن تعليمات العلاج السلوكى والمعرفى أنه “مس11-1-2015_2موح الخوف، والهلع، ودق القلب (لأنه يعلن استمرار الحياة)، وكتمة النفس (لأنه لا يستطيع حتى بإرادته أن يمنع نفسه من الدخول إلى رئتيه، فهذه وظيفة خالقهما ورحمته)، وأضيف أن كل هذا المسموح هو على مسئوليتى (مسئولية الطبيب، وهو أمر تسمح به ثقافتنا) ثم قد أضيف أيضا لبعض ممن تزايدت ثقته بتعليماتى: أن هناك أمر آخر مسموح به، ولكن ليس على مسئوليتى لأنه من اختصاص ربنا، وأضيف بعد تساؤله أو بدونه “..أنه مسموح الموت وقتما يشاء سبحانه” فهو تعالى لن يستأذننى إذا جاء أجله أو أجلى، فيضحك المريض غالبا فى عز ألمه ويدعو لى بطيبة بطول العمر!!، وحين يأتى فى الاستشارة ، أداعبه قائلا أنه لم يستعمل كل السماح  فى الوصفة الأولى، بما فى ذلك أنه لم يمت، ويتواصل العلاج المعرفى بما تسمح به علاقتنا فى ثقافتنا.

3- فزع‏ ‏الترقب‏:  Apprehensionوهو‏ ‏نوع آخر من الخوف، لكنه يوجه عادة إلى مثيرات الخارج المتعددة خاصة المتحركة، سواء كان ذلك تعبيرات وجه من يحدثه  أو حركته، أو إغلاق باب حجرة الكشف فجأة، أو رنين هاتف، وهو يتنقل من مؤثر خارجى إلى مؤثر خارجى مبديا فزعا شديدا من أى منها، ‏وعادة ما ‏ ‏يبدو‏ ‏المريض‏ ‏مترقـِّبا‏ ‏الخط11-1-2015_3ر‏ ‏من‏ ‏أى ‏اتجاه‏ ‏ومن‏ ‏كل‏ ‏مصدر‏ (‏أى ‏حركة‏ ‏أو‏ ‏لفتة‏ ‏أو‏ ‏صوت‏ ‏أو‏ ‏تغيير‏)، ‏وينبغى ‏تمييز‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الفزع‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏الذى ‏أسميناه‏ ‏القلق‏ ‏العام‏ ‏العائم‏ (2) حيث‏ ‏أن‏ ‏الخوف‏ ‏فى ‏الأخير‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏مصدر‏ ‏غير‏ ‏محدد‏ ومتموج المسار (‏مجرد‏ ‏توقّع‏، ‏أو‏ ‏هاجس‏ ‏داخلى) ‏فى ‏حين‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏فزع‏ ‏الترقب‏ ‏يكون‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏أى ‏شيء‏ ‏وكل‏ ‏شيء‏ ‏كل أو معظم الوقت، وعلى الرغم من أن الخوف هنا يكون موجها لأى مثير خارجى، إلى أن مبعثه غالبا يكون  تحريك لمحتوى الداخل دون تمييز لهذا الداخل، لذلك نقابل هذا النوع من الخوف فى بداية الذهان غالبا، وقد يختفى بعد استمرار مسار الذهان استقرارا سلبيا عادة، أو إذا أجهضت مسيرة الذهان القادم بعلاج مبكر.

4- المزاج‏ ‏الشاكّ التوجسى: ‏وهو‏ خوف ‏قريب من النوع السابق، لكنه يتمثل فى الفكر والهواجس أكثر مما يظهر فى السلوك المتلقت المترقب، وعادة ما يصاحبه درجة جسيمة من سوء التأويل لأغلب المعلومات التى تصله من الخارج، حتى الإشارات والحركات العابرة غير المقصودة، وهذا عادة يكون سمة من سمات الشخصية البارانوية ، ويظل سوء التاويل قابلا للتصحيح نسبيا، لكن سرعان ما يعود ثانية بدرجة أو بأخرى، لنفس موضوع الشك أو لغيره،  ويصاحب كل ذلك درجات من الخوف تتناسب مع ما يصاحب سوء التأويل من احتمال الأذى من مصدر بذاته، أو شخص معين، وأحيانا من كل المحيطين، أو من أى شخص كان، وعموما فى بعض الحالات قد يصل ‏هذا‏ ‏الترقب‏ ‏فسوء‏ ‏التأويَل‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏اليقين‏ ‏المبنى ‏على ‏حدة انحراف‏ ‏المزاج‏ ‏حتى الشك العام، والمطلق،‏فيستحق‏ ‏أن‏ ‏يوصف‏ ‏باعتباره‏ “المزاج‏ ‏الضلالى” Delusional Mood   (نشرة 2-11-2014).

11-1-2015_4

5- الرُّهاب‏: ‏هو‏ ‏خوف‏ ‏مبالغ‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏موضوع‏ بذاته  ‏أو‏ ‏مثير‏ ‏محدد‏ ‏تماما‏، ‏وثابت‏ ‏غالبا‏، ‏وهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الخوف‏ ‏ يتكرر‏ ‏بظهور‏ ‏المصدر‏ ‏أو‏ ‏تذكره‏، ‏مثل‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الأماكن‏ ‏المرتفعة‏، ‏أو المغلقة‏ ‏القذارة‏، ‏أو‏ ‏العدوى..‏إلخ‏، ‏ويكون‏ ‏عادة‏ ‏مصاحب‏ ‏باضطرابات‏ ‏أوتونومية‏، ‏فإذا‏ ‏كان‏ ‏قاصرا‏ ‏على ‏محتوى ‏التفكير‏ ‏بأقل‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الخبرة‏ ‏المعايشة‏ ‏والمصاحبات‏ ‏الإكلينيكية‏، ‏فإنه‏ ‏قد‏ ‏يسمى ‏الرهاب‏ ‏الوسواسى Obsessive أو الاجترارى Ruminative ، وفى بعض الأحيان قد ينشأ هذا الرهاب من مجرد تذكر المثير المخيف، وكثيرا ما يصاحبه أفعال قهرية لتجنبه أو التغلب عليه، وهنا ينقلب تقريبا إلى اضطراب رهابى وسواسى قهرى، فإذا كان الرهاب مرتبطا بالخوف من العدوى، أو من القذارة، فقد يصاحبه غسيل  قهرى لليدين، أو للملابس، أو للجسم بشكل قد يصل إلى إعاقة جسيمة وعملية فى محيط العلاقات أو العمل على أن هناك نوعا شائعا نسبيا فى ثقافتنا متصل بهذا النوع من الخوف، وإن كان غير مرتبط بمثير محدد أو فكرة بعينها، فهو يتعلق بموقف عام من11-1-2015_5 جماعة الناس والمجتمعات، ويسمى هذا النوع الرهاب الاجتماعى‏ Social Phobia ، ويصاب به الأشخاص ذوو الميول الانطوائية (التى تصل أحيانا إلى سمات الشخصية الشيزيدية Schizoid personality)، ولكنه قد يرتبط أيضا بخبرات خاصة مر بها المريض، مثل أن يكون قد أحُرج فى موقف معين أمام غرباء، وخاصة فى مواقف علنية لم ينجح أن يعيشها كما هو  مطلوب أو كما يتوقع، ثم يدخل فى حلقة مفرغة من الخوف مع تكرار مثل هذه المواقف خاصة إذا تكرر الحرج، وتثبت الفزع فالانسحاب، وهكذا

6- مزاج‏ (‏انفعال‏) ‏الغرابةmood  Strangeness‏: كدت أتراجع عن تضمين طيف اضطرابات الخوف لهذا النوع من الدهشة المصاحبة بالتوقع والتغير واحتمالات الإيجابية، إلى أننى وجدت أنها ، مثل سائر أنواع الوجدان الأخرى ينبغى أن نبدأ بتقديمها باعتبارها وجدان طبيعى بل وإيجابى، ولا يصح أن تعتبر اضطرابا أو عرضا أو مرضا إلى إذا توفرت فيها نفس الشروط السالفة الذكر من حيث الشدة  والإزعاج لدرجة الإعاقة، وقد يكون مفيدا أن أوضح رأيى فى هذه المقدمة وأنا أثبتها بين “الدهشة” و”الجـِدّة” و”الخوف”.

ابتداء أربط هذه الظاهرة بعاطفة “البهر” Orientation  التى شرحناها فى البداية كأول وجدان يظهر على الطفل حديث الولادة، (نشرة 8-9- 2014 من عاطفة “البهر” إلى تخليق الإبداع)،حيث قدمت الفرض الذى ربط هذا الوجدان بتطور الكشف المعرفى حتى الإبداع على الوجه التالي:

بمجرد خروج الطفل من بطن أمه تواجه حواسه، وخاصة البصر، ما لم يسبق لها مواجهته، فتظهر فى عينيه أساسا وفى وجهه عموما، وفى جسده أحيانا بعض مظاهر هذه المواجهة مما اعتبروه أول انفعال عاطفى للرضيع حديث الولادة، وأن هذه العاطفة الأساسية – البهر- هى مزيج من الوعى والمعرفة والوجدان، وهى تقوم بوظيفة معرفية وجدانية بقائية، وتتطور مع النمو إلى تشكيلات متصاعدة، ثم تتطور هذه العاطفة إلى ما يمكن أن يسمى وجدان  الدهشة، والعاطفة – البهر – تتطور، إلى حب الاستطلاع، إلى الاستكشاف إلى المخاطرة الإبداعية ، إلى فرص الجدل إلى قدرات التشكيل وإعادة التشكيل، وفى الأحوال السوية: تتكرر هذه الدورات  فى إيقاع دورى فى كل دورات الإيقاع الحيوى اليوماوى، والإبداعى، وفى حالة ضيق مساحة السماح، وفشل ضبط الجرعة ، تتحول المسيرة  سلبا إلى عواطف الخوف، والرعب والهلع والتوجس، بدرجات قد تصل إلى الإعاقة، فهو المرض.

Cartoon Character Shame Monster on Grey Gradient Background. Vector EPS 10.
Cartoon Character Shame Monster on Grey Gradient Background. Vector EPS 10.

أما بالنسبة لتمادى هذا الوجدان حتى المرض فإنه عادة ما يظهر هذا الشعور بالغرابة باعتباره شكوى مرضية حين يشكوا  المريض من عرض الشعور ‏ ‏”بتغيّر‏ ‏الذات” Depersonalization، ‏أو‏ ‏تغيّر‏ ‏العالم‏ من حوله، Derialization وهذا – كما ألمحنا سابقا أيضا. ‏ ‏يتعلّق‏ ‏بوظائف‏ ‏نفسية‏ ‏مختلفة‏ ‏تساهم‏ ‏فيه‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏فمن‏ ‏ناحية‏ ‏هو‏ ‏مرتبط‏ ‏بتغيّر‏ ‏نوعى ‏فى ‏الإدراك‏: ‏سواء‏ ‏إدراك‏ ‏الذات‏، ‏أو‏ ‏إدراك العالم من حوله، ومن ناحية أخرى هو مرتبط بهذا الوجدان، وجدان البهر عند الطفل، ووجدان الدهشة عن اليافع، ووجدان الخلّق عند المبدع، ويسارع الأطباء، بتسمية هذا الشعور باسم عرض تغير الذات، حين يقول الشخص ” أنا حاسس إنى أنا مش انا”، أو ” أنا بابص للدنيا حواليـّا أحس إنها اتغيرت”، فى حين أن هذا الشعور هو كثير التواتر عند الأسوياء فى فترات أزمات (أو حتى مراحل بدون أزمة) النمو، وخاصة فى أزمة المراهقة، حيث ثبت فى كثير من الأبحاث الانتشارية أن حوالى 60 % من المراهقين يمرون بهذا الشعور دون أن يعدوا ضمن المرضى.

كالعادة علينا أن نقرر متى يكون هذا الشعور مرضا ؟ قلنا إذا أزعج جدا أو أعاق الحياة العادية، لكن هناك ع11-1-2015_7لامات يمكن أن تساعدنا لتحديد هذا التعميم ، فنقول:

 يعتبر هذا الشعور قد وصل إلى حد المرض برصد العلامات الآتية:

  • أن يصل الأمر إلى خوف من هذا التغير لدرجة عدم التعرف على الذات، أو إسقاط ما يسمى بصورة الذات بعد تشويهها فى المرآة، وأيضا بما قد يصاحبه من الخوف من فقد السيطرة أو الجنون.
  • قد يصل الأمر ليس إلى الشعور بإبدال الذات بل إلى محوها وهو ما يقال عنه هلوسة سلبية تتجسد أحيانا فى المرآة حين ينظر فيها فلا يرى وجهه.
  • قد يمتد هذا الشعور إلى مجالات أخرى غير الوجدان فيصبح يقينا أنه لم يعد هو، لدرجة الشكوى أحيانا أنه استبدل بشخص آخر، وقد يمتد التفسير إلى ما يتناسب مع بعض ثقافاتنا الفرعية، مثل أن الجان أبدلوه 11-1-2015_8أثناء النوم.
  • قد يتحول الشعور (الوجدان) بفكرة ثابتة تصل إلى درجة الضلال خاصة إذا تعلقت الفكرة بتغير الآخرين، وخاصة الوالدين، فكثيرا ما تشكو المريضة أو المريض من أن والدتها مثلا ليست أمها، وقد لاح لنا تفسير ذلك فى بعض الحالات بأن الحبل السرى النمائى الوجدانى بينها وبين أمها لم يعد يوصل لها هذا الرباط الذى يثبت هذه العلاقة الوالدية.

هذا، وإذا كان هذا الشعور مجرد إعلان لاحتمال بداية ذهان نشط فإنه قد يتلاشى بسرعة مع العلاج المبكر كما أنه عادة يختفى إذا تطورت العملية الذهانية إلى ذهان صريح مستقر.

[1] – النوبى: فى نوبات

[2] -Free floating anxiety

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *