نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 6-5-2015
السنة الثامنة
العدد: 2805
مقالات قديمة!! (ثقافة وثقافة أخرى!! 4 من 7)(1)
حضارة بديلة! كيف؟(2 من 5)
من يحكم على من؟ وبأى المقاييس؟
حين نتحدث عن الحضارة (لا عن المدنية) يقفز سؤال مبدئى يقول: من الذى يحكم على من؟ ثم ما هى المحكات التى نحكم أو يحكمون بها؟
إن خدعة الترادف الخادع بين المدنية والحضارة، بين التقدم التقنى والإنجاز الإنسانى جعلت أصحاب الرأى والنقض والقول الفصل: هم من يمتلكون أدوات أدق، وصوتا أعلى، وإعلاما أكثر اختراقا، ورطانا أكثر لمعانا، فراحوا يوحدون المعايير بما يهمهم، ثم راحوا يصدرون الأحكام على كل العالم كما يشاؤون. يعطون هذا الشعب فى مادة الديمقراطية ”تسعة على عشرة”، وتلك الجماعة فى ”جدول ضرب حقوق الإنسان” “سبعة على عشرة”، ومن خلال هذه الدرجات التى تصدر ممن عين نفسه حضرة ناظر مدرسة الحضارة العالمية، ومن خلال هذه الأحكام يمكن أن يُـسمح لهذا بدخول نادى العولمة والمعلومات، ويـمنع ذاك من الانتظام فى طوابير خدم النظام العالمى الجديد، وإذا لم يحصل شعب أو حكومة على درجة النجاح بهذه المقاييس أنزل درجة أو درجات من على سلم الحضارة حتى يتوب ويرتدع.
نحن لا ننكر أنهم حققوا إنجازات عملية ومادية وعلمية وتقنية ينبغى احترامها، واحترامهم بسببها، لكن هذا لا يبرر استسلامنا لمقاييسهم على طول الخط، إن إعادة النظر فى تلك الأحكام بهذه المقاييس التى وضعوها هم هو واجبنا وحقنا فى نفس الوقت. وما دمنا نشكك فى أحقيتهم فى الجلوس على كرسى الحكام طول الوقت، ومادام تحيزهم قد ظهر فى مجالات كثيرة كثيرة وخاصة عندما تمس مصالحهم من قريب أوبعيد، قليلا أوكثيرا، ماداموا كل ذلك كذلك، فما هو البديل؟
نفحص الأمر واحدة واحدة:
أولا: أين نقطة البداية فى مسألة الحضارة والتحضر هذه؟ هل امـتـلك الإنسان أدواتها أولا ثم تحضر بها، أم أنه إختار أن يتحضر وهو يصعد سلم الوعى البشرى فراح يخترع لها أدواتها ؟
هذا سؤال تصعب الإجابة عليه إن لم تستحل. ذلك لأن نقطة بداية أى مسار هى مسألة تقع عادة فى الماضى، ونحن لا نعرف الماضى بشكل يسمح لنا بتحديد نقاط البداية وخاصة حيث يكون التاريخ وجهة نظر، والتناقل ملتبس، ومع ذلك فالأرجح أن يكون الإنسان لا الأدوات هو نقطة البدء. إن الحضارة مواكبة للوعى وللتخطيط وللدراية الفائقة، وهذه كلها هى صفات الإنسان الذى أكرمه الله بشرف المسئولية وامتحنه بقدر حمل الأمانة. فاخترع أدواته لتسهل عليه مهمته وتؤكد أحقيته لما اختاره الله له، ثم إنه راح يستعمل هذه الأدوات فيزداد قدرة ويزداد مسئولية، فيخترع أدوات أقدر وهكذا. إن علينا أن نرصد سلوك الإنسان ونوعية وجوده قبل وبعد تعداد كم أدواته وقدرتها. وبهذا فمن حقنا مهما ضعفت إمكانياتنا أن ننظر فى ماهية وجودنا لعلنا نستأهل الريادة أو المشاركة الإيجابية دون انتظار إذنهم الذى لن يمنحونه لنا أبداً طواعية.
ثانيا: هل يمكن أن تتجلى مظاهر الحضارة وعلاماتها فى فرد دون المجموع الذى ينتمى إليه؟ هذا غير وارد عادة إلا للأنبياء ورواد النقلات الثورية، إذ لا يمكن أن يوجد فرد متحضر جدا فى مجتمع متخلف جدا. نفترض أن شخصا من العالم الثالث أو الرابع سافر ودرس وتأدب ورطن برطان العالم الأول حتى حذق كل مهاراتهم فى الأداء والعلاقات والتذوق والتوجه، ثم عاد إلى عالمه الرابع أو الرابع عشر، فأفاء الله عليه من نعمه ما جعله يقتطع جزءا من وطنه يقيم عليه بيتا يمارس فيه كل ما عاد به من قيم ودماثة ونظافة وتجمل. ثم إنه علّم ذويه وآل بيته ما تعلم عند السابقين اللامعين فانضبطت حياته بشكل يتفق مع ما انبهر به، لكن على بعد خطوات من عشه المتميز، تجد كل ما هو عكس ذلك. هل نعتبر هذا الشخص متحضرا؟ إنه بالرغم من الهوية المثبتة على جواز سفره، ورغم عودته، ورغم حسن نيته، هو ليس ممثلا لناسه، وبالتالى فلا يمكن أن نأخذ سلوكه هذا علامة على درجة حضارة ناسه ومجتمعه، ولا حتى على درجة حضارته.
لا يوجد شخص متحضر فى مجتمع غير متحضر، اللهم إلا إذا حَمَل هم ناسه ليل نهار، ثم عمل على أن يأخذ بيدهم إلى حيث هو أو إلى حيث ينبغى، أخطأ أم أصاب، نجح أم فشل.
على النقيض من ذلك: إن سلوك فرد واحد، أو مجموعة أفراد، قد يدل على درجة تحضر من ينتمى إليهم وبالتالى فإن ثمة علامات حضارية، وأحداث دالة، كانت فى صالح حقيقة تحضرنا رغم ضعف إمكاناتنا: خذ مثلا الحادثة المشهورة التى كانت سببا أساسيا – ضمن أسباب كثيرة – لبداية تفكير روجيه جارودى فى حضارة أخرى غير تلك التى أتى منها وكان منتميا لها. حادثة رفض الجنود الجزائريين المسلمين أن ينفذوا الحكم عليه بالإعدام، لأن دينهم – الإسلام-ينهاهم عن ذلك، على الرغم من أن رئيسا لهم قد أمرهم بتنفيذ هذا الحكم الذى عدوه مخالفا لدينهم. وصل هذا السلوك إلى جارودى على أنه يمثل الحضارة التى ينتمى إليها هؤلاء النفر من الناس. وصل إليه أن حضارتهم الأساسية كانت أعمق وأرسخ من أوامر رؤسائهم، فتجلت فى هذا الفعل الجسور الذى استقبله جارودى باعتباره إعلانا عن نوعية ما ينتمى إليه هؤلاء الناس.
هذا الجندى الذى يعرض نفسه للخطر والحساب العسير وهو يمارس نبل إنسانيته التى استلهمها من تعليمات دينه هو إنسان آخر يمثل حضارة أخرى.
أخلص من هذا مرة أخرى إلى أن الحضارة هى سلوك إنسانى يتجلى فى وعى أغلب أفراد مجتمع ما، مع التسليم بوجود استثناءات هنا وهناك.
وفى نفس الوقت فإن مظهر حياة وسلوك المجموع يمكن أن يكون علامة على موقف ونوع حضارة المجتمع الذى ينتمى إليه الأفراد وعلى هذا فإنه يمكن أن يقاس المستوى الحضارى – كما يحدث عادة – بالإنجاز العام والأدوات القادرة، ومن ذلك:
(1) العمران وليس فقط تشييد البنيان (ناهيك عن التطاول فى البنيان).
(2) تجليات الإبداع فى التشكيل والاختراع، وخاصة بالنسبة لوفرة ما هو متاح للناس أكثر مما هو معروض فى المتاحف،
(3) استعمالات إنجازات العلم والتكنولوجيا فى الفعل اليومى ,
(4) توفير الاحتياجات الضرورية لكل الناس،(أغلب كل الناس)، ومن ثم توفير الوقت للإبداع والإضافة. (يزعم أرنولد توينبى أن الحضارة تبدأ حين يجد الناس فائضا من الوقت لصنعها، لا أوافقه تماما وإن كنت أحترم رأيه).
إلا أنه قد يتوفر كل ذلك، ثم يثبت أن مجتمعا ما يتمتع بأكثر من ذلك لكنه ما زال متوحشا أو لعله زاد توحشا وقسوة وظلما وغطرسة.
تعلمنا من إسرائيل الكثير من مثل هذا، والحمد لله على كل حال. وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله لكم فيه خيرا كثيرا.
كنا نشك فى أسيادهم، على الجانب الآخر من المحيط وأنهم قد أخطأوا الطريق إلى الحق رغم تمدنهم وإنجازاتهم، كنا نتصور أن الأيام التى يداولها الله بين الناس سوف تعطينا حقنا فى الوقت المناسب، ولم نكن نتمادى فى سوء الظن أن هؤلاء الناس لا ينتمون إلا إلى أنفسهم، وأن غرورهم بإنجازاتهم قد صور لهم أنهم قادرون عليها، فألهو الإنسان والآلة، ووضعونا نحن أدنى من الحيوانات التى يرفقون بها، وأقل احتراما من الآلة التى ينتجون بها ما يسوّقونه لنا فنستهلكه، كل هذا ونحن نرجح سوء ظننا بهم. فإذا بهم يرشقون فى وعينا قبل أن يزرعوا على أرضنا هذا النموذج المصغر من وجودهم ـ اسرائيل ـ فنكتشف حقيقة مايراد بنا، جمعوا الخرافة التى يدعون أنها جزء من دين مُنزل مع غطرسة القوة التى يعتبرونها تفوقا، حتى أصبح هذا الوجود المزروع قسرا يمثل جماع الخرافة، والقوة العمياء، والتأله الآلاتى، والاغتراب النشاز.
زرعوها على أرضنا باعتبارها رأس الحربة التى يقفزون عليها إلى ما ظنوه الجولة الأخيرة من الحروب الصليبية، فإذا بها خازوق دق فى عمق وعينا، وبدلا من أن يتسحب لزجا حتى يقضى علينا ونحن مخدرون ننتظر مصيرنا المحتوم، أفاقتنا الصدمة تلو الصدمة إفاقة جعلت شكنا فيهم يقينا، وإذا بنا فى مواجهة تساؤل يقول:
هل يمكن أن نكون أهلا لحمل الأمانة ونحن نستسلم لما يراد لنا، ويراد بنا؟
قفز التحدي: إما الانتحار قبل أن يصل الخازوق إلى غايته . وإما أن نحافظ على أعلى حالات اليقظة والألم جميعا، حتى يحق الله الحق على أيدينا، ويرد كيد المعتدين.
ومع ذلك فإن المقاييس التى فرضوها علينا تقول: إنهم قد بلغوا قمة ما يسمى إنجاز المدينة أو المدنية، فهل هذه هى قمة الحضارة التى يطمح إليها الإنسان ؟ هل هذا هو النموذج الذى نطمح أن نكونه ونحن نلهث وراء أسيادهم؟ هل الحضارة هى نفى الآخر، وإزهاق الأنفس بلا جريرة ولا حتى حرب، وهدم البيوت، وتشويه المعلومات بإعلامهم الأقبح والأخبث من رصاصهم وقنابلهم؟
كتبت يوما شعرا يدافع عن القتل حين يحدث فى المبارزة وجها لوجه، باعتبار أنه شرف الصراع خاصة لمن معه الحق. بينت فيه أن القتل ليس قتلا إلا إذا كان بغير نفس أو فساد فى الأرض قلت: “القتل فعل فارس حتما يموت إن ظلم”، لكننى رفضت من قديم قتلا أخبث وأسفل، ذلك القتل الذى يمثله إعلامهم المغرض المضلل. هو قتل جبان، قلت فيه مكملا “…لكن دس السم فى نبض الكلام: قتل جبان” – نقرأها مجتمعة:
القتل فعلٌ فارسٌ- حتما يموت إن ظلم
لكنَّ دسَّ السُمِّ فى نبضِ الكلام: قتلٌ جبانْ
إننا حين نقيس أحوال إسرائيل بعدد مراكز الأبحاث، وعدد ما ينشرون من مقالات علمية، وعدد من يشترك منهم فى مؤتمرات عالمية، وكم ما يمتلكون من أدوات، وأسلحة، لابد أن نضعها على قمة الدول المصدرة لهذه الأشياء القادرة على استعمالها، المؤهلة للتقدم بها - قال يعنى حضارة- لكننا حين ننظر إلى مايفعلونه بهذه الأشياء نتساءل: أهذا هو المثل الأعلى الذى ينبغى أن نلهث لنكونه؟
إن إسرائيل التى تملك كل هذه الأدوات المدنية، والإنجازات تفتقر إلى أبسط محكات الحضارة من حيث حمل هم كل الناس، واحترام إنسانية الآخر، واحترام الحياة من حيث هى حياة. إن الجمع بين أغبى خرافات تشويه التاريخ وأعمى آلات الحرب، وتسخير هذا وذاك لتطهير الأرض عرقيا من أصحابها: هو أوضح دليل على مدى التخلف الذى يمثلونه، بل هو إنذار ببداية العد التنازلى نحو الانهيار الكامل.إن إسرائيل إذا كانت هى الممثلة للحضارة الغربية ربما تحمل مقومات هدمها لأنها تلبس مسوح المدنية وتتحدث عن أوهام حضارة لم تعد صالحة للاستعمال الآدمى.
فإذا كان الأمر كذلك، فينبغى ألا نتقبل الخدعة. ألا نجعلهم الخصم والحكم.
ينبغى أن ننتبه إلى ضرورة البحث عن مقاييس أخرى غير ما يقيسوننا به، مقاييس تنقذنا من أحكامهم، وقد تنقذهم من أنفسهم.
ما هى – إذن – المقاييس الأعدل التى يمكن أن نقيس بها ما هو حضارة؟
لا بد من خطوط عامة، وموقف مبدئي.
لكن لا بد من محكات يومية وسلوك ظاهر.
وهذا هو موضوع الحديث القادم
[1] – نشرت فى جريدة الوطن السعودى بتاريخ: 5/12/2000