الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حالات وأحوال (3) من محمد طربقها إلى محمد فركشنى إلى محمد دلوقتى (3) المقابلة الأولى (1 من 2)

حالات وأحوال (3) من محمد طربقها إلى محمد فركشنى إلى محمد دلوقتى (3) المقابلة الأولى (1 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين26-10-2015

السنة التاسعة

العدد: 2978   

 

حالات وأحوال (3)

من محمد طربقها إلى محمد فركشنى إلى

محمد دلوقتى (3)

المقابلة الأولى (1 من 2)

استهلال:

لا أعرف كيف كيف يمكن تتبع حالة واحدة قد يمتد نشرها على مدى أسابيع (أو  أكثر) دون أن يفقد المتابع الخيط فى كل مرة، بدأت أنا شخصيا هذه المحاولة وإذا بى أرجع إلى الحلقتين الأولى والثانية، فأجد أنه من العسير أن  أكتب هذه الحلقة وما بعدها غدا دون الإشارة إلى ما تم نشره، تصورت أنه يجدر بى أن أكتب قبل كل حلقة “موجز ما نشر” مثلما يحدث فى نشر بعض الروايات المسلسة فى المجلات أو الصحف، وإذا بى أواجه صعوبة الإيجاز مهما كان ضروريا.

اطمأننت أخيرا حين تذكرت أن من أعرف من الأصدقاء المتابعين هم ندرة الندرة، وأن بعضهم سوف يبذل جهدا بأن يرجع أولا بأول إلى ما سبق نشرة، والآخر قد يطبع المنشور سابقا على ورق ليتمكن من متابعته، وهذا قد يكفينى كالعادة، ذلك لأنه قد وصلنى من كل تاريخى أن المهم هو تسجيل الخبرة النابعة من ثقافتنا، والمكتوبة بمنهج مختلف، تسجيلها لمن؟ لمن يهمه الأمر: اليوم أو بعد ما لا أدرى من زمن، والأهم تسجيلها لربى حتى أستطيع أن أجيبه عندما يسألنى عن ما كتمت بغير وجه حق.

ألا هل سجّلت اللهم أعـِنّـى (فى حدود إمكانياتى وطبعى)

وعلى ذلك فالمطلوب ممن يتابعنا أن يرجع – ما أمكنه–  إلى ما سبق نشره أولا بأول، قبل أن يقرأ الحلقة الجديدة، بارك الله فيه، والله المستعان

معنى وهدف عرض المقابلة الأولى:

نحن نتصور أن المقابلة الأولى ينبغى أن تقتصر على جمع المعلومات الأساسية عن المريض، للوصول إلى تشخيص أولا وقبل كل شىء، وأن العلاقة بين الطبيب (المعالج) والمريض لا تستتب وتفيد إلا بعد وقت ليس قصيرا حتى يتم التآلف وتتعمق الثقة، وأن النَّفْسِمْرَاضِيَّةْ (السيكوباثلوجي) لا يمكن أن تتضح إلا بعد الحصول على معلومات تفصيلية، خصوصا فيما يتعلق بالأحداث السابقة الممتدة إلى الطفولة الأولى، وأن المريض الذى يمكن أن يقر فروض الإمراضية التى هى أساس التخطيط العلاجى لابد أن تكون له خلفية ثقافية نفسية حتى يمكن أن يتقبل ويشارك فى أعادة التشكيل ونقد النص البشرى (له وللمعالج معا) .

أرجو من خلال هذه النشرة، وربما ما يليها أن يثبت أن كل ذلك ليس من البديهيات، وأنه يحتاج إلى إعادة النظر، وأن ثقافتنا الخاصة، وخبرتنا من واقع الممارسة، تطرح أحتمالات وفروضا  تناقض كل هذا الشائع، مما قد يجعل ممارستنا أكثر نفعا واتساقا مع قدراتنا وواجباتنا.

النَّفْسِمْرَاضِيَّةْ الأقرب لثقافتنا تنبنى على أسس ثقافية لها ما يقابلها فى العلم الأحدث فالأحدث، ومن ذلك (1) أن التركيب البشرى هو تركيب متعدد الكيانات فى واحد، (2) وأن هذه الكيانات دائمة التفكيك والجدل فى نبض حيوى على مسار النمو، (3) وأنها قابلة للتفكيك أكثر فى الحلم وبدء الإبداع، (4) وأنه إذا حدث ذلك عشوائيا بعيدا عن الحلم والإبداع ظهر ما يسمى المرض النفسى (باستثناء المرض العضوى التشريحى)، بما يتطلب استيعاب هذه الحركة نقدا، (العلاج النمائى) للإسهام فى إعادة تشكيلها.

وبالتالى فإن إهمال أو تهميش فكرة “التعدد” النابض هذه يبعدنا عن ثقافتا، فنضطر لاختزال المريض إلى تركيبة كيميائية (ياليتها بيوكيميائية) اختلت مكوناتها، ومن ثـَمَّ فهى  تحتاج إلى تعديل هنا أو تصحيح هناك بزيادة هذه المادة أو إنقاص تلك، وهذا طيب على مستوى التسكين والتأجليل، إلا أن عامة ناسنا يقرّون بوعيهم الجمعى، وحدسهم الفطرى أن المسألة ليست كذلك بالضبط، وأن ثمة كيانات (بل كائنات) تؤثر فى تماسك واحدية أى منـّا، فيظهر المرض، (مرة أخرى بعد استبعاد الأمراض العضوية التشريحية التلفية)، وبالتالى فإن ناسنا يشعرون أنهم  أحوج ما يكونون إلى اللجوء إلى من يُقّرِ مثل ذلك ولو على أساس خاطئ، وضار، بل وخطر فى كثير من الأحيان.

 هكذا تنتشر ممارسات العلاجات الشعبية (وكذلك الشعوذة) لأنها تتعامل مع كائن بشرى وقع تحت رحمة كائنات من خارجه تؤثر سلبا فى واحدية تواجده، (تسمى هذه الكائنات عادة الأسياد أو الجان أو ماشئت)  فهذه الكائنات التى تنشط ضد الواحدية البشرية تؤدى إلى شق الواحدية الفردية، والتعامل مع التعدد باعتباره “كائنات” خارجية (وليست “كيانات” تركيبية)، وتحاول أن تجمع واحدية زائفة مغتربه عشوائيا أو إيحائيا أو قهرا، بما يترتب على ذلك من مضاعفات ومخاطر.

الذى تقدمه هذه الحالة – ومثلها إن شاء الله- هو محاولة قبول الفكرة الأساسية التى يتبناها  الوعى الشعبى أكثر، وهى الفكرة  الأقرب إلا التركيب البشرى، لكن هذه المحاولة لا ترجعها إلى تأثير “الكائنات” الخارجية القادمة من المجهول فى الخارج، (الجان والأسياد) وإنما يقوم التعامل مع هذه الكائنات باعتبارها “كيانات” متعددة (مستويات وعى – حالات العقل) هى من صلب التركيب البشرى كما خلقه الله، فهى كيانات داخلية، وليست خارجية، وبالتالى يمكن استيعابها، وتجميعها، وإعادة تشكيلها: جدليا، ونبضا حيويا، بحيث يستعيد المريض واحديته، إلى غاية المسار كما خلقه الله.

هذا وغيره هو الذى سوف نتابعه فى هذه الحالة ومثلها، مع ملاحظة أن تقديم ذلك لا يصل إلى  المريض بالشرح النظرى أو التفسير المباشر، وإنما من خلال فن تنشيط الوعى البينشخصى فى العلاقة العلاجية الثنائية، وأيضا تنشيط الوعى الجمعى من خلال العلاج الجمعى.

وأخيراً: دعونا نرى كيف يمكن أن يتم رسم كثير من هذه الخطوط العريضة منذ المقابلة الأولى، وهو ما سوف يكون أساسا لخريطة الطريقة العلاجية المبدئية حسب الاتفاق العلاجى، كما سنرى (لمن يستطيع معنا صبرا).

المقابلة

فى كلية الطب قصر العينى ، قسم الأمراض النفسية، قدم الطبيب المقيم (هشام) تاريخ وشكوى وأعراض حالة “محمد” كاملة، وهو ما يسمى “ورقة المشاهدة” Sheet، مما قد نعود إلى الاقتطاف منه أكثر فأكثر مع تمادى عرض الحالة، وذلك فى حضور زملائه المبتدئين فى القسم (الأطباء المقيمين عادة) وبعض أطباء الدراسات العليا، ومن شاء من أطباء الامتياز.

موجز المشاهدة هو ما نشرناه فى عدد الثلاثاء الماضى، ولن نعيد نشره كما أشرنا فى المقدمة، كذلك لن أنشر المقابلة كلها لأنها استغرقت 31 صفحة من الحجم الكبير A4, وأرجوا أن يكون ما سوف أقتطفه منها كافيا لتوصيل الرسالة.

هذا، وسوف أقوم بالتعليق التدريبى، والاستنتاج العلمى (النَّفْسِمْرَاضِي غالبا) ببنط مختلف، وهامش أكبر، على كل فقرة أشعر أنها تحتاج إلى ذلك، وبرغم الإطناب  والتداعى، فإننى أرجو أن يكون فى ذلك مايفيد الطبيب والمعالج الأصغر بما يحقق الغرض من العودة إلى هذا الباب –حالات وأحوال- أمَلا فى فائدة علمية مباشرة.

صباح الخميس: 13-7-2006

يدخل المريض محمد بعد أن أنتهى الطبيب المقيم د. هشام من قراءة ورقة المشاهدة على الحاضرين، فيبادره د.يحيى قائلا:

د. يحيى: تعالى يا محمد صباح الخير، هو ده إجتماع دكاترة وعايزين نشوفك سَوَا، إنت عارفنى الأوّل ولاّ لأ؟

المريض: آه

د. يحيى: أنا مين؟

المريض: د. يحيى.

د. يحيى: عارفنى منين؟

المريض: د. هشام قال لى،

د. يحيى: قال لك يحيى مين؟

المريض: د. يحيى الرخاوى.

د. يحيى: أنا برضة عرفت إسمك من د. هشام، إنت الظاهر كنت نايم لحد دلوقتى مش كده؟

هذا التعريف المبدئى له وظيفة هامة، فليس من حق الطبيب

أن يعرف اسم المريض دون أن يعرف المريض اسمه، وعادة ما تبلغ المريض من خلال ذلك رسالة احترام مبدئى، وتقرير مبدأ معاملة المثل أثناء المقابلة.

وسوف نرى كيف يمكن أن يؤثر ذلك فى المقابلة بعد تطور الحوار إلى ماهو النَّفْسِمْرَاضِيَّةْ.

المريض: أنا كنت نايم آه وصحيت.

د. يحيى: صحى النوم، نستنّى شوية على ماتصحصح؟

المريض: لأ أنا صحيت.

د. يحيى: غسلت وشك؟

المريض: آه.

د. يحيى: هو كان مفروض نتقابل الاسبوع إللى فات، بس الظاهر إنك زوغت يعنى، حاجة كده.

المريض: آه، أنا تعبت من الجلسات، تعبتنى سبتها ومشيت على طول.

قسم الطب النفسى فى قصر العينى قسم مفتوح، يستطيع المريض أن يخرج منه دون استئذان، والمريض هنا تصرف  تلقائيا حين وجد أن ما يسمى “جلسات” (ويعنى جلسات الكهرباء : التى لا أسميها كذلك) تتعبه، وهذا قد يعنى أن توقيتها لم يكن مناسبا، فأنا لست ضد هذه الأداة الناجعة على طول الخط (أنظر: صدمة بالكهرباء أم تنظيم للإيقاع)، حوار حولها فى (نشرة 29-6-2008 استشارات مهنية)

د. يحيى: أنا هاقولك على طبيعة المقابلة دى، أنا دكتور كبير شوية، فى السن على الأقل، يعنى، وده إسمه علم وتعليم، يعنى  لقاء علمى، وتعليمى بس فى نفس الوقت إنشاء الله الناتج بتاعة يكون لفايدتك إنت أساسا، فا إحنا علشان العلم والتعليم بنقعد نراجع فى الكلام إلى إحنا بنصوره بالكاميرات دى (يشير إلى الكاميرات)، مش علشان التلفزيون بتاع الحكومة، ولاّ االى بيتذاع فى البيوت، لأ ده علشان العلم والتعليم، وعشانك قبل ده وبعد ده، فأنا باستأذنك ضرورى علشان أولا تتكلم قدام الدكاترة دول فى اللى انت عايزه بس، واللى مش عايز تتكلم فيه تشاور لى، وانا أحوّد بعيد عن اللى حاتشاور عليه، وبعد ده بنقعد نتناقش علشان مصلحتك وعلاجك، وده  هو أساس المقابلة دى وإنشاء الله بيصب فى مصلحتك أساسا زى ما قلت، وبعدين يمكن ينفع اللى زيك، وده فايدة  التصوير ده، موافق؟

المريض: ماشى.

هذا الإستئذان للتصوير والتسجيل شديد الأهمية، من الناحية الأدبية ومن الناحية القانونية، كما أن تعمية محل الإقامة  وأحيانا نوع العمل قد نلجأ إليه إذا لم يخل بالغرض العلمى وذلك حرصا على حق المريض فى سائر ما هو حقه.

د. يحيى: أنا مش هادخل فى أى تفاصيل إلا بإذنك، مثلا الحادثة اللى انت محرج منها، ياترى هى حصلت صحيح ولاهى جزء من المرض، يستحسن نأجل الموضوع ده، بس أقول لك من البداية إنى أنا كدكتور كبير يعنى شوية، كتير جداً من عيانينى يقولوا حصل كذا كذا كذا، فا أنا أقول ياربى ما يمكن هما زودوها شوية نتيجة  للوحدة والخوف، فكبرت معاهم، ولما بنعرف الحقيقة، ده بيفرق فى العلاج بجد.

المريض: هو شئ حصل معايا بس ما فضلش معايا علشان أنا مش كده.

د. يحيى: بصراحة أنا رأيى على حسب ما سمعت من د. هشام إنه محصلش، ومع ذلك ما دام انت قلته، فايبقى حقيقة بالنسبة لاستقبالك، وده كفاية عندى، مش ضرورى يكون حصل فعلا فى الواقع ولا لأه، المهم إنت استقبلته على إنه حصل

المريض: أنا شايفها أنا كده.

من حيث المبدأ، يفضل التعامل مع أعراض المريض بما فى ذلك ما يسمى ضلالات أو هلاوس على أنها واقع له قوة (واحترام) الواقع الخارجى، لقد وصلت إلى ما يؤكد لى أن الواقع الداخلى أحيانا يكون أكثر موضوعية من الواقع الزائف الخارجى، ومن البداية يظهر  هدف المعالج هنا أن يُطَمئن المريض أنه يحترم ما يعايشه  (وليس : يأخده على قد عقله إطلاقا)، وفى نفس الوقت يلمح  بأنه سيرجع لفحص الواقع الداخلى جنبا إلى جنب مع الواقع الخارجى، وهذا المدخل يسمح ومن البداية بما ذكرناه فى المقدمة بأن نرجع الكائنات الخارجية إلى أصلها باعتبارها كيانات داخلية، وأيضا قد يكون تمهيدا للتعامل مع الهلاوس والضلالات كواقع داخلى  فى الوقت المناسب، وهكذا يتراجع التفسير (أو الاتهام) الذى يتكرر من الأهل  وكثير من الأطباء قائلين للمريض بإلحاح أنه: “دا بيتهيأ لك، دا بيتهيألك”، ويزيد الاحترام للمريض، كما تتولد الثقة بقدر ما يؤمن الطبيب بما يقوله للمريض (بما فى ذلك واقعه هو الداخلى: – واقع الطبيب الداخلى والخارجى:  أنظر بعد)

د. يحيى: يبقى اتفقنا، الحقيقة حقيقة سواء حصلت برّانا، أو شفناها جوّانا، إنت  قلت  كلمة جيدة جدا: أنا شايفها أنا كده، يبقى شـَوَفـَاَنك هو المهم.

المريض: لدرجة إن أنا قاومت نفسى.

د. يحيى: يعنى إيه قاومت نفسك؟

المريض: قاومت نفسى إنى كمّلت جيش.

د. يحيى: تكميل الجيش ده لو حده يمكن يكون دليل على إنها ما حصلتش إلا جوّاك، يعنى حصلت فى استقبالك إنت، وتكميلك الجيش يجوز يدل على إنك راجعت نفسك، أو على إنك متفهم الواقع  بس الحكاية كبرت منك عشان كنت عايز تتجنب عقوبة أكبرمن إللى حصل بس، أنما لا تدل على شئ، مفيش إحتمال يامحمد يكون ده ماحصلتش، يعنى يمكن فيه إحتمال مايكونش حصل فعلاًَ، ومن كتر الخوف إتجسد لك  إنه حصل، إحتمال.

المريض: لأ حصل.

د. يحيى: أنا مش بدافع عنك، كده راجل وكده راجل، حصل غصب عنك، محصلش من حقك، بس عموما هى مخزونه جواك مأثرة عليك،  كده راجل وكده راجل، ولا يهمك، أنا مصدّقك تحت كل الظروف.

التصديق هنا، ينبغى أن يكون حقيقة وليس مجاملة، وهذا يحتاج من الطبيب أن يكون مؤمنا بوجود وتأثير واقعه الداخلى هو، مهما كان خقيا عليه، لكن عليه أن يواصل طول الوقت التفرقة بين التصديق وبين التسليم بموقع وضع خبرات المريض فى الخارج، وهذا لا يعنى  أن يواصل النفى طول الوقت، وإنما على الطبيب أن يهز الحقائق بطرح احتمالات أخرى ثم لا يفرض رأيه ولكن يطرح الاحتمالات والبدائل طول الوقت.

المريض: غصب عنى.

د. يحيى: ما يمكن ماحصلش من أصلهُ، باقول يمكن

المريض: آه.

د. يحيى: تانى مرة تقول آه بدلالة مهمة بالنسبة لى، كأنك ممكن تتقبل الفكرة إللى بقولها لك دى، ما هو يامحمد دى برضه علم وخبرة وجدعنة، أصل أنا صنايعى، ولا مش باين علىّ؟!

المريض: لأ باين

أنا أفضّل استعمال كلمة “صنايعى” على لقب “دكتور”، باعتبار أن الصنعة فن، وأستعملها بسهولة مع أولاد البلد مثل محمد لكننى أتحفظ فى استعمالها مع طبقات أخرى تجنبا لسوء الفهم أو الاستهجان أو الاستدراج إلى مناقشات ومجاملات بلا فائدة وقد بدا لى أنها أقرب إلى محمد باعتبار أنه:

د. يحيى: إنت كمان صنايعى شاطر.

المريض: كنت

د. يحيى: ومازلت،

المريض: كانوا بيحبوا ياخدونى معاهم فى الشغل، المعلمين الصنايعية بس دلوقتى خلاص

د. يحيى: ليه خلاص، “ياما قالت العين حبيبى ربنا يشفيه، ويطلع السوق ويخطر مثل عاداته”.

هذا جزء من موال يعرفه محمد غالبا، لأنه من ثقافته الفرعية  مباشرة ، والاستشهاد به قد  يقرب المسافة أيضا.

 المريض: مش باين

د. يحيى: ليه ؟

المريض: علشان التعب.

د. يحيى: هوّ انت تعبت ونخّيت ولا تعبت وتفوق؟!

المريض: ما أنا عايز أفوق.

د. يحيى: تفوق إزاى وإنت قاعد مبلّم كده، خد وإدى معايا فى الكلام علشان نوصل وتفوق، أنا مش قلت لك الكلام إللى إحنا بنعمله ده هايصب فى مصلحتك إنشاء الله، ومهما كان التعب فلازم أقول لك من الأول إنه  جزء من العلاج.

الشائع أن العلاج عامة، والعلاج النفسى خاصة هو للترييح،  وبرغم أن الراحة هى مطلب المرضى فعلا وحقهم، إلا أنه إذا اقتصر العلاج على ما يشيعه الأطباء  والإعلام عن ذلك فإننا لا نقدم إلا نوعا من التسكين، وهو مطلب مشروع، لكن العلاج المكثف، والمستلهم فكرة دوام النمو، لا يضع الترييح مطلبا أولا،  ولا مطلبا أوحدا، ويلاحظ هنا كيف أن الطبيب بيّن موقفه من البداية كما نلاحظ أن المريض برغم كل آلامه لم يرفضه كما يفعل كثير من المرضى، وأهاليهم، بل والأطباء.

د. يحيى: أنا خلصت أسئلتى الأولانية، إسألنى إنت بقى أى سؤال، أنا سألتك كفاية، إسألنى أى سؤال.

المريض: أى سؤال عن إيه؟

د. يحيى: عن إللى احنا فيه عن أى حاجة، أى سؤال، إستفسار، طلب، أى حاجة.

المريض: أنا كل إللى يهمنى، كل إللى أنا عايزه أرجع زى الأول.

د. يحيى: أقول لك على سر وتستحملنى زى ماقولت لك إن التعب جزء من العلاج.

المريض: آه

د. يحيى: أنا بقى عكسك، كل إللى أناعايزه إنك ما ترجعش زى الأول، قول لى ليه،

المريض: ليه.

د. يحيى: لأن اللى زى الأول هو إللى وصّلنا لكده، يعنى عايز ترجع كاشش، تسمع الكلام وتهرى نفسك وانت خايف منهم، تروح متكوّم لحد ما تنخ تانى، وساعتها تبقى إتنيلت أكتر، إن ماكناش أنا وانت والدكاترة يبقى هدفنا إنك تختلف عن الأول، ولو شوية صغيرين ، يبقى قلـّته أحسن.

المريض: بإذن الله.

د. يحيى: خدت بالك،ترجع زى الأول تبقى بتعرّض نفسك للى حصل تانى، ما ينفعش التلصيم ده، ماينفعش.

ابتداء من الآن، وكما لاحظنا سابقا، سوف يزيد إلحاح المريض “للرجوع: “كما كنت”! وسوف يحتد الخلاف مع المعالج الذى يصر أن تكون تجربة المرص فرصة للتغير، ومع أن هذه هى المقابلة الأولى، فلقد غامر الطبيب بإعلان الخلاف وتعميقه كجزء أساسى من التعاقد العلاجى.

المريض: آه، جايز إللى أنا فيه ده من كتر التفكير ومن كتر التعب النفسى.

د. يحيى: ماله ده بقى؟

المريض: هو إللى عمل فيا كده.

د. يحيى: بصراحة لا أنا فاهم التفكير تقصد بيه إيه، ولافاهم التعب النفسى تقصد بيه إيه.

المريض: يعنى من كتر التفكير فى الماضى إللى بيتعب.

الشكوى من التفكير شكوى شائعة فى مجتمعنا، أعتقد أكثر من غيرنا، حتى أننى تصورت أحيانا أننا ننشأ على أن مجرد التفكير هو إما عيب، أو مرض، أو حرام، كذلك فإن استعمال تعبير التعب النفسى يبدو اسعمالا فضفاضا يروج له الإعلام والأطباء طول الوقت، ومن المطلوب أن المريض حين يستعمل مثل هذه التعبيرات لانكتفى بها وإنما نتمادى معه فى الاستفسار حتى  نعرف قصده تحديدا.

المريض: الموضوع اللى فى الجيش لسّه  تاعبنى برضة، دمرنى

د. يحيى: ماشى ماشى، بس مش انا قلت لك إن الموضوع ده فيه فصال، انت مركـّز على موضوع واحد، ما هو كل المواضيع فى الجيش صعب وبهدلة

المريض: وفيه حاجات تانية فى الملكية.

د. يحيى: إيه بقى الحاجات إللى فى الملكية؟ زى إيه؟

المريض: بقيت اسمع صوت واحدة ست بتتكلم عليّا، وساعات تطلع أصوات مش هيّا، باسمعها فى ودانى

د. يحيى: وإيه يعنى؟ ما هو برضه ماهو  الواحد ممكن يسمع بودانه من جوه، شغلانة يعنى، مش الودان متوصلة لجوّة برضه؟

المريض: لأ من بره.

د. يحيى: ماهو الصوت ممكن يجى من جوه بس بتسمعه من بره حتى لو أصله جوه

نلاحظ أنه من المقابلة الأولى والطبيب يحاول أن يوصل للمريض ماهية “الواقع الداخلى”، وأن له دوره وشخوصه التى لا وسيلة لرصدها كما هى فى الداخل، فنجسمها فى الخارج، هذا علما بأننى لا أعتبر هذا حيلة نفسيه (ميكانزم إسقاط)، وإنما أرصده وأتعامل معه كواقع حى آخر نخطىء فى تحديد موقعه، وأحاول توصيل هذه المعلومة كحقيقة للمريض بصبر وإصرار، وهى عادة تصل إليه أكثر من الشخص العادى لو لم نتمادى فى النقاش والشرح.

وبعد

أتوقف الآن، لنكمل غدا علما بأننى لم أنته إلا من نصف المقتطفات التى تمثل نصف المقابلة، ما رأيكم؟ نكمل هكذا أم عندكم اقتراحات؟؟!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *