الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (18) الفصل الأول: “الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت”

تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (18) الفصل الأول: “الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت”

نشرة الإنسان والتطور

الخميس: 29-4-2021                                  

السنة الرابعة عشر                 

العدد: 4989

تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ)  (1)

وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”

 بقلم: “يحيى الرخاوى” واحدة واحدة (18)

الفصل الأول: الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت

الأصداء

‏18 – ‏العدل

ذهبت‏ ‏إلى ‏محام‏ ‏معروف‏ ‏بلا‏ ‏تردد‏، ‏ما‏ ‏أجمل‏ ‏صراحته‏ ‏حين‏ ‏قال‏ ‏لي‏:

‏ـ‏ ‏أنت‏ ‏صاحب‏ ‏حق‏ ‏ولكن‏ ‏خصمك‏ ‏أيضا‏ ‏صاحب‏ ‏حق‏ ‏

فقلت‏ ‏له‏: ‏عرضت‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏نحتكم‏ ‏إلى ‏شخص‏ ‏يكون‏ ‏موضع‏ ‏ثقتنا‏ ‏معا‏،

‏- ‏هيهات‏ ‏أن‏ ‏يوجد‏ ‏هذا‏ ‏الشخص‏ ‏فى ‏زماننا‏، ‏

‏- ‏لدى ‏خطابات‏ ‏مسجلة‏ ‏ستعرف‏ ‏منها‏ ‏المحكمة‏ ‏حسن‏ ‏نيتى، ‏

‏- ‏قد‏ ‏يطعن‏ ‏فيها‏ ‏بالتزوير‏ ‏

‏-‏الحق‏ ‏أنى ‏بريء‏ ‏مائة‏ ‏فى ‏المائة‏. ‏

‏-‏لا يوجد‏ ‏إنسان‏ ‏بريء‏ ‏مائة‏ ‏فى ‏المائة‏ ‏ليس‏ ‏الأمر‏ ‏بالمستحيل‏ ‏ألم‏ ‏تهدده‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏غضب‏ ‏بالقتل؟‏

– ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏لم‏ ‏يأخذ‏ ‏كلامى ‏مأخذ‏ ‏الجد‏ ‏

‏-‏بل‏ ‏قام‏ ‏باحتياطات‏ ‏كثيرة‏، ‏وزار‏ ‏الأضرحة‏ ‏ونذر‏ ‏النذور‏ ‏

فهتفت‏ ‏ضاحكا‏ : ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الجنون‏ ‏

‏-‏عليك‏ ‏أن‏ ‏تثبت‏ ‏أنه‏ ‏مجنون‏ ‏خاصة‏ ‏وأن‏ ‏محاميه‏ ‏سيحاول‏ ‏من‏ ‏ناحيته‏ ‏أن‏ ‏يثبت‏ ‏جنونك

‏ ‏فاغرقت‏ ‏فى ‏الضحك‏ ‏حتى ‏قال‏ ‏المحامي

‏- ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏ما‏ ‏يدعو‏ ‏إلى ‏الضحك

‏- ‏اتهامى ‏بالجنون‏ ‏مثير‏ ‏للضحك‏ ‏

‏-‏ بل‏ ‏إنه‏ ‏يدعو‏ ‏للأسي

‏- ‏لماذا‏ ‏ياسيدى؟!

‏- ‏الجنون‏ ‏يدعو‏ ‏للأسى ‏

‏-‏ طالما‏ ‏إنى ‏عاقل‏ ‏فلا‏ ‏أهمية‏ ‏للاتهام‏ ‏

‏-‏ ولكن‏ ‏عدم‏ ‏الاهتمام‏ ‏قد‏ ‏يعنى ‏الجنون‏ ‏نفسه

فسألته‏ ‏بذهول‏: ‏هل‏ ‏يداخلك‏ ‏شك‏ ‏فى ‏عقلى؟ ‏

‏- ‏بل‏ ‏إنى ‏على ‏يقين‏، ‏اختلافكما‏ ‏المزمن‏ ‏يدل‏ ‏على ‏جنونكما‏ ‏معا‏ ‏

‏- ‏لكنك‏ ‏أبديت‏ ‏استعدادا‏ ‏طيبا‏ ‏للدفاع‏ ‏عني؟

ـ‏ ‏إنه‏ ‏واجبي‏! ‏

وتنهد‏ ‏المحامى ‏من‏ ‏أعماقه‏ ‏وواصل

‏- ‏ولا‏ ‏تنس‏ ‏أننى ‏مجنون‏ ‏مثلكما‏.”‏

أصداء الأصداء

حين‏ ‏يلجأ‏ ‏محفوظ‏ ‏إلى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الحوار‏ ‏التصالحى، ‏أو‏ ‏التسوياتى، ‏يوفق‏ ‏أحيانا‏ ‏ولا‏ ‏يوفق‏ ‏أحيانا‏، ‏والحديث‏ ‏هنا‏ ‏ينقلنا‏ ‏إلى ‏الصراع‏ ‏الداخلى ‏العادى‏، ‏فالمتقاضيان‏ ‏هما‏ ‏واحد‏، ‏والتهديد‏ ‏بالقتل‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏نهم‏ ‏بالانتحار‏، ‏ومجرد‏ ‏الإزدواج‏ ‏الحاد‏ “‏هكذا‏” ‏هو‏ ‏الجنون‏، ‏لكنه‏ ‏جنون‏ ‏”حيوية‏ ‏التعدد”‏، ‏وليس‏ ‏جنون‏ “‏تفسخ‏ ‏التناثر”‏، ‏يؤكد‏ ‏ذلك‏ ‏اعتراف‏ ‏المحامى الهادئ‏ ‏بمشاركة‏ ‏متقاضيه‏ ‏هذا‏ “‏الجنون‏ ‏الطبيعي‏”، ‏بل‏ ‏إنى ‏استقبلت‏ ‏رؤية‏ ‏أخرى ‏رأيت‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏المحامى ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏كيانا‏ ‏داخليا‏ ‏ثالثا‏.‏

هذا الجدل‏ ‏بين‏ ‏الذوات‏ ‏المواجهة‏ ‏بعضها‏ ‏البعض‏، ‏هو‏ ‏بديل‏ ‏أحدث‏ ‏عن‏ ‏مفهوم‏ ‏الصراع‏ ‏الأقدم‏ ‏الذى ‏أكد‏ ‏عليه‏ ‏فرويد‏ ‏بين‏ ‏الذات‏ ‏والغرائز‏، ‏أو‏ ‏بين‏ ‏الضمير‏ ‏أو‏ ‏الأنا‏ ‏الأعلى ‏والهو‏ (‏أو‏ ‏الهي‏)، ‏هذا‏ ‏الجدل‏ ‏هو‏ ‏أمر‏ ‏طبيعى ‏على ‏مسار‏ ‏النمو‏ ‏للتكامل‏، ‏والوعى ‏به‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏حدس‏ ‏الإبداع‏ ‏هكذا‏ ‏يقربه‏ ‏منا‏ ‏ليؤدى ‏وظيفته‏ ‏فى ‏دفع‏ ‏النمو‏ ‏لتحقيق‏ “‏الواحدية‏”، ‏أو‏ ‏بتعبير‏ ‏أصح‏ ‏للسعى ‏نحو‏ ‏الواحدية‏ (2). بدون‏ ‏هذا‏ ‏الجدل‏ ‏المستمر‏ ‏ينقلب‏ ‏الحوار‏ ‏إلى ‏صراع‏، ‏وتستبعد‏ ‏بعض‏ ‏الذوات‏ ‏دون‏ ‏الأخرى‏، ‏مما‏ ‏يؤدى ‏إلى ‏جمود‏ ‏الوجود‏، ‏أو‏ ‏استاتيكية‏ ‏الصراع‏ (‏صراع‏ ‏فى ‏المحل‏).‏

الفرض‏ ‏هنا‏ ‏يقول‏: ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏التفكك‏ ‏للجدل‏، ‏والتباعد‏ ‏للعودة‏، ‏والتعتعة‏ ‏للتكامل‏ ‏هو‏ ‏عرض‏ ‏أمين‏ ‏لجدل‏ ‏عمليات‏ ‏النمو‏ ‏الحى‏، ‏و‏ ‏حين‏ ‏يصل‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏الوعى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تخلخل‏ ‏الواحدية‏ ‏السلوكية‏ ‏مؤقتا‏ ‏حتى ‏تستحق‏ ‏أن‏ ‏تسمى “‏جنونا‏”، ‏بمعنى ‏عدم‏ ‏اتساق‏ ‏تجليات‏ ‏السلوك‏ ‏فى ‏نسق‏ ‏واحد‏، ‏ثم‏ ‏تتوقف‏ ‏صفة‏ ‏هذا‏ ‏الجنون‏ ‏على ‏ما‏ ‏يخرج‏ ‏من‏ ‏عملية‏ ‏الجدل‏ ‏هذه‏، ‏هل‏ ‏يكون‏: “‏جنون‏ ‏حيوية‏ ‏التعدد‏”، ‏الذى ‏ينتهى ‏إلى ‏مستوى ‏أعلى ‏من‏ ‏النمو‏، ‏أم‏ ‏يكون‏ “‏جنون‏ ‏تفسخ‏ ‏التناثر‏” ‏إذاكان‏ ‏الناتج‏ ‏لهذا‏ ‏الجدل‏ ‏هو‏ ‏الإعاقة‏ ‏والتفسخ‏ ‏فالتناثر‏.‏

إن‏ ‏صح‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏، ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏كذلك‏، ‏وتصورنا‏ ‏أن‏ ‏محفوظ‏ ‏بحدسه‏ ‏الإبداعى ‏قد‏ ‏أطلق‏ ‏الصدى ‏ليتردد‏ ‏ما‏ ‏بداخلنا‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نخاف‏ ‏من‏ ‏جنوننا‏ ‏الذى ‏هو‏ ‏حفز‏ ‏نمونا‏، ‏فإن‏ ‏الحوار‏ ‏الذى ‏قدم‏ ‏به‏ ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏بدا‏ ‏لى ‏غير‏ ‏مناسب‏ ‏لأداء‏ ‏هذه‏ ‏المهمة‏، ‏فقد‏ ‏طال‏، ‏ودار‏، ‏وانحنى‏، ‏وعاد‏، ‏وفتـر‏، ‏وتراخى‏، ‏واشتد‏ ‏إلا‏ ‏قليلا‏ ‏حتى ‏وصل‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏برود‏ ‏الحياد‏.‏

فحضرنى ‏رفض‏ – ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ – ‏لم‏ ‏أجرؤ‏ ‏أن‏ ‏أعلنه‏ ‏دون‏ ‏تحفظ‏.‏

 

[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية  2018  – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net

[2] – مفهوم الواحدية Oneness ليس شائعا حتى عند المشتغلين بالطب النفسى، مع أنه جوهر عند المهتمين بماهية الإنسان من منظور نمائى حيث أن التعدد المبدئى (تعدد الذوات وتعدد مستويات المخ) يظل نابضا فى جدل النمو بهدف تخليق كيان واحد أكثر احتواء لأكبر عدد من هذه التنظيمات وحتى يحدث ذلك وهو لايحدث أبدا بصورة كاملة فى مسار الإنسان الفرد تتحق الواحدية – سلوكا – بأن يمسك قيادة التعدد كيان واحد يحرك  دفة الوظائف فى لحظة بذاتها ثم يتبادل مع كيان أخر – حسب الموقف الذى يتطلب قيادته، و يحتاجه – وهكذا.

admin-ajax (1)

admin-ajax

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *