الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول “الموت: ذلك الشعر الآخر” (5)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول “الموت: ذلك الشعر الآخر” (5)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 27-3-2024

السنة السابعة عشر 

العدد: 6052 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”

الفصل الأول

الموت: ذلك  الشعر الآخر (5)

 يختل مجرى العمر والأمل،

(لماذا ياصديقى؟؟)

دائرةٌ ملتاثة:

(عَجـّـلتَ بالنهاية؟)

تقضمُ فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام الجائعة،

(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)

ثارت أجنة الخلايا تصطرع“.

تعملقتْ فطرتك الأبيةْ

لم ترعَ عهداً، لا، ولمّا تنتظر

لــمْ نـقوَ بعدُ ياصديقى

(فيم العجالة والسام؟)

تقفز خلف الحدِّ، بعد العدِّ، تقتحمْ

ترجع نحو عشها اليمامةْ.

الأربعاء: 29 يناير 1986

 الساعة الخامسة وعشر دقائق (صباحا)

……………….

………………

كنت قد علمتُ بوصفى طبيبا  أن ثم تمزقا قد حدث أثناء العملية، تمزقا فى غشاء الأم الجافية المحيطة بالمخ، وأن ثمة كمّادة قد حُـشرت فيه حتى لايتسرب السائل النخاعى المحيط بالمخ، وأنّ قرار رفع هذه الكمادة متروك للجراح الكبير الأستاذ الدكتورعلى المفتى الحاذق المشهور، بعد أن يطمئن إلى التئام التمزق، أو حسب ما يرى، وقد رأى الجراح فى الصباح ابتهاج والدى لاستعادة سمعه، وتعجب حين انبرى والدى يناقشه فى السياسة. والدى كان يعلم علاقه د. على المفتى الطيبة بعبد الناصر، وعلاقة المرحوم أخيه أنور المفتى من قبله، ويواصل د. على الحوار فرحا بنجاح العملية معجبا ببداهة والدى وحجّتـه، مستبشرا خيرا بالحوار السياسى مع والدى رغم اختلافهما (!!)، ثم يجرى الغيار فى حجرة العمليات وما أن تـُزال الكمّادة حتى ينسكب السائل النخاعى فجأة بما لم يتوقع أحد، فيغفو والدى، فينام، فيغيب، ولا يصحوا أبدا.

يمر اليوم فالليلة، فاليوم والليلة وأنا بجواره أتصور فى كل لحظة أن الجرح سيلتئم، وأن السائل النخاعى سوف يتجمع من جديد، وأن صوته سيعود يحكى لنا الحكاية، تلو الحكاىة، كما بدا فى تلك الليلة الأخيرة، كنت وأخى ليلتها مثل طفلين يجلسان بجوار أبيهما يسمعهما حدوتة المساء، يسمعانها بشغف متجدد ولو كانت نفس الحدوتة، علما بأن أبى لم يحك لنا أطفالا حواديت أصلا، لكنه كان كثير الحكى لنوادره مع زملائه المدرسين فى المدرسة وخاصة إذا زين النادرة بشعر مرتَجل.

مازلت أذكر هجاء زميله الشاعر لزميل آخر معمم علّـق على معاهدة استقلال مصر سنة 6391 بأنها (مصر) ليست أهلا للاستقلال بعد، فقال زميل والدى الشاعر فى ذلك الشيخ الساخط على الاستقلال هجاء ما زلت أذكره بحروفه، قال:

خرِف الشيخ فَضَلاَّ     رام يعلو فتدلَّى

ماله وهو ابن مصر     ساءه أن تستقلا

مـــن لرجلى بقفاهُ      إنه يصلـح نعـلا

ويـُعجب أبى بالصورة الصارخة فى البيت الأخير، وأستنطقه ـ فى غيبوبته ـ أن يكمل لنا ما بدأ، ولكن شخيره ينتظم أكثر، فأنظر بتركيز خاص إلى موضع التمزق عله يختشى ويلتحم، فإذا بى ألاحظ شفتى أبى تتحركان برتابة وهو فى غيبوبة تتفاقم، لكن شفتاه تتحركان كما كان حين يستغرق فى عبادته، وقراءة ورده.

كنت أعلم من علمى الطبى أن القشرة المخية قد توقفت عن العمل بعد هذا الارتجاج وسكب السائل النخاعى فجأة، الا أنى كدت أميـّز ألفاظا معينة من بين شفتيه رجحت أنها “وامتازوا اليوم أيها المجرمون” فأتيقن من أن ما يمر بشفتيه الآن هى سورة يس، يتلوها بجذع مخه ليس إلا، والمحاليل المعلقة تساقط نقاطها نقطة نقطة كأنها المسبحة تنظِم ورده اليومى، وأجد نفسى وحيدا معه فأدعوا الله ألا يفعلها وأنا بجواره وحدى هكذا، لماذا؟ لست أدرى.

 أرجّح بعد مدة أنى ربما قد خِفت شعورا بالذنب نتيجة لعجزى!!، أو أن يتقمصنى لحظة انصرافِه دون اختيارى، أو أنى كنت خائفا من مواجهة صائدٍ ماهر مجهول يتربص بنا ولا أريد أن أعرف عنه أكثر من نتاج قنصه (الموت).

حقق الله رجائى. فى صباح اليوم الثالث، جاء أ.د. عبد المنعم حسب الله يتابع إفراز الكلى، وبينما هو ينظر إلى كمية البول المتجمعة أسفل السرير ليطمئننى، كنت أنا أنظر الى حركة نفس والدى.  وفجأة أقول له:”لكنّ نَفَسَه”، فيرفع أ.د. عبد المنعم رأسه ويعتدل بسرعة، يمسك بيد والدى، تتحسس أصابعه نبضه، ينظر لى بطيبة حقيقية.  “البقية فى حياتك”.

 أية بقية؟ بقية ماذا؟ 

أتذكر كل ذلك وأنا أجلس بجوار صديقى فى غيبوبته، أنظر فى نفسى فأجدنى أكبر سِنا، وأكثر خبرة، وأعرف مصيرا، ولكنى أيضا أكثر طفولة، وأخيـَب تساؤلا، وأبهر اندهاشا، وأعنف رفضا، أتساءل: لماذا لا يستجيب الـله لدعائى لصديقى؟ ولدعاء ابنتيه وزوجته؟ ولدعاء مرضاه؟ ولدعاء راعية الغنم العجوز التى تعمل فى بيته محتمية به من نفسها والناس، وهى لا تعدو أن تكون  قطعة من الفطرة لم تتشكل؟ لماذا؟

فإذا كان الله سبحانه لا يستجيب لكل هذا الدعاء فكيف نحسِبها إذن؟

ما هى المعادلة التى قد تحل لنا اللغز فيـما بعد مدى رؤيتنا؟

لماذ يطلب منا أن ندعوه، أستغفر الله، لماذا لا نعرف تلك الحسابات حتى نسلك الطريق الصحيح إلى اليقين، واذا كان والدى قد أنهى مهمته فسَتَرَنَا، وزوّجنا، وقام ليلهُ، وقرأ وِردهُ، وحكى حكايته، ودعى ربـَّهُ، ثم مضى، وإذا كانت خالتى قد عاشت بلا ولد ولا هدف (ظاهر لى)، ثم راحت بهدوء كما تمنت تماما، فلماذا يذهب صاحبى “هذا” الآن “هكذا” وهو فى قمة عطائه، وبداية جنيه لعائد تعبه ولشقائه، وهو فى تمام نضجه، وشدة حاجة الناس لعلمهْ؟

 لماذا الآن؟ ولماذا هكذا؟

وأضبط نفسى وقد مـُلئت بــ “لماذات” كثيرة، ولا أعرف لمن أوجه التساؤل: للموت؟ أم لخالق الموت والحياة؟ بل إنى ذات مرة ضبطت نفسى وأنا أوجهه لصديقى  الراقد فى غيبوبة الموت،  وكأنى أعاتبه لأنه يتركنا فيقسو علينا ـ هكذا ـ بذهابه، وأتذكر رثاء كتبته فى صلاح عبد الصبور، وقد التقيت به صدفة قبيل وفاته بساعات فى برنامج عن مسلسل “أديب” طه حسين، قلت أعاتبه.

“.. وحين تقسو إذ تموت وحدَك، تفرّقتْ قوافلُ الكلام،

 ماعاد يجمعها حداؤك الحزين”،

هل حقا أن حزننا على فراقهم هو احتجاج على انسحابهم؟

هل حقا نحن نتمنى ـ كما نزعم أحيانا مولولين ـ أن نغادرها معهم؟

وفى الحالين: أليست هى الاعتمادية عليهم هى التى تهوّل لنا ما سينقصنا بعدهم؟

وما ذنبهم هم يستمرون من أجلنا إذا كانوا رضوا أن يتوقفوا ها هنا؟

ولكن هل هم رضوا حقا؟

 ثم إنى أحسب أنها ليست كذلك بالضبط، فهناك جانب يقول: إننا نعاتب ونحتج ونهم بالرحيل معهم رغبة فى أن نستمر معا بغض النظر عن “من” يعتمد على “من”، أما سؤال “لماذا؟” فيبدو أنه أصيل فى علاقتنا بالرحيل الأخير، نقوله فيما يشبه الفلسفة أو التفلسف، ونقوله فيما يؤدى الى مزيد من التسليم للايمان بالغيب، ويقوله عامة الناس بغير التفكير فى هذا وذاك.

حين كنا أطباء مقيمين فى منزل نواب المنيل (59/1960) (صديقى وأنا ومضيفنا عاطف غندر فى أمريكا وآخرين)، كان المنزل يقع بالقرب من المشرحة، (مشرحة قصر العينى الشهيرة!! أقيمت مكانها ومكان منزل النواب هذا  كلية طب الأسنان الجديدة) . كنا نستيقظ على نداء منغم “ودا كان ليه؟ ودا كان ليه؟”  ثم يعلو النداء تدريجيا حتى يطغى على أرضية العويل والنحيب والصوات، نفس التساؤل “لماذا؟ لماذا؟” رحنا فى البداية نتشاءم  من النواح وخاصة أيام الامتحانات، حيث كنا نتطير من هذا العديد هكذا على الصباح. خاصة أيام امتحانات الدبلوم، ثم أخذنا نعتاده، ثم نستأنس به، ثم نستعمله فى مداعباتنا موجهين الإشارة والمحتوى إلى غير أصله، “ودا كان ليه: هذا السؤال الصعب فى غير المقرر”، “ودا كان ليه: ذاك الممتحِن السمِج المتحيز”.. ودا كان ليه: لـلزميل الذى أحب ولم ينل الوصال (اللى حب ولا طالش) وهكذا رحنا نألف الموت وأهازيجه حتى نسينا مغزى السؤال، وحتى المشاعر المواكبة لأهازيج الموت وعديده لم تعد تؤثر فينا، وربما كان لمهنتنا دور فى هذا التعود (أو التبلد) ومع ذلك فما أن نواجه الموت شخصيا حتى يبدوا لنا حدثا جديدا ليس كمثله شىء

 وهل أفعل أنا الآن مع صديقى حين أتساءل “لماذا؟”، هل أفعل أكثر من نسوة المشرحة وهم يردون “، دا كان ليه، ودا كان ليه؟”.

وأكتشف أن خطابى إلى صلاح جاهين حين عملها هكذا، كان كله عتابا ورفضا لموته، أكثر منه حزناً لفقده. كان عديدا لائما، رحت أقول له:”

يا صلاح، كان لسه؟

ماقدرتش تشرب شفطة كمان من ألم الوحده

ياصلاح مش بدرى؟

طب حتّه، طب حبّه، طب لأّه…..

كدهه؟ آه يانى.

طب روحْ.

لأ لأّه، ماتروحشى.

………………

……………..

ونواصل الأسبوع القادم  استكمال الفصل الأول من الترحال الثانى: “الموت: ذلك  الشعر الآخر”

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *