الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق”: الفصل الأول: “… وإلا، فما جدوى السفر؟” (6)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق”: الفصل الأول: “… وإلا، فما جدوى السفر؟” (6)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 19-4-2023

السنة السادسة عشر 

العدد: 5709

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]

الفصل الأول

وإلا، فما جدوى السفر؟ (6)

…………….

…………….

(ما زلنا) الجمعة 24 أغسطس 1984:

لاحت الحدود عن بعد، وتوقفنا عند آخر محطة بنزين، نموّن، ومحطات البنزين، مثل المقاهى، هى لخدمة الناس والسيارات. هى مقاه ومطاعم وخدمة متكاملة، وأحسب أن تقديم خدمات النظافة البشرية (الإخراج) هى حتمية فى مثل هذه الأماكن بحكم القانون، نظافة هذه الأماكن المخصصة لهذه الوظيفة العظيمة هى المقياس الدقيق لشعور الناس بالناس.أنت تقضى حاجتك وراء باب مغلق، فى مكان سوف تتركه ليدخله غيرك حتما، فهل تتركه كما وجدته، أو أفضل مما وجدته؟. أم كما تعرف وأعرف؟.

كنتُ كلما ثرت على النموذج الغربى للحياة، أحاول أن أذكّر نفسى بالخطأ المغرور هذا، فأصحبها لأشكُمها (كلمة عربية) بأن أذهب إلى مراحيض عامة توجد فى أول المنيل بالقرب من السنترال هناك، أمام محل المرحوم عم محمد حسن ‘سمكرى’ العربات، وأقول لنفسى: أليس هذا نحن؟. فلتعرف حدودك يا فتى (أنا الفتى!!) قبل أن تتمادى فى الهجوم على الخواجات “الذين هم”، فما دامت مراحيضهم أنظف من حجرات الصالون عند أكابرنا، فهم أسيادك يا فتى (أنا مازلت ذلك الفتى الغِرّ!!!)، فأوقفُ هجومى عليهم، إلى حين، أى إلى أن أتبين أننى لست “فتى”، وإن كنت غِرّآ، كما أتبين أن هذا ليس هو المقياس الوحيد لـلتقدم الحضارى، حتى لو كنت أهتدى فى بعض المساجد إلى “الميضة” بحاسة الشم، والعياذ بالله، فإننى أرفض ـ رغم كل ذلك ـ أن يكون الوضوء، الذى هو إعلان لضرورة تكرار النظافة، هو المبرر لكل هذه القذارة. لا ليس ذنب ديننا هذا كله، ولكنه التخلف، ديننا يؤكد على الإتقان والأمانة وإزاحة الأذى عن الطريق (وليس فقط فى المراحيض) وكلام كثير لا أريد أن أكرره، أشعر أن خجلا ما يجعـلنى أهرب من التمادى فى المقارنة، مقارنة، مقارنة، مقارنة، الله يخيبنى، بطّل. كفى!! الله!!!! (لم أقرأ رفاعة الطهطاوى. أحسن!)

 دخلنا محطة البنزين وعملنا كل ما تـتصوره. اشترينا ما قد نحتاجه فى أول بلد شيوعى سندخله فى رحلتنا (تذكّر التاريخ من فضلك)، ووجدنا كل شئ متوفرا، حتى ملء أسطوانة بوتاجاز المخيم الصغيرة. وحين اتجهنا إلى الحدود بعد حوالى نصف ساعة، وجدنا الصف قد امتد إلى أكثر من كيلومتر. انتظمنا فيه، وسرعان ما انتظم وراءنا من العربات مثلما هو أمامنا ـ على حد الشوف ـ وقالت ابنتاى الـلتان زارتا روسيا فى العام قبل الماضى (مايسة ومنى السعيد)، إننا لا بد أن نُخطرهم بكل ما معنا من عملات، وأن نحتفظ بورق تغيير العملة طول الوقت، و…. و… إلخ. فهمت كل ذلك وأدركت مغزاه، واستعددنا له بكل أمانة، فما نحن إلا عابرو سبيل، ولم يكن فى خطتنا البقاء فى يوغوسلافيا طويلا. ويطول الانتظار حتى تضطرب حساباتنا، فقد صرنا بين العصر والمغرب، ويتبين لأولادى معنى رخصة “الجمع والقصر” فى السفر، ويتناقشون فى هذه المسألة، ويكاد بعضهم يضيف تفسيرات عصرية، وشروطا جديدة تصعّب استعمال هذه الرخصة . يقول أحدهم مازحاً: لا جمْع ولا قصر إلا فى مخيم، فترد أخرى: أو على قارعة طريق.

 كان فى تصورنا ـ وحساباتنا المبدئية ـ أننا سنصل بلجراد فى اليوم ذاته، وتبيّنتُ ماكنت أعرفه من جديد، وهو أن مثل هذه الرحلات لا يحسب لها بعدد الكيلومترات تقسم على سرعة السير، وإلا أصبحت الرحلة هى السخف بعينه، فضلا عن أنها حسبة خاطئة أصلا.

أذكر أننى فى طريق العودة، سألت نادلا فى محطة بنزين فى أعلى جبال سان كلود برنار فى سويسرا عن المسافة بيننا وبين أيوستا، أول الطريق السريع، فابتسم وهو ينظر إلى سيارتنا وقال ساعة ونصف، أو أقل قليلا، قلت. له إننى أسأل عن الكيلومترات، فابتسم وصمت. وحين غادرت المقهى (الاستراحة) وجدت علامة قريبة تقول إن المسافة هى خمس وخمسون كيلو مترا، فتعجبت كيف نقطع هذا القدر الضئيل فى ساعة ونصف. ثم سرعان ما تبينت دلالة إجابة النادل بالساعات لا بالكيلومترات. ذلك أننا وصلنا أيوستا ـ دون توقف ـ بعد ما يزيد عن ساعتين بالتمام، كان الطريق ثعبانا يتلوى بين القمم،

أذكر بعض أهل بلدى حين كنت أسأل أحدهم عن “كم بينك وبين زفتا”؟ (مثلا).  فيجيب:” ثلاثة قروش “، فأدرك أن “كم” لـلعدد، وأن العدد الذى يهم أهل بلدى هؤلاء هو عدد القروش التى فى جيبه، لا عدد الكيلومترات، ولا عدد الساعات.

تتقدم قافلة العربات رويدا، تصل عربتنا إلى نقطة الحدود. ثـَمَّ شعور غريب حين تنقل قدمك على خطٍّ ما (هو خط وهمى فى الحقيقة رغم عناد الحكومات وسخف الأمم المتحدة) فتكون فى البلد الفلانى، ثم تنقلها إلى الخلف فترجع إلى البلد العلانى،

كنا نلعب هذه اللعبة سنة 1996، ونحن فى جنوب فرنسا فى الباسك الفرنسى قرب بيارتز؛ حيث يوجد حول الحدود ما يسمى بالأوبرج الأسبانيولى داخل الأراضى الأسبانية، ثم طريق شبه جبلى يربط بين فرنسا وأسبانيا، نصله على الأقدام، ونعبر لنشترى رموزا سياحية وأشياء أخرى، مما فاتنا شراؤه أثناء زيارتنا لسان اسباستيان فى شمال أسبانيا، ويقول لنا صاحب الأوبرج إن هذه الصخرة الصغيرة، مشيرا بيده، هى الحدود، فيقف أحدنا وكل قدم من قدميه فى ناحية من الصخرة؛ ليعلن أنه وضع قدميه إحداهما فى أسبانيا، و الأخرى فى فرنسا، وأتصور أن الرجل يخدعنا، أو لعله يمزح معنا، فأقبل الخدعة ولا أتمادى فى الشك أو التساؤل، وأفهم أكثر لماذا تـُصر مقاطعات الباسك فى كل من فرنسا وأسبانيا (بلغتها الخاصة ولهجاتها الخاصة وطباعها الخاصة) على أن تصبح دولة مستقلة ذات سيادة. هل لأحد سيادة على صخرة؟

ولو !! فمهما استقلّت الدول أوانـتفخت الذات، بسبب التاريخ واللغة والمصالح والزعماء والغرور الفردى والعرقى، فسوف تظل هذه الخطوة البشرية البسيطة تعبُر ذلك الخط الوهمى، الذى يحاول أن يفصل بين الناس وبعضهم، وبين البلاد وبعضها.

بعد إجراءات الخروج الشديدة البساطة التى تمت على الجانب اليونانى، اقـتربنا من السلطات اليوغسلافية، فإذا بالإجراءات أبسط، حتى أن أحدا لم يطلب منا أن نعلن عمّا معنا من نقود أو ممنوعات، إذا زادت عن مبلغ معيّن كما فعلت السلطات اليونانية بنا عند الدخول إلى أراضيها. أنت لا تستطيع ـ عادة ـ أن تميز الناس من بعضهم على الحدود بين بلد وبلد. فالناس ـ عادة ـ على جانبى حدود الدول أقرب إلى بعضهم البعض من الناس فى الدولة ذاتها التى قد تختلف فيها اللغة والطبيعة الجغرافية والأصل العرقى وسبل الرزق على الرغم من  أنهم يحملون نفس اسم البلد، نفس الجنسية. خيل إلىّ ـ مثلما ذكرت حالا عن الباسْك ـ أن اليوغسلاف على الحدود اليونانية أقرب إلى اليونانيين على الحدود اليوغسلافية وبالعكس. كذلك الحال مع الإيطاليين واليوغسلاف على الحدود بين يوغسلافيا وإيطاليا، كما أن جنيف ليست إلا سفح جبال الجيرا فى فرنسا فهى فرنسا، أو هكذا أعامـلها لولا فرق أسعار العملات، أفلا يحق لى أن  أصف خطوط الحدود بين الدول  بـالخط الوهمى؟.(إياك أن تسمع إسرائيل).

قال لى جندى (أو مسئول) الحدود اليوغسلافية وهو ينظر فى جوازات السفر.”مصر؟”. وضحك ضحكة ترحيب (على ما أعتقد)، وربما تعجب للأرقام العربية على السيارة، وقلت له: “مصر “، فعند اختلاف اللغات لا يبقى فى الحوار إلا أسماء البلاد والأعلام، هذا لو سهّل الله بنطقها سليمة أو قريبة من السلامة.  أردف الجندى: “مبارك؟”!!. وكان الرئيس مبارك قد أنهى رحلة إلى يوغسلافيا منذ أيام قليلة. قلت له “نعم” “مبارك”، وأحسست أن الرباط القديم بين تيتو وعبد الناصر، ما زال قائما والساسة فى البلدين يحاولون تحديثه بشكل ما (لاحظ التاريخ نحن فى:1948). فرحت رغم تحفظات لى سابقة على هذه العلاقة، وعلى كل من المذكورين. ثم أكمل الجندى بالحماسة والفرحة ذاتها قائلا: “مبارك..حسن Mobarak Good”، ورفع إصبعه الإبهام وهو قابض يده، علامة التأييد والتكريم والتشجيع. قلت له بفخرالمغترب: “نعم”. ولكنه أردف: “سادات”. وغمز بعينه، وقهقه، فقلت له: “مبارك حسن، وسادات حسن”. فقد تعلمت أننى بمجرد أن أغادر بلدى أشحذ انتمائى إلى كل ما تمثله بلدى،أو يمثل بلدى، من رؤساء وأخطاء، وتاريخ، فأرفض أى همز أو لـمز من غريب حتى لو كان حسن النية، حتى لو اتفق رأىى الشخصى مع همزه ولمزه، فرأيى الشخصى هذا هو لأهل بلدى وليس للتصدير.

مازلت أذكر فى رحلة الحج كيف كنت سأشتبك مع أحد السعوديين (الذى لا يمثل كل السعوديين طبعا) الذى راح يعايرنى، من الوضع مضطجعا، بهزيمة 1976، وكأننا – نحن المصريين ـ انكشارية المرحوم والده. فراح يقرّعنا على فشلنا فى الدفاع عن حريم سيادته. لم أدافع عن الهزيمة، لكننى لم أسمح بالنقاش حول المسئول عنها رغم موقفى منه،  مادمت خارج بلدى فأنا المسئول عن كل شىء. أسكتُّه بما ينبغى، وعيّرته بأمواله العاجزة عن ردّ شرفه/شرفنا، بل لمّحت أنها – الأموال- هكذا- قد تكون المسئولة عما لحقنا.

خارج بلدى، كل زعمائى أبطال، وكل غسيلنا نظيف، ومن يعجبه؟

وأعود إلى الجندى اليوغسلافى فأجده قد التقط اعتراضى، فسكتَ غالباً دون اقـتناع أن كلهم “حسن”(Good) ناصر حَسن، وسادات حسن، ومبارك حسن، (لم يبق إلا أن أضيف: وانا “حسن”،وانت “حسن” . أنا طريقى وسكّتى طريق حسن، آه. الله يسامحهم)، وعلى الرغم من أن كلامى لم يعجبه، إلا أنه لم يسحب ضحكة الترحيب، ولا  علامة التعجب من على وجهه وهو ما زال ينظر إلى  الأرقام العربية على السيارة، ولا اختفت سماحة التواضع التى قابـلنا بها.

 أدركت كم نخطئ  ونحن نحكم على رؤسائنا من خلال آراء الناس فى الخارج. حين مات السادات ودّعه العالم الغربى كبطل للديمقراطية والسلام، فى حين كان وداعنا له بالداخل وداعا هادئا ناضجا به مسحة من اللامبالاة (ضع جانبا الـشماتة). كم كتب بعض كتابنا عن شعبية السادات فى الولايات المتحدة، ولكنه لم يكتب لنا عن شعبيته فى يوغسلافيا أو كوريا الشمالية. عبد الناصر، استوردنا بطولته من أحلام الإنسان العربى، أكثر من واقع المكافِح المصري؛ رسموا  له صورة البطل الأسطورى فى العالم العربى، فاستوردها بعضنا كما هى وأضاف إليها من شطحاته ما شاء. ثم راحت  هذه الصورة المستوردة تفرض نفسها علينا فى الداخل، فنكاد نتمزق بين أحلامهم وواقعنا.

عبرنا الحدود، وغيرنا ما شئنا من النقود، دون سؤال أو إقرار، وأعطونا كوبونات للبنزين وكأنها مقررة بمقابل معقول، ولم أفهم حينذاك لماذا هذا الإجراء، وتصوّرت أنهم يوفرون علينا بذلك نسبة معينة، ومع ذلك لُـمتُ ابنتى ،التى قامت بتغيير العملة، على شرائها كل هذه الكوبونات، فمن يدرى كم سنصرف، وكم سنركب، ثبت بعد ذلك أنى ـ فعلا ـ “أعترض والسلام” (تهمة زوجتى لى باستمرار).

ما كاد نصف ساعة يمضى، أو ربما أكثر قليلا، حتى فوجئنا بالطريق تضيق، والجبال تظهر. ومن أسف أننى اهتممت فى رحلتى هذه بخريطة طرق المواصلات، أكثر من اهتمامى بخريطة التضاريس الجغرافية، وكنت أحسب أنه لا توجد إلا خريطة واحدة لكنى عرفت فيما بعد أن خريطة التضاريس ذات ألوان محددة الدلالات تعرّفنا بمدى الارتفاع فى مختلف البقاع. لم تكن مسألة الارتفاع مجرد مفاجأة غير محسوبة، حين واجهت صعوبة فى سيولة انطلاق السيارة، رغم وزنها المتوسط الثابت، رجحت أن يكون ارتفاع الحِمل فوق السيارة، دون تناسق جانبيه هو السبب فى “عدم السحب”، وربما “عدم الاتزان”. رجحت أيضا، أن يكون السائق (شخصى الفقير إلى عطفكم، ورؤيتكم لا رأيكم) هو السبب، علما بأنى قد سبق لى القيادة فى المرتفعات فى أوروبا ليلا ونهارا دون مشاكل.

 أذكر كيف ذات ليلة من فرانكفورت إلى باريس فى طريق “وطنى” (ضيق مأهول بين المدن الصغيرة وداخلها) بدءا من بَعد المغرب، وصولا إلى باريس قبيل الفجر، لمجرد أن نوفر مصاريف إقامة ليلة أخرى فى فرانكفورت. مرّة أخرى، دخلت إلى جبال شامونى بعد لفة كاملة حول بحيرة ليمان( أو لومان) فى سويسرا، مخترقا طريقا شديد الضيق، شديد الصعود. لم أكن أخاف شيئا، ولا شعرت بأدنى صعوبة، فما الذى جرى لى الآن؟. فقلت لعل العربة الصغيرة تختلف عن هذه الحافلة. قلت أيضا: لعله الزمن الطويل بين الرحلة الأولى والثانية (خمسة عشر عاما). وقلت كذلك: لعلها الزيادة المتعددة التجلى: زيادة الوزن، وزيادة الأطماع ، وزيادة الجبن، وقلت أخيراً لعله نذير باحتمال خراب الداخل، وجمود الحركة، بما يواكب ذلك كله من تمادى التصلب. من يدرى؟ هل هو السن؟

مسئوليتى هذه المــرَّة مضاعفة لكثرة عدد الرفاق (الرعية)، وثقل الأمانة. لم أحاول أن أعلن الصعوبة التى أعيشها لمن حولى إلا قليلا..  ابنتى منى يحيى، وهى التى أخذت دور المرشدة فى هذا الجزء من الرحلة، التقطت هذا الداخل ـ أو بعضه على الأقل ـ لست أدرى كيف، فحكت لى تطمئننى بطريق غير مباشر، أن هذه العربة ذاتها قد حَسِبتْها (تـَعـوم) منها ذات مرة قريبة، وهى تقودها فى الطريق من الإسكندرية إلى القاهرة، ثم نسيَتْ ما حَسِبَتْ، فثبتت العربة واتزنت فجأة!! وعلمتُ من حكيها هذا أنها تشير إلى داخلى أنا الآن، وأعطتنى لبانا. أنا لا أحبه، ولا أطيقه فى فمى (أو فم أى رجل) أكثرمن ثوان، طاوعتها وبدأت المضغ، فاعتدلتْ العربة وتوازنتْ. قالت ابنتى لى، أو قلت لها، العربة كان ينقصها لبان لا ضبطا ولا زيتا، ولكننى سرعان ما ألقيت ما فى فمى بعيدا، لم أطقه.ولم تعد العربة للعوم.

 نام الجميع من جديد، إلا مرشدتى، كان الليل قد تسحّب حتّى دخل، لم يعد ثم ما يُرى إلا أضواء العربات التى لم تقلل من سرعتها. كنت كلما عبرتُ جسرا طويلا بين جبلين، شعرت بخوف كنت أعيب مثله على زوجتى من قبل.  كنت أعتبر أن من يخاف على نفسه “هكذا”، ومعه آخرون، هو أنانى يعمل حساب قيمة لحياته شخصيا أكثر منهم، ولكننى حين واجهتُ هذا الخوف الآن لأول مرّة، على غير عادتى، الخوف من الأماكن المرتفعة، عذرتها، وفهمت أكثر ما نسميه عندنا (نحن النفسيين) “رُهاب الارتفاع” acrophobia.

كنت حتى هذه اللحظة، ومن أول الرحلة قد ألجمت داخلى بشكل حاسم ، حتّى لا تتسرب منى معالم الرحلة وآثارها فى التشتت إلى قضايا شخصية داخلية أطماعية، ثانوية عامة، سخيفة، قابعة ومتجددة، لمْ…ولا تنتهى. فعلتُ ذلك الكف بوعى شائك؛ حتى أتمكن من أن أقوم بمسئولياتى نحو أسرتى وصُحبتى على الوجه الذى يلزم بلا بديل.

على أننى أسمح لنفسى الآن، وأنا أكتب هذه الخواطر لاحقا، أن أعبّر عن هذا الداخل بما له علىّ، وما لى عليه:

أنا أحب الحياة بقدر أكثر قليلا من القدر الذى يتحرك به فى داخلى الموت، أحس أنه كلما زادت ملاحقة حدّة الموت إلحاحا، وكلما زادت علاماته اقترابا، أندفع إلى الحياة والناس بكل ما أملك، وبكل ما أفعل،  وحين أصاب بإحباط غير محسوب، ومحسوب، وخاصة حين أفشل فى تنافس لا أملكُ أدواته، ولم أختر معركته، تراودنى رغبة شديدة فى التوقف المناوِر حتى أهدِّئ من شماتة داخلى، وأفوِّت عليه إلحاحه. ثم أفوّت عليه فرصة الانسحاب حين يدرك أنه توقـُّف المتحفز لجولة جديدة.

 جاءت هذه الرحلة. وكل ذلك حاضر نشط عندى، لا يعلمه غيرى، وإن اطّـلعتْ على بعضه أحيانا ـ رغما عنى ـ زوجتى.

لم أكن أملك أن أتراجع عنها، عن الرحلة؛ وفاء لوعد سابق، وحرجا من كشفٍ محتمل، ولم أكن أملك أن أؤجِّل أىة خطوة من خطواتها، فإيقاعها سريع بطبيعة محدودية الوقت مع طول الطريق وطموح الاستكشاف، وصحبتى معتمدة على خبرتى وحضورى، وما يوحى به وجودى من قدرات واعدة تجعلهم يتوقّعون كل شئ بما يشبه السحر المغلّف لأساطير بساط الريح (جميل ومريح)، دون أن يعرفوا حقيقة ما أعايشه، ودون أن يعلنوا مدى اعتماديتهم صراحة.

أنا أعيش كل ذلك راضيا مختارا منجذبا إلى الحياة؛ هاربا من الموت بداخلى.

تراءى هذا كله أمامى وأنا أرى الجبل إلى جانبى، وعلامة أن هنا منطقة تساقط صخور، وشبكة من الأسلاك، تشبه شباك الصيادين ، لكنّ يبدو أنها من الصلب المتين، مفروشة على بعض جوانب الجبل، قال: ماذا؟. قال: لتمنع سقوط الصخور!!.

 وعلى الجانب الآخر، أرى الهوة السحيقة، ويدفعنى اللعين فأدافعه، والعربة بيننا فى حرج بالغ، وتهدأ السرعة، وأبتعد عن الجانبين ما أمكن فى كل انحناء، فأعطل الطريق.

ما أن يعتدل المسار فأعتدل بالسيارة؛ حتى يمرق منى سيل من العربات التى كانت معركتى مع داخلى، وضبطى لحركة عربتى، وحركة وعيى معا، تعوق انطلاقهم. بعضهم ينظر، وبعضهم يعذر. أما الذين معى، فهم يبدون أنهم فى طمأنينة “قصوى” إلى “مهارتى”، حتى زوجتى التى كانت تقوم عنى بمهمة الخوف فيما سبق، فأعايرها بضعفها، كانت هذه المرّة مطمئنة (جدا) لقيادتى وحرصى !! لا يوجد مبرر لأى من هذا  والله العظيم، صدقونى.

ونواصل الأسبوع القادم

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق” (الطبعة الأولى 2000)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *