الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق”: الفصل الأول: “… وإلا، فما جدوى السفر؟” (3)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق”: الفصل الأول: “… وإلا، فما جدوى السفر؟” (3)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 29-3-2023

السنة السادسة عشر 

العدد: 5688

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]‏‏

الفصل الأول

وإلا، فما جدوى السفر؟ (3)

…………….

…………….

21 أغسطس 1984:

أمضى يوما واحدا وليلتين فى هذا المجتمع الصغير المتحرك، وألتقى بندرة من المصريين، فهم يركبون البحر عادة فى رحلة العودة بالعربة والأشياء، وليس فى رحلة الذهاب هذه. أعتبر أنه من مزايا السفر الحر بعيداً عن المجموعات، أن تتاح لك الفرصة أكثر فأكثر للقاء من “ليس كذلك “، ولعل هذا ما نفّرنى منذ بدأتُ أفكر فى ضرورة اتساع دائرة رؤيتى للعالم فى السنوات الأخيرة، أقول هذا هو ما نفرّنى (ربما مؤقتا، وربما خطأ) من الرحلات الجماعية التى تنظمها شركات السياحة عندنا. كنت أخشى ـ ومازلت ـ ألا تعدو هذه الرحلات الجماعية أو الفئوية المنظمة أن تكون انتقالا فى المكان فحسب، فتمضى الرحلة بين المصريين فى عمليات تنافس الشراء، وهمز المقارنات، وحذق التوفير، ومباهاة التسوّق، وأساليب الشطارة، بلا أدنى فرصة لأن أنفصل عنهم، أو أن ينفصلوا عنى. فما جدوى الانتقال؟. وأين هو أصلا؟. هذا فضلا عما سيفرضونه علىّ من أسئلة وشكاوى باعتبارى طبيبا نفسيا، ولا مؤاخذة.

أقول: فرحتُ بقلة المصريين، وكثرة الأغْراب، وتقمصت بحّارة السفينة وربانها، فعلمت معنى أن تكون بحّارا، وأن تظل الأرض التى تعيش عليها تتأرجح فوق الماء طوال حياتك، فيتأرجح معها وجودك، ويصبح انتماؤك إلى العالم أرحب، و أكثر مرونة من ذلك المقيم فوق الرمال، أو أعلى الجبل، أوفى شقة بإيجار قديم وسط المدينة.

ذات يوم لاحق أخذت صديقتىّ هدى ونهى (7 و8 سنوات، وهما شقيقتا “أحمد رفعت” أحد أصحابى فى هذه الرحلة) إلى حديقة الأورمان، كان يوم جمعة  من أيام شتاء قاهرى جاد، كنا قد  فشلنا أن نؤجر قاربا فى النيل لأسباب طقسية، جلسنا على أرض الحديقة ورحنا نلعب. سألتهما الواحدة تلو الأخرى عن ماذا تريد أن تكون حين تكبر، فأجابت إحداهما (لا أذكر من منهما تحديدا) أريد أن أكون مدرسة وممرضة، وتعجّبت، وأعدت عليها الاختيار لتحدد أى المهنتين تفضل عن الأخرى، فأجابت نفس الإجابة بإصرار، وأنها تريد الاثنتين معا. قلت لنفسى، ولمَ لا؟ وأصرّتا أن أشارك فى اللعبة، وحين جاء دورى (كنت قد تخطيت الخامسة والخمسين على ما أذكر) سألتنى هدى عن المهنة التى أريد أن أكونها (!!)، ولم تذكر، أو تتذكر، أو تُـشِر إلى أنى اخترتُ والذى كان قد كان، نظرتْ إلىّ هدى تنتظر الردّ، فعرفت أنها تعنى سؤالها فعلا، وأنها لا تمزح، وأنها تنتظر جوابا، وأنها لا تقصد أن أجيب بأثر رجعى (لو خيّرت كنت اخترتُ كذا أو كذا). رجّحت أنها سمحت لخيالها أن يلغى الواقع ومعه تاريخى وسنى، فحذوتُ حذوها، واخترت مهنتين معا، وقلت لها أحب أن “أطلع فلاحا وبحّارا“، وصدّقتـَنْى بنفس السهولة التى اختارت بها لنفسها مهنتين معا.

لعلى حين أجبتها حينذاك كنت أعيش بعض آثار خبرتى التى أحكيها الآن عن علاقتى بالبحر وتقمصى البحارة. تنبّهت من إجابتى تلك إلى علاقتى بالأرض وتقمّصى لفلاح بلدنا، ومشاركتى له بعض أيام طفولتى فى جنى القطن، أو “دراس” القمح، ومايرتبط بهذا وذاك من معنى الغوص فى طين الأرض والاستقرار، فى مقابل حركة البحّار وهـو يجوب العالم، أرضه سفينته، وغايته الدنيا بأسرها، ووجدت نفسى هذا وذاك معا دون صراع، ألستَ معى أنهما يتكاملان؟

بدأت بصيرتى تتضح فيما يتعلق بعلاقة نوع وجودى بما سوف يأتى فيما بعد بشأن “حتم الحركة” و”برنامج الذهاب والعودة” المتكرر بلا انقطاع، يبدأمن طين الأرض وجذورى ثابتة ممتدة ليظل يتمايل مع حركة البحر المترجحة بلا شطآن عبر أفق ممتد.

أعيش رقص الباخرة، وإيقاعها الهادئ، وتعليمات مساعد الربان المتوالية، والدعوة تلو الدعوة لتناول الوجبات، وهو يتمنى لنا “شهية طيبة”، ويدعونا للمشاركة فى ديسكو المساء، أو يدعو الكاثوليكيين فقط لقدَّاس الصباح!!،

لا أتعرّف على أحد خلال يوم واحد، ولكننى أخرج مؤكدا لفكرتى القديمة التى ذكرتها فى مقدمة هذا الحديث من أن الطائرات على عظم ما أضافت واختصرت، قد حرمتنا من فرص أروع، وإيقاع أهدأ.

 أخرج بين الحين والحين إلى سطح السفينة، لأجد البحر العظيم، أصل الأشياء، وقد احتوانى من كل جانب. أفتح وعيى للانهائى، فأتلاشى بإرادة أعمق، وتتضاءل الأفكار والطموحات، وينطفئ الغرور، ويرفرف الشك – دون رفض – على كل ما فات.

 ولـِمَ لا؟  وإلا،  فما جدوى السفر ؟

مساء 22 أغسطس 1984:

تصل الباخرة إلى ميناء بيريه، وهو جزء لا يتجزأ من أثينا العاصمة، وإن كان الفصل بين ما هو بيرياس (هكذ ينطقونها)، وماهو أثينا، فى الحديث والروح والأسعار والإجراءات، هو فصل شديد الوضوح منذ البداية. كنت قد واعدت أولادى ـ وقد وصلوا قبلى بساعات بالطائرة ـ بلقاء فى ميدان عام فى أثينا، خشية ألا يعرفوا طريقهم ليلا إلى الميناء. هذه أول مرّة لى ولهم، نحط الرحال هناك. وما كان اتفاقنا إلا فوق خرائط لا تمثل لوعينا شيئا يمكن أن يُعتمد عليه، وهكذا لم أكن أتوقع أن يكونوا فى الميناء فى انتظارنا، لكن هاهم أولاء هناك، هم فعلا!! يا خبر! ما الذى أتى بهم هكذا “برافو”، أفرح برؤيتهم وكأنى لم ألتق بهم من سنوات، وكأنى قد اشتقت إليهم دهرا، وكأنهم لم يوصّلونى إلى ميناء الإسكندرية صباح أمس. وأنا الذى تمضى الأسابيع تلو الأسابيع فى القاهرة لا أراهم، ولا أسعى ـ قصدا ـ لرؤيتهم، ليس فقط لاعتكافى المتصل ـ بعد العمل الضرورى ـ فى استراحة ريفية خاصة بجوار القاهرة، وإنما حتّى وأنا أقيم معهم فى الشقة ذاتها، أراهم ولا أراهم، وأعجب لتدخّل الحركة ـ بالسفر ومافيه وما يمثله ـ فى الإحساس بالزمن، وبالتالى فى تلوين المشاعر، وتحريك الوجدان، وألمح فى صحبتهم سيّدة سوريّة تحتضنهم كأم رؤوم، فأهتف فى سرّى غصباً عنّى: “تحيا الوحدة العربية”، ويعرّفونى بها، وأنها أم أحد أصحاب الفندق الذى نزلوا به فى جليفادا، وأنها تفضّلت مشكورة باصطحابهم إلى الميناء بما ترتب عليه من فرحة ذكرتُها. وأخجل من نفسى ومن أفكارى العنيدة فى رفض هذا التقديس الذى أعتبره دائما مفتعلا لما هو “وحدة عربية”. لكننى لا أستسلم لتغيير مفاجئ، فقط أنبه نفسى أنّ علىّ أن أضع معنى هذا اللقاء مع عربى فى الخارج، ومعنى فضل هذه السيدة على أولادى لمجرد أننا عرب معا. أهمس لنفسى: ضع كل هذا فى اعتبارك مستقبلا وأنت  تحكم وتشجب وتتشنّج. حاضر.

تنطلق حافلتنا بأرقامها المصرية تتهادى فى ليل أثينا المنعش. يقول لى بعض أولادى فى تأكيد مندهش إنهم اكتشفوا أن أثينا هى – أيضا – أوروبا، وكأنهم اكتشفوا حقيقة جغرافية جديدة، فأضحك وأقول لهم: فماذا كنتم تحسبون؟. فيفهمون ما أعنى. وتذهب ابنتى لتؤكد أنها كانت تحسبها “قذرة” “زحمة”، مثلما الحال عندنا، فأنبهـها بحدّة إلى عيب ما تقول، فتعتذرـ فى ألم واضح ـ لتعدل كلامها بما تقصد أصلا، ويشترك معها بقيّة الأولاد فى شرح وجهة نظرهم: إنهم كانوا يسمعون كثيرا أن اليونان هى مصر وبالعكس، وأن اليونانيين كانوا بمصر كثرة عاملة مهاجرة، ثم أصبح المصريون باليونان، وخاصة أثينا، هم الكثرة المهاجرة العاملة، حتى أن اللغة الثانية فى أثينا وبيريه هى العربية (هذا صحيح). فغلب على خاطرهم أنهم لن يجدوا فرقا يذكر بين الشارع المصرى ودرجة نظافته وازدحامه، وانضباطه الشكلى قسرا لبضعة أيام، بعد كل تغيير وزارة، أو تجديد وزير داخلية،  ثم أبوك عند أخوك،  وبين الشارع اليونانى فى أثينا، فإذا بهم ـ خاصّة وقد نزلوا فى ضاحية جنوبية لأثينا، شديدة الجمال، قليلة الناس، طاغية الخضرة، تسمى جليفاداـ فإذا بهم يجدونها أقرب إلى ما سبق لهم رؤيته فى أوربا الغربية جدا، وعلى حد قولهم لا تقل عن جنيف جمالا أو نظافة. ولم أعرف كيف أرد عليهم وأنا أقود السيارة وأنا لا أعرف شيئاً مما يقولون.

لم يسبق لى أن زرت أثينا إلا لبضع ساعات أثناء رسو المركب فى رحلة العودة من فرنسا سنة 1996، شاهدت فيها المقرر السياحى (الأكروبول) مشاهدة الدورة الروتينية السياحية الفارغة، فانتظرتُ مؤجِّلا الرد عليهم حتى أستوعب كلامهم بهدوء حين أشاهد مايحكون عنه صباح اليوم التالى. وقد كنت أحسب أننا سنسافر فجر هذا اليوم التالى، إلا أنه بناء على هذه الصدمة الجمالية الحضارية، استجبتُ لرجائهم أن نمضى يوما آخر ـ على الأقل ـ فى هذا البلد الجميل.

فى الفندق، وجدتُ الحديث بالعربية أساسا، ولم أرتحْ رغم فرحة داخلية، وفخر خفى. راحت  السيدة (الأم) السورية السالفة الذكر ترحب بنا بالطريقة العربية، فكادت تحرمنى من الشعور بالنقلة اللازمة للإعلان الداخلى لبداية الرحلة. فهمت من حديثها، ومن الحديث معها، ومما وصلنى من بعض المعاملات حولى، أن ثمة بداية هجمة تجارية استثمارية سورية على اليونان، هذه الهجمة تبدو من الوفرة والنجاح بحيث تكاد تضارع الهجمة اللبنانية على “نيس” و”كان”، وتصورت أن ثراة السوريين، ورجال الأعمال الطموحين قد تحايلوا على النظام الاقتصادى هناك، بمد نشاطهم أو تحويل نقودهم إلى الخارج، وما إلى ذلك مما سبق أن خبرناه فى مصر ونعرف عنه. ألمحت للسيدة السورية بسؤال عن سببب إقامتها هنا، فوجدت منها عزوفا عن الدخول فى التفاصيل، بل إنها أفهمتنى بإصرار لا مبرر له، أن ابنها ليس شريكا فى الفندق كما سمعتُ، وأنه يدرس الهندسة، وأنها تقيم فى الفندق ـ بصفة مؤقتة ـ فى فصل الصيف. تظاهرتُ بتصديق كل كلامها مــرغما، وحين سألتها عن الأحوال فى سوريا، ردّت ردّا اشتراكيا تقليديا بأنها “عال العال”، فحوّلت الحديث بسرعة، ورضيت بهذا القدر من التصريحات المحدودة. إلا أننى بعد أن التقيت بعدد من السوريين مصادفة، وبعد أن لاحظت عددا من المطاعم الشامية الفاخرة، وبعد أن كنت أسأل أحد كبار السن من اليونانيين عن اسم شارع أو رقم أتوبيس، فيسارع بسؤالى بالعربية إن كنتُ قادما من سوريا، بعد كل ذلك تأكد عندى أن اليونان قد أصبحت “لهؤلاء “السوريين متنفسا طبيعيا لحركة اقتصادية وهجرة مؤقتة. فرحت بحركة المد والجزر هذه. أعنى بها التبادل الشرعى بين البلاد بالهجرة. و فرحت بقدرة إنسان العصر ـ ما أمكن ذلك ـ على تخطى الحدود، ومحاولة التأقلم السريع لمتغيرات السياسة والاقتصاد حسب نظرته وطموحاته. ولكننى أمِلت أكثر لو كان دافع الهجرة الاقتصادى يواكب دافعا آخر لهجرة حضارية، مع الالتزام بالانتماء إلى الأرض الأم، أو مع استمرار رحلات “المكوك “الواعية والمنتظمة، وبدأت أراجع نقدى المستمر والقاسى لما هو حضارة غربية، والذى لم أتراجع عنه أبدا، ولكننى فتحت بابا جانبيا لإعادة النظر.

أنا  لست أدرى ماذا يعنى تعبير “الجوع الحضاري“، إن وُجِدَ أصلا، لكنه خطر ببالى هكذا، كما خطر ببالى ـ أيضا ـ تعبير آخر هو “الاختناق الحضارى” ثم “الفقر الحضارى“، ورجحت أننى وقعت فى لعبة الكلمات المتقاطعة التى تقتحم ذهنى بين الحين والحين، على الرغم من أنى لا أعرف اللعبة الحقيقية المعروفة بهذا الإسم، ولا أحبها ولم أحاولها فى حياتى، فــرُحت أحاول أن أكوّن جملة مفيدة مما يقفز إلى وعىى هكذا دون سابق ترتيب، فأقول:

يا حبّذا لو كان الدافع إلى السفر ـ فالهجرة عند بعضنا ـ نوعاً من علاج مرض “الاختناق اللاحضارى” أو الفقر الحضارى؛ سعيا إلى إشباع “الجوع الحضاري“، جنبا إلى جنب مع أكل العيش والتهريب.

لا تقنعنى هذه الجملة بما كنت أرجو، إذ تبدو لى وكأنها حكمة هروبية خليقة أن تحرمنى من طلاقة الشطح وبراءة الاستكشاف، فأُصدر فرمانا أن أكف قسرا عن مواصلة هذا الحديث الداخلى المُلَـفْظَـن؛ لأقـترب أكثر مما يدور حولى.

………….

…………..

ونواصل الأسبوع القادم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق” (الطبعة الأولى 2000)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

تعليق واحد

  1. تغير العالم كثيرا يا عمنا منذ تاريخ هذا الترحال.
    تغيرت اوروبا واصبحت مثقلة بالديون مثل اغلب دول العالم وشاخت بعد ما اصابها سعار النظام العالمي الجديد. والملفت انه محدش عارف مين مديون لمين ولحساب مين. النقود اصبحت ورق يطبع ويوزع من لدن شياطين خفية لاذلال البشر.
    هاجر اليها ( اوروبا ) ومازال رفات البشر يقتاتون فضلات موائد الغرب .
    تعملق اساطين المال والعدم لدرجة مرعبة فعلا ويجرون العالم الي خراب حقيقي.
    ازداد اغتراب الانسان في كل مكان .
    ظهر زعماء مجانين بكل معني الكلمة من امثال بوتن الذي خرج من التاريخ والجغرافيا .
    باختصار اصبح البشر فعلا في لحظة فارقة وامام شلال جارف من فقدان الهوية والمعني والهدف.
    حتي الايمان الذي هو صمام الامان اصبح كثير منه مختلط بشرك .
    ولله الامر من قبل ومن بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *