نشرة الإنسان والتطور
نشرة الأثنين: 1-5-2017
السنة العاشرة
العدد: 3530
الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع
باقى أنواع الفصام (4)
(من منطلق التقسيم التقليدى)
مقدمة:
لا أعرف لمن أقدم اعتذارى حين أعلن أننى سوف أقصر تكملة كتابى عن الفصام الذى هو محور كل ما أنوى تقديمه فيما يتعلق بالطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى، سوف أقصره على يوم واحد فى الأسبوع مرحليا، حيث أننى – كما ذكرت فى نشرة أمس – قررت أن أخصص أغلب وقتى لنشر ما تراكم عندى من كتب نشرا ورقيا مهما كانت العقبات، وأعتقد أنه مما يخفف شعورى بالحرج من هذا التنقل أن الارجح هو أن من يتابعنى – خاصة من الزملاء الأطباء وهم الأوْلى– هم قلة قليلة، آمل أن يصبروا على نقلاتى هذه، وأن يجدوا بغيتهم فى ما أثبتُهُ فى الموقع عامة، وليس بالضرورة فى نشرات الإنسان والتطور اليومية.
4- الفصام الكاتاتونى ( الفصام التصلبى)
يمثل هذا النوع إشكالة خاصة لا ننتبه إليها كثيرا، خاصة وهو يُعتبر – تقليديا– من أكثر الأنواع انذارا بالتدهور، فى حين أن المتابعة المتأنية، والفحص الأعمق يدعوا إلى إعادة النظر فى ذلك (أنظر بعد).
فى هذا النوع تكون الأعراض الغالبة هى أعراض فقد الإرادة (راجع الأعراض ملف الإرادة) (نشرة 16-3-2015) و(نشرة 22-3-2015) واضطراب السلوك الحركى،
وهذا النوع لا يمكن وضعه فى مكانه المناسب تحديدا على سلم العملية الفصامية ، إلا بعد تتبع مأل النوبة الحادة سواء كانت نوبة هياج شديد الخطورة، أم نوبة انسحاب وهمود (سُبات) شديد السلبية، وهو بشكل عام يعتبر تقليديا نوعا متاخرا باعتبار الناتج من نوبة المرض فيه، إذ يترك غالبا ندوبا فى الشخصية وهبوط مستواها التكيفى ورنينها العاطفى، وكذلك قد يكون المتبقى درجة من النكوص إذا ما سمحت الظروف المحيطة وغاب التأهيل المناسب، وقد يصاحب هذا النوع بوجه خاص اضطرابات جسمية مميزة مثل اللون الباهت للجلد وزرقة الأطراف ووفرة اللعاب وإنخفاض الدم وضحالة التنفس (إلا فى حالات الهياج فإن الضغط قد يرتفع وقد يضطرب التنفس)
هذا، ويمكن تمييز نوعين منه على الوجه التالى:
(أ) الفصام الكتاتونى الهياجى
يتصف هذا النوع بزيادة هائلة فى النشاط الحركى لدرجة العنف والتحطيم، ويمكن تمييز الهياج هنا عنه فى حالات الهياج فى الهوس بأن سلوك المريض يبدو مندفعا من داخله بغض النظر عما حوله، ولذلك فإن تصرفاته العنيفة لا يمكن التنبؤ بها، وتبدو بلا معنى وبلا أهداف، وهى ليست مرتبطة عادة بأى مثيرات خارجية، كما أن العواطف المصاحبة تبدو باردة وقاسية، وكذلك فإن كلامه – إن تكلم– يبدو معادا وغير مترابط بشكل شديد، فى حين أن الهياج فى حالة الهوس يكون أغلبه مستثار من الخارج، وكانه يعنى به شيئا محددا، وإن كان غير واضح تماما، كما قد يبدو فيه الرفض متبادلا مع الاقتحام الهجومى، وليس العشوائى التحطيمى على طول الخط، وفى الهوس أيضا قد يتحول مسار الهياج من مؤثر خارجى إلى آخر حسب ظروف البيئة كا ذكرنا.
(ب) الفصام الكتاتونى الإنسحابى:
يتصف هذا النوع بالهبوط الحركى الذى قد يصل إلى الذهول، كما يصاحبه البُكـَم والخُـلـْف والانثنائية الشمعية، وجميع الأعراض الدالة على انسحاب الإرادة، وخاصة إزاء المثيرات الخارجية.
على أن هذا النوع من الفصام يثير مشاكل تشخيصية عديدة وذلك كما يلى:
1- أن حدوثه فى نوبات يشير إلى كونه نوعا حادا ، فى حين أن الفصام مرض مزمن بطبيعته ، وذلك فإن المعول الأساسى فى تشخيصه يكون فيما يتركه من آثار مزمنة فى الشخصية الأمر الذى يمكن استنتاجه من شذوذ النوبة الحادة وطبيعتها، ولكنه لا يتأكد إلا بما يترك من آثار سلبية بعد النوبة.
2- أنه قد يحدث دوريا (مما يقاربه من حالات الهوس والاكتئاب) ولكننا ينبغى أن ننتبه أنه إذا زالت النوبة دون أثر فى الشخصية تماما فإن الكاتاتونيا الدورية الحميدة Benign Periodic Catatonia تصبح الأوْلى بالتشخيص بوجه خاص، حتى أن هذه الحالة يمكن أن تندرج تحت فئة أمراض الهوس والاكتئاب (فئات أخرى).
3- أن مجرد وجود أعراض كاتاتونية فى الفصام (مثل الطاعة الآلية أو الانثنائية الشمعية) فى أى نوع آخر لا يكفى بالضرورة لتشخيص هذا النوع من الفصام.
ملاحظات على هذا النوع فى ثقافتنا الخاصة المعاصرة:
أولا:
إن تواتر هذا النوع بهذه الصورة الدورية ذات القطبين هو نادر نسبيا ، فى حين أن وجود أعراض كاتاتونية أو ما يشبهها من أنواع أخرى من الفصام وبعض الذهانات غير النموذجية، هو أكثر تواترا.
ثانيا:
إن المآل التدهورى لهذا النوع – إن صح التشخيص – هو أكثر ندرة أيضا.
ثالثا:
إن الخلط بينه وبين حالات الانشقاق الهستيرى وارد، خاصة بالنسبة للطبيب المبتدئ، مع أن الفروق الإكلينيكية هى من أظهر الفروق حيث يمكن ملاحظة الجزء شبه الإرادى فى الانشقاق الهستيرى أو الغيبوبة الهستيرية بسهولة.
رابعا:
إن الكثيرين قد يعزون مظاهره أيضا إلى عوامل غيبية (اللبس، والمس من تحت الأرض..إلخ) وهذه تفسيرات تقبلها ثقافتنا الشعبية خاصة.
ملاحظات إكلينيكية ذات دلالة:
1- فى حين يبدو المريض فى هذا النوع غائبا عن الوعى، لا بد من تذكر أنه قد يكون حاد الانتباه السلبى حتى أنه يستطيع أن يسجل كل ما يدور حوله، وقد يحتفظ به فى ذاكرته بشكل شديد الوضوح، وقد يحكيه بعد إفاقته من النوبة (وعلى ذلك لابد أن يراعِى الأطباء والممرضون وغيرهم ما يقولونه عنه عشوائيا وهو غائب فى غيبوته، لأنه ليس غائبا حتى لو كان مغمض العينين طول الوقت).
2- إنه مهما طالت مدة السبات – التى كثيرا ما تصل إلى حدة الغيبوبة – فإن عددا غير متوقع من هؤلاء المرضى يفيقون بلا أثر اندمالى كبير (أو صغير)، حتى يحتاج الأمر إلى إعادة النظر فى تشخيص الفصام أصلا
3- إن عددا من هؤلاء المرضى قد يحتاج إلى عدد أكبر من جلسات تنظيم الإيقاع RRT خاصة لو كان المريض قد سبق له العلاج فى المحيط المناسب (علاج الوسط مثلا) الذى أعده لذلك، كما قد يحتاج إلى جلسات متباعدة لمدة طويلة تصل إلى الشهور أو لعدة سنوات فى بعض الحالات النادرة.
4- إن الانتقال من السبات إلى الهياج (وبالعكس) فى أى وقت، يمكن أن يحدث بدون أى علامات منذرة .
5- إن من أهم واجبات الطبيب فى مرحلة السبات مهما طالت، أن يقوم بالعناية بالوظائف الحيوية بكل الوسائل الطبية والتمريضية اللازمة
6- إننا سوف نعود إلى مناقشة وجه الشبه بين هذا النوع وبين البيات الشتوى الذى تمارسه أعداد مختلفة من الأحياء الأدنى، وعلاقة ذلك بالطبنفسى التطورى.
5- الفصام الوجدانى:
يتميز هذا النوع بوجود مزيج من أعراض الفصام وأعراض الهوس أو الاكتئاب الصريحة والمستمرة إلى درجة ما، بمعنى أنه لا يعنى مجرد تذبذب العواطف بين فترات الهوس والاكتئاب وإنما وجود هذه الأعراض كجزء لا يتجزأ من زملة الأعراض .
هذا، وعادة ما يوجد تاريخ عائلى إيجابى لأمراض الهوس والاكتئاب أو أى ظاهرة دورية، علما بأن وجود تاريخ أمراض الهوس والاكتئاب فى العائلة هو أكثر العوامل التى تدعو للنظر فى احتمال هذا التشخيص، مع التكهن بسير أفضل للمأل، حتى لو لم تكن أعراض الاضطرابات الوجدانية ظاهرة بشكل واضح.
ويمكن تقسيم هذا النوع إلى ثلاثة أقسام حسب الأعراض الغالبة:
(أ) الفصام الوجدانى الاكتئابى، وفيه إضافة إلى أعراض الفصام أعراض اكتئابية محددة .
(ب) الفصام الوجدانى الهوسى وهذا أيضا فيه أعراض الهوس بالإضافة إلى أعراض الفصام .
(ج) الفصام الوجدانى المختلط (وهو الذى يجمع بين بعض أعراض الهوس وبعض أعراض الاكتئاب).
هذا وقد دار خلاف موضوعى حول أحقية هذا النوع بالاندراج تحت لواء الفصام أصلا، وذلك نظرا لأن دورية حدوث النوابات تكاد تتقارب مع دورية أمراض الهوس والاكتئاب، كما ان المآل كثيرا ما يكون أفضل بكثير من أغلب أنواع الفصام الأخرى.
وقد دعيت إلى كتابة رأيى فى هذا الخلاف بشكل رسمى من زملاء أفاضل.
وقد كتبت افتتاحية بالإنجليزية فى المجلة المصرية للطب النفسى أبين فيها رأيى من أن هذا النوع هو ليس بالضرورة فصاما، كما أنه لا يمكن إدراجه ببساطة مع أمراض الهوس والاكتئاب، واقترحت أن نعتبره من الاضطرابات المفترقية، وعنوان هذه الافتتاحية هو:
Schizoaffective Disorder: An Exclusive Waste Basket or a Specific
Cross-road Devolutionary Phase (A psychopathological Stand Point)
الفصام الوجدانى هل هو سلة مهملات للاستبعاد أم أنه طور مفترقىّ متميز
(وجهة نظر نفسمراضية) (1)
وقد أوضحت فى هذه الافتتاحية كيف أنه لا يجوز الوصول إلى هذا التشخيص بمجرد جمع ما هو فصام مع ما هو اضطراب وجدانى فهى ليست مجرد عملية “قص ولصق” لأعراض متباينة من زملات مختلفة، وأن هذا الاضطراب بالذات لا يجوز أن يطلق على مريض اكتئابه غير نموذجى مما يسمى أحيانا اكتئاب لزج نعـّاب غير نموذجى Atypical Nagging Sticky Depression ، ولا على فصامى زائط نتيجة للنكوص فبدت عليه أعراض فرح شبه هوسى، ولا لمجرد تجاور أعراض الفصام مع أعراض الهوس أو الاكتئاب، وإنما وبلغة إيقاعية تطورية هكذا جاء النص بالإنجليزية: Evolutionary-rhythmic Language”) ينبغي اعتباره بمثابة مظهر ذهانى لإجهاض أزمة مفترقية فشلت أن تواصل إلى تفسخ صريح، وفى نفس الوقت لم تجد فرصة الاستمرار حتى فى أحد تجليات أمراض الهوس والاكتئاب كدفاع ضد هذا التفسخ .
وكل هذا سوف نعود إليه: أولا مع تقسيمات الفصام من وجهة نظر الطبنفسى الإيقاعحيوى، وثانيا: مع عودتنا إلى أمراض الهوس والاكتئاب .
ملاحظات إكلينيكية ذات دلالة:
وقد تطورت بى ملاحظة ضرورة استقلال هذا النوع عن الفصام أننى قمت بوصف ذهان خاص ضمن الذهانات الست التى اقترحت إضافتها مستقلة (2) وهو ما أسميته “الذهان الدورى التفسخى” Periodical Disorganization Psychosis بينت فيها مبررات استقلال هذا النوع من مصدرين وأنى استلهمتها، الأول من التقسيم الفرنسى فى وصفه لما يسمى “الفورة الضلالية” Boffee Delirante ، ثم من وصفى لما قدمت عن الفصام الوجدانى المفترقى (أنظر قبلا)،
وأما ما دعانى إلى فصل هذا الذهان مستقلا فهو:
أولا: أنه أفضل مآلا ليس فقط من الفصام بل أيضا من كل من الهوس، ومن بعض أنواع الاكتئاب الدورى اللزج.
وثانيا: أنه أقرب ما يكون إلى التعتعة المنتظمة التى تحدث لنا جيمعا أثناء النوم فيما يسمى نوم الريم REM Sleep (نوم حركة العين السريعة)، وبالتالى يكون أقرب إلى ما هو طبيعى، وأبعد عن التفسخ فى الأحوال العادية، وبالتالى بررت كيف أن هذا النوع بالذات هو مفترقىّ جدا، ويالتالى فهو أوْلى بالرصد والإحاطة لاحتمال النجاح فى إعادة التشكيل.
هذا، وبعد تطور فكرى الإيقاعى والتطور إلى وضع فروض “حالات الوجود المتبادلة” (نشرة 15/3/2016) و(نشرة 26/6/2016) و(نشرة 3/7/2016) واعتبار الحالة المفترقية أساس فسيولوجى ونمائى قبل أن تكون مفترق لمسار الأمراض تدّعم فرضى لفصل هذا النوع عن الفصام بهذه الصورة.
وبعد
أكتفى بهذا القدر من عرض أنواع الفصام من منظور تقليدى، وإن كنت لم أستطع أن أمنع نفسى من إضافة البعد الإيقاعحيوى التطورى فى كل نوع تقريبا، وأرجو أن أبدأ يوم الاثنين القادم، (بعد قبول الاعتذار الذى جاء فى المقدمة ) فى عرض أنواع الفصام من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى.
[1] – Y.T.Rakhawy “Egypt. J. Psychiat” (1982) 5: 192-194
[2]- Y.T.Rakhawy “StructuraL-Teleological Approach to Nosology & Diagnosis” 1992. www.rakhawy.net