الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس: ملف اضطرابات الإرادة (11) عودة إلى اضطرابات الإرادة مزيد من أعراض اضطرابات الإرادة (9)

الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس: ملف اضطرابات الإرادة (11) عودة إلى اضطرابات الإرادة مزيد من أعراض اضطرابات الإرادة (9)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 22-3-2015   

السنة الثامنة

العدد:  2760

 

الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:

ملف اضطرابات الإرادة (11)

عودة إلى اضطرابات الإرادة

مزيد من أعراض اضطرابات الإرادة  (9)

مقدمة:

ما زلنا فى مأزق الإرادة واضطراباتها، وقد خلصنا مؤقتا، ونؤكد حالا: إلى أنه إذا كانت طبيعة الإرادة هى بكل هذا الغموض والتحدى، وكانت مستوياتها بكل هذا التعدد، فعلينا أن نتوقع أن يكون الحكم على اضطراباتها صعبا، ومن ثـَمَّ هو يحتاج إلى دقة فى التوصيف وخبرة إكلينيكية أكبر من مجرد الحكم على العجز عن اتخاذ القرار، أو العجز عن إخراج القرار من حيز الإصدار إلى حيز التنفيذ فالاستمرار.

نواصل اليوم ما تبقى من اضطرابات الإرادة فنبدأ بما يسمى “انعدام الإرادة”، وهى درجة قصوى ينبغى أن نحذر من الإفراط فى استعمالها أو استسهال ذلك، بل دعونا نناقش مجرد الاعتراف بها، خاصة من منطلق إمراض (سيكوباثولوجى) ونحن نواجهه قهر الإرادة بإرادة مرضية صريحة فيما يسمى الوسواس القهرى – مثلا – الذى يفرض إرادة داخلية (تبدو خارجية أحيانا) على إرادة مقاوِمَةً لها وعاجزة عن ذلك، برغم جلاء البصيرة فى شذوذ واغتراب هذه الإرادة القهرية التى تفرض على المريض فعلا أو فكرة تفرضهما فرضا ضد كل مقاومة، كما أن القهر قد يظهر حتى بالنسبة للوجدان حين يفرض الخوف – مثلا – نفسه بلا سبب أو مؤثر مخيف، فيعتبر الخوف فى هذه الحالة مفروضا من الإرادة المرضية ضد الإرادة الظاهرة، وكل هذا يظهر عادة فى “تشكيلات الاضطراب الوسواسى القهرى” كما ذكرنا.

نكتفى اليوم بأن نبدا بما يسمى “اللاإرادة” أو العجز الكامل عن الفعْل الإرادى abulia، وما إذا كان هذا مقبول أصلا أم أن له تفسير آخر ثم نعرض بعض مظاهر الوسواس القهرى، وايضا هوس نتف الشعر، على أن نناقش غدًا ما تبقى مما لا يعتبر اضطرابا مباشرا للإرادة بقدر ما يعتبر اضطرابا عاما فى الشخصية سواء ظهر فى العجز عن كف النزوات Impulse control أو فى الإفتقار إلى الطموح، أم فى إعاقة نمو الشخصية بصفة عامة،

والأن إلى حديث اليوم:

أولاً – ‏اللاإرادة‏: ‏ Abulia – Lack of volition

هل يوجد شىء اسمه اللاإرادة أو انعدام الإرادة؟؟!!

لا‏‏بد‏ ‏من‏ ‏التنبيه‏ ‏ابتداء‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏مجرد‏ ‏ذكر‏ ‏المريض‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏عنده‏ ‏إرادة‏ ‏أو‏ ‏أن‏ ‏إرادته‏ ‏ضعيفة‏ ‏ليس‏ ‏دليلا‏ ‏على ‏عرض‏ “‏ضعف أو فقد الإرادة‏”، ‏بنفس‏ ‏الفكرة‏ ‏التى ‏نبّهنا‏ ‏فيها‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏مجرد‏ ‏الشكوى ‏من‏ ‏النسيان‏ ‏أو‏ ‏عدم‏ ‏التركيز‏ ‏قد لا تعنى‏ ‏حقيقة‏ ‏ضعف‏ ‏الذاكرة‏ ‏أو‏ ‏العجز‏ ‏عن‏ ‏التركيز‏، ويعتبر‏ ‏عرض‏ ‏اللاإرادة‏ – إذا سلمنا به مؤقتا – ‏من‏ ‏أصعب‏ ‏الأعراض‏ ‏تقييما‏ ‏لارتباطه‏ ‏باعتبارات‏ ‏ثقافية‏ ‏وبيئية‏ (‏ودينية‏) ‏مختلفة‏ ‏ومتنوعة‏، ‏ففى ‏مصر‏ -‏مثلا‏- ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يعتبر‏ ‏التوقف‏ ‏عن‏ ‏العمل‏ ‏المنتظم‏ ‏من‏ ‏مظاهر‏ ‏فقد‏ ‏الإرادة‏، ‏لكن لا ينبغى تعميم هذا التفسير ‏فقد‏ ‏يوجد‏ ‏مرضى ‏قد‏ ‏قرروا‏ – ‏مع‏ ‏سبق‏ ‏الإصرار‏- ‏ألا‏ ‏يعملوا‏، ‏فكيف‏ ‏يعتبر‏ ‏هذا‏ ‏فقدا‏ ‏للإرادة‏. ‏أن‏ ‏العمل‏ ‏اليومى ‏عند‏ ‏أغلب‏ ‏المصريين‏ يعتبر ‏ضرورة‏، ‏وقيمة،‏ ‏ومجالا‏ ‏صحيا،‏ ‏فى حين نجد‏ ‏أنه‏ ‏بالنسبة‏ ‏لبعض‏ ‏القطاعات‏ ‏فى ‏بلاد‏ ‏عربية‏ ‏أخرى يعتبر اختيارا كماليا عند القادرين ميسورى الحال.

وتختلف تشكيلات عجز الإرادة (حتى فقدها) بحسب المرحلة التى يتم فيها ذلك، فإذا كان ذلك فى مرحلة اتخاذ القرار فقد تناولناها قبل ذلك بالتفصيل، أما إذا جاءت فى مرحلة تنفيذ القرار فإن هذا يعتبر نوعا من اللاتوافق((1)) بين الوظائف النفسية، ويصبح تحديد فقد الإرادة أحد الاحتمالات التى تفسر مثل هذا اللاتوافق، بين الفكر والفعل بالذات، ولكن أحيانا يبدو هذا العجز فى مرحلة لاحقة وهى مرحلة اختبار المثابرة حيث يصبح عدم القدرة على الاستمرار حتى الوصول إلى الهدف الذى من أجله اتـُّخِذَ القرار نوعا من ضعف الإرادة، وأحيانا أخرى قد يتجلى فيما سبق أن بيناه من القيام بمحو آثار((2)) القرار أولا بأول. (نشرة 22-2-2015‏ “اضطرابات الإرادة (الاعتمال (؟) والاعتزام) عن‏ ‏طبيعة‏ “‏الإرادة‏”).

وتماشيا مع هذه المراجعة الجذرية، يمكن أن نقبل رفض هذا المصطلح من  أساسه بمعنى أنه لا يوجد شىء اسمه “انعدام الإرادة”، أو موت الإرادة، كما بيّنا حالا، مادمنا سلمنا بوجود إرادات متعددة، وبالتالى يعتبر تعبير فقد الإرادة قاصرا على ظاهر ما نتوقعه من ظاهر إرادة المريض، أو ربما مقارنة بإرادتنا نحن “نحوه” أو “له”.

ما يشجع على قبول هذا الفرض هو أنه يدعم الفرض الأساسى الذى سبق أن قدمناه وهو الذى يعتَبِرُ المرض نتيجة لإرادة داخلية، ولو كانت نتائجها سلبية، فهى إرادة، ونحن نتعامل معها أثناء العلاج، إذ ننشط لدى المريض إرادات بديلة ربما تحقق هدف المرض دون مرض، وقد بينا ذلك تفصيلا فى موقع آخر (نشرة 13-7-2008 “زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون”).

وربما يكون من الأصح أن نستعمل مصطلح “شلل الإرادة” أو إشلال الإرادة، نتيجة لتصادم إرادتين أو أكثر ليكون حاصل هذا التصادم صفراً فى السلوك الظاهر. (الشكل)

22-3-2015_1

ثانياً- بعض أعراض العجز عن الكفّ Disinhibition

فى ‏هذه الحالات‏ ‏ ‏يكون‏ ‏المريض‏ ‏تحت‏ ‏رحمة‏ ‏نزواته أو اندفاعاته‏ ‏عاجزا‏ ‏عن‏ ‏التحكم‏ ‏فيما‏ ‏ينتج‏ ‏عن ذلك من سلوك، وهو عادة يخترق كل الحواجز بدءا بحواجز ذاته من كف وضبط وربط والتزام وخجل واعتبار للموقف وللآخرين وللقيم السائدة عموما. وكل هذا يمكن أن نجده فى مجموعة من  “اضطرابات التحكم فى النزوات” Impulse Control Disorders  وتسمى الاضطرابات الفرعية لهذه المجموعة عادة باسم نوع السلوك الذى يظهر فيه هذا العجز، سواء سلوك شرب المخدرات وبالذات الكحول، أو السلوك الجنسى، أو سلوك الامتلاك، وتعتبر هذه المجموعة من أعراض اضطراب الإرادة من منطلق أن الاندفاع يحدث دون أن تستطيع الإرادة العادية أن تحول دونه، وقد يتم الاندفاع بشكل متفرق متباعد، أو قد يأتى فى نوبات دورية، أو قد يتخذ مسارا متفترا ((3)) أو حسب المؤثرات المثيرة له.

ومن أمثلة ذلك:

22-3-2015_2

أ- الكُحال: Dipsomania (هوس الشرب) : هو فعل قهرى متكرر يدفع إلى الاستغراق فى شرب الكحول حتى السكر، ويتكرر فى نوبات حتى بعد الامتناع عن الشرب لفترة قد تطول، وقد يحدث بشكل دورى، موسمى أحيانا، ويكون فى هذه الحالة مكافئ للجنون الدورى، وبالذات مكافئ للاضطراب الوجدانى الدورى، وهو يختلف عن إدمان الكحول المزمن الذى يستمر بجرعات فد تكون أقل، لكنها مستمرة ومتزايدة عادة.

ب – هوس السرقة  Kleptomania: هو فعل قهرى متكرر للسرقة خلسة (عادة دون حاجة أو انتفاع)، وهو عرض يحدث فى النساء أكثر من الرجال، وفى صغار السن أكثر، وقد تتم السرقة فى حالة وعى متماسك، أو قد تتم مع انحراف بسيط فى نوعية الوعى دون فقده، ويلاحظ أن بعض من يقمن((4)) بذلك يشكون من نسيان ما حدث، ولوعلى الأقل نسيان التفاصيل، وقد يصل الأمر فى بعض الحالات إلى عدم الاحتفاظ بالمسروقات، بل أحيانا بالتخلص منها مع القمامة، وأحيانا بالتبرع بها لمحتاج، وأحيانا بإخفائها فى أماكن مجهولة قد تغيب حتى عن صاحبها فى بعض الحالات.

ثالثاً- ‏الواسوس القهرى‏:

22-3-2015_3

‏يشير‏ ‏هذا‏ ‏العرض‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏ثم‏ ‏فعلا‏ يمكن ‏إتيانه‏ ‏دون‏ ‏المرور‏ ‏بمرحلة‏ ‏اتخاذ‏ ‏القرار‏، ‏وأحيانا‏ ‏ضد‏ ‏قرار‏ ‏مُتَّخَذٌ فعلا‏ ‏فى ‏الاتجاه‏ ‏المعاكس‏، وهذا يختلف عما سبق ذكره فيما يسمى “الفعل الإرادى  المصنوع”Made Volitional Act ، والذى سبق التحدث عنه ضمن أعراض “شنايدر”Schneider’s symptoms، وأيضا هو ليس من مظاهر فقد حدود الذات،  loss of ego boundaries   والضلالات والهلاوس الآمرة قهرا، ففى كل تلك الأحوال لا تكون هناك مقاومة أصلا، ولا بصيرة، ولا تعزى هذه الأفعال لقهٍر أصاب الإرادة الظاهرة، ولهذا فهى لم تُتَضمَّـنُ هنا.

أما فى حالات‏ ‏الوسواس‏ ‏القهرى ‏فإن المريض يقوم بعمل ضد إرادته وضد بصيرته معا، وبألفاظ أخرى هو يصارع علنا قراره الإرادى الذى صدر خفية بداخله من الناحية الأخرى، أى أن قراره الظاهر يرفض هذا التصرف الذى يحدث ضد رغبته الأكيدة فى منع هذا الفعل، فكيف يُعدّ  هذا من اضطرابات الإرادة فى حين أن ظاهر السلوك يقول إنه ليس بإرادته؟

لحل هذا الموقف وفهمه نرجع إلى منظور تعدد مستويات الإرادة، وبالتالى تَصارع الإرادات، وعلينا أن نفترض أن ثمة إرادة داخلية هى التى قررت فرض هذا الفعل سلوكا ظاهرا مكررا (عادة) ضد كل مقاومة أو بصيرة، يحدث ذلك فى مواجهة إرادة  أخرى، ظاهرة ومعلنة وشعورية، قررتْ، وتـُقـَرِّرُ باستمرار أن تمنع تنفيذ هذا القرار الإرادى الداخلى وتفشل عادة، هنا ينبغى أن نعتبر اضطراب الإرادة نوعا من الشلل الذى يلحق بالمريض نتيجة تصادم الإرادتين، فهو ليس صراعا خفيا، بل هو تصادم الإرادة الظاهرة مع ضغط الإرادة الداخلية المكررة القاهرة طول الوقت، وكثيرا ما تكون محاولة فرض الإرادة الرافضة لتكرار هذا الفعل نتيجة للبصيرة بعدم 22-3-2015_4جدواه، أو شذوذه، أو أثاره المعوقة، أقول كثيرا ما تكون هذه المقاومة هى وقود لمزيد من الفعل القهرى المنتصر غالبا طول الوقت، لذلك فإن بعض العلاجات السلوكية المعرفية تركز على أن بعض القبول لما يبدو قهرا باعتباره إرادة أخرى فى مراحل معينة، قد يكون هو الأجدى من محاولات المقاومة طول الوقت حتى الشلل، وكأن ذلك يقلب ما يبدو قهراً لا إراديا، إلى فعل إرادى مقبول، ومن ثُمَّ يمكن التحكم فيه بالعلاج المعرفى السلوكى خاصة.

هذا ولا يقتصر هذا السلوك التكرارى على مجال السلوك، بل قد يظهر فى شكل فكرة نشاز أو محرّمة تتكرر باستمرار ضد أية مقاومة وتسمى الوساوس الاجترارية Obsessive Ruminations  وحين تتكرر فى مجال الوجدان بنفس القهر اللحوح تندرج أيضا هنا: مثل الخوف الذى يظهر قهراً من مثيرات يعلم المريض أنها لا تخيف لكنه لا يملك إلا أن يخاف منها ويسمى ذلك الرهاب الوسوساسى Obsessive Phobia وهو يتميز عن الرهاب العصابي بأنه معقلن  intellectualized جزئيا أكثر من ارتباطه بتفاعلات أتونومية Autonomic reactions

رابعاً – هوس النتف Trichotillomania:

22-3-2015_5

هو قهر متكرر لنتف الشعر (شعر الرأس أو الحواجب أو أى شعر). هذا الاضطراب شائع أكثر من المتوقع، وهو اضطراب قهرى، لكنه ليس وسواسيا تماما بمعنى أنه لا يتبع نمط تسلسل الفكرة => المقاومة => التوتر => الفعل، بل هو فعل مباشر قهرى متكرر، وقد يبدأ منذ الطفولة، بل أحيانا فى فترة الرضاعة وهو يظهر أكثر ما بين التاسعة والثالثة عشر وقد يكون ذلك مرتبطا بأزمة المراهقة واهتزاز مرحلة إرساء معالم “صورة الذات”، والبحث عن هوية، لكنه عموما يظهر فى أى سن، وقد يكون إعلانا لبداية اضطراب أساسى آخر مثل القلق الحاد أو بداية الاكتئاب، ثم يتطور الأمر بالعادة والتكرار إلى القهر الذى لا يُقَاوم، والأجزاء التى تتعرض للنتف تختلف، لكنها يمكن أن تصل إلى أغلب ما هو فى المتناَولٌ من شعرٍ للنتف، فهى عامة فى الجسم كله بدءًا من شعر الحواجب أو حتى الرموش ثم شعر الرأس  فالجسم، وهو خلل يعتبر من اضطراب الإرادة حين يأخذ نمط القهر المعاوِدْ، وفى بعض الأحيان قد يتم النتف بعيداً عن بؤرة الشعور الظاهر وكأن المريض فى حالة انشقاق للوعى حتى أنه ينسى متى فعل ذلك، ونادراً ما يحتد النتف قبيل النوم حتى يشكو المريض أو أهله أن بعض ذلك يتم أثناء النوم وخاصة فى بدا22-3-2015_6يته، وفى حالة ارتباطه بالاكتئاب خاصة قد يمثل نوعا من التشويه الذاتى لصورة الجسم ومن ثم صورة النفس حتى يتطابق مع إمراضية الاكتئاب وقد يبدأ فى بعض اضطرابات كرب ما بعد الصدمة Post traumatic stress disorder

وبعد

نتوقف اليوم لنعرض غدًا إلى صور أخرى من العجز عن الكف، وإن كانت تندرج تحت ما يسمى اضطرابا التحكم فى النزوات، وكذلك نعرض لعلاقة خلل الإرادة بمسيرة النمو، واحتمالات توقفه فى صورة بعض اضطرابات الشخصية.

[1] – Incongruity

[2] – Undoinge

[3] – Remittent

[4] – هو أكثر فى الإناث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *