نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 16 -3-2015
السنة الثامنة
العدد: 2754
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:
ملف اضطرابات الإرادة (10)
عودة إلى اضطرابات الإرادة
(الاعتمال (؟) والاعتزام) (8)
تشكيلات أخرى للإرادة، والعودة إلى رصد اضطراباتها
مقدمة:
الإرادة، اتخاذ القرار، الحرية، الوعى، التطور، الزمن، هذه كلها تحديات مازالت قائمة تحتاج جهدا هائلا من البحث والاستقصاء بكل المناهج، وأى اختزال، أو فرط تبسيط، هو تشويه لها، وإهانة للعلم، وكما أن أى تجنب لتناولها هو عجز عن حمل أمانة المعرفة ومسئولية الوعى.
قبل أن أدخل فى عرض بقية ما يسمى أعراض ضعف أو فقد الإرادة فى المرض خطرت لى تشكيلات أخرى لتصنيف أنواع من الإرادة من منطلق الإرادة أوردها ابتداءً كما يلى:
تشكيلات للإرادة حسب جوهريتها أو هامشيتها.
أولاً:- الإرادة المركزية:
المراد من هذا التعبير هو الإشارة إلى قيمة محورية ينتمى إليها الشخص ظاهرا وباطنا، ويمكن ألا تعلن فى مجال اتخاذ القرار، لكنها تتحكم فى أسهم وتوجه كل أو أغلب ما يتخذ من قرارات، وهى تترجح بين الأيديولوجيا الجامدة، وحركية التوجه القيمى المرن الخلاق، وهى قريبة مما سبقت الإشارة إليه فى باب التفكير عن الفكرة المحورية. (أنظر ملف التفكير: الفكرة المحورية) (نشرة 3-2- 2014 اضطراب التفكير (والأفكار).
ثانياً: الإرادة الطرْفية:
وهنا يتحرك الفرد إراديا فيما يتعلق بالتفاصيل وبدائل الاحتمالات، وهو يشعر بحريته طالما هو يمارس الاختيار واتخاذ قرارات حاسمة فى هذه المناطق الفرعية (1)، وهذا النوع هو إرادة لا شك فيها، وقد يحدث تأثيرا فى المدى البعيد على التوجه الإرادى المحورى بطريق تراكمى غير مباشر.
ثالثاً: الإرادة الموقفية إلى رجعة:
وهى ممارسة نوع من الاختيار الحقيقى فى ظروف خاصة، إلا أنه متى انتهت هذه الظروف، تراجع الاختيار إلى معاودة استكمال نفس النص الأول المكرر.
وبعد
آن الأوان إلى الانتقال إلى الأعراض الصريحة والمرتبطة باضطرابات الإرادة وهى كما يلى:
1– ضلالات التحكم:
من أهم أشكال تفعيل السلبية حتى انعدام الإرادة على مستوى مرضى ما يظهر فى صورة ظواهر السلبية مثل بعض أعراض شنايدر: وهذه الأعراض كما سبق أن ذكرنا تظهر فى سائر مجالات السلوك مثل: الفعل الإرادى المصنوع، Made Volitional act أو الأفكار المصنوعة Made thoughts أو حتى الوجدانات المُقحمة Imposed affect، سواء ظهر ذلك مصاحبا بلهوسات سمعية أو ضلالات آمرة، وسواء اشتكى منه المريض مباشرة أو لاحظه المحيطون به وقد ظهر فى سلوكه، أنظر نشرتى (نشرة 18/5/2014 “ضلالات التحكـّم (ظاهرة السلب: ملكية الأفكار)، و(نشرة 19/5/2014 ) أيضا.
2- الأعراض المتعلقة بفقد حدود الذات:
بالإضافة إلى ما سبق فى (1) فإن هنا تندرج أعراض شنايدر (مثل قراءة الأفكار Thought reoding، أو إذاعة الأفكار Thought broad casting، أو إقحام الأفكار Thought Insersion) وفيها يتخلى المريض عن دوره فى امتلاك فكره وقيادته نتيجة لفقد الحد الفاصل بينه وبين ما ومن حوله، وكل هذا بعض مظاهر فقد حدود الذات أو شفافيتها، وله علاقة بما سبق ذكره من أن “الذى يستطيع أن يقرر لابد أن يوجد أولا” أولا ذاتاً مستقلة.
3- اضطراب الإرادة قهراً:
ويظهر هذا فى فى حالات العجز عن مقاومة قهر أفكار مقتحمة، وهنا تمارس الإرادة دورها المبدئى فى مقاومة الفكر الاجترازى أو الفعل الوسواسى المترتب عليها بشكل عنيف ومُلاحـِق، لكنها تفشل فى النهاية فى مهمتها، بل إنه عادة كلما زادت المقاومة احتدّ الوسواس أكثر، حتى أنه يمكن نصْح المريض، فى إطار علاج سلوكى معرفى – بالعدول عن مقاومة الأفكار وإذا ما نجح فى ذلك فقد تهدأ حدة القهر بالفكر الاجترارى.
4- “التردد” (ذى المحصلة الصفرية):
وهو الذى يمكن أن نرصده إكلينيكيا فى شكل “التضارب الملاحِـقِ فى اتخاذ قرار ما، وأيضا هو يرصد أحيانا فى الحركة وقد نستنتجه من تكرار الخطوة أوالخطوات الأولى فى أى فعل أو إجراء، مثل عَرَض اليد المتوسطة (حين يهم المريض بالمصافحة والعدول عنها فى آن Propf hand)، فتظل تتذبذب اليد حتى تكاد تقف فى منتصف الطريق بين المصافحة والتراجع، نتيجة للعجز عن الترجيح بين الإقدام والإحجام، وهو ليس عجزا بقدر ما هو محصلة للتذبذب المطلق بين الإقدام والإحجام على فعل المصافحة.
5- إجهاض الإرادة:
وهنا تكون الإعاقة متعلقة أساسا بالمرحلة التالية لاتخاذ القرار، ويحدث الإجهاض إما بمحو القرار، بعكسه، أو بعدم تنفيذه أو تفعليه، وكأن المريض فى هذه الحالة يتخذ القرار بوضوح بعد أن يتيقن – لا شعوريا فى العادة- بأنه لن ينفذ، وقد يظهرمثل ذلك فى التباين بين الفكر والفعل فى بعض الأحوال العادية مثل الوعود السياسية، لكنه يتفاقم بشكل مرضى مباشر فى حالات الفصام مثلا. ثم إن عرقلة الكلام أو الحركة، قد تُـعْـزَى فى بعض الحالات إلى مثل هذا المحو أو الإجهاض لمشروع الفعل الإرادى. وقد سبق أن أشرنا كيف أن الهمود Retardation فى حالة الاكتئاب قد يعزى إلى التردد أكثر مما يعزى إلى نقص النشاط، ويلاحظ أحيانا أنه نظرا لحضور الإجهاض جاهزا منذ البداية فقد يبدو اتخاذ القرار سهلا وحاسما لدرجة يمكن الاستغراب لها، ولكن بمتابعة عدم التنفيذ يتبين تفسير هذه السهولة أن قرارالعرقلة قد اتخذ – لا شعوريا- حتى من قبل اتخاذ القرار، وبالتالى فقرار الفعل لن يترتب عليه أية مغامرة تنفيذية. ويمكن أن يطلق على مثل هذا القار “القرار بلا جدوى”.
ونكمل الأسبوع القادم بإذن الله عن عجز الإرادة، وقهر الإرادة، ثم اضطرابات العجز عن الكف.
[1] – توجد نكتة مصرية طريفة قديمة جدا تقول إن واحدا كان يحدث صديقه عن أنه قد حل “اختلافاته مع زوجته بشأن اتخاذ القرارات حلا نهائيا وذلك بأن يقسما الاختصاصات فى هذا الصدد، فسأله صديقه مستطلعا عن كيف ذلك حتى يحذو حذوه، فأجابه أنهما اتقفا أن يترك لها الرأى الأول فى الأمور التافهة وأن يهتم هو بعظائم الأمور دون صغائرها، فزاد شوق الصديق لمعرفة ما هى الأمور التافهة، وما هى عظائم الأمور، فقال الصديق الحر: إن الأمور التافهة تتضمن التصرف فى دخل الأسرة كله، ومدارس الأولاد، ومكان السكن، واحتمال النقل، وأماكن التصييف، وأولوية الزيارات، وترتيب العلاقات واختيار النادى…، فقاطعه صديقه قائلا: إذن فما هى الأمور الجسيمة التى تركتها لك ليكن لك فيها القرار النهائى، فرد الحاكى قائلا: إن لى الرأى الأول والأخير فى مشاكل وحقوق الإنسان عبر العالم وخاصة فى البلاد النامية المفتقرة للديمقراطية وفى مجاعة الصومال، وفى إرهاب داعش، والتضخم العالمى، وهى ليس لها أن تتخذ أى قرار فى هذه التحديات ومثلها أصلا.