الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الحلقة الثالثة والعشرون الجمعة‏: 27/1/1995‏

الحلقة الثالثة والعشرون الجمعة‏: 27/1/1995‏

نشرة “الإنسان والتطور”

13-5-2010

السنة الثالثة

العدد:986

الحلقة الثالثة والعشرون

الجمعة‏: 27/1/1995‏

… ذهبت‏ ‏اليوم‏ ‏مبكرا‏ ‏لأقرأ‏ ‏له‏ ‏الصحف‏، كنت قد علمت أن وعكة المّت بالحاج صبرى، فلم يحضر هذا الصباح لقراءة الصحف، وكنت قد اعتدت أنا، أو زكى سالم، أن نحل محل الحاج صبرى فى حالة غيابه الاضطرارى واعتذاره عن عدم الحضور الصباحى، لم أكن طبعا فى كفاءة الحاج صبرى، فهو ليس مجرد قارئ يقلب الصفحة تلو الصفحة، الحاج صبرى يعرف ما يفضله الأستاذ، كما يعرف أولويات ما يبحث عنه، وكثيرا ما كنت أحكى للأستاذ خبرا ثقافيا، أو اجتماعيا ثانويا، بعيدا عن السياسة والاقتصاد، خبرا أعتقد أنه يهمه بشكل خاص، فيرد ‏أن الحاج صبرى نبهه إليه، المهم جلست مكان الحاج صبرى وأنا مدرك تفوقه علىّ بلا أدنى شك، مررنا‏ ‏على العناوين، ثم على عناوين مقالات “قضايا وآراء”، ‏ثم‏ ‏توقفت‏ ‏عند‏ ‏خبر‏ ‏يقول‏: ‏إن‏ ‏المفتى (‏الشيخ‏ ‏طنطاوى – رحمه الله‏)، ‏قد‏ ‏أصدر‏ ‏فتوى ‏تقول‏ “..‏إنه‏ ‏يمكن‏ ‏إنفاق‏ ‏أموال‏ ‏الزكاة،‏ ‏التى يجمعها‏ ‏بنك‏ ‏ناصر،‏ ‏فى ‏مشروعات‏ ‏العاطلين‏، ‏تبعا‏ ‏للحديث‏ ‏الشريف‏ “‏خذ‏ ‏واحتطب‏”، فرح الأستاذ باستعمال هذا الحديث الشريف فى هذا المجال، ‏ودخل‏ ‏علينا‏ ‏محمد‏ ‏يحيى ‏وتوفيق‏ ‏صالح‏ معا، ‏رُحت أكمل الحديث مع الأستاذ بعد استئذانهما أننى لست معه جدا فى هذه الفرحة والموافقة، الحديث الشريف جميل جدا، وفائق الدلالة، لكن الخوف كل الخوف أن نتناول مشاكلنا من منطلقات النصوص وليس من واقع الحال، إذا ما تولى هؤلاء القوم الأمر، استوضحنى الأستاذ أكثر، فاكملت: إن هذه الأحاديث المشرقة والمفيدة، لابد أن تدعم الحسابات الواقعية والضرورية، لكن لا ينبغى أن “تنطلق” منها التوصيات والآراء الحالية، أرى أنه ينبغى أن تكون هذه التنظيمات لصالح الناس أولا وأخيراً، ولتجنب ضررهم وضرارهم، وهذا وذاك جوهران فى الدين، ثم يدعمها أو لا يدعهما نص دينّى جيد مفيد، استوضحنى هذه المرة توفيق صالح، يبدو أننى لم أكن واضحا فعلا، ‏أكملت‏ ‏ ‏قائلا‏: إن‏ ‏مخاوفى من ‏ ‏الحكم‏ ‏الإسلامى ‏ليست‏ ‏فى ‏أن‏ ‏يتولى ‏الحكم‏ ‏مسلمين‏ ‏إرهابين‏ ‏أو‏ ‏إخوان مسلمين‏، ‏ولكن‏ ‏أن‏ ‏تصبح‏ المرجعية فى تنظيم شؤون الناس هى مقياس “الحلال والحرام”، وليس مقياس الفائدة والضرر، ولا مقياس التطور والسكون، أو الإنتاج والإبداع، ثم رحت أؤكد أن المسألة ليست ثانوية، نحن قد نحتاج الفتوى الداعمة بعد القرار الصائب، وليس قبله، قد يدعمنا النص الكريم لزيادة الفائدة وتحفيز الناس وليس انطلاقا منه، هذا الترتيب مهم عندى، قد لا تكون هناك مشكلة حين يلتقى النص بالفائدة، لكن المشكلة تبدأ حين يسبق النص فيفرض نفسه بعيدا عن الواقع، فربما فى هذه الحالة يُستعمل لتبرير الظلم، أو تأييد حاكم فاسد، أو قهر إبداع كادح إلى وجه الله، وهو لا ينبع بالضرورة من نص دينى بذاته، هز الأستاذ رأسه هزة لم أستطع أن أترجمها إلى ما اعتدت، وسألنى توفيق صالح أن أؤجل بقية الشرح إلى ما بعد وصولنا إلى الفندق، ورجحت أننى لم أنجح أن أوضح نفسى بدرجة كافية. ‏

كان‏ ‏مزاج‏ ‏الأستاذ‏ ‏معتلا‏ ‏بعض‏ ا‏لشيء‏، ‏وقد عزى ذلك إلى أنه ‏ ‏لم‏ ‏يُفرغ‏ ‏أمعاءه‏ ‏بالشكل‏ ‏المعتاد‏، ‏كان صامتا مقطبا، على غير عادته حين يفرح بلقائنا، ‏فانقبضت‏، وأرجعت هزة رأسه “النص نصف” إلى هذا الاعتلال الغامض، ‏لكننا‏ ‏حين‏ ‏وصلنا‏ ‏إلى ‏الفندق‏، ولفحنا الهواء الطازج المنعش،‏ ‏بدا‏ ‏أكثر‏ ‏انفتاحا‏ ‏وحيوية، لكنه ظل هادئا مشاركا عن بعد‏، ‏لكننى ‏لم‏ ‏أرتح‏ ‏تماما‏.‏

رحت أذكّره بما ‏كنا نناقشه ‏ ‏أمس‏، ‏وأول‏ ‏أمس‏، ولم نكمله، لعله يثير فضوله فنواصل الحوار حوله، ‏فكان‏ – ‏على غير عادته‏ – ‏أقل‏ ‏حدة‏ ‏فى ‏التذكر‏، ‏بل‏ ‏شعرت‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏أقل‏ ‏اهتماما‏. ‏بعد‏ ‏قليل‏ ‏انفرجت‏ ‏الأزمة أكثر، ‏لكننى ‏أستأذنت‏ ‏مبكرا‏ ‏لواجب‏ ‏عزاء‏ احتاج منى بعض ساعة.

حين عودتى قال‏ ‏توفيق‏‏: ‏إنه‏ ‏إلحاقا‏ ‏لكلام‏ ‏أمس أيضا‏، ‏فإن‏ ‏احتمال‏ ‏تراجع‏ ‏مصر‏ ‏عن‏ ‏الإصرار‏ ‏على ‏عدم‏ ‏التوقيع على‏ ‏معاهدة‏ ‏انتشار‏ ‏الأسلحة‏ ‏النووية‏ هو احتمال خطير، فقد ‏سمع‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏خطة‏ ‏اسرائيلية‏ ‏معدة‏ ‏تمكنهم‏ ‏من‏ ‏إحتلال‏ ‏سيناء‏ ‏فى 13 ‏دقيقة‏ (‏وليست‏ ‏فى ‏ستة‏ ‏أيام‏ ‏مثل‏ ‏حرب‏ 67)، ‏قلت‏ ‏له‏ – ‏مائلا‏ ‏على ‏الأستاذ‏ – ‏أليس‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏مبالغة‏ ‏بالغة‏، ‏ولم‏ ‏يعقب‏ ‏الأستاذ‏، ‏كان‏ ‏مزاجه‏ ‏مازال متعكرا على ما يبدو‏، ‏أضفت‏ ‏موجها‏ ‏كلامى ‏إلى ‏توفيق‏ ‏ومحمد‏ ‏يحيى ‏وحافظ عزيز‏:

 ‏إليكم‏ ‏شطحة‏ ‏أخرى ‏من‏ ‏شطحاتي‏، ‏إنى ‏أتصور‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينقذ‏ ‏مصر‏ ‏ويجمع‏ ‏عافيتها‏ ‏هى ‏حرب‏ ‏ممتدة‏ ‏عشرين‏ ‏عاما‏ أو خمسين عاما، ‏ضحك‏ ‏توفيق‏ ‏وذكر‏ ‏حديثا‏ ‏سمعه‏ ‏من‏ ‏يوسف‏ ‏السباعى ‏وجمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏يخطب‏ ‏ويهدد‏ ‏ويتوعد‏، ‏قال‏ ‏السباعى‏: “…. ‏جيشنا‏ ‏كالموج‏، ‏على ‏سطحه‏ ‏زبد‏ ‏كثير‏ ‏لكنه‏ ‏ينحسر‏ ‏سريعا‏”- ‏فشرحت‏ ‏لتوفيق‏ ‏مغزى ‏شطحتى ‏وأننى ‏لا‏ ‏أقصد ‏حربا‏ ‏نظامية‏، ‏وإنما‏ ‏أعنى أن يتكرر سكريبت “‏الاحتلال/ المقاومة”‏ ‏وليكن ما يكون، سوف تتفجر المقاومة‏، طول الوقت من كل الناس، ‏لابد‏ ‏من‏ ‏شيء‏ ‏يستنفر‏ ‏الحياة‏ ‏فينا‏، مهما كانت التضحيات، نحن لن ‏نبنى ‏أنفسنا كما ينبغى إلا من خلال تهديد واقعىّ ملاحق، لا من خلال الخوف من أن تجتاحنا إسرائيل فى 13 دقيقة، أو 13 شهرا، “التحدى للبقاء” يتحرك بقوة فى مواجهة تهديد يومى واقعى بالفناء وليس استجابة للإعلام التشجيعى، ولا خوفا من الإعلام الترهيبى، التحدى للبقاء ينبثق، من خلال واقع مر متحرك متجدد طول الوقت، الحروب تصنع الشعوب، وقد تفجر الحضارات، برغم كل احتمالات الدمار والفناء، كنت لا أجد تناقضا بين ما أقول، وبين موقفى الذى يعرفه الجميع من حيث تأييد معاهدة السلام (الذى لم أتبين حقيقته إلا وأنا أميز بين معاهدة السلام وبين “ثقافة السلام” هذه الأيام 2010 “نشرة 1-5-2010 ، 8-5-2010رفض محمد‏ ‏يحيى ‏كعادته‏، ‏وقال‏ ‏إن‏ ‏كل‏ ‏حلولك‏ ‏تبدأ‏ ‏بكلمة‏ “‏لو‏”، ‏قلت‏ ‏له‏: ‏و”لم‏ ‏لا”‏، ‏أليس‏ ‏من‏ ‏حقى ‏أن‏ ‏أطلق لخيالى العنان ‏إلى ‏ما‏ ‏ينقذنا‏، ما دام الواقع يصلنى بكل هذا التراخى والتواكل ؟

استعدت من الاستاذ‏ ‏معلومتين‏ ‏لم‏ ‏أتبينهما‏ ‏أمس‏ ‏تماما‏، ‏سألت‏ ‏عن‏ ‏المسرحية‏ ‏التى ‏استشهد‏ الاستاذ ‏بأغنية‏ ‏منها‏ ‏أمس‏ ‏فقال‏: ‏لا‏ ‏أذكر‏ ‏اسم المسرحية ‏الآن‏ ‏وإن‏ ‏كنت أكاد‏ ‏أذكر‏ بعض ‏الأغنية‏ ‏فقط‏ ‏فتعجبت ليست عادته، لعله‏ ‏هذا‏ ‏المزاج‏ ‏المتعكر‏ ‏اليوم‏، ‏فسألته‏ ‏عن‏ ‏الأغنية‏ ‏رددها‏ ‏ببهجة‏ ‏أقل‏!!!.‏”‏علمنى ‏أبى ‏ركوب‏ ‏الخيل‏ ‏قبل‏ ‏الكتابة‏ ‏والقرايا‏”‏، وكان‏ ‏الأستاذ‏ ‏قد‏ ‏نبهنا‏ ‏أمس‏ ‏أن‏ ‏منشد‏ ‏هذا‏ ‏الكلام‏ ‏كان‏ ‏يتحرى ‏المد‏ ‏حفاظا‏ ‏على ‏القافية‏، فهو ‏لا‏ ‏يقول‏ ‏القراءة‏ ‏ولكن‏ ‏القرايا‏ ليتفق مع القافية .‏‏”‏أنا‏ ‏العلام‏ ‏إبن‏ ‏أمى ‏وأبويا‏”‏. (لست متأكدا من النص)

الاستفسار‏ ‏الآخر‏ ‏كان‏ ‏عن‏ ‏أول‏ ‏لقاء‏ ‏له‏ ‏مع‏ ‏محمود‏ ‏شاكر‏ ‏فى ‏مكتب‏ ‏الرسالة‏ ‏عند‏ ‏الأستاذ‏ ‏الزيات‏، ‏ولم‏ ‏يزد‏ ‏الأستاذ‏ ‏عما‏ ‏سبق‏ ‏ذكره‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏محمود‏ ‏حسن‏ ‏إسماعيل‏ ‏ربما‏ ‏كان‏ ‏حاضرا‏.‏

الاثنين‏: 30/1/1995‏

حضر‏ زميلى (دفعتى) ‏د. علاء‏ ‏الزيات‏ (‏ابن‏ المرحوم ‏أحمد‏ ‏حسن‏ ‏الزيات‏) ‏بناء عن اقتراحى ليفحص الحالة الباطنية للأستاذ، وبالذات حالة السكرى، ‏رحـب‏ ‏الأستاذ به وهلل‏ ‏لحضوره‏ ‏قائلا‏ “‏إبن‏ ‏أستاذي‏”، وعلق بعد خروجه على أنه يشبه أباه، بالذات فى قصر قامته، ‏بعد الكشف الروتينى والأسئلة التقليدية طمأنه‏ ‏أ‏.‏د‏.علاء ‏وطمأنني‏، ‏ذكرت‏ ‏لعلاء‏ ‏بعض حديثى مع الأستاذ عن والده، وكيف‏ ‏بلغنى كم‏ ‏ ‏يحب‏ الأستاذ ‏والده‏، ‏راح الأستاذ يحكى لعلاء عن والده بعض الأحاديث الخفيفة، وأنه كان نابها لماحا، وكان قد قال لى إن مجلة الرسالة كانت تغطى مصاريفها، بل وتدر ربحا، قلت للأستاذ أن ابنه د.علاء قد ورث عن والده الدهاء العلمى والواقعى معا، ثم أضفت أننى أشهد لعلاء بمهارته ‏فى ‏الطب‏ ‏مع أنه ‏ “‏قليل‏ ‏الأدب‏”، ‏وحين ضحك الأستاذ فهم علاء أننى أعنى أنه مقلُّ فى قراءة الأدب ناهيك عن كتابته، وإن كنت أعرف عنه أنه يهوى سماع الموسيقى الكلاسيك، فعقب الأستاذ أنه كان يهواها كذلك، وكررت أننى “ليس لى فيها أصلا”. حين سأل ‏ ‏د‏.علاء‏ الأستاذ السؤال التقليدى الذى يسأله الأطباء: “‏مم‏ ‏يشكو‏” ‏قال‏ ‏ببراءة‏ ‏ ‏وغمز‏، “‏ولا‏ ‏حاجة‏” ‏فالتفت‏ ‏د‏.علاء‏ ‏إلىّ “‏قائلا‏”: ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏د‏. ‏يحيى ‏هو‏ ‏الذى ‏يشكو‏، ‏وضحك الأستاذ‏ ‏كأنه يوافق، واتفقنا‏ ‏على ‏أنه‏ ‏فحص‏ “‏للتدقيق”‏ ‏إن‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏، ‏يسأل‏ ‏د‏. ‏علاء‏ ‏الأستاذ عن‏ ‏حالته‏ ‏النفسية‏ ‏فيشير الأستاذ إلىّ حيث أجلس، فأرفض بشدة أن أكون مصدر الإجابة، ‏فقد‏ ‏أبيت‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏، وبوضوح كامل، ‏أن‏ ‏أتواجد‏ ‏مع‏ ‏أستاذى ‏إلا‏ ‏كمريد‏، ‏فأجاب‏ ‏الأستاذ‏ ‏أن صحته‏ “‏تمام‏ ‏التمام” ما دام صاحبك (وأشار إلىّ) ‏يخرجنى ‏كل‏ ‏يوم‏، ‏ولم‏ ‏أكن‏ ‏أحسب‏ ‏أن‏ ‏تشخيصى ‏الأول‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏وصل‏ ‏إلى ‏الأستاذ‏ “‏هكذا‏” ‏بهذا الوضوح من‏ ‏واقع‏ ‏الممارسة‏، ففرحت بهذا الدواء القديم الجديد، وقلت للأستاذ ما رأيك نسجل براءة الاختراع معا: “جرعات منتظمة من الناس”، ‏فقال لا بد أن تسجل اسم المرض أولا، وليكن “‏فقر‏ ‏ناس‏”، فيصبح الدواء هو “جرعة كذا من الناس”، ثم إن الأستاذ استدرك وقال: ما رأيك نسمى العقار الجديد:‏ “‏الهواء‏ ‏والناس‏”، فضحكت وقلت: قياسا على “الوفاء والأمل”، و”التوحيد والنور”، كان د. علاء يتابعنا، وعقب ضاحكا بالموافقة، وأنه شاهد على ملكيتنا للاختراع.

حين دخلت‏ ‏علينا‏ ‏الزوجة الكريمة، ‏‏ضحك ‏الأستاذ‏ ‏فرحا‏ ‏وهو يبلغها‏: “‏إن‏ ‏الدكتور‏- يقصد علاء- ‏يقول‏ ‏”إن‏ ‏الخروج‏ ‏أهم‏ ‏من‏ ‏الأدوية‏”، ‏وكانت الزوجة الفاضلة قلقة على صحة الأستاذ فى البداية من الالتزام بالخروج يوميا هكذا.

ثم جرى ‏نقاش‏ ‏بينى وبين‏ ‏د‏.‏علاء‏، وأنا أخطر الأستاذ أننا عملنا ‏كونسلتو‏!، ‏حول‏ “‏مسألة الكرواسون‏”، ‏وتعجب‏ ‏الأستاذ‏ ‏أن‏ ‏الدكتور‏ ‏علاء‏ ‏قد‏ ‏سمح‏ ‏له‏ ‏بقطعة واحدة‏ ‏كل يوم‏ (‏وكان‏ ‏الأستاذ – كما‏ ‏ذكرت‏ ‏سالفا‏- لا يسمح لنفسه إلا بقطعة واحدة ‏كل‏ ‏شهر‏، ‏وقد فرحت بفتوى علاء، وتذكرت مع الأستاذ كيف أننى سبق أن تعجبت من أنها “قطعة واحدة”، وهو ما عقبت عليه قائلا “طب ‏ ‏خليهم‏ ‏اثنين‏!!!” ‏(على ‏رأى ‏فؤاد‏ ‏المهندس‏).‏

كنت‏ ‏قد‏ ‏أطلعت‏ ‏على ‏تدريبات‏ ‏الكتابة‏ التى يقوم بها الأستاذ يوميا ‏قبل‏ ‏حضور‏ ‏الدكتور‏ ‏علاء‏ ‏ووجدتها‏ ‏تحسنت‏ ‏فعلا‏ ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بكتابة‏ ‏اسمه‏ ‏ووجدته‏ ‏قد‏ ‏كتب‏ ‏أمس‏:‏

ألا‏ ‏ليت‏ ‏الشباب‏ ‏يعود‏ ‏يوما‏ ‏فأخبره‏ ‏بما‏ ‏فعل‏ ‏المشيب

ثم‏ ‏كتب‏:‏

“وأن‏ ‏تسود‏ ‏المودة‏ ‏بين‏ ‏الناس‏ ‏بإقرار‏ ‏القانون”

سألته‏ ‏كيف‏ ‏ذلك؟

قال‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏كلمات‏ “‏سعد‏ ‏زغلول‏”‏

هذا الرجل يكاد ينبض بحب سعد زغلول كلما جاء ذكره حتى كأنه يجالسنا!!

وكم‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏كتاباته‏ ‏هذه‏، ‏هكذا‏، ‏لها‏ ‏دلالة‏ ‏خاصة‏، ‏وتمنيت أن تكون‏ ‏ثمة‏ ‏فرصة‏ ‏لدراسة‏ ‏هذه‏ ‏الكراسات‏.‏

(هذا ما كتبته فى هذا اليوم، وقد سبق أن أوردت تداعياتى حول هذا التدريب وبالذات هنا فى يوميات الإنسان والتطور، أنظر نشرة 31-12-2009  “فى شرف صحبة نجيب محفوظ (الحلقة الرابعة)

الاثنين‏: 30/1/1995 (‏بعد‏ ‏الظهر‏)‏

ذهبت مستقلا هذا اليوم لألحق بمجموعة فندق نوفويتل المطار، كنا قد رتبنا مسئولية كل يوم على واحد منا، وبدأ الصديق حافظ عزيز يتكفل بصحبة الأستاذ يوم الأثنين، (وأحيانا يكون معهما – لاحقا – عبد الرحمن الأبنودى، أو د. حسين حمودة) من البيت إلى الفندق، ثم ألحق أنا بهم أو لا ألحق، وذلك بعد أن أصر الأستاذ ألا ألزم نفسى يوميا بصحبته فى تنقلاته هكذا، ‏ذهبت اليوم‏ ‏مستقلا‏، ‏بدأت‏ ‏أرتاح‏ ‏للنظام‏ ‏الجديد‏، ‏أدخلُ‏ ‏عليه‏ ‏وهو‏ ‏بين‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏الخارج‏، ‏فأجده‏ ‏غير‏ ‏ما‏ ‏أجده‏ ‏وحيدا‏ ‏فى ‏البيت‏، ‏كنت‏ ‏بينى ‏وبين‏ ‏نفسى ‏آمل‏ ‏طبيا‏ ‏أن‏ ‏تسير‏ ‏الأمور‏ ‏الصحية‏ ‏من‏ حسن ‏إلى ‏أحسن‏ ‏حتى ‏يعود‏ ‏إلى ‏الكتابة‏، ‏لكن‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏عودته‏ ‏إلينا‏ ‏هكذا‏ ‏كانت هى ‏البداية‏ ‏الصحيحة‏.‏

كان‏ ‏الدكتور‏ ‏علاء‏ ‏قد‏ ‏نصح‏ ‏بحقنة‏ ‏فى ‏العضل‏ ‏اسبوعيا‏، ‏فقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏إنه‏ ‏لا‏ ‏يحب الحقن، ويأمل أن يستبدلها بأقراص‏ ‏إن‏ ‏أمكن‏، ‏فذكرت له أن رأى د. علاء ‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏دفعة‏ ‏قوية‏ ‏لاستعادة‏ ‏البناء‏، ‏وأننى ‏أنا‏ ‏شخصيا‏ ‏الذى ‏سأعطيه‏ ‏الحقنة، وأن “يدى خفيفة”، فعقب أننى أستطيع أن أستعمل “خفة يدى” فيما هو أكسب، وضحكنا، لكنه واصل رجاءه أن أعفيه من الحقن، فقلت له إننى لا أملك أن أخالف د. علاء إلا بعد الاتصال به من جديد، وأننى ناقشته فى هذا التفضيل أثناء زيارته وكنت متوقعا هذه المقاومة منه‏، ‏فمال‏ ‏الأستاذ علىّ غامزا، ‏ وهو يقول: “‏إديها‏ ‏لى ‏كده‏ ‏وكده‏”، ‏واستلقى ‏إلى ‏الخلف‏ ‏حين‏ ‏تحولت الغمزة إلى ضحكته الواسعة.‏ ‏

جاء‏ ‏ذكر‏ ‏السفير‏ ‏تحسين‏ ‏بشير‏ ‏فى حديث ‏توفيق‏ ‏صالح عنه، وكيف أنه (تحسين) ‏دعا‏ ‏نفسه‏ ‏على ‏الإفطار عنده منذ أيام، ‏وقلت‏ ‏له إننى ‏أعرفه‏، ‏عن طريق صديقى أ.د. محمد شعلان، و(المرحوم) د. عبد الوهاب المسيرى، ود. كمال الأبراشى وأنه رجل شديد الذكاء، حاد الذاكرة يعرف ‏أسرارا‏ ‏بلا‏ ‏حصر‏، ‏فقد‏ ‏عمل‏ ‏مع‏ ‏جمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏، ‏والسادات‏ ‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ ‏مع‏ ‏مبارك‏، ‏وأشرت‏ ‏إلى ‏أننى ‏حين‏ ‏عرفته‏ ‏احترمته‏ ‏وقدرت مواهبه برغم اختلافى معه‏، وكم ناقشته محاولا أن أثنيه عن استعمال ‏ ‏لغة‏ ‏وتكتيكات‏ ‏التحليل‏ ‏النفسي فى السياسة وغير السياسة‏، فأنا أتحفظ على منهج فرويد بشكل كبير، برغم احترامى لعبقريته، قال‏ ‏الأستاذ‏: ‏إن‏ ‏فرويد‏ ‏هذا‏ ‏أدى ‏خدمة‏ ‏هائلة‏ ‏للمعرفة‏ ‏حين كشف‏ ‏عن‏ ‏ماهية‏ ‏النفس‏ ‏مالا‏ ‏يمكن‏ ‏إنكاره‏، ‏وذلك‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏وافقته بحذر مؤكدا أنه فعلا ‏ ‏قد‏ ‏اكتشف‏ ‏مساحة‏ ‏‏من‏ ‏وجودنا كانت‏ ‏مظلمة‏ ‏قبله‏، ‏ولكنها كانت معروفة بغير أبجديته، قال الأستاذ: لكنه هو الذى نبه‏ ‏مؤكدا‏ ‏أنها‏ ‏موجودة‏، ‏وأنها‏ ‏شديدة‏ ‏الأهمية‏، ‏وأنها‏ ‏دالة‏ ‏المحتوى‏، فقلت: ‏لكنه‏ ‏حين‏ ‏حاول‏ ‏أن‏ ‏يكشف‏ ‏عن‏ ‏ماذا‏ ‏يحويه‏ ‏هذا‏ ‏الظلام‏ ‏شطح‏، ‏وتعسف،‏ ‏وتجاوز‏، ‏قال‏ ‏توفيق‏: ‏إن‏ ‏العيب‏ ‏الذى ‏يؤخذ‏ ‏عليه‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يعمم‏ ‏ما‏ ‏يراه‏ ‏فى ‏المرضى ‏على ‏الأشخاص‏ ‏الأسوياء‏، ‏فقلت لتوفيق إننى شخصيا أتعرف على أغلب سلوك الأسوياء من المرضى بشكل أو بآخر، وهذا ليس تعميما عشوائيا، لكنه منهج له مبرراته ومصداقيته، وبالتالى فأنا مع فرويد فى استعماله هذا المنهج، وأن يرى الطبيعة البشرية من خلال ما يراه فى المرضى قال‏ ‏الأستاذ‏: ‏بل‏ ‏ما‏ ‏يراه‏ ‏فى ‏نفسه‏ ‏أساسا‏، ‏فقد‏ ‏سمعت‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏شخصيا‏ ‏قد‏ ‏حاول‏ ‏أن‏ ‏يعتدى ‏على ‏أمه‏ ‏مرتين‏ ‏أو‏ ‏أكثر‏، ‏وأنها‏ ‏كادت‏ ‏تضربه‏ ‏على ‏ذلك‏، ‏وأضفت‏ ‏إشارة‏ ‏إلى ‏سلوكه‏ ‏مع‏ ‏أخت‏ ‏زوجته‏، ‏واعتماده‏ ‏لفترة‏ ‏على ‏الكوكاكيين‏ ‏ومشاكله‏ ‏الذاتية‏، ولم نتفق إلا على عبقريته.‏

أستأذن‏ ‏توفيق‏ ‏للذهاب‏ ‏إلى ‏الركن‏ ‏الصغير‏ ‏مبكرا‏ ‏قائلا‏ ‏للأستاذ‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏خيانة‏ ‏أن‏ ‏يذهب‏ ‏وحده‏ ‏قبل الأستاذ‏، ‏فقلت‏ ‏لتوفيق مازحا يمكنك أن تحتفظ بجزء يسير تشارك به ‏ ‏الأستاذ‏ ‏فيما‏ ‏بعد إخلاصا ومواكبة‏. ‏وضحك‏ ‏الأستاذ‏.‏

حضر‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏نشطا‏ ‏مبتهجا‏ ‏كالعادة‏، ‏فقلت‏ ‏وأنا‏ ‏أستأذن‏ “‏إذا‏ ‏حضر‏ ‏الماء‏ ‏بطل‏ ‏التيمم‏” ‏واعترض‏ ‏الأستاذ‏ ‏وزكى ‏بطيبة‏، ‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏أذهب‏ ‏سألت‏ ‏زكى ‏هل‏ ‏قابلت‏ ‏سعيد‏ ‏الكفراوى‏، ‏قال‏ ‏نعم‏: ‏قلت‏ ‏له‏: ‏هل‏ ‏هو‏ ‏صحيح‏ ‏بكل هذه الصفات التى قيلت فى شأنه فى العوامة “فرح بوت” من ‏ ‏بعض‏ ‏جلساء‏ ‏الثلاثاء؟ ‏ ‏قال زكى “‏‏أبدا‏، ‏إنه‏ ‏إنسان‏ ‏جيد فعلا”‏، فسرت له ما قالوه حين رفضوا زعمه أنه الشخصية المحورية فى رواية الكرنك، قلت له بما أنك تراه هكذا، فلربما قال ما قال حين تصور، بحسن نية، ‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏كان يحكى عنه نظرا لتشابه وصله يقابل خبرته الشخصية، فعقب زكى أنه “يجوز”،

وهز الأستاذ رأسه مسامحا، وليس بالضرورة موافقا.

هذا طيب. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *