الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الافتراضات الأساسية: الفصل السابع

الافتراضات الأساسية: الفصل السابع

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت24-10-2015

السنة التاسعة

العدد: 2976   

  الأساس فى الطب النفسى 

 الافتراضات الأساسية: 

الفصل السابع

استهلال:

فى الأسبوع الماضى كان عنوان نشرة السبت “نهاية حتمية لبداية ضرورية” ذلك أننى شعرت أنه لا بد من من إيقاف قسرى، لنعود لأصل العمل “الأساس فى الطب النفسى” على الرغم من أننى أعتبر أن من لا يعرف العلاقة بين الحلم والشعر والجنون يمكن ألا يعرف أساس الطب النفسى، لكنى حين وجدت استجابة الزملاء، خاصة الأصغر، على تقديم المعلومات الأساسية اللازمة لممارسة الطب النفسى: بمناسبة استئناف باب “التدريب عن بعد” (الإشراف) وكذلك “حالات وأحوال” أفقت إفاقة جعلتنى أنتقل – رغم عنى – لإكمال مهمة هذا الكتاب إذا كانت ستنتهى بعون الله.

كان الفصل السابق – السادس – عن اضطرابات الوعى الذى شمل ما تابعنا عن ماهية الأحلام، وبدرجة أقل اضطراباتها، ووجدت أن الفصل فى الكتاب الأصلى ثنائى اللغة هو بهذا العنوان “الاضطرابات الجامعة”.

‏الاضطرابات الجامعة

وأعتقد أننى كنت أعنى بما تحت هذا العنوان تلك الاضطرابات التى تجمع بين اضطرابات أكثر من وظيفة  نفسية فى نفس الوقت وقد جاء فى تبرير ذلك ما يلى:

يشير‏ ‏تعبير‏ ‏الاضطرابات الجامعة‏ ‏إلى ‏ما أكدناه‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يكفى ‏أن‏ ‏نعدد‏ ‏اضطرابات‏ ‏كل‏ ‏وظيفة‏ ‏على ‏حدة‏ ‏لنتعرف‏ ‏على ‏المريض، ‏فثمّة‏ ‏اضطرابات‏ ‏تشمل‏ ‏وظائف‏ ‏متكاملة‏ ‏معا، ‏أو‏ ‏تشمل‏ ‏الشخصية‏ (‏أو‏ ‏الذات‏) ‏ككل،‏“فالتمييز” (الحكم‏ ‏على ‏الأمور)‏ ‏أو “البصيرة”‏ ‏ليست‏ ‏عملية‏ ‏تفكيرية‏ ‏صرف‏، ‏و“الزمن”، ‏يكمن‏ ‏فى ‏كل‏ ‏وظيفة‏ ‏دون‏ ‏استثناء‏ ‏كما‏ ‏أن‏ ‏مسيرته‏ ‏قد‏ ‏تعنى ‏الحياة‏ ‏ذاتها‏ ‏بصفة‏ ‏شاملة، ‏وأيضا‏ ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏”الشخصية‏” ‏أو‏ ‏”الذات”‏‏ليست‏ ‏مجرد‏ ‏وظائف‏ ‏بجوار بعضها،‏ ‏ولكنها‏ ‏جُمّاع‏ ‏له‏ ‏ذاتيته‏ ‏الجديدة‏ ‏التى ‏هى ‏ليست‏ ‏مجموع‏ ‏أجزائه، ‏ثم‏ ‏يأتى ‏مفهوم‏ “‏الواحدية” ‏الذى ‏يعنى ‏التواجد‏ ‏المتسق‏ ‏لـ “‏الكل‏ ‏فى ‏واحد‏” ‏فى ‏لحظة بذاتها‏، ‏ ‏ولا‏ ‏تكتمل‏ ‏الصورة‏ ‏الإكلنيكية‏ ‏إلا‏ ‏بالإحاطة‏ ‏بأى من هذه الأبعاد دون تفتيت‏، وأيضا‏ ‏للجسم‏ ‏صورته‏ ‏وتخطيطه‏ ‏وحضوره‏ الشامل ‏المتداخل‏ ‏فى ‏كل‏ ‏الوظائف‏ ‏النفسية،‏ ‏وليس‏ ‏كمجرد‏ ‏أداة‏ ‏مادية‏ ‏لتأدية‏ ‏هذه‏ ‏الوظائف‏.‏

وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذا‏  ‏الكتاب‏ ‏معنى ‏بالمنظور‏ ‏الوصفى ‏لعلم‏ ‏الإمراض‏ ‏أساسا‏ ‏فإنه‏ ‏لا‏ ‏مفر من تناول هذه الوظائف من أبعاد تتجاوز مجرد الوصف إلى ما لا يمكن تجنبه من غائية نفسمراضية.

واليوم نبدا بوظيفة ليست مألوفة أن تنفصل عن التفكير أو الوجدان أو الإدراك إلا أن الاسم الذى اخترنا أن نقدمها به وهو “التمييز” ليس مألوفا علميا.

اضطرابات‏ ‏التمييز‏  (الحكم على الأمور)

مقدمة‏:‏

التمييز السليم‏ ‏ليس‏ ‏وظيفة‏ ‏مستقلة‏ ‏أو‏ ‏منفصلة، ‏فهو‏ ‏يشمل‏ ‏الإدراك‏ (‏الموضوعى) ‏والتفكير‏ ‏(الأشمل)‏ ‏والإرادة‏ ‏الفاعلة،‏ ‏والعواطف‏ ‏المنضبطة،‏ ولهذا وضعناه‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏الوظائف‏ ‏الجامعة.

ويمكن‏ ‏تعريف‏ ‏التمييزابتداء‏ ‏بأنه‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏تقييم‏ ‏موقف‏ ‏ما‏ ‏تقييما‏ ‏صحيحا‏ ‏بما يتيح‏ التصرف‏ ‏إزاءه‏ ‏تصرفا‏ ‏ملائما‏ لما يتطلبه ‏فى ‏حدوده،‏وعلى ‏أى ‏حال‏ ‏فإن‏ ‏ألفاظا‏ ‏مثل‏ “‏تقييما‏ ‏صحيحا” ‏أو‏ ‏تصرفا‏ ‏ملائما” ‏تحتاج‏ ‏مزيدا من الإيضاح: فالتمييز‏ (‏الحكم‏ ‏على ‏الأمور‏) ‏يعتمد‏ ‏على ‏قدرة‏ ‏الشخص‏ ‏على ‏الإلمام‏ ‏بالمعلومات‏ ‏التى ‏تمكنه‏ ‏من‏ ‏تقييم‏ ‏المواقف‏ ‏موضوعيا،‏ ‏والتصرف‏ ‏بما‏ ‏يتفق‏ ‏مع‏ ‏هذا‏ ‏التقييم‏ ‏بصفة‏ ‏عامة، ‏فهو‏ ‏وظيفة‏ ‏كلية‏ ‏ولكنها‏ ‏تختلف‏ ‏إحكاما‏ ‏وفضفضفة‏، ‏صوابا‏ ‏وخطأ‏، ‏بحسب‏ ‏الفروق الفردية والثقافة العامة والثقافة الخاصة والثقافة الفرعية، كما تختلف باختلاف التوقيت والموقع والموضوع. ‏فقد‏ ‏يكون‏ ‏الشخص‏ ‏قادرا‏ ‏على ‏الحكم‏ ‏السليم‏ ‏فى ‏مواقف‏ ‏العمل‏ ‏مثلا‏ ‏ولكنه‏ ‏ليس‏ ‏كذلك‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏ببيته‏ ‏وأسرته‏ ‏والعكس‏ ‏صحيح‏.

على أن لفظ التمييز تحديدا له وضع خاص فى الطب النفسى الشرعى، والأطباء الشرعيون والنفسيون الذين يكتبون تقارير عن “المسئولية الجنائية” للمتهمين المحالين إليهم لتقدير مسئوليتهم عادة لا يستعملون هذا اللفظ ويستعملون بدلا منه ألفاظا مثل التفكير أو الإدراك، علما بأن القضاة يفضلون التواصل بلغة “نصوص القانون وألفاظه تحديدا، وهى اللغة التى تحددت فى النص التشريعى المُلْزِم، وبما أن الجريمة لكى تكتمل كجريمة، لا بد أن يتوفر فيها ” الركن المادى” وهو الفعل الذى أدى إليها، الذى لا يكفى لتصنف جريمة كاملة الأركان إلا إذا توفر معه وفى نفس الوقت ما يسمى بـ “الركن المعنوى”، والركن المعنوى يشترط وجود كفاءة مناسبة لوظائف نفسية ومعرفية بذاتها، وهى التمييز” و”الوعى” و”الإرادة (1)، لتطبيق مبدأ الشرعية وأنه “لا جريمة  ولا عقوبة إلا بنص” وبما أن نص الاعفاء من المسئولية استعمل كلمة “التمييز”، فالمطلوب أن يستعمل الطبيب المسئول كاتب التقرير نفس اللفظ دون غيره.

وللوفاء باستكمال معلومات المريض يوجد بند خاص “بالحكم على الأمور” Judgement وهو بند منفضل عن كل من التفكير والبصيرة ونعنى به – كما سيرد: “التمييز” ضمن أشياء أخرى مثل الإلمام بالمعلومات الأساسية العامة التى ترتبط بثقافته  المريض الفرعية والذاتية كما ذكرنا.

أنواع‏ ‏التمييز

من‏ ‏الأفضل ‏أن‏ ‏نناقش‏ ‏أنواع‏ ‏وتصانيف‏ ‏التمييز‏ “‏العادى” ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ،‏وذلك‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏نقع‏ ‏فى ‏خطأ‏ ‏اعتبار‏ ‏أى ‏تمييز‏ ‏غير‏ ‏مألوف‏، أو لا يتناسب مع تمييز الفاحص والطبيب ‏على ‏أنه‏ ‏اضطراب‏ ‏أو‏ ‏عرض‏ ‏لمرض‏ ‏ما‏.

 ‏وفيما‏ ‏يلى ‏بعض‏ ‏هذه‏ ‏التصانيف‏ “‏العاددية‏:‏

‏1- ‏التمييز‏ ‏المعلوماتى:‏

‏ ‏وهو‏ ‏التمييزالذى ‏يعتمد‏ ‏على ‏وفرة‏ ‏المعلومات‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏ ‏وفى ‏المنطقة‏ ‏المطلوب‏ ‏فيها‏ ‏الحكم‏ ‏على ‏أمر‏ ‏بذاته بصفة خاصة‏. ‏وفى ما‏ ‏يسمى ‏ ‏المقابلة‏ ‏الإكلينيكية يوجد بند بعنوان‏ “‏الحكم‏ ‏على ‏المعلومات‏ ‏العامة” ‏يقع‏ ‏أكثر‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏التمييز‏. ‏وقد‏ ‏يكون‏ ‏الجهل‏ ‏بمثل‏ ‏هذه‏ ‏المعلومات‏ ‏العامة‏ -‏ من‏ ‏قبيل‏ ‏معرفة‏ ‏إسم‏ ‏رئيس‏ ‏دولة‏ ‏صديقة‏  ‏أو‏ ‏طبيعة‏ ‏حرب‏ ‏جارية‏ – ‏ليس‏ ‏دليلا‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏على‏ ‏العجز‏ ‏عن‏ ‏التمييز‏ ‏وإنما‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏نتيجة‏ ‏لعدم‏ ‏الاهتمام،‏ أو‏ ‏اتخاذ‏ ‏موقف‏ ‏سلبى ‏تجاه‏ ‏الأحداث‏ ‏العامة‏ ‏كنوع‏ ‏من‏ ‏الاحتجاج‏ ‏أو‏ ‏انصراف‏ ‏عن‏  ‏القضايا‏ ‏العامة‏ ‏لأسباب‏ ‏شخصية‏.

 ‏2- ‏التمييز‏ ‏(الإذعانى للحس العام‏)

من‏ ‏المألوف‏ ‏أن‏ ‏يجرى ‏الحكم‏ ‏على ‏الأمور‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالمنطق‏ ‏العام‏ ‏أو‏ ‏الحس‏ ‏العام، ‏وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏صحة‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبد‏أ، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏موقفا‏ ‏مانعا‏ ‏لغيره‏ ‏من‏ ‏أنواع‏ ‏الحكم، ‏ويمكن‏ ‏الحكم‏ ‏على ‏شخص‏  ‏ما‏ ‏بأنه‏ ‏يمارس‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏التشكُّل‏ ‏الحُكْمِى ‏بشكل‏ ‏مخل‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏كانت‏ ‏النتيجة‏ ‏إلغاء‏ ‏تفرده‏ ‏تماما‏ ‏وحرمانه‏ ‏من‏ ‏أى ‏موقف‏ شخصى ‏نقدى ‏ابتداء‏، وفى ‏ثقافتنا‏ ‏الحالية‏، ‏ولا‏ ‏سيما‏ ‏تلك‏ ‏التى ‏ترزح‏ ‏تحت‏ ‏تقاليد‏ ‏ريفية‏ ‏أو‏ ‏قبلية‏ ‏يغلب الإعلاء ‏من‏ ‏شأن‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏التقييم‏ ‏بشكل‏ ‏مفرط،‏ ‏مع‏ ‏أنه‏ ‏قد يمثل‏ ‏فى ‏عمقه‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الانصياع إلى “عقل القطيع” أحيانا.

وعلى ‏ذلك‏ ‏فإن‏ ‏أى ‏انحراف‏ ‏عن‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الحكم‏ ‏التشكّلى ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يؤخذ‏ ‏باعتباره‏ ‏شكلا‏ ‏من‏ ‏سوء‏ ‏التمييز‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏شاذا‏ ‏أو‏ ‏ذا‏ ‏عائد‏ ‏سلبى على الفرد أو المجموع، ‏ذلك أن قدرا مناسبا‏ ‏من‏ ‏الأحكام‏ ‏التى ‏تشذ‏ ‏عن‏ ‏المجموع‏ قد ‏تكون‏ ‏أحكاما‏ ‏نقدية‏ ‏مفيدة‏ ‏أو‏ ‏خلاقة (أنظر بعد).

‏3- ‏التمييز‏ ‏الخاص‏ ‏

‏ ‏وهذا‏ ‏الجانب‏ ‏من‏ ‏التمييز‏ ‏يضع‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏مسألة‏ “‏الفروق‏ ‏الفردية‏ ‏بشكل‏ ‏مميز، ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏عكس‏ ‏النوع‏ ‏السابق‏ ‏لأنه‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏حقيقة‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏شخص‏ ‏مهما‏ ‏اتفق‏ ‏مع‏ ‏من‏ ‏حوله‏ ‏له‏ ‏إطاره‏ ‏المرجعى ‏الخاص‏ – ‏شعوريا‏ ‏ولا‏ ‏شعوريا‏- ‏يحكم‏ ‏به‏ ‏على ‏الأشياء(2). ‏ويمكن‏ ‏تقييم‏ ‏هذا‏ ‏التمييز‏ ‏الخاص‏ ‏بدراسة‏ ‏طولية‏ ‏للشخص‏ ‏للتعرف‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الإطار‏ ‏المرجعى ‏الخاص به،‏ ‏وعما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏حكمه‏ ‏على ‏الأمور‏ ‏قد‏ ‏اختلف‏ ‏مؤخرا‏ ‏من‏ ‏عدمه،‏ كما‏ ‏يحكم‏ ‏كذلك‏ ‏بناتج‏ ‏ممارسته‏ ‏لهذا‏ ‏التمييز الخاص‏ ‏وعما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏يفيد‏ ‏فى ‏تكيفه‏ ‏والحفاظ‏ ‏على ‏صحته‏ ‏أم‏ ‏لا‏، ويوجد فى تراث اللغة العربية والوعى الشعبى أمثلة بلا حصر لهذا النوع المرتبط بشخصية المميز أو عواطفه أو تجيزه(3)

وما‏ ‏يسمّى ‏بالتمييز‏ ‏ذى ‏النقطة‏ ‏العمياء‏ ‏يقع‏ ‏ضمن‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالتميز‏ ‏الخاص، ‏ونعنى ‏به‏ ‏أن‏ ‏الشخص‏ ‏يمكن‏ ‏ألا‏ ‏يرى -‏إنكارا‏- ‏بعض‏ ‏المعلومات‏ ‏التى ‏تساعده‏ ‏فى ‏التمييز‏ ‏الموضوعى ‏وذلك‏ ‏لسبب‏ ‏عاطفى ‏أو‏ ‏تحيز‏ ‏غير‏ ‏ظاهر‏ ‏فى ‏العادة، ‏ويزداد‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏العمى ‏التمييزى ‏مع‏ ‏زيادة‏ ‏التعصب‏ ‏وعدم‏ ‏النضج‏ ‏والمغالاة‏ ‏فى ‏الحكم.

والتمييز‏ ‏الانتقائى ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المنطقة‏ ‏حيث‏ ‏ينتفى ‏الشخص‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏ ‏ما‏ ‏يخدم‏ ‏احتياجاته‏ ‏وهدفه‏ -‏المعلن‏ ‏أوالخفى – ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏. ‏وقد‏ ‏يتميز‏ ‏شخص‏ ‏ما‏ ‏فى ‏الحكم‏ ‏على ‏أمور‏ ‏انتقائية‏ ‏حسب‏ ‏اهتماماته‏ ‏أو‏ ‏خبرته‏ ‏أوتدريباته‏ ‏مع‏ ‏أنه‏ ‏يفشل‏ ‏تماما‏ ‏فى ‏حكم‏ ‏على ‏أشدالأمور‏ ‏بساطة‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏منطقة‏ ‏تميزه‏ ‏هذه،‏كما‏ ‏نشاهد‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏رئيس‏ ‏دولة‏ ‏يقوم‏ ‏بإدارة‏ ‏شئون‏ ‏دولته‏ ‏بكفاءة‏ ‏‏لكنه‏ ‏لا‏ ‏يحكم‏ ‏على (يميز) ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يترتب‏ ‏على ‏علاقة‏ ‏عاطفية‏ ‏عابرة‏ ‏حكما‏ ‏سليما‏ (4) ‏أو مثلما‏ ‏نراه‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏أبطال‏ ‏الشطرنج‏ ‏حين‏ ‏يتهمون‏ ‏بالتخلف‏ ‏العقلى ‏فيما‏ ‏ليس‏ ‏شطرنجا‏ ‏وهكذا‏.‏

وقد‏ ‏يكون‏ ‏مناسبا‏ ‏أن‏ ‏نطلق‏ ‏على ‏النوع‏ ‏المبالغ‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏التمييز‏ ‏الانتقائى ‏إسم‏: ‏التمييز‏ ‏الأنبوبى ‏أو‏ ‏التليسكوبى ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يرى ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏يسمح‏ ‏به‏ ‏قطر‏ ‏آلة‏ ‏محدود‏ ‏لا‏ ‏أكثر.

‏4- ‏التمييز‏ ‏النقدى:

 ‏وهو‏ ‏نوع‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الموضوعية‏ ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏عدم‏ ‏تواتره‏، ‏وخاصة‏ ‏فى ‏الثقافات‏ ‏التى ‏تغلب‏ ‏عليها‏ ‏التقاليد‏ ‏وتقديس‏ ‏المُسَلَّمات، ‏وهذا‏ ‏النوع‏ ‏يسمح‏ ‏بإعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏ما‏ ‏يرد ‏على ‏العقل‏ ‏بشكل‏ ‏جديد‏، ‏‏حتى ‏لو‏ ‏تعرض‏ ‏للخطأ‏ (‏القابل‏ ‏للتصحيح‏).‏

‏5- ‏التمييز‏ ‏الإبداعى:

 ‏وعادة‏ ‏ما‏ ‏يبدأ‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الموقف‏ ‏السابق‏ (‏التمييزالنقدى) ‏لكنه‏ ‏لا‏ ‏يتوقف‏ ‏عند‏ ‏التمييز‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏نقدى فاحص،‏ ‏بل‏ ‏يتعداه‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏تركيب‏ ‏الموقف‏ ‏كلية‏ ‏للوصول‏ ‏إلى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الأصالة‏ ومن ثم ‏إعادة‏ ‏التشكيل.‏  ‏

‏ ‏على أنه يجب التنبيه على ألا‏ ‏تصور‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏التمييز‏ ‏نقديا أو إبداعيا‏ ‏لمجرد‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏محاولة‏ ‏دائبة‏ ‏لاتخاذ‏ ‏موقف‏ ‏مختلف‏ ‏واقتراح‏ ‏تشكيلات‏ ‏معارضة‏ ‏ليست إيجابيا على طول الخط، ذلك أنه إذا‏ ‏بولغ‏ ‏فى ‏الحكم‏ ‏على ‏الأمور‏ ‏بشكل‏ ‏نقدى ‏طول‏ ‏الوقت، ‏فإن‏ ‏الأمر‏ ‏قد‏ ‏يتمادى ‏إلى ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏الموقف‏ ‏العدمى ‏أو‏ ‏موقف‏ ‏المخالفة‏ ‏المتمادى ‏الذى ‏يصبح‏ ‏بدوره‏ ‏غير‏ ‏نقدى ‏رغم‏ ‏ظاهر‏ ‏المحاولة‏، ‏وهنا‏ ‏يتحق‏ ‏إسم‏ “‏التمييز‏ ‏الرافض،‏ أو‏ ‏المخالفى” ‏وليس‏ ‏التفكير‏ ‏النقدى.(أنظر بعد)

وبعد

إن أى شخص عادة يمارس أكثر‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏من‏ أنواع ‏التمييز‏ ‏السالفة ‏الذكر، ‏وهو ينتقل‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏إلى ‏آخر‏ ‏حسب‏ ‏مقتضى ‏الحال، لكن إذا‏ زاد أحد الأنواع كميا حتى حلّ محل كل أنواع التفكير الأخرى وترتب على ذلك ناتج سلبى على أدائه الشخصى وفاعليته أو على تكيفه مع الآخرين فينبغى التوقف عنده وتقييم مدى سلبية ذلك فمثلا إن ما يسمى النقطة العمياء، أو المبالغة فى التحيز العرقى أو الدينى يمكن أن يعتبر عرضا مرضيا إذا لم يكن هذا هو السائد فى أغلب المحيطين.

وفيما يلى بعض  أنواع ‏‏ ‏الاضطرابات‏ ‏التمييز‏ ‏المقابلة – تقريبا -‏ ‏للتصنيفات‏  ‏العادية‏ ‏السالفة‏ ‏الذكر‏.‏

1- ‏اضطراب التمييز عموما‏: ‏ويشمل‏ ‏العجز‏ ‏فى ‏كل‏ ‏المجالات‏ ‏السابقة ذكر أى‏ ‏كل‏ ‏أنواع‏ ‏التمييز‏ ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏نلقاه‏ ‏فى ‏حالات‏ ‏التخلف‏ ‏العقلى ‏ ‏خاصة.

2- ‏الإنكار‏ ‏المرضى (‏النقطة‏ ‏العمياء‏ ‏المرضية‏): ‏ذكرنا‏ ‏حالا‏ ‏أن‏ ‏اختلال‏ ‏التمييز‏ ‏فى ‏منطقة‏ ‏بذاتها‏ ‏هو‏ ‏أمر طبيعى ‏فى ‏حدود‏،‏ لكن‏ ‏إذا‏ ‏تمادى ‏هذا‏ ‏الخلل‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏النقطة‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏فإن‏ ‏النتيجة‏ ‏قد‏ ‏تصبح‏ ‏ضارة‏ ‏ضررا‏ ‏بالغا، ‏ومن‏ ‏أهم‏ ‏مظاهرذلك‏ فى مجتمعنا‏  ‏ما‏ ‏نلقاه‏ ‏من‏ ‏إنكارالأهل‏ (‏الوالدين‏) ‏بالذات‏ ‏مرض‏ ‏ذويهم‏ النفسى، ‏مما‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏موقفهم‏ ‏هذا‏ ‏عاملا‏ ‏دواميا‏ ‏لتأخر‏ ‏العلاج‏ ‏أو‏ ‏استمرار‏ ‏المرض‏. ‏

3- ‏النوع‏ ‏الأنبوبى: ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏أشرنا‏ ‏إليه‏ ‏سابقا‏ ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏التمييز‏ ‏سليما‏ ‏فعلا‏ ‏ولكن‏ ‏فى ‏منطقة‏ ‏محدودة‏ ‏بذاتها،‏على ‏حساب‏ ‏أى ‏تمييز‏ ‏آخر فى ‏سائر‏ ‏المناطق‏ ‏الهامة‏ ‏والضرورية، ‏ولا‏ ‏يعتبر‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏اضطرابا‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏الاهتمام‏ ‏الضيق‏ ‏المبالغ‏ ‏فيه‏ ‏على ‏حساب‏ ‏التكيف‏ ‏أو‏ ‏العلاقة‏ ‏بالموضوع‏ ‏وبالتالى ‏ممارسة‏ ‏الحياة‏ ‏العادية‏ ‏الصحيحة

ونلقى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الاهتمام‏ ‏الأنبوبى ‏فى ‏بعض‏ ‏حالات‏ ‏اضطراب‏ ‏الشخصية‏ ‏من‏ ‏النوع‏ ‏الشيزيدى ‏الذى ‏يستبدل‏ بالعلاقة بالناس ‏‏والموضوعات‏ ‏الحقيقية‏ ‏بهذا‏ ‏التمييز‏ ‏الأنبوبى.‏

4- ‏التمييز‏ ‏المرضى ‏المتعصب‏: ‏إذا‏ ‏زاد‏ ‏التعصب‏ ‏العادى (‏دينيا‏ ‏أو‏ ‏مذهبيا‏) ‏لدرجة‏ “‏إلغاء‏ ‏الآخر” ‏وتصلب‏ ‏حركة‏ ‏الفكر‏ ‏وجمود‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏التمييز‏ ‏الموضوعى، ‏اعتبر‏ ‏مرضيا، ‏وفى ‏مجتعنا‏ ‏زاد ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الحكم‏ ‏بعد‏ ‏انتشار‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالجماعات‏ ‏الدينية‏ ‏حتى ‏اختلط‏ ‏هذا‏ ‏التعصب‏ ‏مع‏ ‏ضلالات‏ ‏التميز‏ ‏وأحيانا‏ ‏ضلالات‏ ‏الاضطهاد‏ ‏بالنسبة‏ ‏للأقليات‏.

‏5 – ‏التمييز‏ ‏المخالِفِى (‏شبه‏ ‏النقدى‏): ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏التمييز، ‏وإن‏ ‏أخذ‏ ‏شكل‏ ‏النقد‏،‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏يتمادى ‏فى ‏الموقف‏ ‏الحكمى‏، ‏والتهوين‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏فعل،‏ ومن‏ ‏كل‏ ‏شخص، ‏بإصدار أحكامٍ تهوِّن من شأنه، فيتوقف‏ ‏النقد‏ ‏على ‏اصطياد‏ ‏الأخطاء، ‏وعلى ‏رفض‏ ‏الجارى، ‏و‏‏الوقوف‏ ‏فى  ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏لأى ‏مقترح‏ ‏أو‏ ‏منطلق، ‏ومرة‏ ‏أخرى ‏نقول‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏ليس‏ ‏عرضا‏ ‏ولا‏ ‏مرضا‏ ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏جاوز الحدّ، و‏حال دون التكيف مع الآخرين، المختلفين خاصة، وأحيانا تصل سلبية هذا النوع إلى التمادى ‏فى ‏اتجاه‏ ‏شطح‏ ‏خيالى ‏أو‏ ‏وضع‏ ‏فروض‏ ‏هائمة‏ ‏وغائمة‏ ‏غير‏ ‏قابلة‏ ‏للتحقيق‏ ‏أو‏ ‏المراجعة (5)

 

[1] – وقد قمت بالتدريس لأكثر من خمس عشر سنة فى المركز القومى للدراسات القضائية وكان التركيز على العناية بتوحيد لغة التواصل وكتابة التقرير بلغة القانون تحديدا.

[2] – وردت أمور كثيرة متعلقة بهذا الشأن فى فصل الإرادة جزئية “اتخاذ القرار” (نشرة 15-2-2015)

[3] – * عين الرضا عن كل عيب كليلة، …… كما أن عين السخط تبدى المساوئ،

 والمثل الشعبى يقول:

*  خنفسة شافت بنتها عالحيط قالت دى لؤلؤة فْ خيط

* والقرد فى عين أمه غزال

[4] – ‏كلنيتون‏-‏ مونيكا‏

[5] – ويقترب‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏مما‏ ‏أسميناه‏ ‏سالف‏ “‏التفكير شبه‏ ‏الفلسفى”.‏ pseudo philosophical thoughts

          (نشرة 3-2-2014 ” اضطراب التفكير – والأفكار)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *