الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (12) متاهة الوعى (8) فى رحاب الوعى أيضا: “التركيز” ينشط بالممارسة والقبول، لا بحسن النية ولا بالإرادة

الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (12) متاهة الوعى (8) فى رحاب الوعى أيضا: “التركيز” ينشط بالممارسة والقبول، لا بحسن النية ولا بالإرادة

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 8-6-2015

السنة الثامنة

العدد: 2838 

الأساس فى الطب النفسى 

الافتراضات الأساسيةالفصل السادس:

ملف اضطرابات الوعى (12)

متاهة الوعى (8)

فى رحاب الوعى أيضا:

“التركيز” ينشط بالممارسة والقبول،

لا بحسن النية ولا بالإرادة

مقدمة:

أنهيت نشرة أمس بالوعد: بتقديم خبرة علاجية معرفية سلوكية محدودة، قائلا:

 قمت وأقوم بالتعامل مع عرض “العجز عن التركيز” فى تحصيل الدروس بالذات (المذاكرة) بآليات وفروض ترتبط بثقافتنا بوجه خاص، وقد رأيت – برغم غرابتها – أنها تستحق التسجيل بتفصيل مناسب مما قد نحاول أن نعرضه فى نشرة باكر

وهأنذا أفعل

معالم ثقافية، وشخصية

فيما يلى بعض الإشارات إلى منبع هذه الخبرة، وكيف أنها نابعة من ثقافتنا، ممتزجة بخبرتى الشخصية كمستوعب لهذه الثقافة، وأيضا من خلال خبرتى المهنية مع أهلى هنا والآن:

 أولا: “الطبيب والد”:

هذا قول سائر عند عامة المصريين (والعرب على الأرجح)، وهو والد بمعنى المسئولية، وعدم ادعاء الموضوعية المستحيلة، ليشمل يالرعاية، ومنح الخبرة، وأن يكون “فى المتناول”(1) معظم الوقت، (الطبيب والد عموما والطبيب النفسى والد جدا بصفة خاصة)، وهو فى نفس الوقت يمثل السلطة بشكل ما، فلا يوجد والد بغير سلطة، لذلك كررت أنه: لا يصح استيراد العلاج السلوكى المعرفى من ثقافة أخرى، وانطلاقا من ثقافتنا فإن دور هذا الطبيب الوالد يسمح له بإعطاء تعليمات واضحة وصارمة أحيانا، وأن من حق من يمارس هذا الدور – ومن واجبه أيضا- أن يـُشرك الأسرة فى تنفيذ تعليماته بشكل واضح، وفى نفس الوقت يكون مسئولا بشكل مباشر عن كل ما يوصى به، وله الحق بعد ذلك أن يعتذر عن الاستمرار فى مهمته إذا خالف المريض، (وأسرته) التعليمات التى يعتبرها أساسية، وأن يحيل المريض إلى زميل يتبنى قيم ثقافة أخرى لها حساسياتها (وأوهامها عن الحرية، وحل العقد النفسية، والبحث عن “لماذا”؟ أكثر من العمل فى “إذن ماذا”)

هذه الثقافة الوالدية المسئولة ليست سلطوية، بقدر ما هى إيجابية، وهى التى تسمح للطبيب المسئول بعد كسب ثقة المريض وأهله بأية درجة:

  • أن يصدر الأوامر أكثر من أن يزجى النصائح،
  • وأن يرسم المنهج أكثر من أن يحل المشاكل
  • وأن يـُلزم مريضه وأهله بما هو فى صالح العلاج، وأن يستعملوا حريتهم ليس فى رفض تعليماته، أو تعديلها، وإنما فى الاستغناء عن خدماته، باستعمال حقهم الطبيعى فى استشارة غيره، واتباع منهج سواه

ثانيا: احترام القصور والبدء من الواقع الممكن “الآن”!!:

في بلدنا مثل يقول” تجمّز بالجميز حتى يأتيك التين“،

وقد نحتُّ قياسا عليه مثلا فى السياسة وأنا أنبه إلى خطورة “استيراد الديمقراطية سابقة التجهيز على حركية الوعى البينشخصى والوعى الجمعى فى ثقافتنا، فصغتُ مثلا موازيا يقول:

” دمقرط بالديمقراطية حتى تأتيك الحرية”

 وذلك لأوضح أن الديمقراطية ليست مرادفة للحرية، لكنها قد تكون “تصبيرة” حتى نستطيع أن نمارس “حرية حركية الوعى معا” ليس فقط على الورق، أو فى المواثيق، وإنما فى رحاب التعاطف والمسئولية أمام بصيرتنا وأمام الله بما هو أقوى من القوانين والمواثيق المكتوبة (دون ادعاء المثالية أو الاختباء فيها) .

 انطلاقا من هذا الموقف يمكن للطبيب أن يعطى أوامره، ويضع شروطه، مع توضيح خطوات التصعيد، وأيضا محكات قياس الأهداف المتوسطة على مسار العلاج

وفى موقف شكوى صعوبة التركيز أو العجز عنه، أبادر، أحيانا منذ المقابلة الأولى، بأن أوافق الطالب (مثلا) على ألا يركز، على شرط أن يعمل غدا عملا يدويا لا يحتاج إلى تركيز، وحين يتعجب الطالب من تحديد بدء هذا العمل بـ “غدا”، أعطيه اختيارا بديلا وهو أن يبدأ الاستذكار “اليوم” (الليلة) بالشروط التى سوف أعرضها عليه، وأولها أن يذاكر دون تركيز!! (أنظر بعد).

 ثم إنى أحدد مواصفات العمل البديل عن التركيز العقلى فى الاستذكار، أعنى العمل الذى أنصح به (آمر به)، وهو أن يكون ثمان ساعات، يوميا، نفس المواعيد، ويكون له رئيس، وله ناتج، وعائد، ويُمارَس وسط ناس لا من منازلهم (مجتمع العمل)،

هكذا يصبح الاختيار أمام الطالب محدد تماما، وبعد الاستغراب والرفض (من الأهل أكثر)، أشعر بأن الطالب قد وصلته رسالة ما، وإنْ كان يظل يشك فى جدّيتى، ويأمل فى حماية الوالدين له من مطالبى،8-6-2015_1

ولكن هذا ما يشجعنى على المضى فى توصيف الخطوات التالية (أنظر بعد)

ثالثا: المثابرة فى الاتجاه الصحيح، حتى بدون عائد سريع، تنشـِّط التحريك السليم فى نفس الاتجاه

فى ريف بلدنا بالذات، منذ طفولتى، وأنا أعرف ما يسمى “تعمير الطلمبة المسفَّرَة”، وهو تعبير لم يعد يُستعمل هذه الأيام حتى فى الريف، غالبا لأن مثل هذه الطلمبة لم تعد تستعمل كثيرا،، لكننى أستطيع أن أشرح لبعض مرضاى وأهاليهم أصل الفكرة إذا لزم الأمر، وإليكم توضيح بعض ذلك:

طلمبة الشرب (اليدوية التى تدار بتحريك يدها للأمام والخلف) تـُدَقّ مواسيرها حتى تصل إلى المياه الجوفية، فإذا لم تستعمل لفترة طويلة، تجف جلودها حت تتشقق، فلا تعود مُحكمة، ولا تستطيع أن ترفع الماء الجوفى مهما أدرتـَها (بتحريك اليد صعودا ونزولا) لأن الهواء المتسرب من الشقوق يمنع تخليق الفراغ المحكم اللازم لجذب الماء إلى أعلى، ولكى يتم تعميرها لتعود للعمل بكفاءة، يستمر تحريك اليد مع وضع ماء من إناء فى فتحتها الخار8-6-2015_2جية، ولا تستجيب فى البداية، ولفترة قد تطول، وتظل العمليتين باستمرار:تحريك اليد (عالفاضى)، وصب الماء من أعلى: حتى تتثاقل حركة اليد، فيعرف من يحركها أن الجلود قد “طـرِيَتْ”، وبالتالى أن الشقوق من أثر الجفاف قد قاربت الاختفاء نتيجة لتشبع جلد “الطلمبة” بالماء، ومع مواصلة المحاولة، يتدفق الماء الجوفى بوفرة عادة، وتواصل الطلمبة العمل بكفاءة تامة (إن لم يكن بها عيب آخر)

ربما قياسا على هذه الحكمة الريفية (الهندسية) البسيطة، جاءتنى محاولتى لإعادة تشغيل المخ لأداء مهمته التى حال فرط مجاولة الوعى بتمام كفاءتها، والوصاية والتساؤل و التشكيك حال كل ذلك بين تلقائية عملها حتى تباعدت (تشققت) تربيطاتها، أقول قياساعلى “تعمير الطلمبة”،رحت أقوم بمحاولة “تعمير المخ”، بأن أنصح صاحب الشكوى أن: “يذاكر بدون تركيز” (إضافة إلى تعليمات أخرى سوف تأتى تفصيلا) وذلك اعتمادا على بداية توثيق علاقتنا العلاجية الوالدية المنضبطة الرحبة معا، وهى التى يبدو أنها تسكب الوجدان البينشخصى فى وعيه، حتى يترابط ما تفكك منه عن طريق “الإدراك”، وعادة: من وراء التفكير والفهم، وكأن المخ بذلك يسرق المعرفة لصاحبها دون إذن منه.

رابعا: التفاعل والمشاركة فى العلاج الجمعى يتم بفضل نشاط المخ (الأمخاخ) دون تركيز أو حتى فهم.

أمارس العلاج منذ أكثر من أربعين سنة فى مستشفى عام (قصر العينى) مع عامة المرضى بالمجان، فهم يمثلون الشريحة الأدنى والأوسط من الطبقة الوسطى وما دونها، ويتراوح تعليمهم بين من لا يفك الخط، ومن يحمل مؤهلا متوسطا، ونادرا منهم من أكمل تعليمه العالى، ولا يحتاج العلاج إلى سابق الإلمام بأية أبجدية نفسية، أو معلومات تحليلية، أو مستوى معرفى خاص، وتتواصل المشاركة لمدة عام كامل (52 أسبوعا فيما عدا الأجازات الرسمية جدا).

تعلمت من خلال هذه الخبرة كيف أن ما يجرى فى العلاج الجمعي خاصة ليس له علاقة مباشرة بالفهم أو بالتركيز، وبالتالى بالإقناع أو التفهيم، وطبعا ليس له علاقة أكثر بالنصائح اللفظية، أوالإرشادات الوعظية، الذى يقوم بتخليق الوعى العام (وهو العامل العلاجى غالبا) هو عمل المخ (الأمخاخ) التلقائي، من خلال حوارات مستويات الوعى المختلفة بعيدا (نسبيا) عن وصاية الفهم والتفهيم والمنطق والإقناع.

يا ترى ماذا يجرى بالضبط؟

انتبهت وتعلمت أن المعرفة المباشرة من خلال حركية مستويات الوعى المختلفة (وهذا هو أهم أنشطة المخ حيث يقوم باللازم دون إذن صاحبه، فكثيرا ما يقول أحد أفراد المجموعة “مش فاهم”، فيرد المعالج ابتداء، (وبعد عدة شهور قد يرد أحد المرضى)، “ما احنا بنشتغل فى اللى مش فاهمينه”، وأحيانا يصل الامر إلى نوع من الدعابة يحمل نفس المعنى حين نكون قد تعودنا على هذه القواعد، فيرد أحدنا على من قال “مش فاهم” أنه “أحسن!!”، وهو لا يعنى السخرية، وإنما نكون قد اكتشفنا أن عدم الفهم يكمّل الفهم فهو فهم آخر حتى لو وصف بالنفى، وقد يفوق الفهم الوصى الظاهر، من هنا ربما نشأت اللعبة التى سبقت الإشارة إليها قبل ذلك فى (نشرة 27/3/2012 “الفهم واللافهم: مدخل إلى الادراك”) وهى تكشف لنا ماذا وراء عدم الفهم، أو قرار عدم الفهم، أو وهم العجز عن الفهم، تقول اللعبة:

“يا خبر (يا فلان) دا انا لمّا ما بافهمشى يمكن ……أكمِلْ….)

وقد تبين من الاستجابات التلقائية والمشاركة الجماعية أن هناط فهم داخل عدم الفهم، بشكل بسيط ومباشر وعميق معا

بل إن الأمر تمادى إلى اختبار احتمال الكشف عن كلام داخلى يمارَس دون أن يعلن فى ألفاظ، ولا حتى أن يتكون فى فكرة داخلية، وقد كشف ذلك عن وجود نشاط معرفى مستقل عن النشاط المعلن، يجرى فى نفس الوقت، واختبرنا ذلك من خلال لعبة أخرى كالتالى

“..يا ه دا انا لو حاقول كلام من غير كلام …يمكن …. أكمِلْ……. “

وتبين من خلال هذه اللعبة أيضا أن النشاط المعرفى الذى يعلن بالكلام ليس هو كل ما يجرى فى نفس اللحظة، وهكذا،

(ويمكن الرجوع إلى اللعبيتن وقد نشرتا فى نشرتين سابقتين!!)

– (نشرة 27/3/2012 “الفهم واللافهم: مدخل إلى الادراك”)

– (نشرة21/8/2012 “أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن”)

خامسا: تدعيم كل ما سبق من خلال إسهامات الفكر والبحث والإبداعات الأحدث

تم تدعيم كل ما سبق من خلال الممارسة والخبرة والوعى بما يجرى بما يسمح بظهور مثل هذه الفروض واختبارها والتعلـّم من المحاولة والخطأ، ورصد التغيرات النوعية أكثر من مجرد حصر التغيرات الهامشية والكمّية، لكن يظل الأمر يحتاج إلى دعم من مصادر أخرى، وحوارات مع معارف أخرى، وهذا ما تم ويتم من خلال ما وصلنى ويصلنى من إسهامات علمية وخبراتية من كل المناهل المتاحة، وخاصة فيما أضيف مؤخرا من إسهامات العلم المعرفى العصبى، والنيوروبيولوجيا عموما، وخاصة التركيز على مفهوم كيف “إن المخ يعيد بناء نفسه باستمرار” The Brain Rebuilds Itself، وقد سبقت الإشارة إلى كثير من ذلك هنا فى نشرات ملف الإدراك (872 صفحة A4) (من نشرة 10/1/2012 إلىنشرة 10/3/2013) وخاصة ما يتعلق بالإدراك المتجاوز للحواس، وأيضا فى ملف الوجدان، وخاصة بالإشارات المتكررة إلى “العقل الوجدانى الاعتمالى” Emotionally Processing Mind، وكان الاتجاه فى كل ذلك محاولة إزاحة وصاية الفهم العقلانى المنطقى (المخ الطاغى والأحدث) لدرجة احتكار العمليات المسماة العقلية على حساب المعرفة المباشرة، والمعرفة الكلية، حتى أصبح القصور فى هذه العمليات الأحدث بما فى ذلك ما يسمى “التركيز” هو الإعلان الأوْلى بالاهتمام، فالعلاج، ومن ثم تواترت الشكاوى من عدم التركيز.

ولكن يمكن أن نفهم من خلال ذلك غائية هذا العرض، بمعنى أن عدم التركيز يمكن أن يصلنا على أنه إعلان ضمنى لحق مستويات الوعى الأخرى فى التركيز، وأيضا أن عدم التركيز هو دعوة لإعادة التوازن بين مستويات المخ فى الإسهام فى العملية المعرفية بشكل أو بآخر

وبعد

دعونى أختم نشرة اليوم بشكل يوضح فكرة “تعمير الطلمبة” بسكب الماء أعلاها مع تحريك اليد على الفاضى (عالفاضى)، حتى لو لم يتدفق الماء باكرا.

حين نطلب من الذى يشكو من عدم التركيز أن يقبل ذلك من حيث المبدأ، فنحن نكاد نوافق على هذين الفرضين، ثم نلف لنحاول المصالحة بين هذا الاحتجاج المعطـِّل فعلا، وبين ما ينبغى تصحيحه

أما ما سوف نشرحه الأسبوع القادم فيمكن إيجاز خطواته على الوجه التالى:

أولا: قبول عدم التركيز على أنه حق محترم، بمعنى أن من حق أى واحد ألا يركز

ثانيا: بعد هذا القبول المبدئي تأتى محاولة تنشيط مستويات أخرى من النشاط المعرفى تتجاوز ما يسمى “التركيز” بشكل أو بآخر

ثالثا: المتوقع أن يتم تنشيط مستويات أخرى من النشاط المعرفى، فى مجال الإدراك بالذات، حيث أنه كما سبق أوضحنا مجال لا يستلزم تركيزا شعوريا خاصا

رابعا: يُمنع تعطيل هذا “النشاط المعرفى التحتى” بأى إجراء يعجزه أو يعلن فشله (مثل التسميع لاختبار ما تم تحصيله)، نظرا لأن الإدراك ليس مهمته الحفظ فالتسميع، بالرغم من أنه يحتفظ بما يـُدرك أرحب وأعمق وأبقى

(وسوف نرجع إلى علاقة الذاكرة بالتركيز فيما بعد)

8-6-2015_3

شكل يبين بعض ما جاء فى مقدمة النشرة،

وسوف نعود إليه تفصيلا عند تطبيق خطوات العلاج السالفة الذكر

[1] – لم أعثر على كلمة واحدة – حتى الآن- تقابل كلمة availability بالإنجليزية ،لا “جاهز”، ولا “متيسر” وبصراحة كانت كلمة “مُجـِيـر” هى الأقرب إلى المعنى الذى أريد تقديمه، كـ: مستجير من الرمضاء بالنار” وهى كلمة قوية كافية، لكنها مهجورة، ففضلت تأجيل استعمالها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *