الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (11) متاهة الوعى (7) فى رحاب الوعى أيضا: علاقة التركيز بالانتباه

الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (11) متاهة الوعى (7) فى رحاب الوعى أيضا: علاقة التركيز بالانتباه

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 7-6-2015  

السنة الثامنة

العدد: 2837 

الأساس فى الطب النفسى 

الافتراضات الأساسيةالفصل السادس:

ملف اضطرابات الوعى (11)

متاهة الوعى (7)

فى رحاب الوعى أيضا:

علاقة التركيز بالانتباه

هل يستطيع المخ البشرى أن يتوقف عن الانتباه؟

وهل يستطيع المخ البشرى أن يتوقف عن التركيز؟

 منذ عـَمُقـَتْ(1) علاقتى بالمخ البشرى، وخاصة مؤخرا،  تزايد احترامى لهذا القائد الجميل (المسمى “المخ”)، الذى من ضمن جماله أنه لا يستغنى عن غيره (من أعضاء، ومستويات وعى) فى أداء مهمته.

 المخ البشرى قائدٌ قادر، وكل (أو “أغلب”) ما نشكو منه فيما يتعلق بكفاءته هى اتهامات له بغير دليل، وبغير شهود، ونحن نعزو الكثير من مظاهر الإعاقة فى المعرفة أو الأداء أو الإنجاز عادة إلى ما شاع عن عجز المخ عن القيام بدوره الطبيعى التلقائي، ومن أهم ذلك ما نسميه ” العجز عن التركيز”

 وبعد

من قديم وأنا متصالح مع هذا القائد القادر المتواضع الجميل، وحين كنت فى فرنسا(2)، كتبت إلى الصديق العزيز الزميل محمد شعلان (كان أيامها فى الولايات المتحدة) أعبر له عن ما وصلتُ إليه فى تعرفى على المخ البشري، وكيف أنه أمخاخ متداخلة، وأنه …، وأنه….، حتى عدت لا استطيع أن ارى المريض إلا عبر مخه، ثم أمخاخه، ثم بدرجة أقل (لم أتبين أهميتها إلا فيما بعد) عبر جسده ووجدانه (التى هى أمخاخ متبادلة أو متكاملة أو مكملة أيضا ..إلخ)، وكان صديقى هذا  فى أمريكا يطارد النحلة التى قبعت داخل قبعته (تعبير إنجليزى عن اجترار فكرة “الحرية”)(3)، فكتب لى وهو يتصور تحولى إلى النموذج العضوى التشريحى فى الطب النفسى(4)، كتب لى مازحا أو ساخرا : أنه كلما سمع كلمة “مخ” قفزت  إلى مخيلته صورة “سندوش المخ” الذى كان يحبه من مسمط بالقرب من مقام سيدنا الحسين، وكان صاحب هذا المسمط قد كتب لافتة أو إعلانا على ما يقدمه  يقول “كل كبدة ومخ زين، واقرا الفاتحة للحسين(5) المهم: مع تقدم قراءاتى وخاصة مؤخرا فى العلم المعرفى العصبى، والبيولوجيا النيورونية، وتكرار مصادر التأكيد على أن “المخ يعيد بناء نفسه باستمرار“، ومع توسع إحاطتى بطبيعة الأحلام وعلاقتها بالإيقاع الحيوى وإعادة بناء المخ لنفسه، وذلك من النقد الأدبى ونقد النص البشرى على حد سواء، مع كل هذا وصلنى أن ممارستى الإكلينكية لم تذهب بعيدا حين كنت أؤكد لأغلب مرضاى الذين يشكون من “ضعف التركيز”، وأحيانا “عدم القدرة، أو العجز، عن التركيز”، وخاصة من الطلبة أثناء الاستذكار، كنت أؤكد لهم، وأعرض عليهم أن نحاول معا اختبار هذا الرأى (الفرض): “إن المخ البشرى، لا يستطيع إلا أن يركز” وهو الفرض الذى بدا لى أقرب إلى الطبيعة البشرية كما خلقها الله، وهو الذى أقدم بعضه عبر هذه النشرة:

7-6-2015_1

العلاقة بين: الإدراك والانتباه والتركيز

دعونا الآن نربط بين التركيز والانتباه بما يتيح لنا أن نتعرف على التركيز، وخاصة  كما يصلنا ممن يشكون من قلته أو ضعفه:

إذا كنا قد رضينا – مع التردد والمراجعة – أن نقدم الانتباه على أنه

الانتباه‏ ‏هو‏: ‏توجيه‏ ‏بؤرة‏ ‏الدراية‏  Focus of Awareness‏ وتحديد وتوجيه نشاط الإدراك‏ ‏نحو  ‏مثير‏ ‏بذاته‏

فقد يسمح لنا ذلك(6)، أن نقول :

 “إن التركيز هو توجيه الانتباه، ليستمر نوعا ما، نحوموضوع بذاته، مع الوعى (الظاهر)  بذلك، وحفزه”

ولتوضيح أكثر:

التركيز هو: “الوعى بـ حضور القدرة على توجيه الانتباه إلى موضوع الاهتمام “الآن” ولمدة كافية لتحقيق هدفه”

وعلى ذلك يجرى – مؤقتا– استبعاد بعض أنواع الانتباه مثل الانتباه السلبى ، أوالانتباه بالصدفة، أو الانتباه اللاشعورى، وغير ذلك.

معنى شكوى العجز عن التركيز وتفسيرها

إذا كان التركيز هو من الوظائف المعرفية الطبيعية التلقائية للمخ المبشرى فما هوتفسير تواتر هذه الشكوى عند أغلبية من المرضى النفسيين، وخاصة مرضى القلق والاكتئاب واضطرابات التكيف عموما ؟

طبيعة الشكوى

7-6-2015_2

يختلف التعبير عن هذا العَرَض اختلافا بيّنا، ومن ذلك:

  • كثيرا مايشكو المريض من “العجز عن التركيز” (ما باقدرشى اركز)، ولا يزيد.
  • كما قد تكون هذه الشكوى ضمن اضطراب أشمل.
  • وأحيانا يربط بينها وبين كثرة الأفكار أو ضغط الأفكار أو اجترار الأفكار أو أية أعراض وسواسية أخرى.
  • وكلما كثـُرَ كلامه عن،وترددت شكواه من،  عجزه عن التركيز زاد العجز (عادة)، وكأنه يـُذكـِّر نفسه بالعرَض بشكل يتناقض مع رفضه له والبحث عن التخلص منه.
  • وتصل المبالغة أحيانا فى وصف العجز عن التركيز إلى درجة درامية اعتمادية لا تتناسب مع حقيقة الصعوبة والإعاقة فعلا.
  • وعادة ما تفشل محاولات استعمال الإرادة أو العزيمة (أو التركيز!!)للتغلب على هذه الصعوبة.
  • وعادة أيضا ما يتصور أغلب هؤلاء المرضى، أن هناك “حبوبا” تساعد على التركيز، (وتنشط المخ)، ويطلبونها من الطبيب ابتداءً.
  • ونادرا ما تأتى الشكوى من “ضعف التركيز” أو “العجز عن التركيز” من المحيطين دون المريض نفسه، مثلا فى حالات التخلف العقلى في أى سن، أو التدهور العقلى فى الشيخوخة، وطبعا فى حالات اضطراب نقص الانتباه مع فرط الحركة(7) عند الأطفال (الذى اشرنا إليه الأسبوع الماضى).

أبعاد وخلفيات (ونفسِامْراضية)(8) شكوى “العجز عن التركيز”

سوف أركز فى هذه النشرة على “عـَرَض” ضعف التركيز أو العجز عنه، دون ربطه بالمرض المصاحب، وأيضا مع استبعاد النقص الأولى فى حالات التخلف العقلى، والنقص التدهورى فى حالات العته والضمور العضوي لخلايا المخ نتيجة  لأى سبب كان:

انطلاقا من علاقتى بالمخ البشرى، وأنه “لا يستطيع إلا أن يركز”، (ولو من وراء ظهر صاحبه) وذلك من واقع الخبرة الإكلينيكية، وهى التى هدتنى إلى هذا الفرض، أستطيع أن أعدد معنى هذه الشكوى وطبيعتها وأيضا نفنسِامْراضيتهاعلى الوجه التالى:

1- الوصاية على تلقائية عملية التركيز: وأعنى بذلك ما يمكن أن يوصف بأنه محاولة التفكير فى كفاءة عملية التركيز، والضغط فى اتجاه التأكد من سلامتها، وأيضا: محاولة تحسينها قسرا وإراديا، وكانها عملية تفتيش على ما إذا كان التركيز يقوم بمهمته المناط بها على الوجه الأكمل أم لا، وهذا فى ذاته إعاقة لعملية التركيز، وقياسا: نتذكر صلاح جاهين فى بيت من رباعية يقول فيها محذرا السائر من الوقوع إذا ما هو حاول أن يركز على قدميه “كيف يسير”:  “بس انت لو بصِّيت لرجليك تقع”،

                                        ……….   

الدنيا هيّا الشابة وانت الجدع

تشوف رشاقة خطوتك تعبدك

بس انت لو بصيت لرجليك تقع

بمعنى: إن  التركيز على التركيز يحول دون طلاقة التركيز

2- إن التركيز يتواكب مع التدقيق للإلمام بالمعنى، وما يترتب على ذلك  من مسئولية قد لا تكون فى قدرة من تصله، فيحاول أن يتجنبها بألا “يدقـِّق”، فلا يركز، وبالتالى يكون العجز عن التركيز هو آلية لتحقيق ضبابية المعنى، ومن ثـّمََّخلخلة المسئولية

مرة أخرى صلاح جاهين:

……….

“هوّا الكلام يتقاس بالمسطرة!!؟؟”

3- إن التركيز يحتاج إلى كفاءة انتقاء الأولويات، أى أن يتوجه التركيز إلى ما هو أوْلى بالتركيز فى لحظة معينة، وهذا التوجيه الانتقائى تتدخل فيه عوامل شتى من بينها عدم القدرة على تحديد الأولويات فى لحظة بذاتها، أو عدم الرغبة فى ذلك تجنبا لأعباء أو مواجهات لم نستعد لها بالقدر الكافى,

4- قد يُعلـِن العجز عن التركيز عن مقاومات داخلية ضد اختيارات فـُرضت على الشخص من خارجه، ولم يستطع أن يرفضها برغم أنها ليست فى صميم تفضيله، مثل مقاومة الطالب لقرار وإلحاح والديه للتفوق (كمشروع استثمارى) مع أقل قـدر من تحريك اختياره الشخصى.

5- يساعد عدم التركيز فى الهروب من التحديد، وهذا  ليس مرادفا للهرب من المعنى (بند 1) ولكنه متداخل معه، بمعنى أن التركيز الذى يؤدى إلى التحديد قد يتبعه التزام باتخاذ قرارات تتناسب مع وضوح ما وصل إليه، مما يبدو أنه لم يتم الاستعداد من جانب الشخص لمثل ذلك بعد.

6- قد يكون ضعف التركيز إعلانا لدرجة من عدم الاهتمام بالموضوع المناط به أصلا، بمعنى أن التركيز يُوجّه نحو “ما لا يهم” بالنسبة لمن يحاوله، فهو يحاوله مضطرا مما يتناسب ويتداخل أيضا مع البند (4)

وأخيرا: قد يكون العجز عن التركيز تبريرا للعجز عن اتخاذ القرار، أو مكافئا لذلك (أنظر قبلا ) مثلا: نشرة الأثنين: 9/3/2015 العدد: 2740: “مدخل عن صعوبة اتخاذ القرار بدءًا من الأسوياء” ).

التعامل مع عدم التركيز:

يختلف التعامل مع عرض العجز عن التركيز لعلاجه حسب عوامل كثيرة نعدد أهمها فيما يلى:

i – وجود قصور معرفى أولى أو ثانوى (قصور عام فى القدرات المعرفية).

ii- طبيعة وأبعاد التشخيص الأساسى للاضطراب الأصلى.

iii- نوع الشخصية وسماتها (وخاصة فيما يتعلق بالاتقان والتحصيل والإنجاز)

iv- الظروف الطارئة التى ظهر فيها العرّض.

v- معنى العرض ووظيفته الدفاعية أو النفسامراضية (السيكوباثولوجية) السالفة الذكر حالا.

وبعد

فى خبرة علاجية معرفية سلوكية محدودة: قمت وأقوم بالتعامل مع عرض “العجز عن التركيز” فى تحصيل الدروس خاصة (المذاكرة) بآليات وفروض ترتبط بثقافتنا بوجه خاص، وقد رأيت – برغم غرابتها – أنها تستحق التسجيل بتفصيل مناسب مما قد نحاول أن نعرضه فى نشرة باكر.

[1] -عَمُقَتِ الْفِكْرَةُ: بَلَغَتْ أَقْصَى كُنْهِهَا!! ( يا لجمال هذه اللغة وقدرتها!!)

[2] – لعام واحد (1968-1969)  تحت عنوان “مهمة علمية” انتهزته  – كما ذكرت  فى ترحالاتى – للاختلاء بنفسى، ومراجعتها على الخمس والثلاثين سنة التى مضت قبله، منها  اثنتا عشرة طب نفسى

[3] – Bee in the hat

[4] –  ذلك أن الشائع عنى كان أننى –معه- نمثل النموذج النفسى فى العلاج  دون العضوى، وقد تعجب شعلان من موقفى هذا وحاول تنبيهى ساخرا أو مازحا

[5] – ثم بلغنى حدس الشعبى المصرى بتعدد الأمخاخ (والأكباد) مع تنوع  الأولياء : كل كبدة ومخ صانى واقرا الفتاتحة للشعرانى، وأيضا نفاقا للسلاطين ” كل كبدة ومخ باطمئنان، واقرا الفاتحة للسلطان !!

[6] – ونحن نتذكر نقد هذه المقولة أيضا (نشرة: 31-5-2015 “من متاهة التنظير إلى حدود الأعراض”).

[7] – Attention Deficit Hyperactivity Disorder

[8] – قمت بنحت كلمة “نفسِامْراضية” إضغاما لتحل محل كلمة إمراضية ترجمة لكلمة Psychopathology بعد  أن تشجعت من خلال إسهامات أ.د . على زيعور  فى تطويع اللغة العربية الجميلة لإسهامات جديدة مهمة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *