الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / أحلام فترة النقاهة والحلم (21)، الحلم (22)

أحلام فترة النقاهة والحلم (21)، الحلم (22)

“نشرة” الإنسان والتطور

   3-1-2008

العدد: 125

نجيب محفوظ : قراءة فى أحلام فترة النقاهة

والحلم (21)، الحلم (22)

الحلم (21)

الشارع الجانبى لا يخلو من مارة وأناس فى الشرفات، والسيدة تسير على مهل وتقف احيانا امام معارض الازياء.

يتعرض لها أربعة شبان دون العشرين، تتجهم فى وجوههم وتبتعد عن طريقهم، ينقضون عليها ويعبثون بها، تقاوم والناس تتفرج دون أى مبادرة… الشبان يمزقون ثوبها ويعرون أجزاء من جسدها. السيدة تصوت مستغيثة، راقبت ما حدث فتوقفت عن السير وملكنى الارتياع والاشمئزاز (1) ووددت أن أفعل شيئا أو أن يفعله غيرى ولكن لم يحدث شئ، وبعد أن تمت المأساة وفر الجناة.. جاءت الشرطة. وتغير المكان فوجدت نفسى مع آخرين أمام مكتب الضابط، واتفقت أقوالنا، ولما سئلنا عما فعلناه كان الجواب بالسلب. وشعرت بخجل وقهر، وكانت يدى ترتجف وهى توقع بالإمضاء على المحضر.

القراءة

السلبية اشتراك فى الجريمة.

وتعم لعنتها حين تصبح هى السمة المشتركة بين الجميع:

الناس فى الشرفات، وفى الشوارع، تتفرج دون أية مبادرة، والعبث جار يكاد يصل إلى جريمة إغتصاب.

أن تقاوم المنكر بقلبك – الذى هو أضعف الايمان- هو إثم خفى مادمت تستطيع غير ذلك، فما بالك إذا برأت نفسك بإنكار التهمة، وأيضا كتمت الشهادة؟

وصلنى الجواب “بالسلب” أمام الضابط – برغم أن السؤال كان “عّما فعلناه”- على عدة مستويات:

الأول: أنهم لم يفعلوا شيئا إزاء ما رأوا، وهنا يكون الضابط هو “ضابط” الداخل.

والثانى: أنهم أنكروا أن الشبان الأربعة بالذات فعلوا ما فعلوا (ليبرروا أنهم بدورهم لم يفعلوا شيئا) ونفهم من هنا كتم الشهاده ومن ثّمَّ الِخْزى

والثالث: أنهم أنكروا أنهم لم يروْا شيئا من أصله.

وكل ذلك سلبٌ قبيحٌ وسلبية هروبية

وبعـد

يظل داخلنا الحقيقى رافضا الإيذاء، وخاصة إيذاء البرئ الأضعف، كما يظل رافضا الإهانة والقهر، لمن لا تملك ردا أو حماية لنفسها، ومن هنا الخجل من موقف الفرجة والسلبية والنية المُجهضَةْ. (وشعرت بخجل وقهر)،

 هذا عن الخجل،

فمن أين القهر؟

الأرجح أن القهر أتى للراوى من داخله، وهو الذى منعه أن يبادر بالاستجابة لاستغاثة الأضعف، وهو هو الذى منعه أن يدلى بشهادة حق، أو أن يعترف بتقاعسه.

هذا القهر الداخلى وغدٌ جبان.

هو نتيجة التقمص بالقاهر الخارجى (الوالد القامِعْ – أو السلطات، أو الحكومة، أوالقرش، أو”السلامة أولا”، أو كل ذلك).

حين ينقلب القهر الخارجى داخليا تصبح المصيبة ألعن، بل وتكون المسئولية أكبر حتى لو كنا ضحايا للقهر الخارجى أساسا، وبدايةً.

لم يبق للراوى ما يعبّر به عن تقاعسه وخيبته إلا يدان ترتعشان وهو يوقع على المحضر، وكأنهما هما كل ما أمكنه الإعلان من خلالهما عن رغبة مهزوزة فى “عدم التوقيع”.. على ما يثبت به سلبيته وجبنه وتخليّه، لكنه وقَّعْ!

فما فائدة الرعشة والخزى؟.

بل ما فائدة الارتياع والاشمئزاز فى البداية؟.

وما فائدة حسن النية والإزاحة (وودت أن أفعل شيئا، أو يفعله غيرى)، هذه مشاعر مشلولة، ربما يكون غيابها أشرف.

 أما حكاية “أو يفعله غيرى” فهى تأكيد للموقف السلبى، حيث لا مفر من اعتبار رفع الظلم والحيلولة دون أذى الأضعف بمثابة “فرض عين” لا “فرض كفاية” إذا قام به البعض لايسقط عن الباقى.

* * *

مرة أخرى تجنبت اختزال السيدة إلى “مصر”،

والشباب إلى الفساد،

والمارة والناس فى الشرفات إلى الشعب المصرى.

لكن هذا وارد.

الحلم (22)

كنا فى حجرة المكتب مشغولين ونظر إلى وجهى وقال: إنك مشغول البال، فقلت له بإيجاز وإعياء: “الدواء” ….، فقال أفهم ذلك وأقدره وأحمد الله الذى نجانى من مخالبه، فسألته كيف نجا مما لا نجاة منه؟ فقال “لى صديق له أخ صيدلى فلما عرف شكواى أكد لى أنه يملك الحل.. وعرف منى الأدوية اللازمة لى ولأسرتى شهريا وعرضها على أخيه الصيدلى فجاءنا بمثيل لها بأقل من عشر الثمن.

فسألته عن مدى الخطورة فى العملية فطمأننى وحدثنى طويلا عن أساليب شركات الأدوية حتى أذهلنى وازعجنى، ولم اتردد فكتبت له قائمة بالادوية اللازمة لى شهريا وانا أشعر بارتياح عميق. واذا به يقول لى “ولكنى اريد منك خدمة فى مقابل ذلك فأبديت استعدادى لأداء ما يطلب. فقال “أنا يزعجنى الهجوم على الروتين الحكومى والبيروقراطية، وتأثر الحكومة بما يقال وبما يكتب، واريد منك ان تكرس قلمك للدفاع عن الروتين والبيروقراطية” فدهشت وسألته عن سر حماسه لما اجمع الناس على نقده ورفضه فقال غاضبا: “يا أخى ما قيمة الموظف امام الجمهور من غير الروتين والبيروقراطية”.

ودار رأسى حيرة بين الأدوية والروتين.

القراءة

بدأت – كعادتى– وأنا أحاول أن أتجاوز ترميز مسألة الدواء، والأخ الصيدلى وعُشر الثمن، وأنها تعرية لنظام يحل مشاكله العاجلة برشاوى التسهيلات الخصوصية (مثل توقيعات الوزراء لأعضاء مجلس الشعب) ويشترى الأقلام الناقدة، لتخفف من حدتها، وهو يدعوها إلى التغاضى عن الفساد والفاسدين تحت عنوان أهمية النظام وحتم الروتين.

فضلت بدلا من ذلك أن أحكى بعض ما يحضرنى من واقعٍ عايشته مع شيخنا الجليل يمكن أن يتخلق من بعض بعضه هذا الحلم/الإبداع بشكل ما، ولو أن ما سوف أذكره به جرعة شخصية أقلقتنى، قليلا.

كانت قضية دور شركات الدواء العالمية فيما يجرى فى العالم، وليس فقط فى  الطب، هى موضوع حديث متكرر جدا فيما بيننا أثناء مناقشاتى مع شيخنا سواء فى جلسات الحرافيش أم غيرها، وكنت دائماً أبين له أربعة أمور عن هذه الشركات، وكان عادة يتعجب لها حتى لا يكاد يصدقها، وكأنه يفضل أن يستبعدها، وحين قرأت هذا الحلم/الإبداع حين ظهوره فى نصف الدنيا، داعبته مذكّرا إياه بموقفه المتحفظ تجاه ما أقول وأكرر، وكأن داخله المبدع اقتنع أكثر من ظاهره الطيب، هذه الأمور الأربعة هى: الأول: تدخل هذه الشركات (برغم أنها للأدوية) فى السياسة (حتى الحرب)، والثانى: شراؤها العلماء – ربما دون أن يدروا–  ليقوموا بترويج علم زائف متحيز لصالح أدوية حديثة تبلع أثمانها عشرات ومئات أضعاف الأدوية القديمة الأرخص تحت زعم المبالغة فى الأعراض الجانبية لهذه الأدوية الأرخص، والثالث: أن تكلفة المادة الخام لا تتعدى قروشا زهيدة ومع ذلك تباع العقاقير بمئات الجنيهات، والرابع: ما يجرى من ألاعيب وأشكال الرشوة المحلية والعالمية المباشرة وغير المباشرة للأطباء والمسئولين عن التسويق لشراء وكتابة أدوية دون غيرها،

 لم أستبعد هذه الخلفية أن تطل فى هذا الحلم سواء بما نستنتجه من حكاية “عُشر الثمن”، أو من “دور الاخ الصيدلى” الذى وصلنى أنه يمثل كلا من الشركات أو العلاقات الخاصة بمسئولى الحكومة، وهما واحد فى النهاية.

هذه الشركات والحكومات، تحكمها أنظمة قهرية قوية ثابتة تبدو أنها لا ينفذ منها ماء الحياء أو العدل أو المسئولية أو العلم بالمعنى الأخلاقى والحقيقى، لكنها تبدو متماسكة وضرورية، تبرر وجودها عادة “بضرورات الواقع” ومستلزمات “الأمان”. ولعل هذا هو ما يقابل الروتين والبيروقراطية فى الحلم.

هل كان حديثنا المتكرر هذا موجود فى خلفية قريبة أو بعيدة من إبداع هذا الحلم؟

لست أدرى.

 لا هو، ولا أنا، ولا أحد يستطيع أن يجزمْ.

………………..

أما عن ارتباط قيمة، (وجود/كيان) “الموظف” بالدفاع عن الروتين. وعن البيروقراطية (ربما حتى التقديس)، فقد استطعت – مرة ثانية –  أن أبعد شبح “حضرة المحترم”، “عثمان بيومى”، رغم أنه كان بعيداً منذ البداية.

[1] – الخط تحت بعض الكلمات: إضافة من عندى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *