الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / أحلام فترة النقاهة الحلم (35)، الحلم (36)

أحلام فترة النقاهة الحلم (35)، الحلم (36)

“نشرة” الإنسان والتطور

21-2-2008

العدد: 174

نجيب محفوظ: قراءة فى أحلام فترة النقاهة

الحلم (35)، الحلم (36)

جاءنى من د. أميمة رفعت التعليق التالى:

ردا على طلبكم الرأى: هل تتوقف عن القراءة التحليلية لأحلام فترة النقاهة وتنتقل مباشرة إلى القراءة الجامعة، أم تستمر؟

ولاهتمامى الشديد أود أن أعبر عن رأيى الشخصى جدا. أنا أرى الموضوع كمن يعرض عليه عمل فنى من أعمال الأرابيسك، فيراه جميلا و يفتتن به، ويود لو إقترب منه أكثر ليكتشف سر هذا التأثير الطاغى الذى خلب لبه.

هذه الرغبة هى الدافع  الذى يجعله يدقق فى وحدات الأرابيسك فيتأمل جمال الصنعة، وتنوعها من وحدة إلى أخرى، ثم يفكر فى صانعها ، فى خفة أنامله ومهارتها و يذهب أبعد إلى أحاسيس هذا الفنان وفكره أثناء إبداعه لقطعته الفنية لتخرج بهذا الشكل. بعد أن يدرس كل الوحدات يبتعد خطوة ليلخص لنفسه النتيجة وهى إجابة تساؤله ما سر جمال قطعة الأرابيسك هذه؟ و هنا يأتى دور النظرة الجامعة، ربما كان التكرار الرأسى مثلا لبعض الوحدات، أو أن السر فى عدم التكرار على الإطلاق ،بالإضافة إلى نعومة الخطوط أو حدتها التى تدل على كذا وكذا فى شخصية الصانع، وتشير إلى تأثير البيئة مثلا فى وجدانه….إلى آخره . وينطبق هذا تماما على النص الأدبى: قراءة أولية  ثم قراءة تشريحية (كما تفضلت وأسميتها) وأخيرا قراءة جامعة…. فلا أتصور إذن أن تتخطى المرحلة الثانية لتصل إلى الأخيرة، اللهم إلا إذا كنت تقصد أنك ستقوم بذلك و لكن دون كتابته أو توثيقه… وهنا لى رأى أيضا…فالقراءة المفصلة لاتقل فنا و لا إبداعا عن النص الأصلى، بل أن التأثير الذى تتركه على القارىء هو تأثير مزدوج، فيصله فكر ووجدان الكاتب من خلال فكر ووجدان الناقد، هى جرعة مكثفة من التفكير والمشاعر يستقبلها القارىء – كل بطريقته – لتثير فيه هو الآخر فكرا آخر ومشاعر أخرى. أما القراءة الجامعة فلا أنكر ما بها من فن، ولكنها أقرب إلى عملية عقلنة لكل ما سبق، هى النتيجة التى توصل إليها الناقد وحده دون إشراك القارىء معه، هى إعطاء القارىء خلاصة العمل صحيح على طبق من فضة و لكن مع حرمانه من متعة المشاركة والتفكير والإحساس خطوة بخطوة…. نحتاج فى مصر إلى توثيق المفكرين لأفكارهم، لا أعلم إذا كان لدينا مشكلة فى النشر أو فى الطباعة أو فى التسويق أو حتى فى الرغبة فى القراءة نفسها، ولكن ما أعلمه علم اليقين هو أنه ليس لدينا أزمة فى المفكرين، ولكن إذا احجم كل مفكر عن إتمام عمل جميل كان قد بدأه بالفعل،فإما أنه ستصلنا أعماله كأعمال مبتورة (غالبا بعد رحيله عن دنيانا)، أو أن هذه الدرر ستذهب معه دون أن تدرى الأجيال القادمة  عنها شيئا….فيا لها من خسارة!!!

***

الحلم (35)

فى ‏بيت‏ ‏العباسية‏ ‏ونحن‏ ‏نأوى ‏إلى ‏أسرتنا‏ ‏للنوم‏ ‏أيقظنى ‏صوت‏ ‏ابن‏ ‏أخى ‏وهو‏ ‏يصيح‏ ‏حريق‏ ‏فى ‏السقف‏، ‏ونهضت‏ ‏فزعا‏ ‏وجاء‏ ‏ابن‏ ‏أخى ‏بالسلم‏ ‏الخشبى ‏وأقمناه‏ ‏فى ‏الصالة‏ ‏وصعد‏ ‏كل‏ ‏واحد‏ ‏منا‏ ‏على ‏جانب‏ ‏حاملا‏ ‏ما‏ ‏استطاع‏ ‏حمله‏ ‏من‏ ‏الماء‏ ‏وأخذ‏ ‏يرشه‏ ‏على ‏النار‏ ‏السارية‏ ‏بين‏ ‏الأركان‏ ‏وأقتحمت‏ ‏حجرة‏ ‏أختى ‏وأيقظتها‏ ‏من‏ ‏نومها‏ ‏العميق‏ ‏ومن‏ ‏عجب‏ ‏أنها‏ ‏قامت‏ ‏متكاسلة‏ ‏ومتشاكية‏ ‏من‏ ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏نتركها‏ ‏أبدا‏ ‏تنعم‏ ‏بالنوم‏ ‏وعلى ‏أى ‏حال‏ ‏ساعدتنا‏ ‏بملء‏ ‏الأوعية‏ ‏بالماء‏ ‏حتى ‏سيطرنا‏ ‏على ‏النار‏ ‏وأخمدناها‏. ‏وبدأنا‏ ‏نحقق‏ ‏فى ‏الأمر‏ ‏ولكن‏ ‏رجال‏ ‏المطافئ‏ ‏حضروا‏ ‏على ‏أثر‏ ‏استدعاء‏ ‏الجيران‏ ‏لهم‏ ‏وتأكدوا‏ ‏من‏ ‏خمود‏ ‏النار‏ ‏وفتحوا‏ ‏الشرفات‏ ‏وتفقدوا‏ ‏الأثاث‏ ‏الموجود‏ ‏بها‏ ‏وانتهى ‏الحريق‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أفحمنا‏ ‏فزعا‏. ‏وعندما‏ ‏جلسنا‏ ‏نستعيد‏ ‏بعض‏ ‏هدوئنا‏ ‏دق‏ ‏جرس‏ ‏التليفون‏ ‏ويلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏تداخل‏ ‏الزمان‏ ‏والمكان‏ ‏إذ‏ ‏أن‏ ‏بيت‏ ‏العباسية‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏به‏ ‏تليفون‏ ‏وهكذا‏ ‏أصبحنا‏ ‏فى ‏مسكن‏ ‏آخر‏ ‏مع‏ ‏أناس‏ ‏آخرين‏ ‏دق‏ ‏جرس‏ ‏التليفون‏ ‏وكان‏ ‏المتحدث‏ ‏صاحب‏ ‏العمارة‏ ‏التى ‏أستأجرنا‏ ‏بها‏ ‏شقة‏ ‏فى ‏الإسكندرية‏ ‏ودعانا‏ ‏الرجل‏ ‏إلى ‏الاسكندرية‏ ‏دون‏ ‏ابطاء‏ ‏وإن‏ ‏شبت‏ ‏النار‏ ‏داخل‏ ‏الشقة‏ ‏وطمأننا‏ ‏أنه‏ ‏استدعى ‏المطافئ‏ ‏فأخمدوا‏ ‏النار‏ ‏ولكن‏ ‏حضورنا‏ ‏ضرورى ‏بطبيعة‏ ‏الحال‏ ‏وفى ‏الحال‏ ‏ارتدينا‏ ‏ملابسنا‏ ‏أنا‏ ‏وزوجتى ‏وأسرعنا‏ ‏إلى ‏محطة‏ ‏الباص‏ ‏الصحرواى ‏وكنا‏ ‏فى ‏غاية‏ ‏الكدر‏ ‏والإنزعاج‏ ‏حتى ‏أننى ‏اقترحت‏ ‏على ‏زوجتى ‏إخلاء‏ ‏الشقة‏ ‏وتسليمها‏ ‏لصاحبها‏ ‏وأنها‏ ‏تعرضت‏ ‏إلى ‏محاولة‏ ‏سرقة‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏ ‏ولكنها‏ ‏قالت‏ ‏لى ‏انتظر‏ ‏حتى ‏نرى ‏ماذا‏ ‏ضاع‏ ‏منها‏ ‏وماذا‏ ‏بقى.‏

***

القراءة

عودة إلى العباسية والاسكندرية معا، وتداخل جديد فى المكان بالذات بين بيت العباسية والإسكندرية (راجع حلم 24)، وهما موقعان لهما مكانة خاصة عند شيخنا، العباسية بذكرياتها العاطرة الحاضرة، وشقة الإسكندرية القديمة بالمنشية التى سمعته يحكى كيف كان يحمل همّ نظافتها قبل شد الرحال إليها كل صيف، وذلك حين عرضت عليه شراء شقة بجوارى على البحر فى بلاج السراى أبو هيف بثمن متواضع، وبالرغم من اقتناع زوجته الفاضلة بالفكرة، إلا أنه أصر على الرفض، وعلل ذلك بأنه لا يريد حمل همّ نظافتها وصيانتها – أيضا – بما لا يطيق، العباسية هى الأصل، والإسكندرية هى حركة الصيف وتوفيق الحكيم (بترو) والنحاس باشا يتمشى، فينلخع قلبه حبا لرؤيته على الكورنيش…الخ

حرمته الظروف الأخيرة وقبل الأخيرة من روتينه السنوى الرائع بالذهاب إلى الاسكندرية، كما دفعته ظروف الدنيا والقدرة وتغير الأحوالْ إلى الانتقال إلى ما هو أحسن – شكلا – من شقة العباسية، لكن يظل المكانين هما المكانين ماثلان فى وعيه، مضافة إليهما روائح بصمات القدم، والأصل، والخوف عليهما من مخاطر السرقة والاستيلاء (حلم 24)، أو الدمار (الحريق هنا).

المكان الثانى هنا الذى أعلن تداخل المكان والزمان ليس فى الاسكندرية، كل ما يميزه هو أن به تليفون لم يكن فى العباسية، ويبدو أن هذا المكان يقع فى القاهرة، ليس به حريق ولا ابن أخ ولا أخت، هو مكان هادئ بلا مجتمع حيوى محيط، لم أستشعر فيه رائحة المكان الأول، ولا حتى رائحة الحريق، مكان هادئ بلا حركة ولا نبض للبشر الحقيقيين، صحيح أنه “أحدث” بدليل التليفون، لكن التليفون لا يفيد إلا للتواصل عن بعد، وأى تواصل؟ هذه هى الأخبار السيئة تصل عبر هذا التليفون بالذات، ومن الاسكندرية.

حريق العباسية حضره بنفسه، أما حريق الاسكندرية فقد أبلغ عنه بعد انتهائه، وماذا ينفع الذهاب إليها ليروا ما ضاع وما تبقى، فلتنقطع الصلة بالاسكندرية أيضا، ومن ثم الاقتراح بإخلاء الشقة، وقفل باب حمل همها، لكن يبدو أن الزوجة تظل تحتفظ بالأمل، أما هو فيبدو أنه يريد أن يتخلص منه (من الأمل) أكثر من رغبته فى التخلص من الشقة.

لا أحد يعرف ماذا تبقى من أى شئ؟ بعد أى شئ؟

ويظل الكدر والانزعاج يعلنان رفض المفاجآت والتعرض للسرقة والدمار من جديد.

لماذا وسط الحلم تماما، يثبت محفوظ بالكلمات أنه “يلاحظُ هنا تداخل الزمان والمكان“؟.

رفضت ذلك لأول وهلة، فهذه رؤية لاحقة، من حق الناقد أن يكتشفها ويعلق عليها، كما سبق أن وصلنى فى أحلام (18، 24)، وما قد يأتى بعد، فتساءلت: هل قفزتْ منه آلية الإبداع فأثبتها داخل النص دون قصد؟ لا أعتقد أن مثل هذا يحدث هكذا من مبدع بلغ من سلاسة الطلاقة وإتقان الصنعة ما بلغه هذا العملاق.

هل هو بمثابة إحضار العين المراقِبة للحلم داخل الحلم، مثلما يعلم الحالم وهو يحلم أنه فى حلم؟

ربما.

لكننى أعترف – برغم تحفظى هذا – أن هذه الجملة الدخيلة لم تزعجنى، بل آنستنى بشكل مباشر.

لا أعرف لماذا؟

هذا الحلم يُظهر جانباً آخر من عالم محفوظ الداخلى، يقابل ولا يتناقض مع ظاهره الآمل المتفائل: التهديد بالحريق فالخراب، والتراجع عن الأمل والإصلاح.

 لكن هذا الداخل هكذا ربما هو هو الذى يزيده إصراراً على مواصلة الإبداع والتنوير، وعلى التمسك بالحياة وقبول التحدى أيا كان المتبقى من واقع هذا الواقع المدمرّ بلا  توانٍ

ظهور الأخت هنا للمرة الثالثة حتى الآن، كان ظهورا أثار عندى احتمالات غامضة، الأخت برغم انزعاجها من الإيقاظ القسرى الذى فرض عليها، سارعت بالمشاركة فى إخماد الحريق بلا تهاون.

لماذا أظهر محفوظ الأخت بهذه الصورة الناعمة الناعسة المقاومة، لتنتقل الصورة إلى الإسهام الإيجابى الطيب؟

ألهذا علاقة ما بما ذكرناه فى (حلم 9، وحلم 30)؟

ربما.

***

الحلم‏ (36)

جمعنا‏ ‏بهو‏ ‏ما‏. ‏ثمة‏ ‏وجوه‏ ‏أراها‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏ووجوه‏ ‏أعرفها‏ ‏جيدا‏ ‏من‏ ‏الزملاء‏. ‏وكنا‏ ‏ننتظر‏ ‏إعلان‏ ‏نتيجة‏ ‏يا‏ ‏نصيب‏. ‏وأعلنت‏ ‏النتيجة‏ ‏وكنت‏ ‏الرابح‏ ‏وكانت‏ ‏الجائزة‏ ‏فيلا‏ ‏حديثة‏ ‏وحصل‏ ‏زياط‏ ‏وتعليقات‏ ‏وتهانى. لم‏ ‏تستطع‏ ‏وجوه‏ ‏كثيرة‏ ‏أن‏ ‏تخفى ‏كمدها‏. ‏وقال‏ ‏لى ‏كثيرون‏ ‏إنه‏ ‏فوز‏ ‏ولكنه‏ ‏خازوق‏ ‏من‏ ‏أين‏ ‏لك‏ ‏المال‏ ‏لتأثيثها‏ ‏وتوفير‏ ‏الخدم‏ ‏اللازمين‏ ‏لها‏ ‏واستهلاكات‏ ‏الماء‏ ‏والكهرباء‏ ‏وخدمة‏ ‏حوض‏ ‏السباحة‏ ‏والتكييف‏ ‏الخ‏.‏

الحق‏ ‏أن‏ الحلم ‏ ‏مازال‏ ‏حلما‏ ‏وها‏ ‏أنا‏ ‏أتفقد‏ ‏الفيلا‏ ‏كل‏ ‏يوم‏ ‏تقريبا‏ ‏وأرجع‏ ‏بالخيبة‏ ‏والحسرات‏. ‏واستغل‏ ‏أناس‏ ‏قلة‏ ‏خبرتى ‏واقنعونى ‏ببيعها‏ ‏واشتروها‏ ‏بثمن‏ ‏فرحت‏ ‏به‏ ‏ساعات‏ ‏حتى ‏تبين‏ ‏لى ‏أننى ‏خدعت‏ ‏وسرقت‏.‏

وحدث‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الوقت‏ ‏أن‏ ‏خلت‏ ‏وظيفة‏ ‏مدير‏ ‏عام‏ ‏وكثر‏ ‏التزاحم‏ ‏حولها‏ ‏والمرشحون‏ ‏وبطاقات‏ ‏ذوى ‏النفوذ‏ ‏وقابلت‏ ‏الوزير‏ ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏إننى ‏لا‏ ‏وسيط‏ ‏لى ‏سواه‏ ‏ولكنه‏ ‏قال‏ ‏لى ‏إنك‏ ‏لم‏ ‏تستطع‏ ‏أن‏ ‏تحافظ‏ ‏على ‏مالك‏ ‏الخاص‏ ‏فكيف‏ أ‏أتمنك‏ ‏على ‏المال‏ ‏العام‏.‏

وصرت‏ ‏نادرة‏ ‏ومثالا‏ ‏فطلبت‏ ‏ضم‏ ‏المدة‏ ‏الباقية‏ ‏لى ‏فى ‏الخدمة‏ ‏إلى ‏خدمتى ‏وإحالتى ‏إلى ‏المعاش‏ ‏وأخيرا‏ ‏وجدت‏ ‏الطمأنينة‏ ‏فى ‏موضع‏ ‏لا‏ ‏يتطلع‏ ‏إليه‏ ‏طماع‏ ‏ولا‏ ‏ينظر‏ ‏إليه‏ ‏ذوو‏ ‏الطموح‏.‏

***

القراءة

البهو هنا يجمع الغائب بالحاضر، الجديد بالقديم، (قارن استعمال البهو المترامى الأركان المتعدد الأبواب حلم 4) هو مهبط الحظ ورضا القدر، هذه المرة لم تكن مكسبا فى مائدة المقامرة، حلم (28) ولكنه كان حظا صِرْفاً.

بدا لى أن هذا الفوز “الخازوق” هو الحياة ذاتها، من لا يستطيع أن يملأها بما تستأهلها، من يفرط فيها قبل أن يبدأها، سوف تنزع منه وكأنه لم يدخلها.

لا أحد يعيش ليحقق ما يريد قبل أن يعيش أصلا.

لا أحد يحصل على ما يريد إلا بعد أن “يوجد هو”.

إذا كان هو قد فرط فى حياته، فعجز أن يرعاها بحقها، ويعمّرها بما يلزمها فهو ليس أهلا لها، وليس جديرا بأن يكون له دور فى حياة الناس.

المال العام هنا يمكن أن يكون دور الواحد منا لناسه: فردا فى مجتمع، أو حتى فردا فى نوع.

الانتهاء وبهذه الطمأنينة فى موضع “لا يتطلع إليه طماع ولا ينظر إليه ذوو الطموح، وصلنى على أنه القبر.

ها هو يعلن نهايته إنسحابا من حياة لم تبدأ أصلاً.

لم يقدّرها صاحبها حق قدرها لأنه عجز أن يملأها بحقها، فيكون كائنا يستحقها، حياة لم يستطع أن يعيشها له، فكيف تسهم فى اثراء حياة آخرين.

فانسحب إلى قبر يغرى بالطمأنينة العدم.

“ما عاشَ مَنْ لم يولَدِ”

فى قراءاتى حلم (19) كتبت

“لا يكفى أن “توجد“، ولا أن يُسمح لك بالدخول، حتى “تكون“: “تفعل“: تُنِجْز، تقوم بدورٍ ما فى الحياة يؤكد وجودك”.

ثم

“إنّ من يتصور منّا أن مجرد الاعتراف بوجوده (الشقة الجميلة، والسماح له بالدخول إلى السوق)، هو مبرر كاف لأن يكون له “دوره، هو مخدوع، ومن ثَمَّ هو مهدد بالطرد من الوجود”.

وأنهيته قائلا:

“من لا يجد له دور، فعليه أن ينسحب أو يقبل أن يُسحب منه الاعتراف بوجوده

هل ثمة علاقة؟!

كذلك قلت فى قراءتى  حلم (18) قائلا:

هكذا ضاع العمر دون أن يولد بعد،

هو مازال فى القارب الذى كان الرحم، وهو هو القبر

وأخيرا

حضرنى هذا الشطر حالا، وهو نهاية قصيدة كتبتها بعد زيارتى لأبى سمبل وتأملى وجه رمسيس تتعامدْ عليه الشمس، هذه النهاية تقول:

حَبَكَ‏ ‏الوليدُ‏ ‏دثاره‏: ‏كفَنَا‏،‏

وبلا‏ ‏رثاءٍ‏ ‏وسّدوه‏ ‏لحدَه‏ُ: … ‏مَهْدَا‏.‏

كتبوا‏ ‏عليه‏ ‏بلا‏ ‏دموعْ‏:‏

ما‏ ‏عاشَ‏ ‏مَنْ‏ ‏لَمْ‏ ‏يولدِ‏.

ولكن إليكم القصيدة كلها:

موت‏ ‏الفخر

‏-1-‏

يا‏ ‏جدَّنا‏ ‏المصلوب‏ ‏زهواً‏ ‏يحصدُ‏ ‏الزمنْ‏،‏

قد‏ ‏صار‏ ‏محظوراً‏ ‏علينا‏ ‏ننقشُ‏ ‏القلوب‏ََ

‏فوق‏ ‏هاماتِ‏ ‏الحجرْ‏.‏

ما‏ ‏عاد‏ ‏يـَجـْـرُؤ‏ ‏وَعْيُنا‏ ‏أن‏ ‏يفتخرْ‏: ‏أنَّا‏ ‏بشرْ‏.‏

‏”..‏فى ‏البدءِ‏ ‏قَاَل‏ ‏أو‏ ‏فعلْ‏،‏

بصما‏ًً ‏على ‏وجه‏ ‏الزمنْ‏، ‏

إذ‏ ‏ينـِسـجُ‏ ‏الفعلُ‏ ‏القدرْ”

فى ‏عـَصـْـرِنا‏ ‏هـَذَا‏ ‏أَيـَا‏ ‏جدّى ‏العزيزْ‏،‏

لا‏ ‏تطلُعُ‏ ‏الشموسُ‏ ‏دُونَ‏ ‏إذنْ‏.‏

لا‏ ‏يُستباحُ‏ ‏للكلاب‏ ‏الآثمهْ‏ -‏أمثاِلنا‏- ‏

أن‏ ‏تسكنَ‏ ‏العرينْ‏ ‏

‏-2-‏

فرعونُ‏ ‏هذا‏ ‏العـَصْــرِ‏ ‏ثعلبْ‏،‏

أخفى ‏المشـانـِقَ‏ ‏بين‏ ‏ثنياتِ‏ ‏التماوتِ‏ ‏والعفنْ‏.‏

فى ‏زعم‏َ ‏حبَّ ‏العْدلِ‏ ‏لوّح‏ََ ‏بالتلاشى ‏فى ‏الأملْ‏.

-3-‏

حَبَكَ‏ ‏الوليدُ‏ ‏دثاره‏: ‏كفَنَا‏،‏

وبلا‏ ‏رثاءٍ‏ ‏وسّدوه‏ ‏لحدَه‏ُ: … ‏مَهْدَا‏.‏

كتبوا‏ ‏عليه‏ ‏بلا‏ ‏دموعْ‏:‏

ما‏ ‏عاشَ‏ ‏مَنْ‏ ‏لَمْ‏ ‏يولدِ‏.

أسوان‏: 23/1/1981

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *