“نشرة” الإنسان والتطور
4-2-2008
العدد: 157
النكوص فى خدمة الذات
يعملها الطبيب، تقمُّصاَ فُيَلَمِلُم ذاته، “ليكون”.. (1972)
(سيرة ذاتية!!؟)
وأنا أقلب فى كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى“ بحثا عن مادة “ذنب” لأقوم بتحديث بعضها، واقتطاف ما تيسر استكمالا لهذا الموضوع الذى فتحناه هنا ولم ينغلق بعد (وقد لا ينغلق أبدا) عثرت على قصيدة طويلة، هى أقرب للسيرة الذاتية مهنيا على الأقل، وقد كتبتها سنة 1972، وانتبهت إلى أنها قد تكون وراء المواصفات الصعبة للطبيب النفسى التى عددتها فى يومية 8-1-2008 (الممارسة الإكلينيكية: بحث علمى مستمر)، ولأن كثيرا من التعليقات والتساؤلات كانت حول هذه المواصفات، دون تفصيل، فقد رأيت أن أنشر القصيدة بكاملها دون تعقيب، ذلك لأننى حين قرأتها دون شرح، وصلنى منها شئ آخر أعمق وأصدق، وهو يتعلق بتساؤلات بعض الأبناء فى قصر العينى عن ما جاء فى نشرة الممارسة الإكلينيكية، وما رددت به على بعضهم فى حوار يوم الجمعة (كنظام بريد الجمعة يومية 1-2-2008) وخاصة فيما يتعلق بأربعة أمور، وهى واحدة، مرتبطة ببعضها البعض:
(أ) النكوص فى خدمة الذات
(ب) التراجع المسئول (مع المريض)
(ج) التقمص النكوصى المبدع
(د) مغامرة قبول “حالة الجنون” داخلنا، والعودة بها مسئولين لصالح المريض والمعالج معا
……..
تصورت أننى حين أنشر القصيدة دون تعليق، سوف يصل منها مباشرة ماوصلنى،
كما تصورت أن هذا قد يكون تشجيعا لى فيما بعد أن أنشر بعض شعرى الذى لم ينشر أصلاً، فى هذه اليومية، والذى أتردد كثيراً قبل أن أنشره.
وهذه هى القصيدة :
-1-
وتَعلَّمنْاَ
تَاتَا .. .. تَاتَا،
لاتتعثرْْ
وتعلمنا .. سرًّا أخطرْ،
قال الكلمهْ: شيخُ المِنْسرْ،
إفتح سِمْسِمْ .. أنتَ الأقدرْ،
تحفظْ أكثرْ.. تعلو المنبرْ،
تجمع أكثرْ .. ترشو العسكرْ،
وخيوط التشريفةِ من جلد الأفعى المغبرْ
وحفظتُُ السرْ،
وبعقل الفلاح المصرى، أو قل لؤمِهْ
درتُ الدورةَ حول الجسر:
***
حتَّى لا تخدعَنِى كلماتُ الشعرْ،
أو يضحكَ منى من جمعوا أحجارََ القصرِِ القبرْ،
أو يسحقَ عظمى وقع الأقدام المتسابقة العَجْلَى
أقسمتُ بليلٍٍٍ ألا أضعفْ…، ألاّ أنسَى.
-2-
وأخذتُُ العهدْ،
غاصتْْ قدماىَ بطين الأرضْ
وامتدتْ عنقى فوقَ سحابِِِِ الغدْ.
-3-
هذبتُ أظافر جشعِى
ولبستُ الثوبَ الأسمرْْ
ولصقتُ اللافتةَ الفخمةْ
وتحايلتُ على الصنعةْ،
وتخايلتُُ طويلا كالسادةِِ وسط الأروقة المزدانة
برموز الطبقةْْ.. ،..
هأنذا أتقنتُُ اللغةَََ الأخرَى،
حتى يُسمع لى، فى سوق الأعداد وعند ولى الأمْر
***
- مرحى ولدى حققتَ الأمَلاَ
….
إسمُك أصبح علَمَا
…..
وثماُركََ طابتْ فاقطفْهاَ
…..
وفتات المائدة ستكفى القطط الجوعى
***
لا يا أبتي: لن تخدعنى بعد اليوم
صرتُُ الأقوى،
للرعبِ الكذبِ نهايةْ،
تكشفْ ورقَكْ؟
أكشفْ ورقي…
هذا دورى ..
أَربَحْ.
-4-
ألقيتُ بحياتى السبعةْ
تلتقط الديدان المرتجفةََ فى أيديهمْ
وحملتََ أمانة عمرِى وحدِى
وشهرت السيف أكفِّر عن ذنبى الوهْمِىّ
وفردت شراعى
لتهب رياح العدل الصدق الحب.
-5-
لكنّ العاصفة الهوجاء تبدل سيرى
.. ..
ورستْ فْلكى فى أرضٍ حمئة
فوق سنان جبال الظلمةْ
وتناثرت الألواحْ
فصنعت الكوخ القلعة وسط الغابة
……
والزيفُُ الظلمُُ يطاولُ أملى حتى يطمِسَ أنفَهْ
لكن الحقََّ النورَ يذيُب جليَد اليأسِ على قِمَمِ الوحدةْ
والزبَد يروحُُ جفاءََََ
لا يَبْقى . إلا ما ينفعْْ.
-6-
فلأَفتحْ قلبى .. يحمى رقَّتَه درعُُ القدرةْْ
وليطرقْ بابى الطفلُ المحروُم ليظهرَ ضعفهْ
ثم يصير العملاق الطيب
وليلتئم الجرحََ الغائرَ تحت ضماد القوةْ
وليتألم فى كنفى من حُرِمُوا حق ‘الآه’
لتعود مشاعرهم تنبضْْ
ولأَحِمْ الجيلَ القادمََََ أن يُضْطَر ..
لسلوك طريقى الصعب.
-7-
لكن ..
وأنا؟ ..وأنا؟؟
وأنا إنسانُ لم يأخذ حقه:
طفلاً أو شابًّا .. أو حتَّى شيْخَا
هل يمكن أن تُغنينى تلك القوةْْ
عن حقى أن أحيا ضَعْفَ الناس؟
لكن من يعطى جَبَل الرحماتِ الرحمةْ؟!.
-8-
أصغى بعضُ النّاس ‘الناس’ لنبض أنينِهْ،
لم يضطربوا .. لم يختل المسرح
وتهادىَ الحقْ
أشرق نُور الفجر الوعىِ الصدقْ
وانساب الفكرُ الألمُ النبضُ يعيد الذكري:
.. ..
فى ذاك اليوم الدابر قبل النور
كان وحيدا …
وصليلُُ الألفاظ يغنِّى اللحن الأجوف،
والفكر سحابٌ يُخفى النورَ المأمولْ
والحسُّ الأعمى يرقص فى حُلم النشوةْ
.. ..
وتراءت صور الخدعة تتلاحق، تحكى قصة سرقة:
يوم تنكر جمع الناس لوجْهِ الحقْ
يوم تفتَّح سرداب الهرب بلا رجعةْْ
يوم تنمر كل قديمٍ حتى يفرضََ نفَسهْ
يوم انطلق يلِّوح باللذة والمتعة ،
الجنُُّ الجنسُ الشيطانْ
بدلا من حبٍّ قربٍٍٍٍ أكملْ
يوم تراءت للنفس مزايا الخدعةْ
’أن تجمع ما تجمع حتى تأمنْ
حتى تشترِىَ عبيدَ الله.
-9-
وبكيت .. ..
يا فرحتِىَ الكبرى ..
ما أقدس ماء الدمع الدافئِ يغسلُ روحِى
هل قتلوا غول الوحدة؟؟؟.
-10-
ساورنى الشكْْ ..
يا ليت الكل تلاشى
حتى لا أبدو جبلاًً يتهاوى من لمسة حبِّ صادقْْْ
داخلنى خوفٌ مترددْ
وتراجع بعضى يتساءل:
ماذا لو أضعف؟
وخيالٌ جامح:
وكأنى أرفع وحدى الكرة الأرضية فوق قرونى،
من يروى عطش المحرومين؟
من يمنع ذاك الوحشُ القابعُ فى أنفسنا
أن ينتهز الفرصة؟
من يقضمُ أنيابَ الليثِِ الكاسرِ حتى لا
يغتال طهارة طفل،
إذ تخدعه الغنوة:
’الحل الأوحد يا أحبابى .. فى الصدق
وفى الألفاظ الحلوه’ !!!
من يلعب بالبيضة فى سوق العلم الزائف؟
حتى يعلم أصحابُ العمم الخضراءْ،
أو القبَّعِةَ المرتفعةْ،
أن اللعبةَ ليستْ حكرا يعطيهم حقَّا قدسيًّا
فى إصدار اللائحة الرسمية لحياة الناس؟
من يفعل ذلك عنى يا أحبابى إذ أكشف أوراقى،
إذ أبكى .. أضعفُُ .. أتمددْ،
دون سلاح الشكِّ القدرةْ؟.
-11-
زين لى خوفى أن أتراجع،
أن أجمع نفسى وأواصل لف الدورة.
-12-
لكن لا،
خلق الله الدنيا فى ستة أيام
والضعف الصادق فى ظل حنان الناس
دوٌر أقوى ..
وتساقط دمعى أكثرْ
والتف الكلُّّ حواَلىْ،
يغمرنى بحنانٍ صادقْ،
هدهدةُ حلوةْ،
وتكوَّرَ جسدى مؤتنساً،
فى حضن الحب ودَغْدغَدتِهْ،
واهتز كيانى بالفرحة،
ليست فرحة،
بل شيئا آخر لا يوصف،
إحساسٌ مثل البسمة،
أو مثل النسمةِ فى يومٍ قائظْ،
أو مثل الموجِِ الهادئِ حين يداعِبُ سمكةْ،
أو مثل سحابة صيف تلثم بَرَدَ القمةْ،
أو مثل سوائل بطن الأم: تحتضن جنينا لم يتشكلْ
أى مثل الحب..،
بل قبل الحب وبعد الحب،
شئ يتكور فى جوفى لا فى عقلى أو فى قلبى،
وكأن الحبل السرى يعود يوصِّلُنى لحقيقة ذاتى ..
هو نبض الكون
هو الروح القدسى
أو الله
-13-
.. .. واستسلمتْ،
لكنْْ .. ، لكنْ…!! ماذا يجرى ؟؟
وتزيد الهدهدةُُ علُوَّا …
ماذا يجرى؟
تعلوا أكثر
ليس كذلكْْ…
تعلو أكثر
ليستْ هدهدةًًًً بل صفْعَا
تعلو أكثرْ
بل رَكْلاً ضرباً طَحْنَا
تعلو أكثرْ
أنيابٌ تنهش لحْمى
الكلبُ الذئُب انتهز الفرصةْ
اغتنم الضعفَ وأنّى ألقيتُ سِلاحِى
-14-
هل لبس الشرُّ مسوَح الأبِّ الحاني؟
هل خدعِنىَ المظهرْ؟
وتلفتُّ حواَلىّ،
فإذا بقناع الود يدارى شبه شماته …
فجعلت ألَمْلِمَ أجزائى
وأحاول أن أتشكل…،
وصليلٌ حادُّ يغمر عقلى،
وكأن نحاساًً يغلى فى فروة رأسِى
والضوء النورانى يخفتُ، يخفتُ، يخفتْ،
انطفأتْ روحى أو كادتْْ.
إنسحب عصيرُ حياتِى
جفَّ كياني: خشبٌ أجوفْ
وصليل نحاس الرأس يُجَلجلْْ
فكرٌ صلبٌ أملسْ
واختفت الآلامُُ مع الأحزانِِ مع الفرحةْ.
-15-
لِمَ ملكَنِىَ الرعبْ؟
هل خشيةََ أن تنفجرالذرةْ
أن أقتحم المجهولْ؟
أن أطلق روحى فى روح الله ؟
أن أتحررْ؟
هل خوف الأسلاف يشوِّه ضعفى؟
هل أتراجع؟
-16-
فات أوان الردَّةْ ..
والفطرةُ نضجت فى نارِ القدرةْ
-17-
لكن بالله عليكم:
ماذا هَيّجَ ضدِّى الشرْ؟
لم شوَّه طفلى الحرٌ..؟
لم عيَّرنِى بالضعفْ؟
لم لبس الإنسانُ السلبىُّ درع الرحمة؟
فانطلق يلوح بالرايةْ،
وكأنه داعى الحريةْ
يهرب من عبء القدرةْ
تحت ستار بريق الثورةْ…،
ثم يحطم ذاتَهْ، إذ تغريه اللعبةْ:
أن يتمرغ فى نهر اللذة
هربًا من ألمِ الوحدةْْ
جسدٌ رخوٌ يتلاشَى فى جسدٍ رخوْ
يمحو الدنيا فى اللاشيء
والهرب الخِدْر يزِّيُن دوراً آخرْ
والدورُ الآخرُ يتلوهُ دورٌ آخرْ
نقضى من فرط اللذة
نمضى من مهد الجنس الى لحد الجسد الفانى
-18-
تتلاحقُ تلك الصورُ أمامى تتبادل:
الطفل العابث يرفض أن يتشكلْ
والزيف القاهر يترقبْْ
وخيارٌ صعبْ
-19-
يتضاءل ذاك الحل الأمثل
’أن نصنع من قهرِ الأمس – اليومَ – الإنسانَ الأكملْ’
ويصيُح السادةُ من أعلى المسرح:
إعقلْ يا سيّدْ
قد أصبحَ حُلْما وهْماَ
فكفى هَرَبا كَذبَا.. ..
***
أية خدعة؟
أنفقتُ حياتى أرعى الطفل الخيِّرْ
فإذا ما حان الوقت لكى أصبح طِفْلى الطيب
عوَّقَنِى الشك!؟
وتحفَّزَ شيطانُ الخوف؟!
و أكاد أصدق أن الظلمَ هو الأصلْ
أن الكذب هو الحقْْ
أن الحلم هو الحلْ
***
هزَّنِىَ الخوف
شدَّنِىَ الرعبُ الأسودْ.
-20-
ويذكرنى الصوت الأعمق:
’قد فات أوان الردة’
والناس ‘الناس’ ، …… غرسُ الأيامِِ المُرَّةْ..
تقضم أنيابَ النَمِرَةْ
نبتَ الشوكُ بغصن الوردة
يدفع عنها عَبَث الصبيةْ
فنفضتُ غبار الغُربَةْ
وبزغتُ آداعبُ طينَ الأرضْ
أنثر عطرى فى أرجاء الكون
يعلو ساقي
يتعملق جذري
ينمو الطفل العملاق الطيب.
-21-
علمنى الألم القهرُ الصبرْ:
أن الخوفَ عُدوُّ الناسْ
لكن علمنى الحب الفعلْ:
أن الناسََ دواءُ الخوفْ
……….
ورجعتُ ببصرى
فإذا بالضعف هو القوة
وسط الناسِ الناسْ
وإذا بالناسِ هُمُو الأصلْ
وإذا بالحب هو الفعلْ
وإذا بالفعل هو الفكرْ
وإذا بالفكر هو الحسْْ
وإذا بالكون هو الذاتْ،
واذا بالذات هى الله
-22-
إنسان الغدْ..، ينمو اليوم
من طين الأرض،
…………..
إذْْ يفرز ألمُكَ طاقةْ
والرعشةُُُُ تصبحُُُ نبضةْ
فى قلبِ الكونِ الإنسانْ
تمضى أحَدَ الناس:
تدخلُ فيهم لا تتلاشي
تبعد عنهمْ لا تتناثرْ
تُعطى لا تترفَّـعْ
تأخذ لا تتخوفْ
….. والواحد يصبح كلاًّ يتوحَّـدْ.